بغية الإربة في معرفة أحكام الحسبة
تصنيف
وجيه الدين عبد الرحمن بن علي الشيباني المعروف بـ «ابن الديبع»
(٨٦٦ هـ - ٩٤٤ هـ / ١٤٦١ م - ١٥٣٧ م)
دراسة وتحقيق
الدكتور طلال بن جميل الرفاعي
أستاذ مشارك النظم الإسلامية
كلية الشريعة - جامعة أم القرى
Shafi da ba'a sani ba
مقدمة المؤلف
الحمد لله الذي بين الأحكام، وشرع الحلال والحرام ودعا إلى الخير ودل عليه أهل طاعته، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر لشناعته، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، الحكم العدل في أحكامه، وأشهد أن محمد عبده ورسوله المخصوص بتشريفه وإكرامه ﷺ ما قامت به الأركان الحق الدعائم وعلى آله وصحبه الذين كانوا لا تأخذهم في الله لومة لائم.
أما بعد فقد جمعت هذه الورقات في أحكام الحسبة لينتفع بها من كان له في ولاية الأحكام رغبة، وليعرف ما له، وما عليه من الأحكام، فليس العالم كالجاهل عند أولي الأحلام، وسميتها "ببغية الإربة في أحكام الحسبة"، وجعلتها في ستة فصول وخاتمة، وأسأل الله تعالى أن يرزقني وسائر المسلمين حسن الخاتمة.
1 / 53
الفصل الأول
في حقيقة الحسبة وبيان كونها فرض عين على من وليها، وكفاية على غيره من سائر المسلمين
اعلم أن حقيقة الحسبة هي الأمر بالمعروف إذا ظهر تركه والنهي عن المنكر إذا ظهر فعله، والمراد بالمعروف هو الأمر بالواجبات، والمندوبات والنهي عن المنكر النهي عن المحرمات، والمكروهات، قال الله تعالى: ﴿ولتكن منكم أمة يدعون
1 / 54
إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون﴾، قال المفسرون الخطاب للمؤمنين في هذه الآية أي كونوا أمة تدعون إلى الخير أي الإيمان بالله ورسوله وتأمرون بالمعروف أي بطاعة الله وتنهون عن المنكر أي عن معصية الله تعالى: ﴿وأولئك هم المفلحون﴾ يعني الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أجيبكم وتسألوني فلا أعطيكم، و(تستنصروني) فلا أنصركم"، قال العلماء كان النبي صلى لله عليه وسلم يجب عليه النهي عن المنكر مطلقًا، وذلك من الواجبات المختص ﵊ بوجوبها عليه فكان يجب عليه ﷺ إذا رأى منكرًا أن ينكره، ويغيره من غير تفصيل بالخوف، أو عدمه، وغيره من سائر الأمة لا يجب عليه ذلك إلا إذا أمكنه،
1 / 55
وقدر عليه، وذلك لأن الله تعالى وعد النبي ﷺ بالعصمة، والحفظ لقوله تعالى: ﴿والله يعصمك من الناس﴾ غيره ليس كذلك، فإذا تقرر أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من فروض الكفايات، ونصب الإمام الأعظم لذلك من يتولاه وهو المحتسب لزمه القيام بذلك، وكان في حقه فرض عين، وغيره من سائر المسلمين إنما يكون عليه فرض كفاية، والله أعلم.
الفصل الثاني
في الفروق بين المحتسب وغيره
اعلم وفقك الله وإياي أن الفرق بين المحتسب وغيره يكون من تسعة أوجه:
أحدها أن ذلك فرض تعين على المحتسب بحكم الولاية، وغيره إنما هو عليه فرض كفاية.
الثاني: أن قيام المحتسب بذلك إنما هو من حقوق تصرفه الذي لا يجوز له أن يتساهل فيها بخلاف غيره، الثالث: أنه منصوب للاستعداء إليه بما يجب إنكاره، وليس أحاد المسلمين كذلك. الرابع: أنه يجب عليه إجابة من استعداه، ولا يجب ذلك على غيره. الخامس: أن يبحث عن المنكرات الظاهرة فينكرها، ويفحص عما ترك من المعروف الظاهر فيأمر به وليس على غيره بحث ولا فحص، السادس أن يتخذ له على الإنكار أعوانًا لأنه عمل هو منصوب له، وإليه مندوب، وليكون له أقهر وعليه أقدر، وليس ذلك لغيره. السابع: أن له أن يعزر بالمنكرات الظاهرة، وليس للآحاد ذلك. الثامن أن له أن يرتزق أي يأخذ على عمله رزقًا من بيت المال، التاسع: ما يتعلق بالعرف دون الشرع
1 / 56
كمقاعد الأسواق، وإخراج الأجنحة، فينكرها، ويقر من ذلك ما أداه إليه اجتهاده وليس هذا للآحاد.
فهذا بيان الفرقة بين متولي الحسبة، وبين غيره من المسلمين عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فأعمله، وليس للمحتسب سماع الدعاوي الخارجة عن المنكرات في العقود، والمعاملات، (والطلبات)، وسائر الحقوق، فلا يجوز أن يسمع الدعاوي فيها، ولا أن يتعرض للحكم فيها لا في كثير من الحقوق، ولا في قليلها من درهم فما دون إلا أن يصرح له بذلك بنص صريح، [يزيد على إطلاق الحسبة فيجوز، ويصير بهذه الزيادة جامعًا بين قضاء وحسبة فيراعي فيه أن يكون من أهل الاجتهاد]، والله أعلم.
1 / 57
الفصل الثالث
في أركان الحسبة
قال الإمام حجة الإسلام الغزالي ﵀ في كتابه إحياء علوم الدين للحسبة أركان:
الأول المحتسب وله شروط منها أن يكون بالغًا عاقلًا، ومنها أن يكون مسلمًا فلا حسبة لكافر على مسلم، ومنها أن يكون قادرًا فلا حسبة للعاجز عما يتولي
1 / 58
ولا تشترط الحرية، ولا الذكورة، ولا العدالة، وآداب المحتسب العلم والورع
1 / 59
وحسن الخلق، والمداراة، وإذا علم المحتسب أن كلامه لا ينفع ولا يؤثر، وأنه لا يقدر على التأديب أو يضر به سقط الوجوب، وحرم عليه حضور مواضع المنكر، ولا يخرج من بيته إلا لحاجة مهمة، أو واجب ولا يلزمه مفارقة (البلد)، و(ولا الهجرة)، (إلا أن يرهق إلى الفساد أو يحمل على مساعدة) [السلاطين في] الظلم والمنكرات، وإن علم أنه لا ينفع كلامه لكنه لا يخاف مكروهًا استحب له المنع
1 / 60
ولا يلزمه المنع، ولو رأى فاسقًا معلنًا وعنده سيف وبيده قدح خمر، ولو علم أنه لو أنكر عليه شربه يضربه بالسيف حرمت عليه الحسبة، ولو علم أنه يضرب غيره من أصحابه وأقاربه فكذلك، وإن علم أنه يأخذ ماله أو مال أقاربه، أو رفقائه سقط الوجوب، ويختلف ذلك بالقلة والكثرة والظن الغالب في هذه الأبواب العلم، ولا يسقط الوجوب كخوف فوات المطالب فيلزمه الإنكار على معلمه، وقريبه، وعلى من يواسيه بمال، أو ينصره بجاه إلا أن يعينوه أو يضطر إليهم فلا يعد في سقوطه.
الركن الثاني:
ما فيه من الحسبة وله شروط: منها أن يكون منكرًا وإن لم تكن معصية حتى لو رأى صبيًا، أو مجنونًا يشرب الخمر فعلى المحتسب أن يريقها، وكذا إذا رأي مجنونًا يزني بمجنونة، أو بهيمة [فعليه أن يمنعه منها]، ومنها أن تكون المعصية موجودة في الحال فإذا فرغ من الشرب، أو الزنا فلا حسبة للآحاد فيما مضى، ولا فيما يوجد من بعد إذا
1 / 61
علمه بالقرينة أنه عائد إليه، إلا وعظًا، ومنها أن يكون ظاهرًا بلا تجسس، وكل من يستر معصيته في داره، وأغلق عليه بابه لم يجز التجسس عليه إلا أن يظهر من الدار ظهورًا يعرفها الخارج، كصوت المزمار، والأوتار، والسكارى بالكلمات المألوفة بينهم، وكذا لو فاحت روائح الخمر وعلم بالقرائن تعاطيهم شربها، وقد (يستر) الخمر والملاهي تحت أذيال الثياب، فإذا رأي فاسقًا تحت ذيله شيء لم يجز كشفه ما لم يظهر حاله كرائحة الخمر وغيرها، ومنها منكرًا مقطوعًا به، فليس للحنفي أن ينكر على الشافعي أكله الضب، والضبع، ومتروك التسمية، ولا الشافعي أن ينكر على الحنفي شرب النبيذ
1 / 62
[الذي ليس بمسكر]، وأخذ ميراث ذوي الأرحام، وسكنى دار أخذها بشفعة الجوار، نعم لو رآه الشافعي يشرب النبيذ وينكح بلا ولي ويطأها فله أن ينكر عليه لأن على كل مقلد إتباع مقلده، ويعصى بمخالفته، ولو رأي الشافعي الحنفي يأكل الضب أو الضبع أو يترك التسمية فله أن يقول إما أن تعتقد أن الشافعي أولى بالإتباع أو تترك ذلك وكذا الحنفي أن يقول للشافعي إذا نكح بلا ولي، لأن قول من قال لكل مقلد أن يختار من المذاهب ما أراد غير معتقده.
الركن الثالث المحتسب (عليه):
وشرط أن يكون إنسانًا، ولا يشترط أن يكون المنكر عليه المنكر إذ ينكر على الصبي، والمجنون، ولا أن يكون مسلمًا إذ ينكر على الكافر الزنا وإظهار الخمر وشربها، ولو رأى البهائم قد استرسلت في زرع، وقدر على حفظها من الضياع من
1 / 63
غير أن يناله تعب في بدنه أو خسران في حاله، أو نقص في جاهه وجب الدفع، وفيه نظر لأن الدفع من المال غير واجب، وتثبت الحسبة على الوالد بالتعريف، والوعظ والنصح وكسر العود وإراقة الخمر، ورد ما غصب إلى ما مالكه، وإبطال الصور المنقوشة على حيطانه والمنقورة في خشب بيته، وليس عليه الحسبة بالسب والتعنيف والتهديد، وهذا الترتيب يجري في العبد مع سيده، والزوجة مع الزوج، وأما الرعية مع السلطان فليس لهم إلا التعريف والنصح، وأما التلميذ مع الأستاذ فأمره أحق لأن المحترم هو الأستاذ المفيد للعلم من حيث الدين ولا حرمة لعالم لا يعمل بعلمه، وله أن (يعامله) بموجب علمه الذي يعلمه منه.
الركن الرابع
الاحتساب وله درجات
الأولى: التعرف لا التجسس، وهو حرام فلا يجوز أن يسترق السمع على دار غيره يسمع الأوتار، ولا أن يستنشق [ليدرك] رائحة الخمر، ولا أن يستخبر جيرانه ليخبروه بما (جرى) في داره، نعم لو أخبره عدلان ابتداء بأن (فلانًا) يشرب في داره الخمر، أو في داره خمر أعدها للشرب فله الهجوم على داره، وإن
1 / 64
أخبره عبدان، أو عدل واحد فالأولى أن يمتنع.
الثانية: التعريف فإنه يعذر بالجهل فيجب تعريفه باللطف بلا عنف، كما لو رأى سواديًا يصلي ولا يحسن الركوع والسجود، فيقول له خفية إن الإنسان لا يولد عالمًا، وقد كنا جاهلين بأمور الصلاة فلعل قريتك خالية من أهل العلم، أو عالمها مقصر في شرح الصلاة وإيضاحها وهكذا يتلطف [من غير إيذاء] فإن إيذاء المسلم حرام. كما أن تقريره على المنكر حرام، ومن أستبدل (السكوت) عن النهي [فهو كمن] غسل البول بالدم، ولا يفعله عاقل.
الثالثة النهي بالوعظ والنصح، والتخويف بالله، ويورد على ذلك الأخبار الواردة بالوعيد فيه، ويحكي للمواعظ بسيرة وعادة المتقين.
1 / 65
الرابعة: السب والتعنيف والأقوال الغليظة كقوله يا فاسق، يا فاجر، يا أحمق، يا جاهل، يا غبي، ولا يفحش، في القول بما فيه نسبته إلى الزنا، ومقدماته ولا إلى الكذب.
الخامسة: التغيير للمنكر باليد ككسر الملاهي، وإراقة الخمر، وخلع الحرير من رأسه [وعن بدنه]، وإخراجه من الدار المغصوبة.
1 / 66
السادسة: التهديد والتخويف بعقوبة كقوله دع [عنك] هذا وإلا كسرت رأسك، أو لأمرن به ونحوهما، ولا يخوفه بما لا يجوز كقوله لأنهبن دارك، لأضربن ولدك.
السابعة: مباشرة الضرب باليد والرجل بقدر الحاجة، فإن احتاج إلى شهر السلاح فله ذلك.
الثامنة: أن [لا يقدر عليه بنفسه ويحتاج إلى أعوان يُشهرون السلاح] إن احتاج إليه، فإن تقابلا صفان، وتقاتلا فهو كما قال بعضهم إلى بعض.
1 / 67
الفصل الرابع
في المنكرات المألوفة وهي أنواع
الأول منكرات المساجد:
كأساة الصلاة بترك الطمأنينة في ركوعها وسجودها، [وهو منكر مبطل للصلاة]، فيجب النهي عنها إلا للحنفي، وكقراءة القرآن جنبًا، فيجب النهي عنه، وتلقين الصحيح الذي يكثر [اللحن في القرآن إن كان قادرًا على التعلم] فليمتنع عن القراءة [قبل التعلم] فإن من أهمل التعلم فقد عصى، فإن لم (يطاوعه لسانه) فإن أكثر ما (يقرؤه) لحنًا فليتركه وليشتغل بتعلم فاتحة الكتاب، وتصحيحها فإن كان الأكثر صحيحًا ولا يقدر على التسوية فلا بأس أن يقرأ، ولكن يخفي صوته حتى لا يسمع غيره، وتراسل المؤذنين في الأذان، وتطويلهم في كلماته، وانحرافهم عن صوب القبلة في الحيعلتين (وانفراد) كل واحد بأذان بلا توقف إلى انقطاع الأخر منكرات مكروهة يجب تعريفها، وإن صدر عن معرفة فيستحب منعه، ولو
1 / 68
لبس الخطيب ثوبًا أسود يغلب عليه الإبريسيم، أو أمسك سيفًا مذهبًا كان فاسقا يجب الإنكار عليه، ومجرد السواد لا يكره، ولا يستحب، ومن قال أنه مكروه، أو بدعة أراد أنه لم يكن معهودًا في الصدر الأول، ولكن إذا لم يرد نهي فلا ينبغي أن يسمى بدعة ولا مكروه، ولكنه ترك المستحب، ويجب على المحتسب منع الواعظ المبتدع والقاص الكاذب في الأخبار ولا يجوز حضور مجلسهم إلا للمنع، وإذا مال كلام الواعظ إلى الإرجاء وتجرئة الناس على المعاصي (وازدادوا) به جراءةً على الله، ووثوقًا بعفوه ورحمته، وزاد به رجاؤهم على خوفهم وجب منعه، بل لو رجح خوفهم على رجائهم كان أليق وأحسن، ولو كان الواعظ شابًا مزينًا كثير الأشعار والحركات والإشارات وقد حضر مجلسه النساء وجب المنع، فإن فساده أكثر من
1 / 69
صلاحه، بل ينبغي أن (لا يسلم الوعظ إلا) (لمن) علم من ظاهره الورع، وهيئته السكينة والوقار وزيه زي الصالحين، وإلا فلا يزاد الناس به إلا تماديًا في الضلال فيجب أن يضرب بين النساء والرجال حائل يمنع النظر فإنه مظنة الفساد، ويجب منع النساء من حضور المساجد للصلاة، ومجالس الوعظ إذا خيفت الفتنة، ومنع
1 / 70
(الحلق) يوم الجمعة، ومنع الأدوية، والأطعمة، والتعويذات، وقيام السؤال وقراءتهم الأشعار المحرمة، ومنع أهل الشعبذة والتلبيسات، وكذا أرباب التعويذات، الذين يتواصلون ببيعها إلى تلبيسات على الصبيان والسوداية فهذا حرام في المسجد وخارجه، ويجب المنع منه، بل كل بيع فيه كذب وتلبيس وإخفاء عيب على المشتري فغير مباح، ومنها ما هو خارج المسجد كالخياطة، وبيع الأدوية والكتب، والأطعمة، فلا
1 / 71