Budhiyya Ta Gabatarwa Mai Sauƙi
البوذية: مقدمة قصيرة جدا
Nau'ikan
شكر وتقدير
ملحوظة بشأن الاقتباسات ونطق الأسماء
1 - البوذية والأفيال
2 - بوذا
3 - الكارما والميلاد المتكرر
4 - الحقائق الأربع النبيلة
5 - الماهايانا
6 - انتشار البوذية
7 - التأمل
8 - الأخلاقيات
Shafi da ba'a sani ba
9 - البوذية في الغرب
التسلسل الزمني للبوذية
قراءات إضافية
مصادر الصور
شكر وتقدير
ملحوظة بشأن الاقتباسات ونطق الأسماء
1 - البوذية والأفيال
2 - بوذا
3 - الكارما والميلاد المتكرر
4 - الحقائق الأربع النبيلة
Shafi da ba'a sani ba
5 - الماهايانا
6 - انتشار البوذية
7 - التأمل
8 - الأخلاقيات
9 - البوذية في الغرب
التسلسل الزمني للبوذية
قراءات إضافية
مصادر الصور
البوذية
البوذية
Shafi da ba'a sani ba
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
داميان كيون
ترجمة
صفية مختار
مراجعة
هاني فتحي سليمان
خريطة 1: الهند والمنطقة التي نشر فيها بوذا تعاليمه وعاش فيها.
خريطة 2: بوذية تيرافادا في آسيا.
خريطة 3: بوذية ماهايانا في آسيا.
Shafi da ba'a sani ba
شكر وتقدير
أثناء كتابة هذا الكتاب استفدت كثيرا من اقتراحات الطلاب والزملاء والأصدقاء؛ فلقد قام الطلاب الذين حضروا محاضراتي عن البوذية في كلية جولدسميث، التي استمرت 25 عاما، بأداء دور فئران التجارب أثناء اختباري مسودات فصول الكتاب. ولا يسعني إلا أن أتمنى ألا يكون وقع تلك التجربة عليهم مؤلما جدا. ولقد استفدت أيضا استفادة عظيمة من المعرفة المتراكمة للزملاء: لانس كازنس، وبيتر هارفي، وتشارلز بربيش، الذين كانوا كراما في تقديم النصح والتوجيه كي لا أرتكب أي خطأ أو سهو. وأي خطأ أو سهو بقي في هذا الكتاب فأنا أتحمل مسئوليته وحدي.
وفي النهاية، إنه لمن دواعي سروري أن أتوجه بالشكر إلى جورج ميلر، من مطبعة جامعة أكسفورد، على نصحه ودعمه وتشجيعه لي لتقديم هذا الكتاب من وقت الشروع في تأليفه وحتى نشره. وأتوجه بالعرفان أيضا إلى ريبيكا هنت لمهارتها التي جعلت عملية الإنتاج في غاية السهولة والكفاءة؛ فأي مؤلف لن يطمع في مساعدة مهنية في تحرير كتابه أكثر مما قدمته.
داميان كيون
ملحوظة بشأن الاقتباسات ونطق الأسماء
بين الحين والآخر سيجد القارئ إشارات مثل «ديجا». هذه إشارات إلى نصوص بوذية مقدسة، لا سيما طبعات جمعية النصوص البالية لقانون الشريعة البوذية القديم. والمراجع البوذية تسير على النحو التالي: الفصل يطلق عليه «نيكايا» ويضم الموضوعات المختلفة التي تحدث عنها بوذا، ويطلق على كل موضوع منها اسم «سوتا». «ديجا نيكايا». «ماجيما نيكايا». «أنجوتارا نيكايا». «ساميوتا نيكايا».
لغة النصوص وطريقة نطقها
جمعت النصوص البوذية وترجمت إلى كثير من اللغات، من بينها: اللغة البالية، والسنسكريتية، والتبتية، والتايلاندية، والبورمية، والصينية، واليابانية، والكورية. ورغم ذلك، فقد جرت العادة على ذكر المصطلحات البوذية التقنية إما باسمها باللغة البالية وإما باللغة السنسكريتية. وفي هذا الكتاب سوف أستخدم في العموم الأسماء باللغة البالية، وخلاف ذلك سيكون مع المصطلحات التي اشتهرت باللغة السنسكريتية بدلا من اللغة البالية، وأمثال هذه المصطلحات هي: «كارما»، و«نيرفانا». وسوف أحتفظ بالترجمة الحرفية لأسماء الأعلام الشائعة في الأدب (مثل الإمبراطور أشوكا). وسيذكر مرادف الاسم باللغة السنسكريتية واللغة البالية بالنسبة إلى المصطلحات الأكثر أهمية بين قوسين.
الفصل الأول
البوذية والأفيال
Shafi da ba'a sani ba
ذات مرة روى بوذا قصة العميان والفيل (كتاب أودانا). قال إن أحد الملوك السابقين لمدينة سافاتي أمر بجمع كل رعاياه العميان وتقسيمهم إلى مجموعات. وبعد ذلك أخذت كل مجموعة إلى أحد الأفيال ووضعت أمام جزء معين من أجزاء جسم ذلك الحيوان - كالرأس والخرطوم والأرجل والذيل، وهكذا. وفيما بعد طلب الملك من كل مجموعة أن تصف طبيعة ذلك الحيوان. فأما الذين لمسوا رأس الفيل فوصفوه بأنه جرة ماء، وأما الذين لمسوا أذني الفيل فشبهوه بمروحة ذر الغلال، وأما أولئك الذين لمسوا قدم الفيل فقالوا إنه يشبه العمود، وأما الذين لمسوا نابه فأصروا على أن الفيل يشبه الوتد. وأخذت تلك المجموعات تتناقش فيما بينها وتصر كل مجموعة على أن تعريفها هو الصحيح وأن الآخرين مخطئون.
إن دراسة البوذية على مدار القرن الماضي أو نحو ذلك كانت تشبه مقابلة الرجال العميان بالفيل من عدة نواح؛ فطلبة البوذية اعتادوا التمسك بجزء صغير من منهج البوذية، وافترضوا أن استنتاجاتهم عن المنهج بأكمله صحيحة. وفي أغلب الأحيان كانت الأجزاء التي تمسكوا بها تشبه إلى حد ما أنياب الفيل - فهي جزء بارز، لكنه لا يمثل الحيوان ككل. ونتيجة لذلك، انتشرت تعميمات كثيرة خاطئة ومتسرعة عن البوذية تصفها بأنها على سبيل المثال «سلبية»، و«منقطعة عن متع الدنيا»، و «متشائمة»، وغير ذلك. وعلى الرغم من أن هذا الميل إلى المبالغة في التعميم أصبح الآن أقل شيوعا، فإنه ما زال موجودا في التراث القديم الذي يميل مؤلفوه إلى تضخيم سمات معينة في تعاليم البوذية، أو افتراض أن السمات التي كانت حقيقية عن البوذية في إحدى الثقافات أو الفترات التاريخية تنطبق صحتها في كل مكان آخر.
ومن ثم فإن أول درس مستفاد من قصة العميان هو أن البوذية موضوع كبير ومعقد، ويجب أن نحذر من التعميمات المستندة إلى أساس معرفة جزء معين. وبصفة خاصة، فإن العبارات التي تبدأ بقول: «يعتقد البوذيون ...» أو «تعلم البوذية ...» يجب أن تعامل بحذر. ونحتاج إلى إضفاء صفات معينة على تلك الجمل من خلال التساؤل عن «هوية» البوذيين المشار إليهم، و«المنهج» البوذي المتبع، و«المذهب» أو الطائفة التي ينتمون إليها ... وهكذا، قبل أن تصبح تلك العبارات ذات قيمة. وقد يذهب بعض الدارسين إلى أبعد من ذلك ويزعمون أن الظاهرة العابرة للثقافات المعروفة لدى الغرب باسم «البوذية» (أصبحت كلمة «البوذية» مألوفة في الاستخدام الغربي في ثلاثينيات القرن التاسع عشر) ليست كيانا واحدا على الإطلاق، وإنما هي مجموعة من المناهج الفرعية. وفي هذه الحالة، ربما يجب التحدث عن «أنواع من البوذية» وليس عن «بوذية واحدة». ورغم ذلك، لعل أفضل تفسير لميل هؤلاء الأكاديميين إلى «تفكيك» البوذية على هذا النحو هو أنه رد فعل لميل القدماء إلى «بيان جوهر» البوذية؛ أي افتراض أن البوذية كيان موحد متماثل مهما اختلف المكان. أما الحل الوسط هنا فهو اعتبار أن البوذية تشبه الفيل الموجود في القصة؛ فهي مجموعة غريبة من أجزاء مستبعدة إلى حد ما، لكنها أيضا تمتلك جسما أساسيا ترتبط به تلك الأجزاء.
أما الدرس الثاني الذي يمكن تعلمه من هذه القصة - وهو درس أقل وضوحا لكنه ليس أقل أهمية - فيتمثل في وجود أنواع كثيرة للعمى؛ فلقد أوضحت تجارب الإدراك البصري أن العقل يؤثر كثيرا على ما نراه. وإلى حد كبير يرى البشر ما يتوقعون رؤيته - أو ما يرغبون في رؤيته - ويحجبون الأشياء التي لا تتفق مع نموذج الواقع الموجود في مخيلتهم. وفي الثقافات المختلفة يربى الأطفال على الرؤية والفهم بطرق مختلفة، ولهذا السبب في أغلب الأحيان تبدو تقاليد الآخرين مثيرة أو غريبة في عيون الغرباء عن ثقافة ما، بينما تبدو طبيعية للغاية في عيون أبناء هذه الثقافة. وعند التعامل مع الثقافات الأخرى، ربما نتخيل وجود معتقداتنا وقيمنا في تلك الثقافات ثم «نكتشف» في مصدرها صحة ذلك على نحو يثير الدهشة. وبهذه الطريقة أصبحت البوذية هي بالضبط ما نأمل (أو نخشى) أن تكون عليه. حتى الخبراء من الناس ليسوا محصنين ضد النظر للوراء و«إضفاء» افتراضاتهم الخاصة على البيانات. كثير من الباحثين الغربيين فسروا البوذية بطرق تحمل بصمات معتقداتهم وتنشئتهم على نحو واضح أكثر مما تحمل بصمات البوذية نفسها.
وبالإضافة إلى ميل الأفراد إلى إضفاء تصوراتهم الخاصة على الثقافة الجديدة على نحو يؤدي إلى إحداث تأثيرات ذاتية الطابع مختلفة الأشكال على تلك الثقافة، ثمة خطر آخر؛ ألا وهو التنميط الثقافي الذي يظهر عند أي لقاء مع «الآخر». وقد لفت الكتاب المعاصرون، أمثال إدوارد سعيد، الانتباه إلى ميل الغرب في فنه وأدبه إلى تكوين «شرق» يكون انعكاسا لظله أكثر من كونه تصويرا دقيقا للحقيقة الواقعية. ولسنا في حاجة إلى قبول نظرية المؤامرة المعقدة التي يقدمها سعيد، والتي تقضي بأن الغرب قولب الشرق فكريا كتمهيد لاستعماره سياسيا، كي ندرك أننا عند الشروع في دراسة الثقافات الأخرى لا يمكننا إلا أن نتأثر بالتوجهات والافتراضات المتبقية في ثقافتنا؛ تلك التوجهات والافتراضات التي نكاد نكون غير مدركين وجودها. وفيما يتعلق بدراسة البوذية، يجب حينئذ الانتباه إلى خطر «العمى الثقافي»، وسوء الفهم الذي يمكن أن ينجم عن افتراض أن التصنيفات والمفاهيم الغربية تنطبق على الثقافات والحضارات الأخرى.
هل البوذية دين؟
شكل 1-1: معبد روريكو جي، ياماجوتشي، اليابان. هذه الباجودا ذات الطوابق الخمسة، التي تعد واحدا من أقدم مباني الباجودا في اليابان، تعود إلى القرن الخامس عشر، ويبلغ ارتفاعها 31 مترا.
تواجهنا مشكلات كهذه بمجرد أن نحاول تحديد ماهية البوذية . هل هي دين؟ هل هي فلسفة؟ هل هي أسلوب حياة؟ هل هي نظام أخلاقي؟ ليس من السهل تصنيف البوذية تحت أي اسم من تلك الأسماء؛ إذ تمثل البوذية تحديا يجعلنا نعيد النظر في بعض هذه الأسماء المذكورة؛ فعلى سبيل المثال، ما المقصود ب «الدين»؟ سيقول معظم الناس إن الدين معتقد مرتبط بالإيمان بالرب. والرب بدوره يفهم على أنه كائن أسمى خلق العالم والمخلوقات الموجودة به. علاوة على ذلك، يهتم الرب عن كثب (أو ظل يهتم إلى الآن على أقل تقدير) بمسيرة التاريخ البشري، من خلال إقامة المواثيق الإلهية، والإعلان عن إرادته بشتى الطرق، وبالتدخل عن طريق المعجزة في الأوقات الحرجة.
إذا كان الإيمان بالرب على هذا النحو هو جوهر الدين، فمن ثم لا يمكن أن تكون البوذية دينا؛ فالبوذية لا تحمل هذا المعتقد، بل على العكس تنكر وجود إله خالق. وفي ضوء التصنيفات الغربية المتاحة، فإن هذا الأمر يجعل البوذية «إلحادية». ورغم ذلك، فإن إحدى مشكلات هذا التصنيف تتمثل في أن البوذية تعترف بوجود كائنات خارقة للطبيعة مثل الآلهة والأرواح. والمشكلة الأخرى هي أن البوذية لا تحمل الكثير من السمات المشتركة مع الأيديولوجيات الإلحادية الأخرى كالماركسية على سبيل المثال. ومن هذا المنطلق، ربما يكون التصنيف على أساس «الألوهية» و«الإلحادية» غير مناسب في هذا الصدد. واقترح البعض الحاجة إلى تصنيف جديد - ألا وهو دين «لا إلهي» - كي تدخل البوذية تحت مظلة الأديان. وثمة احتمال آخر، ألا وهو أن تعريفنا الأصلي للدين هو ببساطة تعريف ضيق الأفق. فهل يمكن ألا تكون فكرة الإله الخالق، التي تعد سمة أساسية في أحد الأديان - أو في مجموعة من الأديان - هي السمة المميزة الحاسمة في كل الأديان؟ وعلى الرغم من أن هذه الفكرة محورية على نحو مؤكد للديانات «الإبراهيمية» أو الأديان «السامية»؛ أي اليهودية والمسيحية والإسلام، فربما توجد أنظمة عقائدية أخرى - مثل الكونفوشيوسية والطاوية - تشبه الدين الغربي في نواح كثيرة لكنها تفتقر إلى هذا المكون.
الأبعاد السبعة للدين
Shafi da ba'a sani ba
منذ أن بدأ جديا مجال الأديان المقارنة بعد الحرب العالمية الثانية، مثلت البوذية لغزا للدارسين الذين حاولوا تقديم تعريف مقبول لهذا الموضوع. وكان من أنجح أساليب التعامل مع هذه المشكلة ذلك الأسلوب الذي تبناه نينيان سمارت الذي حلل ظاهرة الدين إلى سبعة أبعاد رئيسية بدلا من تقديم تعريف للموضوع؛ وبذلك يمكن القول بأن الأديان لديها بعد عملي وطقسي، وبعد تجريبي وعاطفي، وبعد سردي أو أسطوري، وبعد عقائدي وفلسفي، وبعد أخلاقي وتشريعي، وبعد اجتماعي ومؤسسي، وبعد مادي. وما يلفت النظر في هذا الأسلوب هو أنه لا يختصر الدين في أي من هذه المبادئ أو المعتقدات، أو يزعم أن كل المؤمنين بالأديان لديهم قاسم مشترك؛ فالبيانات المأخوذة من مختلف الثقافات والفترات التاريخية توضح أنه في العموم لا يوجد بينها قاسم مشترك. وعلى الرغم من ذلك، يبدو أنه توجد مجموعة من الأشياء التي تشكل مجتمعة الظاهرة التي نسميها «الدين»؛ فما وضع البوذية فيما يتعلق بتلك الأبعاد السبعة؟ إن تحليل البوذية من خلال كل بعد من هذه الأبعاد تباعا سوف يميزنا عن الرجال العميان؛ إذ سنتمكن من استكشاف سبعة أجزاء من الفيل بدلا من جزء واحد فقط.
البعد العملي والطقسي
البعد العملي والطقسي أقل وضوحا في البوذية منه في الأديان التي تربطها علاقة قوية بالأسرار المقدسة مثل اليهودية أو المسيحية الأرثوذكسية. وليس للرهبان البوذيين دور كهنوتي - فهم ليسوا وسطاء بين الرب والبشر - كما أن ترسيمهم رهبانا لا يمنحهم أي قوى خارقة ولا أي سلطة. ورغم ذلك، تشتمل البوذية على طقوس ومراسم ذات طبيعة عامة وخاصة أيضا، وكثير من تلك الطقوس يتعلق بحياة الرهبان؛ فطقوس الانضمام إلى الرهبان تتم عندما يصبح الشخص راهبا (فيحلق رأسه على سبيل المثال)، وتوجد طقوس دورية مثل التدريب الجماعي على قواعد الرهبنة (الباتيموكا) في أيام البدر والهلال في كل شهر. ومن الطقوس السنوية المهمة مهرجان «كاتينا» الذي يقدم العامة فيه مواد جديدة لصنع الحبال بعد أن ينتهي الرهبان من اعتكافهم خلال موسم المطر. يعد المعبد المحلي جزءا من مجتمع حي، ويلعب الرهبان دورا في الرفاهة الاجتماعية، واقتصاد المجتمع المحلي وسياسته. وعلى الرغم من أن العقيدة البوذية تمقت الطقوس الأخرى المتعلقة بدورة الحياة، فإن هذه الطقوس من الناحية العملية أصبحت مقبولة؛ وبذلك فإن طقوس الحماية والتعبد في المعابد أو في الأماكن المقدسة أصبحت جزءا من تقاليد ما قبل الولادة وما بعد الولادة في كل أنحاء العالم البوذي. وبالمثل فإن البركات البوذية أو وجود الرهبان البوذيين قد يضفي طابعا بوذيا على الطقوس التقليدية والحديثة لدورة الحياة، بداية من تعلم قراءة الأبجدية حتى التخرج في التعليم الثانوي أو الجامعة. وفي تايلاند، يعد الترسيم كراهب من طقوس البلوغ لدى الذكور، وعادة تسبق بركات دير الرهبان حفلات الزفاف. وفي كل مكان آخر، ولا سيما في العصور الحديثة، أصبح الرهبان والرموز البوذية يلعبون دورا أكبر في مراسم الزواج. وقد يصبح أيضا التقاعد من الحياة الصاخبة بؤرة اهتمام الطقوس البوذية إذا تزامن ذلك، كما يحدث عادة، مع الترسيم كراهب أو تبني الوصايا الثماني أو الوصايا العشر.
دين بغير رب؟
بعض الدارسين نفوا أن تكون البوذية دينا؛ لأن البوذيين لا يؤمنون بوجود كائن أعلى أو روح شخصية. لكن هل هذا حكم قائم على تعريف ضيق الأفق لمفهوم «الدين»؟ وفقا لنينان سمارت، فالأديان لديها «الأبعاد السبعة» التالية. وإذا صحت وجهة نظر سمارت، فسيبدو تصنيف البوذية كدين مبررا. (1) البعد العملي والطقسي. (2) البعد التجريبي والعاطفي. (3) البعد السردي والأسطوري. (4) البعد العقائدي والفلسفي. (5) البعد الأخلاقي والتشريعي. (6) البعد الاجتماعي والمؤسسي. (7) البعد المادي.
توجد اختلافات كبيرة بين الطقوس في المذاهب البوذية المختلفة، وقد تضافر عامل تأثير التقاليد المحلية مع طلب العوام من البوذيين (وفيهم هؤلاء الموجودون في الغرب) وأديا إلى ظهور طقوس جديدة (مثل طقس الزواج) لتوازي تلك الموجودة في الأديان الأخرى. ويبدو أن التأثير متبادل بين الطرفين؛ فهناك دلائل على أن طقوسا بوذية معينة، مثل طقس «ميزوكو كويو» الذي يتم في اليابان عقب الإجهاض، أصبحت جزءا من بعض الطقوس الغربية.
البعد التجريبي والعاطفي
البعد التجريبي والعاطفي للبوذية - البوذية بوصفها تجربة حياتية - هو أمر بالغ الأهمية. إن تجربة بوذا الشخصية في التنوير هي أساس المنهج البوذي بالكامل. وفي أغلب الأحيان يستحضر تجربته الخاصة ليستشهد بها على معتقداته، ويقول إن التعاليم غير المدعومة بتجربة شخصية هي تعاليم قليلة القيمة. ويشتمل تنوير بوذا على بعد عاطفي أيضا يتخذ صورة الشفقة الشديدة على الآخرين، وهذا هو ما حفزه على نشر تعاليمه المسماة دارما. ونظرا لشفقته على البشر بسبب معاناتهم، فقد قضى بوذا جزءا كبيرا من حياته في نشر تعاليم أدرك أنها كانت «صعبة الاستيعاب وصعبة الفهم وغامضة بحيث لا يدركها إلا الحكماء.» كي يفيد قليلا من البشر «في عيونهم قليل من التراب لكنهم يعيشون في ضياع بسبب عدم الاستماع إلى تعاليم دارما» (كتاب ماهايانا).
يشكل البعد التجريبي أهمية بالغة في البوذية؛ لأن البوذية تعتبر الحياة الدينية في جوهرها مسارا لتحويل الذات؛ فالتمارين الروحانية مثل التأمل تولد حالات وعي متغيرة يمكن أن تعجل من التطور الروحي. وفيما يتعلق بأهمية التأمل، فمن الممكن تشبيهه بالصلاة في المسيحية، على الرغم من أنه عادة ما يكون لكل من الصلاة المسيحية والتأمل البوذي أهداف مختلفة؛ فعلى سبيل المثال، عندما يتأمل البوذيون فهم لا يطلبون تلبية أمنياتهم من الرب، بل يحاولون الحصول على الحكمة والشفقة.
إن هذا التأكيد على البعد التجريبي الداخلي للممارسة الدينية يربط البوذية بالتقاليد الصوفية للهند القديمة مثل اليوجا. وفي اليوجا تستخدم تمارين كثيرة - مثل السيطرة على الوضعية والتنفس - من أجل كسب السيطرة على الجسم والعقل واستخدام قواهما الكامنة. وسنرى في الفصل التالي أن بوذا جرب بعض هذه الطرق بنفسه. وهذه الأساليب ليست مقتصرة على الهند فحسب، بل موجودة في أجزاء أخرى من العالم. وتوجد شواهد حاليا على عودة الاهتمام بالبعد الصوفي في المسيحية، وهو تطور نابع إلى حد ما من الاهتمام المعاصر بالروحانية الهندية.
Shafi da ba'a sani ba
البعد السردي والأسطوري
كما هي الحال مع الأديان الأخرى، فللبوذية نصيب من الأساطير والحكايات. و«الأسطورة» في هذا الصدد لا يقصد بها شيء مزيف، بل الأساطير هي القصص التي تتسم بقوة مثيرة نظرا لقدرتها على العمل على عدة مستويات في الوقت نفسه. وهذه الأساطير لها محتوى سردي، لكن لها أيضا - كما الأمثولة - محتوى مجازيا يمكن فهمه وتفسيره على عدة أوجه؛ فعلى سبيل المثال، اعتقد فرويد أن أسطورة أوديب - الذي قتل أباه وتزوج أمه - تحتوي على حقائق عالمية مهمة عن الجنس لدى البشر وعن العقل اللاواعي. وفي بعض الأحيان يكون من الصعب معرفة إن كان محتوى الأسطورة يجب أن يفهم بمعناه الظاهري أم لا. وأولئك الذين يؤمنون بالحقيقة الحرفية للكتاب المقدس سوف يميلون إلى قراءة قصة الخلق في سفر التكوين على أنها سرد حقيقي للطريقة التي بدأ بها العالم. وقد يفضل آخرون النسخة العلمية للأحداث مع التسليم بأن سفر التكوين يكشف حقيقة عميقة عن العلاقة بين الرب والكون. والبوذية القديمة لها «أسطورة خلق» خاصة بها مذكورة في خطب «أجانيانيا»، ويوجد الكثير من السير الشائعة مثل قصص «جاتاكا»، وهي مجموعة من الحكايات الأخلاقية عن الحيوات السابقة لبوذا. وفي بعض هذه الحكايات تكون الشخصيات من الحيوانات، لكن ليس على غرار خرافات إيسوب، وفي النهاية يكشف بوذا أنه كان الشخصية الرئيسية في حياة سابقة.
كثير من الوقائع المثيرة التي تحتوي على الخوارق يثري التراث البوذي، وقد أصبحت تلك الوقائع أكثر مبالغة وتكلفا مع مرور القرون. حتى في المصادر القديمة تظهر الآلهة والأرواح في كثير من الأحيان. وعادة ما يتم تصوير تلك الآلهة والأرواح في الفن والأدب البوذي على أنها تشكل جزءا من الجمهور في بعض الوقائع المهمة في حياة بوذا. وتروي إحدى القصص المثيرة كيف تعارك بوذا قبل تنويره مع مارا، الشرير، وحقق نصرا كبيرا عليه وفرق جيوشه. وتوجد أيضا بعض القصص والوقائع المتسلسلة البعيدة عن الإثارة التي تروي تاريخ البوذية في ثقافات مختلفة، لكن تلك القصص والوقائع تحتوي أيضا على سمات خيالية.
البعد العقائدي والفلسفي
لا يستخدم البوذيون في آسيا مصطلح «البوذية» لوصف دينهم، ويشيرون إليه إما باسم «دارما» (وتعني «القانون») وإما باسم «بوذا ساسانا» (وتعني «تعاليم بوذا»). وربما لا يروق للبعض منهم استخدام مصطلح «العقيدة» لوصف مفاهيمهم، من منطلق أن هذا المصطلح له إيحاءات مرتبطة بالدين الغربي. ورغم ذلك، إذا كان ما نفهمه من كلمة «عقيدة» هو الصياغة المنهجية للتعاليم الدينية في شكل متماسك من الناحية الفكرية، فلن يبدو من قبيل المبالغة استخدام هذا المصطلح في البوذية. والتعاليم العقائدية الأساسية محفوظة في مجموعة من القضايا المترابطة معروفة باسم الحقائق الأربع النبيلة، التي كونها المؤسس بوذا. وعادة ما تكون مهمة دراسة تلك المعتقدات وتوضيحها وتفسيرها مسئولية صفوة مثقفة ومتعلمة. وفي البوذية تكون مسئولية الحفاظ على النصوص وتفسيراتها ملقاة على عاتق مجموعة من الرهبان تسمى «سانجا». بيد أن الرهبان ليسوا جميعا فلاسفة؛ ففي التقليد البوذي يوجد أشخاص شعروا أن التجربة الصوفية - تلك المكتسبة من خلال التأمل - كانت الطريق لتحرر مؤكد على نحو أكبر من طريق حفظ النصوص. على الرغم من ذلك، وعلى مدار القرون، استثمرت البوذية جهدا فكريا هائلا في الدراسة العقائدية، ويمكن رؤية ذلك من خلال النصوص والأطروحات المطولة المحفوظة في كثير من اللغات الآسيوية. ونسبة قليلة جدا فقط من هذا التراث هي ما تمت ترجمتها، على الرغم من أن كثيرا من النصوص ذات الأهمية البالغة متاح الآن باللغة الإنجليزية أو بغيرها من اللغات الأوروبية.
البعد الأخلاقي والتشريعي
تحظى البوذية باحترام واسع النطاق بوصفها واحدة من الديانات ذات الأخلاقيات العالية. ويعد المبدأ الأساسي في الأخلاقيات البوذية هو عدم الإيذاء المعروف باسم («أهيمسا»)، ويتجلى هذا المبدأ في احترام الحياة؛ ذلك الاحترام الذي تشتهر به البوذية. تحض التعاليم البوذية على احترام كل المخلوقات الحية، سواء البشر أم الحيوانات، وتعتبر التدمير العمدي للحياة خطأ فادحا. وقد أدت هذه الفلسفة إلى أن أصبح كثير من البوذيين (لكن ليس جميعهم بالتأكيد) نباتيين، وتبنوا مبدأ السلام باعتباره أسلوبا للحياة. ويلعب مبدأ عدم الإيذاء دورا إيجابيا في شكل فضيلة أخرى من الفضائل البوذية الرئيسية، وهي الشفقة، كما أن الاهتمام بتخفيف المعاناة دفع البوذيين من العوام والرهبان إلى تأسيس المستشفيات، ودور الرعاية، والمدارس، والمؤسسات الخيرية.
النصوص الأولى للبوذية تدين العنف بقوة، واستخدام القوة لدعم أهداف الدين - في شكل حروب صليبية أو «جهاد» على سبيل المثال - يبدو أمرا غير مفهوم على الإطلاق بالنسبة إليهم. وهذا لا يعني القول بأن السجل التاريخي للبوذية ناصع لا تشوبه شائبة؛ حيث توجد فترات من التاريخ الآسيوي استغلت فيها البوذية لأغراض سياسية، واستخدمت لتبرير الحملات العسكرية. ورغم ذلك، كانت تلك الحوادث أقل من أن تقارن بالحروب الصليبية والحروب الدينية في العصور الوسطى وأوائل عصر الحداثة في أوروبا. وفي القرن العشرين تبنى البوذيون في التبت سياسة المقاومة السلمية لغزو أراضيهم من قبل الصينيين في عام 1950، وبعد هذا الغزو قدر عدد الذين توفوا من سكان التبت بنحو مليون، فضلا عن تدمير ستة آلاف دير. كما نشأت أيضا في اليابان حركة قوية داعية إلى السلام في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
الأبعاد الخمسة التي ذكرناها حتى الآن كلها ذات طبيعة مجردة، والبعدان الأخيران متعلقان بالدين وتجسيده في شكله الاجتماعي والمادي.
البعد الاجتماعي والمؤسسي
Shafi da ba'a sani ba
عرف ألفريد نورث وايتهيد الدين بأنه «ما يفعله المرء في عزلته.» لكن الدين أكثر من مجرد تجربة شخصية داخلية (في ضوء إطارنا الحالي، يمكننا أن نرى أن هذا التعريف يركز كثيرا على البعد التجريبي). وفي العادة يشعر أتباع الدين بأنهم جزء من جماعة، وفي الغالب يرون أن لذلك أهمية سياسية ودينية أيضا، كما هي الحال في مفهوم «العالم المسيحي» في العصور الوسطى. وهذه النظرة واضحة جلية في الإسلام أيضا، الذي يرى أن الشريعة تتحكم في كل مناحي الحياة العامة والخاصة.
النواة الاجتماعية للبوذية هي جماعة الرهبان والراهبات («سانجا») التي أسسها بوذا. وعلى الرغم من أن الجماعة البوذية هي المؤسسة الاجتماعية المحورية، فإن البوذية ليست دينا مقتصرا على الرهبان؛ فالمصادر القديمة تقدم تصنيفا اجتماعيا للبوذية يفيد بأنها: «الجماعة الرباعية» التي تتكون من الرهبان والراهبات والتلاميذ المتدينين من عوام البوذيين من الرجال والنساء (ويطلق عليهم «أباساكا/أباسيكا»). وما يلفت النظر في هذا الصدد هو الشمولية والاعتماد المتبادل بين الأفراد، سواء بين الذكور والإناث أم بين العوام والرهبان. وعلى الرغم من وجود فارق واضح بين حياة الرهبنة والحياة العلمانية في كثير من مناحي العالم البوذي، فلقد وجدت محاولات لتشويش أو إزالة الحواجز بين الحياتين، وقد لاقى هذا الميل أكبر قدر من النجاح في اليابان.
يمكن أن يتخذ النظام الاجتماعي لأحد الأديان أشكالا عدة، بداية من مجموعات صغيرة يقودها معلمون وصولا إلى مؤسسات ذات هيكل هرمي التسلسل يضم ملايين من الأتباع. وتوجد في البوذية عدة تنويعات تنظيمية. وفي الأساس كان بوذا معلما متجولا جذب الأتباع من خلال جاذبية شخصيته. ومع تزايد أعداد هؤلاء الأتباع تكونت بنية مؤسسية أساسية في شكل جماعة من الرهبان لها قواعد وضوابط. ورغم ذلك، فقد أعلن بوذا أنه لا يعتبر نفسه قائد هذه الجماعة، ورفض تعيين خليفة عند وفاته، وبدلا من ذلك، شجع أتباعه على العيش وفقا لتعاليمه (الدارما) ووفقا لحكم الرهبنة، وأن يكونوا «مصابيح (أو جزرا) بعضهم لبعض» (كتاب ديجا). وعلى الرغم من أن بلدانا عديدة لديها سلطات دينية، فإن البوذية لم يكن لديها قط زعيم منفرد، ولم يكن لديها منصب مركزي يماثل منصب البابا في المسيحية. ونظرا لغياب السلطة المركزية، كلما نشبت الخلافات على أمور العقيدة أو الممارسة، مالت البوذية إلى الانقسام بسهولة. وتتحدث سجلات البوذية عن ثماني عشرة طائفة وجدت خلال قرنين بعد وفاة بوذا، وقد ظهر عدد أكبر من تلك المذاهب منذ ذلك الحين.
الطوائف والمذاهب البوذية
على مدار القرون تكونت العديد من الطوائف والمذاهب البوذية. ويوجد فرق كبير بين البوذية المحافظة الموجودة في جنوب آسيا في بلدان مثل سريلانكا وبورما وتايلاند، وبين مذاهب الشمال المجددة في العقيدة الموجودة في التبت وآسيا الوسطى والصين واليابان. في جنوب آسيا يشيع مذهب التيرافادا، ويعنى هذا الاسم «التعاليم الملزمة» أو «التعاليم الأصلية»، على الرغم من أن الترجمة الشائعة له هي «عقيدة الأقدمين». ويعتبر هذا المذهب نفسه حاضنا للتعاليم القديمة الأصلية التي تعود إلى بوذا نفسه. أما مذاهب شمال آسيا فتنتمي إلى حركة تعرف باسم ماهايانا، وتعني «العربة الكبرى». ويعرف الأفراد البوذيون أنفسهم باعتبارهم تابعين لإحدى هاتين «العائلتين»، على النحو الذي يعرف به المسلمون أنفسهم باعتبارهم إما سنة وإما شيعة، أو على النحو الذي يعرف به مسيحيو الغرب أنفسهم باعتبارهم إما بروتستانتيين وإما كاثوليكيين.
وفيما يتعلق بالنظام الاجتماعي، يبدو أن بوذا قد فضل النظام الجمهوري من النوع المستخدم بين أتباعه. وشجع الرهبان على عقد «اجتماعات كاملة ومتكررة» (كتاب ديجا) واتخاذ القرارات بالإجماع. ويختلف النظام الاجتماعي في البوذية من ثقافة إلى أخرى، وقد أظهرت البوذية قدرا عاليا من المرونة في التكيف مع تقاليد الثقافات الأصلية التي احتكت بها. ومع انتشار البوذية في الغرب، فإن من المتوقع أن تتطور الأشكال الديمقراطية للنظام الاجتماعي؛ لأن الجماعات البوذية تطور نظما اجتماعية تناسب احتياجاتها.
البعد المادي
البعد السابع والأخير مشتق إلى حد كبير من البعد الاجتماعي؛ فالبعد المادي يشمل الأشياء التي تتجسد فيها روح الدين، مثل: الكنائس والمعابد والأعمال الفنية والتماثيل والمواقع المباركة والأماكن المقدسة مثل أماكن الحج. وفي الهند، كثير من الأماكن المرتبطة بحياة بوذا أصبح مراكز حج مهمة، مثل مكان مولده ومكان تنويره، والحديقة التي ألقى فيها أولى خطبه. وفي أماكن أخرى في آسيا توجد مواقع بوذية عديدة ذات أهمية أثرية وتاريخية وأسطورية. وتشمل هذه الأماكن المنحوتات الصخرية العملاقة، مثل تلك الموجودة في بولوناروا في سريلانكا، وباميان في أفغانستان، ويون كانج في الصين. أما الأثر الأكثر شيوعا وتذكيرا بالبوذية فهو «ستوبا» واسع الانتشار، وهو أثر على شكل قبة، لكنه تحت تأثير أساليب العمارة في شرق آسيا تحول إلى مبنى الباجودا. وتحتل النصوص من الآثار الأخرى أهمية بارزة في البوذية؛ فالنصوص الدينية تعامل بقدر هائل من الاحترام نظرا لأنها تضم تعاليم بوذا وتجسد حكمته. ويعتبر نسخ أو إلقاء أو حفظ هذه النصوص نشاطا دينيا، وكذلك عملية ترجمة تلك النصوص إلى لغات أخرى.
ملخص
يمكننا أن نرى مما سبق أن الدين عبارة عن ظاهرة معقدة لا يمكن أن يوفيها حقها تعريف على غرار تلك التعريفات الموجودة في القواميس، ولا سيما عندما يكون ذلك التعريف نابعا تماما من التجربة الدينية للغرب. رغم ذلك، وبمجرد أن نبدأ في التفكير في الدين باعتباره كيانا له أبعاد متعددة، فإنه يصبح من السهل رؤية كيف أن البوذية - على الرغم من سماتها الغريبة والمميزة - تأخذ مكانها وسط عائلة الأديان العالمية. وبالعودة إلى سؤالنا الأصلي، يمكننا أيضا أن نرى لماذا كان من غير المناسب تعريف البوذية على أنها مجرد فلسفة أو أسلوب حياة أو نظام أخلاقي؛ فهي تضم كل هذه الأمور، وفي بعض الأحيان يبدو أنها تقدم نفسها بإحدى هذه الطرق. ومع ذلك، يعتمد الأمر إلى حد كبير على المنظور الذي ترى منه البوذية وعلى مقدار تجاهل بقية أبعادها الأخرى. فإذا أراد أحد الأشخاص رؤية البوذية باعتبارها فلسفة عقلانية خالية من الخرافات الدينية، فعندها - من خلال التركيز على البعد العقائدي والفلسفي - يمكن فهمها بهذه الطريقة. وإذا أراد شخص أن يراها في جوهرها سعيا للتجربة الصوفية - من خلال جعل البعد التجريبي بعدا محوريا لها - يصبح هذا ممكنا. وأخيرا، الشخص الذي يريد رؤية البوذية باعتبارها مجموعة من القيم الأخلاقية الإنسانية سوف يجد أيضا مبررا لهذه النظرة من خلال إعطاء الأولوية للبعد الأخلاقي والتشريعي.
Shafi da ba'a sani ba
الثقافة المادية
على الرغم من أن البوذية يمكن دراستها من خلال الأبعاد السبعة المذكورة في هذا الفصل كلها؛ فقد اعتمد الباحثون الغربيون الأوائل اعتمادا يكاد يكون حصريا على النصوص البوذية في استقاء المعلومات، ومالوا إلى التأكيد على البعد العقائدي أكثر من بقية الأبعاد. وحتى العصور الحديثة كان البعد المادي بصفة خاصة مهملا إلى حد كبير؛ مما أعطى انطباعا عن البوذية مشوها ومنزوعا من سياقه. وقد أوضح الباحثون أن هذا التوجه ربما يكون متأثرا بالنزعة البروتستانتية التي تهتم كثيرا بالنصوص باعتبارها موضع «الدين الحقيقي» وما تبع هذه النزعة من عدم تقدير للمقتنيات الدينية والممارسات الشعبية. وعلى الرغم من أن دراسة النصوص الدينية ما زالت مهمة، فإن باحثي البوذية يحولون اهتمامهم اليوم على نحو متزايد إلى المقتنيات المادية ودورها في الممارسة الدينية. وتشمل هذه المقتنيات: النقوش، والعملات المعدنية، والصور، والرموز، وأدوات الطقوس، والمسابح، والتمائم، والأضرحة، وصناديق الذخائر الدينية، وملابس الطقوس، وشهادات الترسيم، والسجلات، ومحفوظات الأديرة مثل إيصالات التبرعات وإقرارات التركات. إن مثل هذا النوع من المقتنيات والسلع يشيع وجوده في الحياة الدينية ويلعب دورا مهما في بناء الهوية البوذية. وفي أغلب الأحيان تخبرنا هذه المقتنيات عن الممارسات والمعتقدات البوذية الحقيقية على نحو أكبر مما تخبرنا به الروايات المحفوظة في النصوص الدينية.
لقد ذكرت تلك التفسيرات المحددة للبوذية لأنها التفسيرات التي لاقت رواجا لدى الغرب خلال القرن الأخير. وعلى الرغم من أن تلك التفسيرات ليست غير مشروعة بالكلية، فإنها تعاني من النقصان، وتمثل عادة رد فعل تجاه أحد جوانب النقص الملحوظة في الدين لدى الغرب. وإذا ركزنا فقط على أحد هذه الجوانب في البوذية، فإننا بهذه الطريقة سنرتكب الخطأ نفسه الذي ارتكبه العميان عندما أمسكوا جزءا واحدا فقط من الفيل.
بعد أن استنتجنا أن البوذية دين من الأديان، مهمتنا في الفصول التالية استعراض بعض أبعادها بمزيد من التفصيل. والأبعاد التي ستحظى بالقدر الأكبر من الاهتمام في هذا الكتاب هي: البعد العقائدي والبعد التجريبي والبعد الأخلاقي، على الرغم من أنه سيشار إلى الجوانب الأخرى في المواضع المناسبة. ورغم ذلك يجب أولا أن نتعرف على حياة مؤسس البوذية سيدهاتا جوتاما.
الفصل الثاني
بوذا
ولد بوذا في منخفضات تيراي بالقرب من سفح جبال الهيمالايا داخل حدود ما يعرف اليوم بدولة نيبال. وكان شعبه يعرف باسم شعب ساكيا؛ ولهذا السبب يشار أحيانا إلى بوذا باسم «ساكياموني» أو «حكيم شعب ساكيا». وكان معروفا لدى أتباعه باسم «باجوات» أو «السيد». وكلمة «بوذا» ليست اسما لشخصه، بل لقب شرفي يعني «المتيقظ». وعلى الرغم من أنه - تحريا للدقة - يمكن استخدام اللقب للإشارة فقط إلى الشخص بعد أن يبلغ مرحلة التنوير، فإنني سوف أستخدمه للإشارة إلى بوذا في الجزء المبكر من حياته أيضا. أما اسم بوذا كما أشرنا في السابق فهو سيدهاتا جوتاما (بالسنسكريتية: سيدهارتا جوتاما).
الفترة المتعارف عليها باعتبارها فترة ممثلة لحياة بوذا هي ما بين 566 و486 قبل الميلاد، على الرغم من أن الأبحاث الحديثة تشير إلى أن وفاة بوذا على الأرجح كانت في وقت قريب من عام 410 قبل الميلاد (الترتيب الزمني في هذه الفترة يكون دقيقا فقط في نطاق عشر سنوات). وترجح المصادر التقليدية أن بوذا وعائلته ينتمون إلى الطبقة الثانية من الطبقات الهندية الأربع - أي طبقة المحاربين الأرستقراطية المعروفة باسم الخطيين (بالسنسكريتية: الكشاتريون)، على الرغم من عدم وجود دليل على وجود النظام الطبقي بين شعب ساكيا.
أما الإشارات المتعلقة بالمكانة الملكية لوالد بوذا، سودهودانا، ومظاهر العظمة والأبهة في بلاطه الملكي، كما ترويها نصوص لاحقة على وجه الخصوص، فهي من باب المبالغة على الأرجح. ورغم ذلك، فإن كون بوذا من النبلاء سببه حكم مولده، وكذلك مكانته الرفيعة تعد من الموضوعات الشائعة في الفن البوذي والأدب البوذي، كما أن خلفيته الأرستقراطية - على الرغم من أنها قد لا تكون على القدر الرفيع الذي تصوره لنا المصادر - قد ساعدته بلا شك في ترك انطباع مقبول لدى ممالك شمال شرق الهند التي زارها باعتباره معلما متجولا.
قدر معين من المعلومات المتعلقة بحياة بوذا محفوظ في قانون بالي (انظر مربع النص)، لكن لم توجد أي محاولة لجمع هذه التفاصيل معا في عمل سردي متواصل إلا بعد خمسمائة عام من وفاة بوذا. وفي السابق، أي خلال قرنين من رحيل بوذا، بدأت سير جزئية عن حياته في الظهور، ويرى البعض أن هذا الأمر زاد من فضول الناس ورغبتهم في معرفة حياة ذلك الرجل المميز. وأشهر السير التي تناولت حياة بوذا وأكثرها أناقة هي قصيدة ملحمية معروفة باسم «بوداكاريتا» أي «أفعال بوذا»، وألفت تلك القصيدة في القرن الأول بعد الميلاد على يد الأديب البوذي الشهير «أشفجهوشا». وفي ذلك الوقت أضيفت إلى السير غير المكتملة المكتوبة في السابق تفاصيل مثيرة على نحو أصبح من الصعب فيه الفصل بين الحقيقة والأسطورة. وربما ألهمت هذه السير السردية لحياة بوذا صنع صور لبوذا لم تكن موجودة حتى حلول القرن الثاني من الميلاد تقريبا. وقبل ذلك كان يتم تمثيل بوذا في الرسوم من خلال الرموز فقط، كأن يرمز إليه بشجرة أو عجلة أو مظلة، إما بسبب التبجيل وإما لصعوبة إعطاء تعبير جمالي لحالة السمو التي اكتسبها . وبعد فترة بدأ الفنانون في تجسيد صورة بوذا في الحجر أو في غيره من المواد، وأصبحت هذه الصور التجسيدية نقطة تركيز الممارسات الدينية لدى العامة.
Shafi da ba'a sani ba
حياة بوذا
تتسم المعلومات المتعلقة بحياة بوذا التي تتناولها المصادر الأولية بالتناثر وعدم الاكتمال؛ فعندما كان بوذا يلقي تعاليمه حول موضوع ما، كان يتذكر جزءا من حياته الأولى ثم يبدأ في سرده. وبعض هذه السير مذكور بالتفصيل، والبعض الآخر يغلب عليه الغموض، فضلا عن أن الترتيب الزمني لتلك الأحاديث لا يكون واضحا دائما. ولمثل هذه الأسباب فإن مهمة وضع سيرة حياتية لبوذا معتمدة على المصادر الموجودة ليست بالمهمة السهلة. علاوة على ذلك، فإن مفهوم السيرة الحياتية هو اختراع غربي حديث نسبيا، ولم تكن السيرة الحياتية نوعا أدبيا موجودا في الهند القديمة. وقد أعاقت صعوبات مماثلة محاولات تقديم سير حياتية للشخصيات الدينية القديمة الأخرى مثل المسيح، ومن غير المحتمل أن يحظى السعي وراء تقديم «السيرة التاريخية لبوذا» بنجاح أكبر. وما يزيد الأمر تعقيدا هو إيمان البوذيين بتناسخ الأرواح؛ ومن ثم فإن تقديم سيرة حياتية كاملة لبوذا يستلزم تضمين حيواته السابقة! وعلى الرغم من عدم وجود سرد متواتر قديم لحياة بوذا، فإنه يوجد اتفاق على الترتيب الزمني التقريبي لبعض المحطات المهمة في حياته المهنية. وباختصار، فإن الحقائق المتعلقة بحياته هي كالتالي: تزوج وهو في السادسة عشرة من فتاة تدعى ياشودار، أنجبت له فيما بعد صبيا يدعى راهولا (يعني «القيد»)، وبعد فترة قصيرة من ميلاد ابنه، ترك بوذا المنزل في سن التاسعة والعشرين للبحث عن المعرفة الدينية، وبلغ مرحلة التنوير في سن الخامسة والثلاثين. وقضى الخمس والأربعين سنة المتبقية من حياته في إعطاء التعاليم الدينية، وتوفي في سن الثمانين. ويركز البوذيون عادة على أحداث رئيسية معينة في الحياة المهنية لبوذا باعتبارها الأهم، ويحتفون بها بعدة طرق في الأدب والأسطورة والطقوس والحج للأماكن التي حدثت فيها. والأحداث الأربعة الأهم في حياة بوذا هي: ميلاده، وتنويره، وأول خطبة ألقاها، ووفاته.
النصوص الأولى
تعاليم بوذا مسجلة في مجموعات مختلفة من النصوص تعرف باسم «القوانين». وهذه النصوص مأخوذة من تقليد شفهي يعود إلى زمن بوذا، وحفظت عن طريق الإنشاد الجماعي. النسخة الوحيدة من هذه القوانين القديمة التي ظلت محفوظة بلا تحريف هي قانون بالي، وترجع تسميتها إلى اللغة البالية المكتوبة بها، وهي لغة عامية قريبة من اللغة السنسكريتية التي تحدث بها بوذا. دون قانون بالي كتابة في سريلانكا في حوالي منتصف القرن الأول قبل الميلاد، ويتكون من ثلاثة أجزاء أو ثلاث «سلال» (بالسنسكريتية: بيتاكا)، وهي: (1) الأجزاء (سوتا بيتاكا) أو خطب بوذا المقسمة إلى خمسة أقسام معروفة باسم «نيكايا». (2) لائحة قواعد الرهبنة (فينايا بيتاكا) التي تضم قواعد الانضباط في حياة الرهبنة. (3) الأطروحات الفلسفية (أبهيداما بيتاكا)، وهي تكملة متأخرة نسبيا للأعمال الفلسفية. يفترض غالبا أن لكل دين نصا مقدسا واحدا خاصا به، لكن هذا لا ينطبق على البوذية. إن قانون بالي يمثل مرجعية لمدرسة التيرافادا فقط. أما المدارس البوذية الأخرى فقد جمعت قوانينها التشريعية الخاصة بلغات مختلفة، وغالبا ما تنطوي على اختلاف كبير في المحتوى.
ميلاد بوذا
يقال إن ميلاد بوذا، الذي لا يختلف عن ميلاد المسيح، كان محاطا بأحداث خارقة. وتصف نصوص لاحقة كيف حملت والدة بوذا مايا به؛ فلقد حلمت مايا بأن فيلا أبيض يدخل في جانبها. والصورة
2-1
توضح ذلك الحلم. وفسر لها المفسرون معنى هذا الحلم، فقالوا إنها ستحمل ولدا سيصبح إما إمبراطورا عظيما (شاكفاتي) أو معلما دينيا عظيما. وكما جرت العادة عندما اقترب الحمل من أجله، شرعت مايا في رحلة من كابيلافاتو، عاصمة جمهورية ساكيا، إلى بيت أقاربها للولادة. وعندما وصلت الملكة ومرافقوها إلى بستان جميل في لومبيني جاءها المخاض، وولدت وهي واقفة مستندة إلى جذع شجرة شالا. ويقال إن سكان السماء وصلوا للتعجب من هذا الحدث الرائع؛ لأن ميلاد بوذا واقعة سماوية ومهمة. واهتزت الأرض ووضعت الآلهة الطفل على الأرض وغسلوه في حمام ماء معجز. ووقف الصبي على الفور وخطا سبع خطوات وأعلن أن هذه هي آخر مرة يولد فيها. وسمي الولد سيدهاتا جوتاما. ومعنى سيدهاتا هو «الشخص الذي حقق هدفه» أما جوتاما فهو اسم عشيرة مشتق من اسم حكيم هندي قديم. وبعد سبعة أيام فقط من ميلاد بوذا توفيت والدته، وتربى الطفل على يد أخت والدته باجاباتي التي أصبحت الزوجة الثانية لوالده سودهودانا.
قليلة هي التفاصيل التي يقدمها قانون بالي عن طفولة بوذا، لكن الانطباع الذي تركه هو أنه عاش حياة مترفة داخل جدران قصور والده الثلاثة، التي كان كل قصر منها مخصصا لأحد الفصول الثلاثة في السنة الهندية. كان بوذا الشاب يرتدي أفخر الثياب، ويتعطر بالعطور، ويحاط بالموسيقيين والخدم الذين يلبون كل احتياجاته. وعلى الرغم من أن تلك الظروف يظن أنها قد تسفر عن «طفل مدلل» من الطراز الأصلي، فإن شخصية بوذا يبدو أنها لم تتأثر تأثرا مفرطا. ويوصف بوذا بأنه كان طفلا سابقا لسنه يتصرف كالكبار، لكنه كان يراعي مشاعر الآخرين، فضلا عن تمتعه بذكاء حاد وقوى روحانية كامنة.
شكل 2-1: الحمل ببوذا: والدة بوذا، الملكة مايا، تحلم بأن بوذا المستقبلي يدخل جانبها في شكل فيل أبيض صغير؛ رمز مبارك للغاية. جزء من إحدى لوحات تانكا في التبت.
Shafi da ba'a sani ba
العلامات الأربع
على الرغم من أن حياة القصر كانت مريحة، فإنها لم تكن مرضية، وحن بوذا إلى أسلوب حياة أعمق وأكثر إشباعا من الناحية الروحية. وتمثل الأساطير الأخيرة هذا السخط من خلال قصة يقوم فيها بوذا بأربع زيارات خارج القصر وهو في عربة. لقد كان والده المفرط في حمايته يخشى باستمرار أن يترك ابنه البيت ليحقق مصيره باعتباره معلما دينيا كما تنبئ له في حلم مايا؛ فجهز الشوارع لتعج بالأشخاص الأصحاء المبتسمين كي لا ينزعج سيدهاتا من أي منظر بغيض، وأخلاها من المسنين والعجزة، لكن المصادفة - أو تدخل الآلهة، كما تقول مصادر لاحقة - جعلت بوذا يقابل رجلا مسنا، فأمر بوذا قائد العربة بالعودة على الفور إلى القصر، وفي القصر تفكر في معنى أن يصبح الإنسان عجوزا. وفي رحلته الثانية قابل رجلا مريضا، وفي الرحلة الثالثة رأى جثة محمولة إلى أرض حرق الجثث. وهذه التجارب جعلته يدرك في المقام الأول الطبيعة الزائلة للوجود البشري، وعلم أنه حتى جدران القصر لا يمكنها أن تمنع المعاناة والموت. وفي رحلته الرابعة خارج القصر قابل بوذا ناسكا متسولا (سامانا)، وورد على فكره أنه نفسه يمكن أن يسلك طريقا روحانيا لحل مشكلات الطبيعة البشرية. وفي تلك الليلة قرر ترك القصر، وألقى نظرة أخيرة على زوجته وطفله النائمين، وتركهما ليصبح ناسكا متسولا لا مأوى له.
هذه القصة البسيطة المؤثرة من غير المحتمل أن تكون حقيقية بالمعنى الحرفي؛ فمن الصعب تصديق أن بوذا كان بالسذاجة التي تصوره بها القصة، أو أن زهده في حياة القصر كان أقرب إلى المفاجأة. وقد يكون من المفيد على نحو أكبر لو قرأنا القصة باعتبارها أمثولة تمثل فيها حياة القصر دعة العيش وخداع الذات، وتمثل فيها رؤية العلامات الأربع بداية إدراك طبيعة الحياة البشرية. لو كان بوذا حيا في عصرنا هذا لرأى العلامات الأربع في كل مكان حوله؛ فكل رجل مسن وكل مستشفى وكل جنازة ستظهر قصر وهشاشة الحياة، بينما ستكون كل كنيسة وكل رجل دين إثباتا لفكرة أن الحل الديني لهذه المشكلات من الممكن إيجاده. ويبدو أن الأمثولة توضح أنه على الرغم من وجود تلك العلامات في كل مكان، فإن معظم الناس - مثل بوذا الشاب - يبنون حواجز عقلية (جدران القصر) لحجب تلك الحقائق البغيضة. وحتى في هذه الحالة، ستمر أوقات تفرض فيها تلك الحقائق غير المرغوبة نفسها علينا بطريقة من المستحيل تجاهلها، مثل حالات المرض أو الوفاة، مثلما حدث عندما خرج بوذا في عربته.
الزهد والتقشف
بعد أن أفاق بوذا من دعة العيش، قرر على الفور أن يدير ظهره لحياته العائلية وأن يذهب بحثا عن المعرفة الروحية. ولم يكن هذا القرار غير مسبوق في الهند؛ فحركة سامانا - ثقافة مضادة مكونة من نساك متسولين لا مأوى لهم - كانت متأصلة في وقت بوذا. وكثير من الناس كانوا قد اتخذوا قرارات مماثلة بأن يزهدوا في العالم، وأصبح بوذا عضوا في فرق الشحاذين والفلاسفة المتجولين.
كان المعلم الأول لبوذا رجلا يدعى آلارا كالاما، وعلمه طريقة تأمل تضع المرء في حالة غشية عميقة. وكان بوذا تلميذا نجيبا، وسرعان ما أتقن القدرة على الدخول في حالة استغراق تسمى «مجال العدمية» والاستمرار فيها. وعندما أتقن بوذا هذا الأسلوب بسرعة وبدقة عرض عليه آلارا أن يشترك معه في قيادة المجموعة، ورفض بوذا طلبه؛ فعلى الرغم من أن التجربة اتسمت بالسكينة والمتعة، فإنها لم تكن الحل الدائم الذي كان يسعى إليه؛ إذ إن المرء يخرج من هذه الحالة في النهاية ويعود إلى الوعي اليقظ العادي، ولا تزال مشكلاته الأساسية المتمثلة في الميلاد والمرض والهرم والموت قائمة.
واستمر بوذا في سعيه ودرس بعد ذلك على يد معلم آخر اسمه أوداكا رامابوتا. وعلم أوداكا بوذا أسلوبا أكثر تعقيدا يسمح لممارسه بالدخول في مجال «لا هو واع ولا هو غير واع»، وهي حالة ذهنية أكثر تساميا يبدو فيها الوعي نفسه كأنه اختفى تقريبا. كان أوداكا منبهرا للغاية بتلميذه لدرجة أنه عرض أن يكون من أتباع بوذا، لكن بوذا رفض؛ لأنه شعر أن القدرة على الوصول لحالات الوعي الصوفية كانت جيدة وقيمة إلى حد ما، لكنها لم تكن الهدف الذي يسعى إليه.
وبعد تجارب التأمل هذه وجه بوذا انتباهه إلى أساليب من نوع مختلف. وتضمنت هذه الأساليب التقشف الشديد، وكان الهدف من ذلك هو كبح الشهوات والعواطف. في البداية مارس بوذا تمرينا للتحكم في التنفس، وتضمن هذا التمرين كتم النفس لمدة أطول وأطول من الوقت. وبدلا من اكتساب المعرفة الروحية كان كل ما جناه من هذا التمرين هو الصداع المؤلم. وترك بوذا هذا الأسلوب وجرب طريقة أخرى تضمنت تقليل استهلاكه من الطعام إلى جرعات قليلة، تعادل فقط ملعقة من حساء الفول يوميا. ولم يمر وقت طويل حتى أصابه الهزال وأصبح عاجزا عن الجلوس وظهره منتصب، وبدأ شعره في السقوط. وأصبح واضحا له أن هذا النوع من إهلاك الذات لا يسفر عن نتائج أيضا؛ فتركه. ورغم ذلك فإن جهود بوذا لم تذهب هباء تماما؛ فتجربته علمته أن التطرف بأي نوع كان لا طائل من ورائه . إن حياته في السابق، التي كانت مغموسة في الملذات، لم تكن مرضية، والأمر نفسه ينطبق على السنوات الست التي جرب فيها التأمل من خلال التقشف. وأدرك بوذا أن الطريق الأكثر جدوى هو «الطريق الوسطي» بين هذين النقيضين المتطرفين. ومن هذا المنطلق سيكون نمط الحياة الأكثر ملاءمة هو الاعتدال، فلا حرمان من الشهوات ولا انغماس مفرطا فيها.
التنوير
انطلاقا من هذا المبدأ، عاد بوذا إلى تناول الطعام ورجع إلى ممارسة التأمل. وقد أحرز تقدما سريعا، وفي أثناء ليلة من الليالي التي كان فيها جالسا تحت شجرة كبيرة، عرفت فيما بعد بشجرة بوذا (شجرة التين المقدسة)، اكتسب حالة اليقظة الكاملة التي كان يسعى إليها. خلال الثلث الأول من الليل، اكتسب القدرة على النظر إلى حيواته السابقة، وتذكرها بتفاصيلها الكاملة. وفي الثلث الثاني من الليل، اكتسب نوعا من البصيرة مكنه من رؤية موت وميلاد كل أنواع الموجودات في الكون على حسب أفعالهم الجيدة والسيئة. وخلال الثلث الأخير من الليل، اكتسب معرفة أنه تخلص من مدنسات الروح وأنه استأصل الشهوة والجهل للأبد. لقد «فعل كل ما يلزم فعله»، لقد وصل للنيرفانا ووضع نهاية لإعادة الميلاد، تماما مثلما تنبأ عندما ولد.
Shafi da ba'a sani ba
يعرف المكان الذي حصل فيه بوذا على التنوير باسم بود جايا، وظل بوذا في ذلك المكان لمدة سبعة أسابيع يفكر في مستقبله. وتساءل عن وجوب أن يصبح معلما دينيا لكن أثناه عن ذلك صعوبة توصيل الإدراك العميق الذي اكتسبه للآخرين. ولفترة من الوقت مال إلى حياة الانزواء والعزلة، لكن بعد طلب من أحد الآلهة (تزخر البوذية بعدد هائل من الآلهة التي تشبه إلى حد ما الملائكة في المسيحية) تأثر من باب الشفقة وقرر نشر تعاليمه - الدارما (بالبالية: «الداما») - للعالم. وعندما أدرك من خلال قدراته الروحية أن معلميه السابقين قد ماتا، ذهب بوذا إلى بيناريس على نهر الجانج، حيث علم أنه سيجد في هذا المكان مجموعة من خمسة زملاء سابقين أداروا ظهورهم له في السابق عندما رفض طريق التقشف.
الخطبة الأولى والحياة المهنية باعتباره معلما
بعد أن وصل بوذا إلى حديقة مخصصة للأيائل الملكية قريبة من بيناريس، وبعد بعض التردد المبدئي، رحب به زملاؤه السابقون الذين سرعان ما أدركوا التحول الذي حدث له. وأعلن بوذا نفسه «تاتاجاتا» (أي «الشخص الذي وصل إلى الحقيقة») وألقى أولى خطبه، وهذا حدث عظيم في البوذية. والخطبة الأولى محفوظة في صورة نص ديني (سوتا) يسمى «إدارة عجلة الدارما». وتحتوي هذه الخطبة على التعاليم الأساسية للبوذية موضوعة في شكل صيغة تعرف باسم الحقائق الأربع النبيلة، التي سنناقشها بمزيد من التفصيل في الفصل الرابع. والعجلة رمز مهم في البوذية، وتستخدم غالبا لتمثيل الدارما. وكانت الخطبة الأولى هي الحدث الذي أعطى الدفع المبدئي لعجلة الدارما؛ تلك العجلة التي سوف تدور للأمام بلا توقف مع انتشار البوذية في أنحاء آسيا.
شكل 2-2: بوذا يكتسب التنوير: بوذا مصورا هنا في وضعية اللوتس بعد اكتسابه التنوير مباشرة، يطلب من الأرض أن تشهد على إنجازه، وذلك من خلال لمسها بيده اليمنى. التبت الغربي، في القرنين الحادي عشر والثاني عشر بعد الميلاد.
عند سماع الخطبة الأولى أدرك الحقيقة على الفور أحد أعضاء الجمهور، وأصبح «على الطريق» أو شخصا حقق الدرجة الأولى من الفهم الروحاني. ومع شرح بوذا لتعاليمه على نحو موسع حقق النساك الأربعة المتبقون هذه الحالة أيضا. وأصبح النساك الخمسة حوارييه ومنحوا صفة الرهبنة («بيكو») خلال مراسم بسيطة. وعند سماع الخطبة الثانية لبوذا، اكتسب النساك الخمسة التنوير الكامل. وعرف كل واحد من هؤلاء الخمسة وآخرون على شاكلتهم باسم آرهات (القديسين) ولم يعرفوا باسم البددة؛ لأن لفظة البد (بوذا) تقتصر فقط على الشخص الذي اكتشف طريق التنوير بنفسه وليس من خلال السماع عنه من شخص آخر.
شكل 2-3: الخطبة الأولى: بوذا رافعا يديه في إيماءة (مودرا) ترمز إلى العجلة، في إشارة إلى الخطبة الأولى المعروفة باسم «إدارة عجلة الدارما». وتظهر قاعدة التمثال عجلة الدارما في المنتصف وعلى يمينها ويسارها أيل يرمز إلى حديقة الأيائل القريبة من بيناريس حيث ألقيت الخطبة.
شكل 2-4: قمة ستوبا سوايامبونات، كاتماندو، نيبال. ويوجد غالبا في قبة ستوبا الرفات المقدس أو غيره من الأشياء المقدسة.
سرعان ما انتشرت التعاليم، وخلال وقت قصير اكتسب التنوير عدد كبير من الأشخاص. وتحكي النصوص الأولى عن مجموعة من قديسين (آرهات) يصل عددهم إلى ستين قديسا، وقد كلف بوذا هؤلاء بالذهاب باعتبارهم مبشرين ونشر تعاليم البوذية إشفاقا على العالم. وبعد خمس سنوات عندما تكونت مجموعة الرهبان، أقنعوا بوذا بتأسيس مجموعة مماثلة من أجل الراهبات. وعلى الرغم من تردد بوذا في البداية - لأن الرهبنة نفسها كانت تطورا جديدا، وتأسيس جماعة للراهبات كان شيئا غير مسبوق - فإنه وافق في النهاية. ولم تتوسع جماعة الراهبات بالقدر نفسه الذي شهدته جماعة الرهبان، وعلى العموم، في الوقت الحاضر تمجد «سانجا» جماعة الرهبان في الأساس.
هناك ندرة في تفاصيل السيرة الحياتية لبوذا في النصف الثاني من حياته. ورغم ذلك، من الواضح أنه قضى وقته في السفر سيرا على الأقدام، متجولا في المدن والقرى في شمال شرق الهند، مخاطبا أنواعا عديدة من الأشخاص من خلفيات دينية واجتماعية واقتصادية مختلفة. وغطت رحلات بوذا منطقة بلغ طولها 150 ميلا، وبلغ عرضها 250 ميلا؛ أي منطقة أصغر إلى حد ما من أيرلندا أو ولاية بنسلفانيا. وغالبا ما يصور بوذا وهو يخاطب الجمهور في الموضوع الذي يلقي فيه تعاليمه ويجيب عن الأسئلة وينخرط في مناقشات مع أشخاص من مختلف المستويات. كان أسلوبه يتسم دائما باللطف والهدوء، وكثير من أتباعه المذكورين في النصوص الدينية يشهدون على قدرته على الإقناع وجاذبية شخصيته. وفي بعض الأحيان يصور بوذا وهو يصنع المعجزات؛ تلك القدرة التي تعود إلى القوى الروحية التي اكتسبها من خلال ممارسة التأمل. ومع ازدياد شعبيته وتزايد عدد أتباعه، أسست مراكز سكنية يمكن للرهبان المكوث فيها لجزء من العام، ولا سيما في موسم المطر الذي يصعب فيه السفر. وغالبا ما كان الملوك أو المناصرون الأثرياء هم من يتبرعون لجماعة الرهبان بمساكن الإقامة، وتحولت تلك المساكن فيما بعد إلى مؤسسات دائمة تعرف باسم «فيهارا» أو الأديرة.
وفاة بوذا
Shafi da ba'a sani ba
يقدم أحد النصوص المهمة التي تحمل عنوان «خطبة الرحيل الكبير » سردا للأحداث في الشهور القليلة السابقة على وفاة بوذا. وفي ذلك الوقت كان بوذا قد ناهز الثمانين من عمره وتدهورت صحته، لكنه استمر في ترحاله سيرا على الأقدام مثلما فعل طوال حياته، معتمدا على قدراته العقلية في كبح آثار الوهن الذي انتابه. وفي هذه المرحلة ظهرت الحاجة إلى اتخاذ عدة قرارات مهمة تمثلت في التساؤلات التالية: هل سيعين خليفة له؟ من سيقود الجماعة بعد رحيله؟ وفي حوار مع أناندا، ابن عمه وخادمه الشخصي المخلص، قال بوذا إنه لا توجد حاجة لخليفة له لأنه لم يعتبر نفسه قط «قائد» الجماعة. وبدلا من ذلك، يجب أن تبقى تعاليم الدارما هي الدليل بعد رحيله، ويجب أن يتمسك الرهبان بها بقوة، وأن يتمسكوا كذلك بمجموعة قواعد «فينايا» التي أرساها لإدارة حياة الرهبان. علاوة على ذلك، نصح كل شخص بأن يفكر بنفسه في الأمور المتعلقة بالعقيدة، وأن يقارن وجهات النظر والآراء بالنصوص المقدسة قبل أن يقرر قبولها أو رفضها. واتباعا لنصيحة بوذا، لم يظهر مطلقا مصدر سلطة مركزي في البوذية فيما يتعلق بأمور العقيدة، ولا توجد مؤسسة أو هيئة مخولة بإعلان مبادئ أو معتقدات للدين ككل.
توفي بوذا في بلدة صغيرة اسمها كوشينارا، مستلقيا على جنبه الأيمن بين شجرتي تين، وتقول النصوص المقدسة إن هاتين الشجرتين أزهرتا في غير موسمهما على نحو خارق للعادة. وعلى الرغم من أنه يقال غالبا إن بوذا مات بسبب تسمم الطعام بعد تناول وجبة لحم خنزير قدمها له أحد أتباعه من العوام، فإنه من الواضح من خلال الرواية المذكورة في «خطبة الرحيل الكبير» أن الوفاة حدثت في وقت لاحق، ومن الواضح أنها كانت لأسباب طبيعية. وأعطى بوذا توجيهات بأن تحرق جثته وأن تعامل مثل رفات ملك عظيم (شاكفاتي)، وذلك بأن تحفظ في ضريح مقدس على شكل جرس يعرف باسم «ستوبا» (بالبالية: «توبا») بحيث يمكن استخدام هذا النصب كمكان لتقديم العطايا والتعبد. وقبل وقت قليل من وفاته، جمع بوذا الرهبان ومنحهم فرصة لطرح أسئلة أخيرة. ولم يطرح أي منهم أي سؤال ، وهذا يشير إلى أنه في ذلك الوقت كانت كل تعاليمه مشروحة بالكامل ومفهومة على نحو جيد بين أتباعه. وبعد ذلك نطق بوذا كلماته الأخيرة فقال: «الفناء متأصل في كل شيء؛ فاحرص على أن تسعى جاهدا بذهن صاف (للوصول إلى النيرفانا).» وبعدها في سكينة وهدوء مر بمستويات عديدة من الغشية التأملية (جاهانا) قبل أن يدخل النيرفانا النهائية.
الفصل الثالث
الكارما والميلاد المتكرر
تقول النصوص إن بوذا في ليلة حصوله على التنوير اكتسب القدرة على تذكر حيواته السابقة. ويقال إنه لم يتذكر حياة واحدة أو اثنتين فحسب، بل تذكر عددا هائلا من الحيوات، بالإضافة إلى التفاصيل المتعلقة باسمه وطبقته ومهنته، وهكذا كانت الحال في كل حياة. وفي مواطن أخرى يقول بوذا إنه استطاع تذكر «ما يعادل إحدى وتسعين فترة من فترات حياته السابقة» (كتاب ماهايانا)، وإحدى هذه الفترات تساوي تقريبا عمر مجرة. وعلى الرغم من أن العقيدة البوذية تقول إن بداية عملية الولادة المتكررة، وكذلك نهايتها، لا يمكن معرفتها على وجه التحديد، فمن الواضح أن عدد مرات الولادة المتكررة للشخص هو عدد غير نهائي. وتعرف عملية الولادة المتكررة باسم «سامسارا» أو «التجوال اللانهائي»، وهو مصطلح يوحي بالحركة المستمرة مثل جريان النهر. وكل الكائنات الحية جزء من هذه الحركة الدائرية المتكررة، وسوف تستمر الولادة المتكررة لهذه الكائنات إلى أن يحصلوا على حالة النيرفانا.
لم تنشأ فكرة تناسخ الأرواح مع البوذية، بل كانت موجودة في الهند منذ عدة قرون قبل عصر بوذا. وهذا المعتقد مألوف في كثير من الثقافات، وكان منتشرا في الغرب قديما قبل أن ينظر إليه باعتباره متعارضا مع العقيدة المسيحية في حوالي القرن السادس. ورغم ذلك، فمعتقدات الهند المتعلقة بالولادة المتكررة تتسم بطبيعة مميزة بسبب ارتباطها بمعتقد الكارما، وينص هذا المعتقد على أن ظروف الولادات المستقبلية تتحكم فيها الأفعال الأخلاقية التي يقوم بها الشخص في حياته الحالية. وللكارما (بالبالية: «كاما») أهمية أساسية في المعتقد البوذي، ومن أجل فهمها لا بد من استعراض مجموعة من المفاهيم الوثيقة الصلة والمتعلقة بتصور الكون والزمن .
الكون من المنظور البوذي
يقسم المعتقد البوذي الكون إلى قسمين: قسم الكون المادي، ويعتبر وعاء أو «حاوية» (بهاجانا)، وقسم «الكائنات» (ساتفا) أو أشكال الحياة المقيمة فيه. ويتكون الكون المادي من تفاعل العناصر الخمسة، وهي: الأرض والماء والنار والهواء والفضاء (أكاسا). والعنصر الأخير من هذه العناصر، أي عنصر الفضاء، يعتبر عنصرا مطلقا، وينظر إليه في الفكر الهندي على أنه ليس مجرد غياب للعناصر الأربعة الأخرى لكنه عنصر في حد ذاته. ومن خلال التفاعل بين العناصر الخمسة تتكون «أنظمة العالم» (وهو تقريبا مرادف لمفهوم المجرة في وقتنا المعاصر)، تلك الأنظمة الموجودة في جميع الاتجاهات الستة للكون (الشمال والجنوب والشرق والغرب والأعلى والأسفل).
ويعتقد أن أنظمة العالم تشهد دورات تطور واضمحلال تستمر لمليارات السنين؛ فهي تأتي إلى الوجود وتستمر لبعض الوقت، ثم تتحلل تدريجيا قبل أن تدمر في كارثة هائلة. وفي الوقت المناسب سوف تتطور مرة أخرى لإكمال دورة كبيرة تعرف باسم «الفترة الكبرى». وبطبيعة الحال، الكائنات التي تسكن هذه الأكوان المادية تتأثر بهذه الأحداث، وبالفعل يوجد اعتقاد بأن الحالة الأخلاقية للسكان تحدد مصير نظام العالم؛ فالعالم الذي يسكنه أشخاص جهلاء وأنانيون على سبيل المثال سوف ينهار بمعدل أسرع من العالم الذي يسكنه سكان حكماء وفضلاء. إن فكرة أن الكائنات ليست مجرد رعاة للطبيعة، بل تخلق الطبيعة إلى حد ما، لها انعكاسات مهمة على الفكر البوذي بشأن النظام البيئي.
سيكون واضحا بالفعل أن الكون في البوذية يختلف في جوانب مهمة عن الفكر الديني السائد في الغرب؛ فسفر التكوين يصور الخلق كحدث فريد، ويعلمنا الكتاب المقدس أن العالم سوف ينتهي يوم القيامة. وبين هذين الحدثين انفتحت في الأبدية نافذة زمنية مؤقتة، وخلال هذه النافذة تحدث دراما مسرحية فريدة؛ دراما السقوط والخلاص. وهذه الدراما هي ما يشكل «التاريخ» الذي يتكون من مجموعة أحداث خطية تقدمية بوجه عام. وفي هذه الدراما (النسخة العلمانية منها تستعيض عن الخلاص ب «التقدم») تكون العلاقات الإنسانية هي دائما المحور. ولعل أوضح مثال لهذا التصور هو الاعتقاد الذي كان سائدا في علم الكونيات قبل كوبرنيكوس الذي كان يضع الأرض في مركز الكون. على الجانب الآخر، ترى وجهة النظر الهندية أن مثل هذا التصور عن العالم يتسم بالتمركز حول الإنسان وبضيق الأفق؛ فالأرض ليست على الإطلاق المركز الذي يدور حوله الكون، والبشر ليسوا الممثلين الوحيدين على المسرح. علاوة على ذلك، يرى المنظور الهندي الزمن دائريا وليس خطيا؛ فالتاريخ ليس له اتجاه أو غرض شامل، وقد تكرر أنماط متشابهة من الأحداث نفسها مرات عديدة.
Shafi da ba'a sani ba
شكل 3-1: «عجلة الحياة» (بهافاشاكرا) أو العوالم الستة للميلاد الجديد.
تخبرنا أسطورة الخلق المذكورة في خطبة «أجانيانيا سوتا» قصة مختلفة عن تلك المذكورة في سفر التكوين، وتصف الأسطورة كيف أنه بعد تدمير أحد أنظمة العالم يولد تدريجيا سكان ذلك العالم في عالم جديد ناشئ آخذ في التطور. في البداية، تكون أجسامهم شفافة ولا يوجد فرق بين الجنسين، وعندما يصبح نسيج نظام العالم الجديد أكثر سمكا تنجذب إليه تلك الكائنات الشبيهة بالأرواح وتبدأ في استهلاكه مثل الطعام، وببطء تصبح أجسادها أقل أثيرية إلى أن تشبه الأجسام المادية الكبيرة التي لدينا الآن. وتؤدي المنافسة على الطعام إلى المشاجرات والنزاعات، وينتخب الناس ملكا لحفظ السلام، وهذا الحدث يمثل أصول الحياة الاجتماعية. وعلى الرغم من أن هذه الأسطورة يمكن اعتبارها سخرية من المجتمع البشري بقدر ما يمكن اعتبارها سردا لقصة الخلق، فإنها تمثل تناقضا مثيرا مع سفر التكوين، فبينما يرجع التراث اليهودي المسيحي سقوط الإنسان إلى التكبر والعصيان، ترجع البوذية أصل معاناة البشر إلى الرغبة.
العوالم الستة للميلاد الجديد
في كل نظام عالمي توجد عدة «عوالم» مختلفة للميلاد الجديد. وتدون المصادر الأولى خمسة عوالم، لكن العوالم المتأخرة تضيف عالما آخر - عالم الجبابرة - لتصبح ستة في الإجمال، وسوف أعتمد هذا النسق في هذا الكتاب. هذه العوالم الستة هي موضوع شائع في الفن البوذي وتصور في أغلب الأحيان في «عجلة الحياة» («بهافاشاكرا»). ويمكن رؤية هذه العوالم في الشكل
3-1 . والعوالم الثلاثة الموجودة أسفل خط المركز تعتبر سيئة الحظ تماما. ومن حيث ترتيبها، فهي تعتبر نسخة موسعة من النسخة المسيحية التقليدية المتمثلة في الجحيم والمطهر والأرض والجنة، مع الفارق المتمثل في إمكانية ميلاد الشخص من جديد على نحو متكرر من عالم إلى آخر. أما المصادر المتأخرة (فيما بعد القرن الخامس الميلادي) فتقسم الجنة البوذية، التي تظهر في أعلى الشكل، إلى ستة وعشرين مستوى أو «منزلا» مختلفا؛ ولذلك، عند ضم العوالم الخمسة الأولى نصل إلى واحد وثلاثين مصيرا ممكنا للميلاد الجديد.
وأسهل طريقة لتصور هذا الترتيب هو التفكير في مبنى إداري مكون من واحد وثلاثين طابقا. في الطابق السفلي يوجد الجحيم؛ مكان الشقاء الذي تعاني فيه الكائنات نتائج أفعالهم الشريرة التي اقترفوها في الحيوات السابقة. وفي أثناء وجودهم في الجحيم يخضعون لأنواع مختلفة من العذاب - صور تصويرا واضحا في الرسوم الشعبية - مثل الغلي في الزيت أو تقطيع الأطراف. بيد أن الجحيم في البوذية (أو بالأحرى «أنواع الجحيم»؛ نظرا لوجود العديد منها) يختلف عن الجحيم من المنظور المسيحي في أمرين؛ الاختلاف الأول هو أنه ليس مكان لعن أبدي، ومن هذا الجانب يتشابه إلى حد كبير مع المطهر المسيحي، فهو مرحلة مؤقتة سوف يحرر منها الشخص في النهاية. ويأتي التحرير عندما تنقضي الكارما الشريرة التي أرسلت الشخص إلى الجحيم. والاختلاف الثاني هو أنه في البوذية يوجد جحيم حار وجحيم بارد، وفي الجحيم البارد يكون العذاب بفعل التجميد بدلا من الشي.
وفوق الجحيم يوجد عالم الحيوانات. والميلاد من جديد على هيئة حيوان أمر غير مرغوب لأسباب بديهية؛ فالحيوانات تحكمها الغريزة الوحشية وتفتقر إلى الملكة العقلية اللازمة لفهم طبيعة موقفها، أو لفعل أمور كثيرة من أجل تحسين ذلك الموقف. بالإضافة إلى ذلك، فإن الحيوانات تتعرض للقنص كي تكون طعاما للإنسان أو لغيره من المفترسات. وفوق الحيوانات يوجد عالم الأشباح. وهؤلاء هم الأرواح التعيسة التي تحوم حول حواف عالم البشر، ويمكن رؤيتها أحيانا كأشكال ظلالية. وعادة ما تكون الأشباح بشرا سابقين كونوا ارتباطات قوية تجعلهم محتجزين في الأرض. لقد استهلكتهم رغباتهم التي لا يمكنهم إشباعها مطلقا، ويظهرون في الرسوم الشعبية في صورة مخلوقات طيفية ذات معدة كبيرة وفم صغير في رمزية إلى الجوع النهم الذي يفتقر دائما إلى الإشباع. أما المستوى الرابع فهو عالم الجبابرة، وهم سلالة من الكائنات الشيطانية المحاربة يقعون تحت رحمة نوازعهم العنيفة، فتحفزهم شهوة السلطة ويسعون دائما إلى الحروب التي لا يجدون فيها أي إشباع.
وفي المستوى الخامس يوجد عالم البشر. ويعتبر الميلاد الجديد على هيئة بشر أمرا مرغوبا للغاية وصعب المنال للغاية أيضا؛ فعلى الرغم من وجود العديد من المستويات الأعلى التي يمكن أن يحدث الميلاد الجديد في ظلها، فمن المحتمل أن تعيق هذه المستويات التقدم الروحي. فإذا ولد المرء من جديد على هيئة إله في جنة مثالية، فمن الممكن أن ينزلق الإنسان بسهولة إلى حياة الدعة ولا يبصر الحاجة إلى السعي وراء النيرفانا. على النقيض من ذلك، يذكر الوجود البشري باستمرار بمآسي الحياة (على سبيل المثال «العلامات الأربع» التي رآها بوذا مثل الهرم والمرض) بالإضافة إلى فرصة الوصول إلى حل دائم لمشكلات الحياة؛ فالبشر لديهم العقل والإرادة الحرة، ويمكنهم استخدام هذه الملكات لفهم الدارما وتطبيق تعاليم البوذية؛ ولذلك تعتبر الحياة في هيئة بشرية «حلا وسطا» يقدم توازنا مناسبا بين النعيم والمعاناة.
شكل 3-2: الكون في المنظور البوذي: تمثل الدائرة الموجودة في المنتصف السطح المسطح للأرض الذي كان يعتقد أنه يحمل أربع قارات كبرى مختلفة الأحجام. وفوق ذلك توجد المنازل السماوية التي تسكنها الآلهة، وبالأسفل توجد أنواع الجحيم وعوالم المعاناة الأخرى. تايلاند، تقريبا عام 1820 ميلاديا.
أما الأدوار العليا الستة والعشرون من هذا المبنى (المستويات من 6 إلى 31)، فهي مساكن أو منازل الآلهة (ديفا). والآلهة الدنيا هم أشخاص، نظرا لأدائهم أعمالا حسنة، ينعمون الآن بحالات وجود تتسم بالتناغم والنعيم. وتضم هذه الآلهة شخصيات مهمة من الآلهة الهندوسية مثل إندرا وبراهما، وقد أصبحا يلعبان الآن دورا مهما في النصوص البوذية، بالإضافة إلى آلهة «سماء الثلاثة والثلاثين»، وهي هيئة مكونة من ثلاثة وثلاثين إلها يحكمهم ملكهم ساكا (بالسنسكريتية: شاكيا). وتسكن هذه الآلهة على قمة جبل ميرو الأسطوري وتشبه آلهة جبل الأوليمبوس. وتظهر هذه الآلهة على الأرض كثيرا وتزور بوذا وتستمع إلى تعاليمه. وعلى قدر من الأهمية أيضا ديفات توسيتا، ويقال إن البددة المستقبليين يعيشون وسط هذه الديفات في انتظار آخر ميلاد جديد لهم على الأرض، ويشيع حاليا معتقد يقول إن هذا هو موطن البوذا القادم، ميتيا (بالسنسكريتية: مايتريا). وتوجد آلهة عليا عديدة، لكنها كائنات بعيدة ومتسامية لا تتدخل في شئون البشر إلا قليلا. وعلى الرغم من ذلك، فإن هذه الآلهة العليا خاضعة للكارما وتولد مجددا في نهاية الأمر مثل أي شخص آخر. والجنات الخمس العليا (المستويات من 23 إلى 27) تعرف باسم «المساكن النقية»، ولا ينالها غير أولئك المعروفين باسم «غير العائدين». تلك كائنات على وشك اكتساب التنوير، وهي لن تولد من جديد في هيئة بشر. أما المستويات العليا من الجنان فتزداد رفعتها، وتزيد فيها أعمار الآلهة في كل مرحلة، لتصل إلى مليارات السنوات بمقياس الزمن لدى البشر. إلا أن الزمن نسبي ومفهومه يختلف باختلاف الكائنات؛ فعمر البشر على سبيل المثال يبدو كيوم واحد بالنسبة إلى الآلهة الموجودة في المستويات الدنيا.
Shafi da ba'a sani ba
عوالم الوجود الثلاثة
فكرة العوالم الستة والمستويات الإحدى والثلاثين تتداخل مع فكرة أخرى تتمثل في أن الكون مقسم إلى ثلاثة عوالم. العالم الأدنى في تلك العوالم هو «عالم الرغبات الحسية» («كامافاكارا») الذي يشمل كل المستويات حتى الجنة السادسة التي تعلو عالم البشر. والعالم التالي هو «عالم الشكل النقي» («روبافاكارا»)، وهو حالة روحانية علوية فيها تدرك الآلهة ويتواصل بعضها مع بعض من خلال نوع من التخاطر. ويمتد هذا العالم حتى المستوى السابع والعشرين. وأعلى هذه العوالم هو «عالم اللاشكلية» («أروبافاكارا»)، وهو حالة روحانية مهيبة يكاد يستحيل وصفها، وبعيدة عن أي شكل ونمط توجد على أساسه الكائنات في صورة طاقة ذهنية صافية.
والآلهة في المستويات الأربعة لعالم اللاشكلية تدرك الظواهر بأساليب تتزايد في غموضها تدريجيا؛ ففي المستوى الأدنى (المستوى 28) تدرك الظواهر كفضاء لا متناه، وفي المستوى الثاني (المستوى 29) تدرك الظواهر كوعي لا متناه، وفي المستوى الثالث (المستوى 30) تدرك الظواهر كأنها «عدم»، أو فكرة أن الغموض الشديد لهذا النوع من الوجود يشبه اللاوجود. وأخيرا، تتلاشى فكرة «العدم» وتظهر حالة ذهنية لا توصف تعرف باسم «حالة الإدراك واللاإدراك» (المستوى 31)؛ وهذه أعلى حالة يمكن لأي شخص أن يولد فيها من جديد. وإذا بدت أسماء الحالتين العلويتين مألوفة، فإن السبب يرجع إلى أنهما تحملان نفس أسماء مراحل التأمل التي اكتسبها بوذا على يد معلميه. وقد وصل بوذا إلى هاتين الحالتين من خلال التأمل. وكما سنرى، فإن الأفكار البوذية المتعلقة بتصور الكون تتطابق مع نظرية التأمل البوذية.
شكل 3-3: مخطط الكون من المنظور البوذي يوضح المستويات الواحد والثلاثين، وعوالم الوجود الثلاثة، ومستويات التأمل الثمانية (جاهانا).
الكارما
في التصور الكوني المذكور في السابق، تعمل الكارما بمنزلة المصعد الذي يحمل الناس من أحد الطوابق في أحد المباني إلى طابق آخر؛ فالأفعال الحسنة تؤدي إلى حركة صاعدة، والأفعال الخبيثة تؤدي إلى حركة هابطة؛ فالكارما ليست نظام ثواب وعقاب ينفذه الرب، بل هي نوع من القوانين الطبيعية تشبه قانون الجاذبية. وعلى هذا النحو، الأفراد وحدهم هم من يصنعون حظهم الحسن أو السيئ. وفي الاستخدام الشعبي يعتقد أن الكارما هي فقط الأمور الجيدة والأمور السيئة التي تحدث للأشخاص، وهذا تصور يشبه إلى حد ما فكرة الحظ الجيد والحظ السيئ. أما المعنى الحرفي لكلمة كارما السنسكريتية فهو «الفعل»، لكن الكارما كمفهوم ديني لا ترتبط بأي نوع من الأفعال فحسب، بل ترتبط بأفعال ذات طبيعة خاصة. إن أفعال الكارما هي أفعال «أخلاقية»، وقد حدد بوذا الكارما بالإشارة إلى الخيارات الأخلاقية والأفعال المترتبة عليها، فقال: «إن الاختيار («تشيتانا») أيها الرهبان هو ما أطلق عليه كارما، إنه اختيار أحد الأفعال من خلال الجسم أو الكلام أو العقل» (كتاب أنجوتارا). وتختلف الأفعال الأخلاقية عن غيرها من الأفعال في أنها ذات نتائج مباشرة ونتائج غير مباشرة. ونرى النتيجة المباشرة في الأثر المباشر لهذه الأفعال الأخلاقية على الآخرين؛ فعلى سبيل المثال، عندما نقتل أو نسرق، يحرم أحد الأشخاص من حياته أو ممتلكاته. والنتيجة غير المباشرة تظهر في طريقة تأثير الأفعال الأخلاقية على فاعلها. ووفقا للبوذية ، يتمتع البشر بالإرادة الحرة، وعند ممارسة هذه الإرادة فإنهم يمارسون تقرير المصير. في الواقع، يخلق الأفراد أنفسهم من خلال خياراتهم الأخلاقية؛ فمن خلال اختيار أنواع معينة من الأشياء بحرية وعلى نحو متكرر، يشكل الفرد شخصيته، ومن خلال تشكيل شخصيته يتشكل مصيره. وكما يقول المثل: «ازرع فعلا تحصد عادة؛ ازرع عادة تحصد شخصية؛ ازرع شخصية تحصد مصيرا.»
تشرح البوذية هذه العملية في ضوء «السانكاراس» (بالسنسكريتية: سامسكاراس)، وهو مصطلح صعب يترجم عادة بمعنى «التشكيلات الذهنية». و«السانكاراس» هي السمات والطباع الشخصية التي تكونت عند اتخاذ الخيارات الأخلاقية («تشيتانا») وتنفيذها عمليا. ويمكن تشبيه العملية بعمل صانع الأواني الفخارية الذي يشكل الصلصال ويكسبه شكلا نهائيا؛ فالصلصال الطري هو شخصية المرء، وعندما نتخذ خيارات أخلاقية فإننا نمسك أنفسنا في أيدينا ونشكل طبائعنا على نحو جيد أو سيئ. وليس من الصعب أن نرى حتى خلال حياة واحدة لأحد الأشخاص كيف تؤدي حتما مجموعة معينة من السلوكيات إلى نتائج محددة. وتظهر الأعمال الأدبية الرائعة كيف أن القدر الذي ينزل بالأبطال لا يكون محض مصادفة، بل يكون وليد عيب في شخصية الأبطال، ويقود هذا العيب إلى سلسلة من الأحداث المأساوية. ويشار إلى الآثار البعيدة للخيارات الكارمية باسم «النضج» (فيباكا) أو «الثمرة» (بالا) للفعل الكارمي. والاستعارة المجازية هنا تشبه الأمر بالزراعة؛ فالقيام بالأفعال الجيدة والسيئة يشبه زرع البذور التي سوف تثمر لاحقا. فغيرة عطيل وطموح ماكبث الجامح وتردد هاملت وشكه في ذاته ستعتبر من منظور البوذية «سانكاراس» (تشكيلات ذهنية)، وستكون النتيجة المأساوية في كل حالة هي «الثمرة» (بالا) المحتومة للخيارات التي دفعت السمات الشخصية هؤلاء الأفراد لاختيارها.
شكل 3-4: صبي صغير يعتبر تناسخا لروح اللاما التبتي كينزور رينبوتشي. مشهد من فيلم «تناسخ روح كينزور رينبوتشي» (الهند 1991).
ولا يشهد المرء كل عواقب ما اقترفه في حياته التي قام فيها بهذه الأفعال؛ فالكارما التي تراكمت ولم يشهدها صاحبها تنتقل إلى الحياة التالية، أو ربما لحيوات كثيرة مستقبلية. ويختلف البوذيون حول كيفية حدوث ذلك تحديدا، وأحد الاحتمالات يقول بأن القيام بالأفعال الجيدة يشبه شحن البطارية بطاقة الكارما، وتحفظ هذه الطاقة بعد ذلك إلى وقت مستقبلي. ويعتقد أن الكارما تحدد جوانب معينة أساسية متعلقة بالميلاد التالي للشخص. وتشمل هذه الجوانب العائلة التي سيولد فيها، ومكانته الاجتماعية، ومظهره الخارجي، وبالطبع طبعه وشخصيته؛ لأن هذه الأمور يحملها معه من حياته السابقة. ويتبنى بعض البوذيين نظرة قدرية ويرون أن كل حظ جيد وسيئ يكون راجعا إلى سبب متعلق بالكارما. ورغم ذلك، فإن مبدأ الكارما لا يزعم أن كل شيء يحدث للإنسان يكون محتوما من قبل الكارما؛ فكثير من الأمور التي تحدث في الحياة - مثل الفوز بورقة اليانصيب أو كسر الساق - من الممكن أن تكون مجرد مصادفة؛ فالكارما لا تحدد بالضبط ما سيحدث أو كيف سيكون رد فعل أي شخص تجاه ما يحدث؛ فالأفراد أحرار في مقاومة طبائعهم السابقة وتكوين أنماط سلوكية جديدة من شأنها أن توقف دورة الميلاد المتكرر التي لا تنتهي.
إذن ما الذي يجعل الفعل جيدا أو سيئا؟ من تعريف بوذا الموضح أعلاه يمكن أن يعد الأمر في الأساس مسألة نية واختيار. وتصف البوذية مصادر التحفيز النفسي بأنها «جذور»، ويقال إنه توجد ثلاثة جذور خيرة وثلاثة جذور سيئة؛ فالأفعال التي يكون باعثها الطمع والكراهية والوهم هي أفعال سيئة («أكوسالا»، بالسنسكريتية: «أكوشالا»)، بينما الأفعال التي يكون باعثها عكس هذه الصفات - أي عدم التعلق والإحسان والفهم - تكون أفعالا جيدة («كوسالا»، بالسنسكريتية: «كوشالا»). ورغم ذلك، فالمضي قدما نحو التنوير ليس مجرد مسألة تحل بنيات طيبة؛ فالشر أحيانا من الممكن أن يقترفه أناس يتصرفون من منطلق بواعث غاية في النبل؛ ولذلك لا بد من التعبير عن النيات الطيبة في صورة أفعال صحيحة، والأفعال الصحيحة في الأساس هي تلك التي لا تسبب الضرر للنفس أو للآخرين. أما الأفعال التي لا تلبي هذين المطلبين فهي محظورة بموجب مجموعة مختلفة من القواعد التي سنقول عنها الكثير عند مناقشة الأخلاقيات.
Shafi da ba'a sani ba
الاستحقاق
يمكن أن تكون الكارما جيدة أو سيئة. ويطلق البوذيون على الكارما الجيدة اسم «الاستحقاق» («بونيانيا»، بالسنسكريتية: «بونيا»)، ويبذلون جهودا كبيرة في الحصول عليها. ويصورها البعض كنوع من رأس المال الروحي - مثل المال الموجود في حساب بنكي - بموجبه يزيد الحساب ليصبح وديعة تحت حساب ميلاد سماوي تال. ومن أفضل الطرق التي يمكن للعوام كسب الاستحقاق من خلالها دعم جماعة الرهبان. ويمكن فعل ذلك من خلال وضع الطعام في أطباق الرهبان أثناء مرورهم في جولاتهم اليومية لجمع الصدقات، ومن خلال إعطاء ملابس للرهبان، ومن خلال الاستماع إلى الخطب وحضور الطقوس الدينية، ومن خلال التبرع بأموال لصيانة الأديرة والمعابد، فضلا عن أن الاستحقاق يمكن صنعه من خلال مباركة المتبرعين الآخرين والاحتفاء بكرمهم. ويجعل بعض البوذيين تجميع الاستحقاق غاية في حد ذاته، ويتمادون إلى درجة حمل دفتر لإحصاء مجموع «الحساب» الكارمي. وهذا الأمر يجعلهم يغفلون حقيقة أن الاستحقاق يكتسب باعتباره نتيجة فرعية لفعل الصواب؛ ففعل الأفعال الجيدة لمجرد الحصول على كارما جيدة سيكون فعلا أناني النزعة، ولن يكسب صاحبه الكثير من الاستحقاقات.
في كثير من الثقافات البوذية يوجد معتقد «تحويل الاستحقاقات»، أو فكرة إمكانية مشاركة الكارما الجيدة مع الآخرين، تماما مثل المال. إن التبرع بالكارما الجيدة له نتيجة سعيدة؛ فبدلا من استنزاف رصيد الكارما التابع لأحد الأشخاص، كما هي الحال مع المال، فإن هذا الرصيد يزداد نتيجة لحافز المشاركة الكريم. وكلما زاد عطاء المرء زاد ما يحصل عليه! وليس معروفا على نحو مؤكد إن كانت توجد مرجعيات في القوانين التشريعية البوذية تؤيد مثل هذا النوع من الأفكار أم لا. ورغم ذلك، فإن التحمس لمشاركة الاستحقاق الفردي للشخص في ضوء روح الكرم لهو أمر سليم من الناحية الكارمية؛ لأنه سيؤدي إلى تكوين شخصية كريمة ومحبة للخير.
وجهة نظر غربية
في الغالب يجد الغربيون فكرة الكارما وفكرة الولادة من جديد أمرا محيرا. ويرجع هذا، نوعا ما، إلى الاختلاف الثقافي في الافتراضات السابقة المتعلقة بالزمن والتاريخ كما أشرنا في السابق؛ ففي ظل ثقافة ترى الزمن يسير بطريقة دائرية تبدو فكرة الميلاد من جديد فكرة طبيعية. لكن إذا ولد الأشخاص من جديد فقد يعترض البعض قائلا: «لماذا قليل من الأشخاص يتذكرون حيواتهم السابقة؟» يمكن أن يتمثل التفسير في جانب منه في أن السمات الثقافية تؤثر على التجارب الفردية. وفي ظل غياب إطار يؤمن بتناسخ الأرواح قد لا تلاحظ ذكريات الحيوات السابقة أو لا يعترف بها. وقد يكون الأفراد غير راغبين في تعريض أنفسهم لسخرية الآخرين إذا ما أفصحوا عن تلك الذكريات. وعندما يتحدث الأطفال عن هذه الذكريات عادة يتجاهلها المعلمون والآباء بدعوى أنها نتيجة للخيال فائق النشاط. ورغم ذلك، تكثر الشهادات من قبل أفراد يزعمون تذكر حيواتهم السابقة، وكثير من هذه الشهادات من الصعب تفسيرها إلا إذا كانت الذكريات حقيقية. ومع ذلك، مثل هذه الذكريات نادرة، حتى في الثقافات التي ترى الميلاد من جديد أمرا مقبولا. ولعل التفسير الممكن الذي قد تقدمه البوذية هو أن تجربة الموت والميلاد من جديد تمحو مثل هذه الذكريات من المستويات العليا للعقل، وأن تلك الذكريات يمكن استرجاعها فقط في حالات الوعي المتغيرة مثل ذلك النوع الذي يستثار من خلال التأمل أو التنويم المغناطيسي.
شكل 3-5: لاما تبتي يصحبه مترهبن صغير في طريقهما لرعاية عجوز محتضر في القرية المحلية. المترهبن يحمل نص «كتاب الموتى التبتي». مشهد من فيلم «كتاب الموتى التبتي» (كندا، 1994).
ثمة سؤال شائع آخر متعلق بالميلاد من جديد، وهو: «إذا كان الناس يولدون من جديد، فلماذا لا يتزايد عدد السكان على نحو أسرع؟» مرة أخرى نجد أن هذا السؤال ناشئ عن افتراضات تتمحور حول الإنسان. إن عالم البشر هو مجرد عالم من عوالم الميلاد من جديد، ونظرا لأن الكائنات من الممكن أن تولد في أي عالم من العوالم الستة، فثمة حركة دائمة فيما بين هذه العوالم. وتعتقد بعض المذاهب البوذية، وأشهرها تلك المذاهب الموجودة في التبت، أنه توجد حالة وسيطة تمثل فاصلا بين الحياتين، وخلالها تبقى روح المتوفى لمدة تسعة وأربعين يوما قبل الميلاد من جديد. وخلال هذه الفترة تشهد الروح كل العوالم الستة للميلاد من جديد قبل الانجذاب - كما لو كان جذبا مغناطيسيا - إلى العالم الأنسب لحالتها الكارمية. رغم ذلك، ووفقا لمذاهب أخرى ، فإن الانتقال من حياة إلى أخرى يكون فوريا، والموت يتبعه على الفور ميلاد في حياة جديدة.
هل من الضروري الإيمان بوجود العوالم الستة والجنان والجحيم ليصبح المرء بوذيا؟ ليس بالضرورة؛ فعلى الرغم من أن معظم البوذيين يقبلون التعاليم التقليدية، فإنه من الممكن إعادة تفسيرها بطرق مختلفة؛ فمثلا من الممكن الإشارة إلى الأبعاد الأخرى للوجود، أو الأكوان الموازية أو مجرد الحالات الذهنية المختلفة. أما مناصرو «الحداثة البوذية»، التي سأقول عنها المزيد في الفصل الأخير، فيميلون إلى رفض عناصر «القرون الوسطى» التابعة لهذا النظام التقليدي، والاستعاضة عنها بأفكار أكثر توافقا مع العصر الحديث. وقد يكون من الممكن أيضا أن يصبح المرء بوذيا مع رفض فكرة الميلاد من جديد رفضا تاما، على الرغم من أن ذلك سيكون على حساب اختزال البوذية في شيء مثل الإنسانية العلمية. إن الإيمان باستمرار الوجود البشري في شكل أو آخر بعد الموت سيبدو مطلبا قليل الأهمية بالنسبة إلى معظم تقاليد الفكر البوذي.
إذن، هل هدف البوذية هو الميلاد من جديد في حالة أوفر حظا؟ على الرغم من أنه من الناحية العملية يرغب كثير من البوذيين - كل من الرهبان والعوام - في هذا الأمر بشدة، فإنه ليس الحل النهائي للمعاناة الذي تنشده البوذية؛ فبوذا لم يكن قانعا بالنعيم المؤقت الذي حصل عليه من خلال الغشيات التي تعلمها على يد أستاذيه، والوجود الروحاني الجليل الذي تستمتع به الآلهة ما هو إلا إطالة لهذه التجربة. وعاجلا أم آجلا فإن الكارما الجيدة التي تسفر عن الميلاد السماوي سوف تقضي أجلها، وحتى الآلهة سوف تموت وتولد من جديد. إن طاقة الكارما محدودة وتنتهي في نهاية المطاف؛ فهي لا تختلف عن طاقة المركبة الفضائية في مدار متلاش.
إن حل مشكلة المعاناة لا تكمن في ميلاد جديد أفضل من سابقه في عجلة التناسخ (سامسارا)، بل النيرفانا وحدها هي ما تقدم حلا حاسما.
Shafi da ba'a sani ba
الفصل الرابع
الحقائق الأربع النبيلة
الهدف النهائي للبوذية هو وضع نهاية للمعاناة والميلاد المتكرر. وقد قال بوذا: «في كل من الماضي والحاضر أطرح هذا فقط: المعاناة وإنهاء المعاناة.» وعلى الرغم من أن هذا التصور سلبي، فإن الهدف له جانب إيجابي أيضا؛ لأن الطريقة التي يضع بها المرء نهاية للمعاناة تتمثل في إطلاق قدرة البشر على تحقيق الخير والسعادة؛ فالشخص الذي يحقق حالة كاملة من تحقيق الذات يقال عنه إنه اكتسب النيرفانا. والنيرفانا هي «الخير الأسمى» بالنسبة إلى البوذية؛ فهي الخير النهائي والأعلى. إنها مفهوم وتجربة في آن واحد؛ فالنيرفانا باعتبارها مفهوما تقدم رؤية خاصة لتحقيق الإنسان ذاته وتعطي إطارا وشكلا للحياة المثالية. أما النيرفانا باعتبارها تجربة فهي تتجسد مع مرور الوقت في الشخص الذي يسعى إليها.
يجب أن يكون واضحا سبب الرغبة في الحصول على النيرفانا، لكن كيف يمكن الحصول عليها؟ إن النقاش الذي طرح في الفصول السابقة يشير إلى جزء من الإجابة؛ فنحن نعلم أن البوذية تهتم اهتماما بالغا بالحياة الفاضلة؛ ومن ثم فإن الحياة الأخلاقية ستبدو مطلبا أوليا للحصول على النيرفانا. ورغم ذلك، يرفض بعض الأكاديميين هذه الفكرة. ويقول هؤلاء إن الاستحقاقات المتراكمة من خلال فعل الأفعال الخيرة تعترض طريق الوصول إلى النيرفانا. ويوضحون أن الأفعال الخيرة تنتج الكارما، والكارما تربط المرء بدائرة الميلاد المتكرر. ويستنتجون قائلين: إذن، فالأمر يتمثل في أنه لا بد من تجاوز الكارما - وغيرها من الاعتبارات الأخلاقية الأخرى - للحصول على النيرفانا. وثمة مشكلتان في هذا الرأي؛ أما المشكلة الأولى فتتمثل في تفسير سبب حض النصوص باستمرار على فعل الأفعال الخيرة إذا كانت الأفعال الأخلاقية تعيق الوصول إلى النيرفانا. وأما المشكلة الثانية فتتمثل في صعوبة تفسير سبب استمرار الأشخاص الذين اكتسبوا التنوير، مثل بوذا، في عيش حياة أخلاقية نموذجية.
قد يكمن حل هذه المشكلات في الفكرة القائلة بأن عيش حياة مثالية هو مجرد جزء من نموذج الكمال البشري الذي تمثله النيرفانا. من ثم، وبينما تمثل الفضيلة («سيلا»، بالسنسكريتية: «شيلا») مكونا أساسيا في هذا النموذج، فإنها غير مكتملة في حد ذاتها، وتحتاج إلى إكمالها بشيء آخر. والمكون الآخر المطلوب هو الحكمة («بانيانيا»، بالسنسكريتية: «برانجانيا»). و«الحكمة» في البوذية تعني الفهم الفلسفي العميق للحالة البشرية. وتتطلب فهما لطبيعة الواقع من النوع الذي يأتي من خلال التأمل الطويل والتفكير العميق؛ فهي نوع من «المعرفة الروحية»، أو الفهم المباشر للحقيقة، الذي يزداد عمقا مع الوقت ويصل في النهاية إلى تمام النضج في اليقظة الكاملة التي شهدها بوذا.
ومن هذا المنطلق، فإن النيرفانا هي مزيج من الفضيلة والحكمة. ويمكن التعبير عن العلاقة بينهما بلغة فلسفية من خلال القول بأن الفضيلة والحكمة كلتيهما شرط «ضروري» للنيرفانا، لكن كل واحدة منهما على حدة «غير كافية»، وفقط عند تقديم الاثنين معا توجد الشروط الضرورية والكافية للنيرفانا. ويشبههما أحد النصوص القديمة باليدين اللتين تغسل كل منهما الأخرى وتطهرها، ويوضح النص جيدا أن الشخص المفتقر إلى إحدى يديه هو شخص غير كامل وغير محقق لذاته (كتاب ديجا).
بعد أن علمنا أن الحكمة هي نظير أساسي للفضيلة، ما الذي يجب أن يعلمه المرء كي يحظى بالتنوير؟ الحقيقة التي يجب معرفتها هي بالضرورة تلك التي أدركها بوذا في ليلة تنويره، ثم أعلن عنها في خطبته الأولى التي ألقاها في حديقة الأيائل بالقرب من بيناريس. وتشير هذه الخطبة إلى أربع أطروحات مترابطة تعرف باسم الحقائق الأربع النبيلة. وتؤكد هذه الحقائق على أن: (1) الحياة معاناة. (2) المعاناة سببها الشهوة. (3) المعاناة من الممكن أن تنتهي. (4) يوجد طريق يقود إلى نهاية المعاناة. وأحيانا يستخدم تشبيه مجازي متعلق بالطب لتوضيح العلاقة بين تلك الحقائق، ويشبه بوذا بالطبيب الذي وجد علاجا لأمراض الحياة؛ فأولا: يشخص المرض، وثانيا: يشرح سببه، وثالثا: يقرر وجود علاج، ورابعا: يبدأ في العلاج. (1) حقيقة المعاناة (دوكها)
ما هي، أيها الرهبان، الحقيقة النبيلة للمعاناة؟ الميلاد معاناة، المرض معاناة، الهرم معاناة، الموت معاناة، الألم، والحزن، والأسى، والحسرة، واليأس معاناة، التعلق بالأمور البغيضة معاناة، عدم التعلق بالأمور الطيبة معاناة، عدم الحصول على ما يرغبه المرء معاناة؛ باختصار، العوامل الخمسة المكونة لحياة الفرد معاناة.
يفتتح الطبيب النفسي الأمريكي إم سكوت بيك كتابه الأكثر بيعا «الطريق الأقل ارتيادا» بهذه الجملة: «الحياة صعبة!» ويشير إلى الحقيقة النبيلة الأولى فيضيف قائلا : «هذه حقيقة كبيرة، واحدة من كبرى الحقائق.» وهذه الحقيقة المعروفة في البوذية باسم «حقيقة المعاناة» هي حجر الأساس في تعاليم البوذية. وتنص حقيقة المعاناة على أن تلك المعاناة («دوكها»، بالسنسكريتية: «دوهكا») هي جزء أساسي من الحياة، وتشخص الحالة البشرية بأنها في الأساس حالة «عدم راحة». وتشير إلى معاناة متعددة الأنواع، بداية من التجارب البدنية أو البيولوجية مثل الميلاد والمرض والهرم والموت. وعلى الرغم من أن تلك الأمور تتضمن في الغالب ألما بدنيا، فإن المشكلة الأعمق هي حتمية الميلاد «المتكرر» والمرض والهرم والموت في حياة بعد أخرى، بالنسبة إلى المرء وإلى أحبائه. والبشر عاجزون عن مواجهة تلك الحقائق، فعلى الرغم من التقدم في العلوم الطبية لا يزالون عرضة للمرض والحوادث بسبب طبيعتهم البدنية. وبالإضافة إلى الألم البدني، تشير حقيقة المعاناة إلى أنواع الضيق العاطفي والنفسي مثل «الحزن والأسى والحسرة واليأس». وتلك الأمور في بعض الأحيان من الممكن أن تمثل مشكلات أصعب في حلها من المعاناة البدنية؛ فقليلة هي الحيوات الخالية من الحزن والأسى، وثم الكثير من الحالات النفسية العضال، مثل الاكتئاب المزمن، التي لا يمكن الشفاء منها على نحو تام.
بخلاف أمثلة المعاناة الواضحة، تشير حقيقة المعاناة إلى نوع من المعاناة خفي إلى حد كبير يمكن أن نطلق عليه «وجودي»، ويلحظ هذا في عبارة: «عدم الحصول على ما يرغبه المرء معاناة.» فنوع المعاناة المتصور هنا هو الإحباط وخيبة الأمل والتحرر من الوهم الذي نشهده عندما تفشل الحياة في أن تكون عند توقعاتنا ولا تسير الأمور كما نرغب. بوذا لم يكن متشائما على نحو مرضي كما أنه علم بالتأكيد من تجربته الشخصية باعتباره أميرا شابا أن الحياة يمكن أن تكون بها لحظات سعيدة. رغم ذلك فالمشكلة هي أن الأوقات الجميلة لا تدوم، وعاجلا أو آجلا سوف تتلاشى، أو يمل المرء من الأمور التي بدت في السابق جديدة ومليئة بالوعود. وفي هذا السياق فإن كلمة «دوكها» لها معنى أكثر تجريدا وشمولية؛ فهي تلمح إلى أنه حتى عندما لا تكون الحياة مؤلمة فإنها من الممكن أن تكون غير مرضية وغير مشبعة. وفي هذا السياق وغيره من السياقات توضح كلمة «عدم الرضا» معنى كلمة «دوكها» على نحو أفضل من كلمة «معاناة».
Shafi da ba'a sani ba
وقرب نهاية هذا التصور، تشير حقيقة المعاناة إلى السبب الذي يحول دائما دون أن تكون الحياة مرضية تماما. إن جملة «العوامل الخمسة المكونة لحياة الفرد معاناة» هي إشارة لأحد التعاليم التي شرحها بوذا في الخطبة الثانية (كتاب «فينايا») الذي يحلل الطبيعة البشرية إلى خمسة عوامل، هي: الجسد المادي («روبا»)، والأحاسيس والمشاعر («فيدانا»)، والمعارف («سانيانيا»)، والسمات الشخصية والطبائع («سانكارا»)، والوعي أو الحس («فينيانيانا»). ولا حاجة للدخول في تفاصيل كل عامل من العوامل الخمسة على حدة؛ نظرا لأن الفكرة المهمة هنا ليست العوامل المذكورة والعوامل غير المذكورة في هذه القائمة. وعلى وجه التحديد، لم يذكر هذا المعتقد الروح أو النفس؛ فهي مفهومة أنها جوهر روحاني خالد ولا يتغير. ومن خلال تبني هذا الموقف، فصل بوذا نفسه عن التقليد الديني الهندي المحافظ المعروف باسم البراهمانية، الذي يزعم أن كل شخص يمتلك روحا خالدة («أتمان») تكون جزءا من مطلق ميتافيزيقي - أو متطابقة معه - يعرف باسم «براهمان» (نوع من الآلهة ليس له صفات بشرية).
قال بوذا إنه لم يستطع إيجاد أي أدلة على وجود الروح البشرية («أتمان») ولا نظيرتها الكونية («براهمان»). وبدلا من ذلك سلك نهجا عمليا وتجريبيا، أكثر قربا لعلم النفس منه إلى علم اللاهوت. وأوضح أن الطبيعة البشرية تتكون من خمسة عوامل مثلما تتكون السيارة من العجلات وناقل الحركة والمحرك والمقود والهيكل. بطبيعة الحال، وعلى عكس العلم، اعتقد أن الهوية الأخلاقية للشخص - ما يمكن أن نطلق عليه «الحمض النووي الروحي» للفرد - تبقى بعد الموت وتولد من جديد. وعلى الرغم من أن بوذا قال إن العوامل الخمسة المكونة للفرد كلها معاناة، فإنه كان يوضح أن الطبيعة البشرية لا يمكنها تقديم أساس للسعادة الدائمة؛ لأن مبدأ العوامل الخمسة يوضح أن الفرد ليس له جوهر حقيقي. ونظرا لأن البشر يتشكلون من هذه المكونات الخمسة التي تتغير باستمرار، فإنه لا مفر من أن المعاناة سوف تظهر عاجلا أو آجلا، تماما مثلما ستتعرض السيارة في نهاية المطاف إلى التهالك والتعطل؛ ولذلك فإن المعاناة متأصلة في صميم تكويننا.
إن محتوى حقيقة المعاناة مأخوذ إلى حد ما من رؤية بوذا لأول ثلاث علامات من العلامات الأربع - الرجل العجوز والرجل المريض والجثة - وإدراكه أن الحياة تعج بمختلف أشكال المعاناة والتعاسة. وكثير ممن يتعرفون على البوذية يجدون أن هذا التقييم للحالة البشرية تقييم متشائم. ويميل البوذيون في الرد على ذلك قائلين إن دينهم ليس متشائما ولا متفائلا، بل واقعي، وإن حقيقة المعاناة تقدم ببساطة حقائق الحياة بطريقة موضوعية. وإذا بدا هذا التقييم متشائما، فهذا راجع إلى الميل المتأصل لدى البشر الذي يدفعهم إلى تجنب الحقائق الكريهة «والنظر إلى الجانب المشرق». ولا شك أن هذا هو السبب الذي جعل بوذا يلاحظ أن حقيقة المعاناة كانت صعبة الفهم للغاية؛ فالأمر أشبه باعتراف المرء بإصابته بمرض خطير؛ فهذا أمر لا يرغب أحد في الاعتراف به. ورغم ذلك، ما لم يعترف المرء بمرضه، لا يمكن أن يكون هناك أمل في العلاج.
أما بعد الإقرار بأن الحياة معاناة، فكيف تنشأ هذه المعاناة؟ تفسر الحقيقة النبيلة الثانية - حقيقة النشأة («سامودايا») - أن المعاناة تنشأ من الشهوة أو «التعطش» («تانها»، بالسنسكريتية: «ترسنا»)؛ فالشهوة تذكي المعاناة بالطريقة نفسها التي يذكي بها الخشب النار. وفي استعارة بليغة في خطبة النار (كتاب ساميوتا) قال بوذا إن التجربة البشرية كلها «مشتعلة» بالرغبة. والنار تشبيه مناسب للرغبة؛ لأنها تستهلك ما تتغذى عليه دون أن تشبع؛ فهي تنتشر سريعا وتتعلق بأشياء جديدة، وتحرق بألم الشهوة التي لا تشبع.
إن الرغبة، في شكل الإدمان القوي للحياة والتجارب الممتعة التي تقدمها، هي سبب الميلاد المتكرر. فإذا كانت العوامل الخمسة للفرد تشبه السيارة، فإن الشهوة ستكون الوقود الذي يدفعها إلى الأمام. وعلى الرغم من أن الميلاد الجديد يعتقد أنه يحدث عادة من حياة إلى أخرى، فإنه يحدث أيضا من لحظة إلى أخرى، فيقال إن الشخص يولد من جديد من ثانية إلى أخرى مع تغير وتفاعل العوامل الخمسة للفرد، بسبب التعطش للتجارب الممتعة. إن استمرار انتقال الفرد من حياة إلى حياة تالية هو مجرد نتيجة زخم الرغبة المتراكمة. (2) حقيقة نشأة المعاناة (سامودايا)
أيها الرهبان، هذه هي حقيقة نشأة المعاناة؛ إنها ذاك التعطش أو تلك الشهوة («تانها») التي تؤدي إلى الميلاد المتكرر، إنها الشهوة المرتبطة بالمتعة الحسية التي تسعى إلى الملذات الجديدة تارة هنا وتارة هناك في شكل: (1) التعطش للمتعة الحسية. (2) التعطش للوجود. (3) التعطش للاوجود.
تنص حقيقة النشأة على أن الشهوة أو التعطش يظهر في ثلاثة أشكال أساسية؛ أولها: التعطش للمتعة الحسية. وتتخذ هذه المتعة شكل التعطش للإشباع من خلال أشياء تدرك بالحواس، مثل الرغبة في الاستمتاع بمذاقات وأحاسيس وروائح ومناظر وأصوات جميلة. وثانيها: التعطش للوجود. ويشير هذا التعطش إلى رغبة «الوجود» الغريزية العميقة التي تقودنا إلى حيوات جديدة وتجارب جديدة. أما الشكل الثالث الذي تظهر فيه الشهوة نفسها فهو الرغبة، ليس في الامتلاك ولكن في التدمير. وهذا هو الجانب المظلم للشهوة، الذي يظهر في الميل إلى نفي وإنكار ورفض الأمور غير الجميلة وغير المرغوبة. والرغبة في التدمير يمكن أن تؤدي أيضا إلى سلوكيات تتسم برفض الذات. إن انخفاض التقدير الذاتي وأفكارا من قبيل «أنا لست جيدا» أو «أنا فاشل»، يعدان تجسيدا لهذا الموقف العقلي عند توجيهه نحو الذات. أما في الحالات المتطرفة، فمن الممكن أن يؤدي إلى سلوكيات مؤذية جسديا مثل الانتحار. إن هذا النوع من التقشف المادي الذي رفضه بوذا في نهاية المطاف يمكن أن نرى فيه أيضا تعبيرا لهذا الميل نحو رفض الذات.
إذن، هل يعني هذا أن كل أنواع الرغبة خاطئة؟ يجب أن نتوخى الحذر قبل التوصل إلى هذا الاستنتاج. فعلى الرغم من أن كلمة «الرغبة» تستخدم غالبا كترجمة لكلمة «تانها»، فإن هذه الكلمة تحمل نطاقا من المعاني أكثر اتساعا. إن كلمة «تانها» أكثر تحديدا في معناها من كلمة الرغبة؛ فهي تعبر عن الرغبة التي أصبحت منحرفة إلى حد ما، وعادة ما يحدث ذلك عندما تصبح الرغبة مفرطة أو موجهة في الاتجاه الخاطئ. وعادة ما يكون هدف تلك الرغبة هو الإثارة والمتعة الحسية. رغم ذلك، ليست كل الرغبات من هذا النوع؛ فالمصادر البوذية تتحدث كثيرا عن الرغبة على نحو أكثر إيجابية باستخدام مصطلح «تشاندا»؛ فامتلاك أهداف إيجابية لنفسك وللآخرين (مثل بلوغ النيرفانا) والرغبة في ضرورة أن ينعم الآخرون بالسعادة، وتمني أن تترك العالم مكانا أفضل حالا مما وجدته عليه؛ كلها أمثلة للرغبات الإيجابية والأخلاقية التي لا تعد رغبة من نوع «تانها».
وفي حين تكون الرغبات الخاطئة مقيدة ومكبلة، تكون الرغبات الصحيحة معززة ومحررة. ويمكننا استخدام التدخين باعتباره مثالا لتوضيح الفرق. إن رغبة المدخن الشره في المزيد من السجائر تندرج تحت فئة «تانها»؛ لأنها لا تهدف إلى شيء أكثر من مجرد إشباع قصير الأجل. ومثل هذه الرغبة القهرية والمقيدة والدورية لا يؤدي إلا إلى تدخين السيجارة التالية (وإلى اعتلال الصحة باعتباره أثرا جانبيا لذلك). أما رغبة المدخن الشره في الإقلاع عن التدخين، فستكون رغبة محمودة؛ لأنها ستكسر هذه الوتيرة الدورية للعادة القهرية السيئة وستعزز الصحة والسلامة.
في حقيقة النشأة، تمثل «تانها» «أصول الشر الثلاثة» المذكورة سابقا، وهي الطمع والكراهية والوهم. وتصور هذه الأصول في الرسوم البوذية في صورة ديك وخنزير وثعبان يطارد بعضها بعضا في دائرة صغيرة في مركز «عجلة الحياة» الموضحة في الفصل الثالث، وكل منها ذيله في فم الآخر. ونظرا لأن الشهوة لا تؤدي إلا إلى إثارة شهوة أخرى، تستمر دورة الميلاد المتكرر، ويولد الأفراد مرارا وتكرارا. أما عن كيفية حدوث ذلك، فهذا مشروح بالتفصيل في أحد التعاليم المعروفة باسم «النشأة المعتمدة» («باتيكا ساموبادا»، بالسنسكريتية: «براتيتيا ساموتبادا»). ويوضح هذا المعتقد كيف أن الشهوة والجهل يؤديان إلى الميلاد من جديد في سلسلة مكونة من اثنتي عشرة مرحلة. بدلا من مناقشة هذه المراحل الاثنتي عشرة بالتفصيل، الأهم بالنسبة إلى أهدافنا الحالية هو فهم المبدأ الأساسي الذي لا ينطبق فحسب على علم النفس البشري، بل ينطبق على الواقع إلى حد كبير.
Shafi da ba'a sani ba
يمكن تلخيص أساس هذا المعتقد بأنه الزعم القائل بأن لكل نتيجة سببا ؛ أي إن كل شيء يأتي إلى الوجود ينشأ معتمدا على شيء آخر (أو على عدد من الأشياء الأخرى). وفي ضوء وجهة النظر تلك، فإن كل الظواهر تنشأ كجزء من سلسلة سببية، ولا شيء يوجد بنفسه ولأجل نفسه على نحو مستقل؛ ولذلك، فالكون لا ينظر إليه باعتباره مجموعة أشياء ثابتة إلى حد ما، بل باعتباره شبكة نشطة تتكون من الأسباب والنتائج المترابطة. علاوة على ذلك، ومثلما يمكن تحليل الإنسان إلى العوامل الفردية الخمسة دون أن يتبقى منه شيء، يمكن بالمثل تحليل كل الظواهر إلى أجزائها المكونة دون أن نجد أي شيء «جوهري» في تلك الأجزاء. ويقال إن كل شيء يأتي إلى الوجود يحمل ثلاث خصائص أو «علامات»، هي: عدم الإشباع («دوكها»)، وعدم الديمومة («أنيكا»)، وغياب الجوهر الذاتي («أناتا»). والأشياء غير مرضية لأنها غير دائمة (ومن ثم فهي غير ثابتة ولا يعتمد عليها)؛ وهي غير دائمة لأنها تفتقر إلى الطبيعة الذاتية المستقلة عن العملية السببية الكونية.
يمكن ملاحظة أن الكون في المنظور البوذي يتسم في الأساس بالتغير الدوري، ويتمثل هذا من الناحية النفسية في عملية الشهوة والإشباع اللانهائية. أما من ناحية الأشخاص، فيتمثل ذلك في تعاقب الموت والميلاد من جديد. وأما من ناحية الكون، فيتمثل ذلك في خلق المجرات وتدميرها. والسبب وراء كل ذلك هو مبدأ السبب والنتيجة الموضح في معتقد النشأة المعتمدة، وقد تطورت تداعياته على نحو أعمق فيما بعد في البوذية المتأخرة.
الحقيقة النبيلة الثالثة هي حقيقة الإيقاف («نيرودا»). وتقول هذه الحقيقة إنه عند التخلي عن الشهوة تتوقف المعاناة وتكتسب النيرفانا. وكما ورد في قصة حياة بوذا، تتخذ النيرفانا شكلين؛ الشكل الأول يحدث خلال الحياة، والشكل الثاني يحدث عند الممات. لقد اكتسب بوذا ما يطلق عليه «النيرفانا في هذه الحياة» عندما كان جالسا أسفل الشجرة في سن الخامسة والثلاثين. وفي سن الثمانين رحل إلى «النيرفانا النهائية» التي لا يمكن أن يولد منها من جديد.
المعنى الحرفي لكلمة «نيرفانا» هو «الإطفاء» أو «الإخماد»، مثلما ينطفئ لهب الشمعة. لكن ما هو الشيء الذي «ينطفئ»؟ هل هو روح المرء أم كبرياؤه أم هويته؟ لا يمكن أن تكون الروح هي ما ينطفئ؛ لأن البوذية تنكر وجود مثل هذا الشيء من الأساس. ولا يمكن أن يكون غرور الشخص أو إحساسه بهويته هو ما يختفي، على الرغم من أن النيرفانا تتضمن بالتأكيد حالة تغيير جذرية للوعي خالية من هوس «أنا كذا وأمتلك كذا». أما ما ينطفئ في واقع الأمر، فهو ثالوث نيران الطمع والكراهية والوهم الذي يؤدي إلى الميلاد المتكرر. وبالفعل، فإن أبسط تعريف للنيرفانا في هذه الحياة هو «نهاية الطمع والكراهية والوهم» (كتاب ساميوتا). من الواضح أن النيرفانا في هذه الحياة عبارة عن واقع نفسي وأخلاقي؛ فهي حالة تحول للشخصية تتسم بالسلام والسعادة الروحانية العميقة والشفقة والوعي الدقيق والفطن. أما الحالات والمشاعر الذهنية السلبية مثل الشك والقلق والتوتر والخوف، فتختفي من الذهن الذي حظي بالتنوير. والقديسون في كثير من الثقافات الدينية يظهرون بعض هذه الصفات أو كلها، كما أن الأشخاص العاديين يمتلكونها أيضا إلى حد ما، لكنهم لم يكتسبوها على نحو كامل. بيد أن الشخص الذي حظي بالتنوير، مثل بوذا أو الآرهات، يمتلكها كلها على نحو كامل. (3) حقيقة الإيقاف (نيرودا)
أيها الرهبان، هذه هي حقيقة إيقاف المعاناة. إنه الإيقاف الكلي لتلك الشهوة («تانها»)، الانسحاب منها، نبذها، رفضها، التحرر منها، عدم التعلق بها.
ما الذي يحدث للمرء عند الممات؟ فيما يتعلق بالنيرفانا النهائية فإنها تثير مشكلات الفهم؛ فعندما تنطفئ جذوة الشهوة، ويتوقف الميلاد المتكرر، لا يولد الشخص الذي حظي بالتنوير من جديد؟ إذن، ما الذي يحدث له؟ لا يوجد جواب واضح لهذا السؤال في المصادر الأولى. قال بوذا إن التساؤل عن مكان «الشخص الذي حظي بالتنوير» بعد الممات يشبه التساؤل عن المكان الذي يذهب إليه اللهب بعد انطفائه. بالطبع لم «يذهب» اللهب إلى أي مكان؛ كل ما في الأمر أن عملية الاحتراق توقفت. إن إزالة الشهوة والجهل تشبه إزالة الأكسجين والوقود اللذين يحتاجهما اللهب كي يشتعل. ورغم ذلك، يجب ألا تؤخذ صورة انطفاء اللهب باعتبارها إشارة إلى أن النيرفانا النهائية هي الفناء؛ فالمصادر توضح تماما أن هذا الاستنتاج سيكون خاطئا، وكذلك الحال بالنسبة إلى استنتاج أن النيرفانا هي الوجود الأبدي للروح البشرية.
نهى بوذا عن التكهن بطبيعة النيرفانا، وبدلا من ذلك أكد على الحاجة إلى السعي وراء اكتسابها. وشبه من يطرح أسئلة فضولية عن النيرفانا برجل مجروح بسهم مسموم يصر بدلا من سحب السهم للخارج على طلب معلومات لا فائدة منها عمن رماه بالسهم، مثل اسمه وعشيرته، وبعد المسافة عن النقطة التي كان واقفا عندها ... وهكذا (كتاب ماهايانا). وتماشيا مع هذا التردد من جانب بوذا في تفسير السؤال، وصفت المصادر الأولى النيرفانا بمصطلحات سلبية في الغالب، مثل: «غياب الرغبة»، و«خمود التعطش»، و«الانطفاء»، و«التوقف». ويوجد أيضا عدد قليل من الصفات الإيجابية، من بينها «البركة»، و«الخير»، و«الصفاء»، و«السلام»، و«الحقيقة»، و«الشاطئ البعيد». وتوجد فقرات معينة يبدو أنها تشير إلى أن النيرفانا هي حقيقة علوية «غير مولودة»، و«غير مجبولة»، و«غير مخلوقة»، و«غير مشكلة» (كتاب أودانا)، لكن من الصعب معرفة تفسير مثل هذه التصورات. وفي التحليل الأخير، تظل طبيعة النيرفانا النهائية لغزا، إلا بالنسبة إلى الذين وصلوا إليها. رغم ذلك، ما يمكن أن نكون متأكدين منه هو أنها تعني نهاية المعاناة والميلاد من جديد.
الحقيقة النبيلة الرابعة، التي تتحدث عن الطريق أو الدرب («ماجا»، بالسنسكريتية: «مارجا»)، تشرح كيفية التحول من «السامسارا» إلى النيرفانا. وسط صخب الحياة اليومية، قليلون هم من يتوقفون للتفكير في طريقة العيش الأفضل إشباعا. وقد راود مثل هذه الأسئلة الفلاسفة الإغريق، وأدلى بوذا بدلوه أيضا في هذا الصدد؛ فاعتقد أن أسمى أشكال الحياة هو ذلك الذي يقود إلى اكتساب الفضيلة والمعرفة، وأن الطريق الثماني يقدم أسلوب حياة مصمما لاكتساب الفضيلة والمعرفة المنشودتين. (4) حقيقة الطريق (ماجا)
أيها الرهبان، هذه هي حقيقة الطريق الذي يقودنا إلى إيقاف المعاناة؛ إنه الطريق الثماني النبيل، الذي يتكون من: (1) الرؤية الصحيحة. (2) العزم الصحيح. (3) الكلام الصحيح. (4) الفعل الصحيح. (5) العيش الصحيح. (6) الجهد الصحيح. (7) الوعي الصحيح . (8) التأمل الصحيح.
يعرف الطريق الثماني باسم «الطريقة الوسطى»؛ لأنه يختار طريقا بين حياة الانغماس في الشهوات وحياة التقشف الشديد. ويتكون من عوامل ثمانية مقسمة إلى ثلاث فئات، هي: الأخلاق والتأمل والحكمة. وتحدد هذه العوامل معايير ما فيه خير للبشر، وتوضح أين يكمن النطاق الذي يزدهر فيه الإنسان. وفي القسم المعروف باسم الأخلاق (سيلا)، تصقل الفضائل الأخلاقية إلى حد الكمال، وفي القسم المعروف باسم الحكمة (بانيانيا)، تكتسب الفضائل الفكرية. وماذا عن التأمل؟ سنتناول دور التأمل بمزيد من التفصيل في الفصل التالي؛ ولذلك لن أتحدث عنه كثيرا في هذه المرحلة باستثناء الإشارة إلى أنه يدعم القسمين الآخرين.
Shafi da ba'a sani ba