Gina Al'ummar Larabawa
منهاج مفصل لدروس في العوامل التاريخية في بناء الأمة العربية على ما هي عليه اليوم
Nau'ikan
بعث إعلان الدستور في سنة 1908 هزة فرح واستبشار قل أن يجد الإنسان لها مثيلا في عمقها وإخلاصها وانتشارها بين جميع الناس على اختلاف مللهم ونحلهم وطبقاتهم. وقد حاول الناس عموما أن يرتفعوا إلى مستوى المعاني التي تؤديها كلمات الحرية والعدالة والمساواة، ولكن حدث إذ ذاك ما يحدث في إبان الانقلابات كبيرها وصغيرها من اتجاه الذين دبروها إلى تأمين ما حققوا، وإلى جعل ذلك التأمين غاية الغايات بحيث لا يترددون في تعطيل حقائق الحياة الدستورية؛ إذ ظنوا أن التأمين يقتضي ذلك.
ورجال الاتحاد والترقي الذين قبضوا على أزمة الحكم بعد خلع السلطان أحدقت بهم من أول الأمر صعوبات داخلية وخارجية، جعلتهم يتحولون إلى ما وصفنا من جعل تأمين بقائهم في الحكم غاية الغايات كما قلنا، واتخذت الحياة السياسية العثمانية في تلك السنوات السابقة للحرب جميع سمات الحياة السياسية يسودها الحزب الواحد، وعمل الاتحاد والترقي على أن يقبض على البلاد بيد من حديد.
ولنفصل هذا بعض الشيء، ولنبدأ بتلك الصعوبات الخارجية والداخلية التي أشرنا إليها:
أول ما أعلن الدستور أعلنت الحكومة النمسوية ضمها لإقليمي البوسنة والهرسك، وأول ما أعلن الدستور أعلن أمير بلغاريا استقلاله التام عن السيادة العثمانية وتلقبه بلقب ملك. ثم جاءت بعد ذلك مقدمات أزمة الحربين البلقانيتين الأولى والثانية وغزو إيطاليا لطرابلس الغرب. هذا كله في ظرف خمس أو ست سنوات وفي ظروف الانتقال من الحكم الحميدي المطلق إلى أحكام الدستور. إننا نفهم إذن حق الفهم الموقف الذي اتخذه الاتحاديون من مطالب القوميات العثمانية، رأوا فيها أصابع الدول الأجنبية تحرك عوامل الفتنة والضعف، والمعتدلون من الاتحاديين أقروا ما تنطوي عليه مطالب القوميات من حق ولكنهم كانوا لا يرون أن الوقت لتقديمها وللنظر فيها، والمناسب في نظرهم الالتفاف حول سيطرة الاتحاد.
وتململ الاتحاديون كلما اضطرب أمر العصبيات والجماعات في اليمن أو في نجد أو في العراق أو في حوران ... إلخ، ولجئوا إلى تجريدات القمع المسلح، وتململوا كذلك كلما حاول مفكرو العرب والمشتغلون منهم بالقضايا العامة أن يتحدثوا في شئون بلادهم، وأن ينظموا لها أدوات الرأي العام. ولجأ الاتحاديون إلى حل الجماعات وتشريد القادة وتعطيل حرية النشر وغيره من وسائل التعبير عن الرأي؛ مما حتم على العرب وخصوم الاتحاديين نقل ضروب نشاطهم إلى مصر حيث الحكم للبريطانيين وإلى بعض الأقطار الأوروبية.
وفي رأيي أن التوفيق جانب أولئك العرب الذين عقدوا مؤتمرا لبحث قضاياهم في مدينة باريس مع علمهم بموقف فرنسا من العرب والعروبة في الأقطار المغربية، ومع علمهم بمطامعها المشهورة في سوريا، ومع علمهم بأن من زملائهم في المؤتمر من هم ضالعون مع فرنسا في مشروعاتها في سوريا في رأيي أن التوفيق جانب فكرة المؤتمر، وأن التوفيق أيضا جانب الحكومة الاتحادية في موقف الخداع الذي اتخذته من المؤتمر والمؤتمرين. إن مأساة الاتحاديين والقادة العرب كانت في تجنب الفئتين تصفية أمر التوفيق بين المطالب القومية ومطالب الوحدة العثمانية في البرلمان العثماني. إن الطريق الأسهل ليس دائما الطريق الموصل وليس دائما الطريق المستقيم.
وجاءت الحرب بين الدول الأوروبية الكبرى والدولة العثمانية على ما نرى من تشتت وتمزق. ترى ما يكون موقف الحكومة العثمانية، أتبقى على الحياد؟ أتدخل الحرب؟ وفي صف من؟ طبعا لن تدخل الحرب في صف الروسيا وبريطانيا وفرنسا، هذه الدول تستبد بملايين من المسلمين عربا وغير عرب، وهي بعد تطمع في ولايات الدولة الآسيوية الأفريقية. لا، إن الاختيار كان بين الحياد وبين الدخول في صف ألمانيا، وشرط الحياد أن يكون لديك القوة التي تصون بها حيادك وتجعل غيرك يحترمه، والحياد مقبول إذا ضمنت أن المنتصر لا يتحكم فيك بعد أن يتغلب على عدوه.
هذه هي الصعوبة الكبرى، ماذا تفعل دولة عثمانية وقفت على الحياد أمام بريطانيا وروسيا وفرنسا منتصرة أو أمام ألمانيا منتصرة؟ ولم يكن الاختيار سهلا. وعلى كل حال فقد قرر الاتحاديون أن يدخلوا الحرب مغامرين ، وأظن أنهم قدروا أن التحكم في المصير محاربين أسهل عليهم من مواجهتهم محايدين .
دخلوا الحرب في صف ألمانيا، وأعتقد أن دخولهم في الحرب كان ذا أثر حاسم فيها. قطعت الدولة ما بين الروسيا وحلفائها من اتصال بحري في الجنوب، وحجزت قوات هائلة تتبع أولئك الحلفاء عن الحرب في أوربا، وحاربت في الدردنيل وفي فلسطين وفي سوريا وفي العراق وفي الحجاز، وانتصرت أحيانا انتصارات يعتد بها. وتحدث الحلفاء فيما بينهم عما سيفعلون في الدولة وأراضيها عند النصر، ولا نتتبع الآن هذه الأحاديث وهذا - أولا - لأن الروسيا حدثت فيها ثورة 1917 وخرجت من الحرب، وسيكون لها موقف تأييد للحركة الكمالية عند نشوبها، ونفع هذا الموقف الكماليين نفعا كبيرا، وثانيا لأن مصطفى كمال استطاع أن يؤلف جيشا في الأناضول ومجلسا وطنيا، وأن ينقض ما عقدته حكومة السلطان في القسطنطينية من معاهدة مع الحلفاء المنتصرين - هي معاهدة سيفر - واستطاع أن يقهر اليونان الذين غزوا الأناضول، واستطاع أن يحمل الحلفاء على مفاوضته وعقد الصلح معه في مؤتمر لوزان. ثم كان مولد الجمهورية التركية والتغييرات الخطيرة التي أدخلها كمال على المجتمع الإسلامي العثماني.
وانطلقت أيدي الحليفتين بريطانيا وفرنسا في الولايات العربية، وعوامل هذه الانطلاق ظاهرة؛ منها أن مطصفى كمال آثر أن يقيم جمهورية تركية على أساس قومي وأن لا يضعفها بمشكلات القوميات المتعددة؛ آثر ذلك. أما ما يقال عن تأثره بما يقال عن طعنة العرب للترك خلال الحرب فهذا وهم، فقد حارب الجنود العرب في صفوف القوات العثمانية على وجه مقبول، ولم يضطرب أمر الأقطار السورية والعراقية على الرغم مما عانى أهلوها من شدة الأحكام وسوء أحوال التموين، وتخصيص الأحسن من كل شيء للأغراض العسكرية، وأخذ الزعماء أخذا عنيفا، وعلى الرغم من وعود الحلفاء وإغرائهم لم يتحرك ضد الدولة العثمانية إلا الشريف حسين، ولم يقبل الإمام يحيى أن ينتهز الفرصة لينضم إلى أعداء السلطنة العثمانية، وهذا على الرغم مما لقي منها، وآل الرشيد في نجد أخلصوا للسلطنة، وكان عبد العزيز آل سعود على نوع من الحياد.
Shafi da ba'a sani ba