Gina Al'ummar Larabawa
منهاج مفصل لدروس في العوامل التاريخية في بناء الأمة العربية على ما هي عليه اليوم
Nau'ikan
وها هي ذي الدولة العثمانية عند نهاية القرن الخامس عشر دولة تربعت على الأناضول والبلقان - على الطرف المسيحي الشرقي الأرثوذكسي لأوروبا - وتستعد للإيغال في أوروبا الكاثوليكية في أوروبا الشرقية (بولونيا أو بولندة) وأوروبا الوسطى (المجر). وفي نفس الوقت هي في طرف آسيا تمثل في نظر الأوروبيين آسيا والآسيويين، وأهم من هذا أنها أصبحت تتاخم دولتين إسلاميتين كبيرتين؛ إحداهما الدولة المصرية السورية والحكم فيها للسلاطين المماليك، وهي دولة إن شاء الإنسان أن ينعتها بنعت يدل على طبيعة موقعها قال عنها: إنها «دولة البرين والبحرين» - البر المصري والبر الشامي، والبحر المتوسط والبحر الأحمر - أما الدولة الأخرى فهي الدولة الفارسية والحكم فيها للصفويين، وهؤلاء وإن كانوا يستخدمون لسانا تركيا فهم ينتسبون لإقليم من الأقاليم الفارسية.
وبهذا الجوار أخذت الدولة العثمانية تستعد لتتبوأ مقعدها في العالم الإسلامي، وسيكون لهذا الاستعداد ما بعده كما سنرى.
والدولة العثمانية عاصمتها القسطنطينية، وهي سيدة البلقان وسيدة الأناضول، فصارت سيدة البحر الأسود، نفوذها يسري في الشعوب والجماعات حوله وبخاصة فيما نعرفه الآن بجزيرة القرم وجنوبي الروسيا، حيث كان الأمر إذ ذاك لمن استقر في تلك المناطق من جماعات التتار، وكانوا قد اعتنقوا الإسلام. والدولة العثمانية بحكم سواحلها الأناضولية والبلقانية تستعد لأن تقصي عن بحر الأرخبيل وعن الحوض الشرقي للبحر المتوسط القوات البحرية المعادية، بل وتستعد لتتخذ أيضا من حوضه الغربي ميدانا يقطع طريق الحملات الأوروبية المسيحية عند السواحل المغربية الإسلامية.
وهكذا خرج الاتساع العثماني عن نطاق ميادينه البلقانية الأناضولية وبحاره «الساحلية» إن صح التعبير، ليمتد نحو أوروبا الوسطى وأوروبا الغربية، ليتبوأ مقامه في العالم العربي والعالم الإيراني نحو البحار الآسيوية الكبرى، ولتخفق بنوده بين جزائر البحر المتوسط وسواحله، ولتنشأ للدولة العثمانية من هذا الوقت علاقات بالدول الكبرى العامة رأسا، بعد أن كان الأمر حتى ذلك الوقت بينها وبين دول البيزنطيين والبلغار والصرب والرومان والألبان، وبينها وبين المؤسسات والمنشآت التجارية الإيطالية أو الإقطاعية الغربية في تلك السواحل لبحر الأرخبيل والبحر المتوسط، وبينها وبين الإمارات التركية السلجوقية في الأناضول.
ولم يخل الميدان أو الميادين تماما للعثمانيين وخصومهم، فقد جهزت أوروبا حكومات وشعوبا أكثر من حملة لمعاونة البيزنطيين أو الصقالبة، ومن أشهرها حملة نسيكو بوليس، وهي التي درسها المؤرخ المصري عزيز سوريال عطية دراسة ممتازة، هذا بالنسبة للأوروبيين. وأما بالنسبة لجارات الدولة العثمانية في فارس وفي سوريا فإن «ديوان الإنشاء» في القاهرة كان في سبيل الانتباه إلى ذلك الأمر الجديد؛ نقل القلقشندي في الجزء الخامس من صبح الأعشى (ص368) عن ابن فضل الله العمري صاحب مسالك الأمصار العبارة الآتية، وكان هذا قبل فتح القسطنطينية وإتمام التغلب على الأناضول والبلقان: «ولو قد اجتمعت هذه البلاد لسلطان واحد، وكفت بها أكف المفاسد، لما وسع ملوك الأرض إلا انتجاع سحابه، وارتجاع كل زمان ذاهب في غير جنابه.» ثم قال: «الله أكبر إن ذلك لملك عظيم، وسلك نظيم، وسلطنة كبرى، ودنيا أخرى:
ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .» (2) القرن السادس عشر (أو بحساب أدق: حكم سليم الأول من 1512 إلى 1520 وحكم سليمان القانوني من 1520 إلى 1566.)
وفي هذا القرن - وبزعامة السلطانين سليم وابنه سليمان - تحقق للعثمانيين الملك العظيم الذي تحدث عنه ابن فضل الله العمري فيما نقلنا عنه.
ففي عهد سليم الأول كان القضاء على دولة السلاطين المماليك في مصر وسوريا - وسنشرح فيما بعد ما يفيده معنى دولة ومعنى القضاء على دولة في ذلك الزمان - وبعد أن تمكن سليم من هذا ورث ما كان لتلك الدولة من نفوذ وواجبات ومصالح في البحر الأحمر، في ساحله الحجازي واليمني وفي ساحله الحبشي الصومالي. ومن أهم ما ورث خدمة الحرمين والاضطلاع بها إزاء مسلمي الأرض قاطبة، وورثت الدولة أيضا مواجهة الخطر البرتغالي في البحار العربية وقد أخذ يستفحل.
وتحولت الدولة في تلك السنوات القليلة من دولة أناضولية بلقانية أغلب رعاياها من المسيحيين إلى دولة إسلامية حقا، فيها بالإضافة إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة وبيت المقدس من مراكز الحضارة العربية حلب ودمشق والقاهرة.
ووضع السلطان سليم العثماني والشاه إسماعيل الصفوي العلاقات بين فارس وعالم أهل السنة في الأوضاع التي عرفها زماننا.
Shafi da ba'a sani ba