Bila Quyud
بلا قيود: تقنيات حررت البشر ودفعتهم لحافة الهاوية
Nau'ikan
وبمرور الوقت، أدى تراكم الثروة والقوة العسكرية والسلطة الدينية لدى المجتمعات التي كانت في مواقع استراتيجية ومحمية جيدا؛ إلى نمو عدد صغير من المراكز المدنية القوية المحصنة. هذه المستوطنات، التي تعدى حجمها أي مستوطنة جاءت قبلها على الإطلاق بدرجة كبيرة، صارت تمارس السلطة التجارية والعسكرية والدينية على تجمعات سكانية ريفية ممتدة، وهكذا نشأت «الدولة المدينة». وكانت هذه أول مجتمعات بشرية، حيث كان من الممكن أن يكون الناس فيها غرباء تماما بعضهم عن بعض، ورغم ذلك يستطيعون العيش والعمل جنبا إلى جنب دون عداء أو ارتياب. وسوف نعود لهذه النقطة الشديدة الأهمية لاحقا في هذا الفصل.
مع نشأة الدولة المدينة، لم تعد اللغة كافية لخدمة أغراض هذه المجتمعات المتحضرة الجديدة، وسرعان ما ظهرت الكتابة الفعلية - تلك التقنية الفائقة للتواصل - لتمكن الناس من التواصل بعضهم مع بعض رغم حدود الزمان والمكان. أتاحت الكتابة للتجار شراء البضائع وبيعها بعضهم من بعض دون السفر شخصيا إلى كل مستوطنة من المستوطنات التي تاجروا معها. كذلك مكنت الكتابة الزعماء السياسيين والدينيين من إرسال معلومات إلى أتباعهم في المجتمعات القصية وإعطائهم أوامر، كما أنها خولت لهم طرح الأسئلة وتوقع الإجابات. وأخيرا، أتاحت الكتابة للبيروقراطيين القدامى تدوين سجلات بالصفقات، والبضائع المشتراة والمخزنة في المستودعات، والخراج والضرائب التي كان يسددها لهم عوام الناس الذين كانوا يخضعون لسلطتهم.
لكن حتى مع خضوع الناس للنفوذ الاقتصادي للمراكز المدنية الناشئة وسيطرتها السياسية، فقد ظل أغلبهم يعيشون ويزرعون في الريف، حيث يربون ماشيتهم ويزرعون محاصيلهم. هذا الانقسام في المجتمع بين مزارعين معوزين نسبيا وقاصري اليد من ناحية وبين سكان مدن أكثر ثراء ونفوذا بكثير من ناحية أخرى، صار سمة كل حضارة من الحضارات المدنية في العصور القديمة، وقد استمر في المجتمعات المتحضرة طوال باقي التاريخ المدون.
على مدار الخمسة آلاف سنة الماضية، ظهرت واندثرت آلاف الدول المدن ومئات الإمبراطوريات، لكن بقي جوهر الحضارة المدنية كما هو حتى بزغ المجتمع الصناعي منذ مائتي عام. وعاش في الريف شعب زراعي كبير، لكن بلا سلطة، وأنتج الغذاء الذي استهلكه المجتمع كله. في الوقت نفسه، كانت هناك طبقة حاكمة صغيرة لكن قوية، شملت مجموعة كبيرة من البيروقراطيين، وجماعة حصرية من رجال الدين، وسلطة عسكرية منظمة، وقد عاشت داخل حدود مركز حضري تحميه تحصينات هائلة، ويزخر بالأنصاب والقصور والمعابد.
بمرور القرون واحدا تلو الآخر، انتشرت المجتمعات المتحضرة من مواضع نشأتها إلى كل القارات، وباتت في النهاية مسيطرة على البشرية جمعاء تقريبا، لكن الحضارة نفسها ما كانت لتقوم لها قائمة لولا ما حدث من اندماج فريد بين عوامل وجدت في وديان الأنهار الكبرى في العالم؛ فعلى ضفاف أنهار العالم الكبرى ضربت الحضارة المدنية جذورها لأول مرة.
سحر الأنهار
ليست مصادفة أن أولى الحضارات المدنية - التي قامت كل منها على نحو مستقل عن الأخرى؛ إذ كان يفصل بينها نحو ألف سنة، وظهرت في ثلاث مناطق شديدة التباعد - قد نشأت جميعها في مناطق تمتد فيها أكبر أودية الأنهار في العالم وأخصبها. أولى هذه المناطق هي منطقة الهلال الخصيب، حيث تقع وديان أنهار النيل ودجلة والفرات. والثانية هي وادي نهر السند في شمال الهند. والثالثة هي سهول الطمي في شرق ووسط الصين، حيث يقع نهرا الأصفر واليانجتسي. فقد صارت كل من هذه المناطق في النهاية «مهدا لحضارتها».
ثمة ثلاثة أسباب مهمة لقيام الحضارة المدنية لأول مرة في وديان هذه الأنهار بدلا من أن تقوم في مناطق أخرى، مثل مرتفعات غينيا الجديدة، حيث وقع التحول إلى الحياة الزراعية المستقرة أيضا منذ آلاف السنين.
السبب الأول هو أن تربة وديان الأنهار الخصبة وتضاريسها المنبسطة أثبتت أنها بيئة زراعية غزيرة الإنتاج، وقد أدت الزيادة في إنتاج الغذاء سريعا إلى ارتفاع هائل في تعداد السكان الذين يعيشون هناك. وربما تتذكرون أن شعب الخزف الخطي انتشر سريعا في شمال أوروبا باستعمار وديان أنهار الدانوب والراين وإلبه، التي كانت غنية بطبقات ممتازة من تربة اللويس التي خلفتها الأنهار الجليدية الذائبة. على غرار هذا، استوطن أول مزارعي العصر الحجري الحديث سريعا وديان أنهار الهلال الخصيب والهند والصين، حيث استؤنس في الأصل العديد من النباتات والحيوانات.
حين حلت مجتمعات زراعية محل مجتمعات الصيد وجمع الثمار التي كانت تسكن وديان هذه الأنهار فيما مضى، تضاعف عدد السكان من البشر عشر مرات. وعندما أقيمت عدة مستوطنات دائمة على مقربة بعضها من بعض، وجد آلاف الناس أنفسهم في نهاية الأمر يعيشون في مناطق صغيرة بدرجة تسمح لهم بعبورها مشيا في مسيرة سفر يوم أو يومين. وقد أثبت هذا التمركز البشري داخل مناطق جغرافية صغيرة أنه بيئة مثالية لظهور مراكز مدنية.
Shafi da ba'a sani ba