ما نسمعه عن بلقيس قد يكون «قص به القصاص وسمروا به عند الملوك» .
إن الجاحظ يبدو لنا عالما يتحرّى الحقيقة ولا يقبل المعلومات التي يتلقاها من أي مصدر كان إلا إذا أيدتها التجربة أو اقتنع بها العقل، أو رواها رجال يعرفون بالتحصيل والتثبت والتوقي والتوقف.
*** والناحية الفلسفية في الكتاب تبدو في المنحى الطبيعي والمنحى النقدي والمنحى العقلي الإعتزالي.
فالمنحى الطبيعي يقول أن الله طبع الأشياء على خصائص تغلب عليها وتظهر في هيئاتها وسلوكها وأعراقها وأخلاقها. وجعل للطبيعة التي تعيش عليها تأثيرا في ألوانها وأجسامها وطباعها. فهو مثلا يرفض رأي من يقول أن الحمير الأخدرية هي نتاج خيل لكسرى توحشت وضربت في الغابات. ويرى أنه لا يجيء بين الخيل والحمير إلّا البغال التي لا تتناسل لأنه لا يعيش لها نسل «فكيف لقحت هذه الأنثى من تلك الخيل حميرا طبقت تلك الصحارى بالحمر الخالصة» . والأقرب إلى العقل هو القول أن الحمير الوحشية اكتسبت خصائصها المميزة من العظم والتمام بتأثير البيئة التي تعيش فيها. لقد كان الأكاسرة إذا اصطادوا عيرا وسموه بأسمائهم وأطلقوه في الصحارى «فعسى أن تكون هذه الحمير أو بعضها صار في ذلك الصقع الذي هذا صفته، فإن للماء والتربة والهواء في هذا عملا ليس يخفى على أهل التجربة» .
ويؤيد الجاحظ مذهبه بأمثلة آخرى يضربها: مثل العربي الذي ينتقل من الجزيرة إلى خراسان، فإن البيئة الجديدة تترك فيه أثرها فيغدو أحمر اللون مفطوح القفا. ومثل حرة بني سليم التي تطبع كل ما يعيش فيها باللون الأسود فأهلها سود وطيورها سود وهوامها سود وسبعها سود
1 / 9