بسم الله الرحمن الرحيم سانحة بحث البدعة اعلم أن الناس خبطوا في تحقيق البدعة خبي عشواء (1)، وخاضوا فيها في ظلم الأهواء: فكل واحد يجعل البدعة ما خالف هواه، حتى كأن ليس صاحب الشرع سواه، والعلماء ما زالوا يتعصب كل فرد منهم على الآخر، فترى فرقة الأشاعرة (2) يرمون المعتزلة (3) بالبدعة ولا يسمونهم إلا أهل البدع وكذلك يصنع معهم خصومهم، فيسمونهم أهل البدعة من الجبرية (4).
Shafi 16
وترى أهل الظاهر (1) يرمون الصوفية (2): بالابتداع، والاتحاد، والحلول (3) والصوفية يسمون أهل الظاهر: أهل الرسوم والقشرية (4).
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة بين الرجال، وإن كانوا ذوي رحم. ف (إنا لله وإنا إليه راجعون) (5).
Shafi 17
وسبب هذا عدم العمل بالقرآن، وقوله (1) تعالى: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم) (2)، وقوله تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) (3)، (وقوله سبحانه وتعالى):
(واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) (4).
ووصف الله تعالى أهل الكتابين بقوله: (وقالت اليهود ليست النصارى على شئ وقالت النصارى ليست اليهود على شئ وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم
Shafi 18
بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) (1) تشابهت قلوبهم.
فعلى العبد، أن ينتهي عما نهاه الله تعالى عنه. وأن يأتمر بأمر الله تعالى ويترك إعجابه بنفسه، فإن الإعجاب قد عم، وهو رأس البلية، وأساس المصيبة، ومنشأ الفتنة، وأصل المحنة. فليس هم الرجل إلا تنزيه نفسه وذويه وإيقاع مخالفه في هوة التبديع والتفسيق والتكفير: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم) (2) وكذا صينعهم في كل مسألة لا يتحاشون عن تضليل سواهم، ولا يراقبون الله تعالى في اشتغالهم بتنقيص عباده، ولا يستحيون من رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في ثلب أمته الذين هم قصارى أمنيته من الدنيا! (فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم
Shafi 19
العلم بغيا بينهم) (1). ومصيبة التقليد وقبول قول الغير قد عمت، وداهيتها قد أشوت (2)، بل أصمت (3). فترى كل فرقة يقلبون ما حرره من يستعظمونه منهم من دون تحقق لكلاه، وتأمل الخطر من الصواب، حتى كأن مقالته مقالة المعصوم.
* وعند الله تجتمع الخصوم (4). فإن قلت: فأبن لي ما هي البدعة التي يجب اجتنابها؟ قلت اعلم أن لنا في معرفة الكلمة في اللغد طريقة من جهة الفكر ينبغي أن .
Shafi 20
نعرضها عليك، وأن تعرضها أنت على فهمك السليم، فإن سلمها ورآها حسنة فأخذ على منوالها، وإن نفر عنها أتيناك بما عليه العامة، وأنت بالخيار، ولست بمكره مني على شئ من ذلك.
فالطريقة التي أشرنا إليها هي: أن لغة العرب مرجع الكلمات في بنائها إلى شئ واحد يقرب بعضه من بعض لمن تأمل ذلك، فإذا عرفت فردا من أفراد معاني الكلمة - عرفت بقية المعاني من ذلك الفرد، من دون احتياج في الغالب إلى تفتيش، أو تنقيش.
مثاله، أن الابتداع هو الاختراع. فإذا سمعت قوله تعالى:
(بديع السماوات والأرض) (1)، عرفت أن المعنى مخترع السماوات والأرض من دون مثال سبق، وإذا سمعت: أبدع فلان فيما جاء به - فهمت أنه اخترع أمرا لم يكن من قبله، ولهذا يسمى الزق 02) الجديد بديعا، لكونه أول ما جعل فيه الشئ. وفي الحديث: (إن تهامة
Shafi 21
كبديع العسل، حلو أوله آخره) (1) وهكذا المادة، إذا تأملناها من أولها إلى آخرها.
ومن تحقق وتأمل وتدبر عرف الحق، ما لم يكن مكابرا، كثير المراء، محبا للجدل، منصب الفكر في الرد والإيراد.
.... * مثل الذباب يراعى موضع العلل (2).
بل مثل (زبل الذباب) إن وقع على أبيض صار أسود، وإن وقع على أسود عاد أبيض. وفي هذه الإشارة كفاية (وفوق كل ذي علم عليم) (2)، (والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) (4).
Shafi 22
وأما طريقة العامة: فالنظر فيما قاله الأسلاف، والاحتجاج بما جرى عليه السابق، والاستدلال بما مضى عليه الرعيل الأول، فمثل البدعة ينظر ما قاله صاحب القاموس في قاموسه، وابن الأثير في نهايته. وقبلوا روايتهم من دون نظر إلى اتحاد المادة، وعدم ماتحادها على اختلاف في الأنظار، وتفرق في الأفكار. ونحن لا نقول: إن كلام العلماء مردود، ولا إن روايتهم غير مقبولة، بل ننظر فيما قالوه ونتأمل صحيحه من سقيمه، ونضرب له الأمثال، ونتأمل ما يقرب منه في الكتاب الذي هو تبيان لكل شئ وفي السنة التي هي مبينة، ونحمل النظير على النظير، ونضع الشبه على الشبه. وهذا هو الذي عليه فحول العلماء النقاد، وإليه مرجع الفضلاء الأمجاد.
ومن عرف كتب المحققين من العلماء ظهر له نور الصواب.
ولنذكر كلام مجد الدين (صاحب القاموس) وابن الأثير في البدعة.
قال مجد الدين: والبدعة الحدث في الدين بعد الإكمال، وما
Shafi 23
استحدث بعده صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من الأهواء والأعمال (1). (انتهى).
وفي النهاية ما لفظه: وفي حديث عمر (رضي الله عنه) في قيام رمضان (2)، (نعمت البدعة هذه).
Shafi 24
والبدعة بدعتان: بدعة هدى، وبدعة ضلالة (1). فما كان في خلاف ما أمر الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم! فهو في حيز الذم والإنكار، وما كان واقعا تحت عموم ما ندب الله تعالى إليه وحض عليه، أو رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فهو في حيز المدح، وما لم يكن له مثال موجود، كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف فهو من الأفعال المحمودة، ولا يجوز أن يكون ذلك (داخلا) (2) في خلاف ما ورد الشرع به، لأن
Shafi 25
النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قد جعل له في ذلك ثوابا، فقال: (من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها). وقال في ضده: (من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها) (1). وذلك إذا كان في خلاف ما أمر الله تعالى به ورسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم.
ومن ذلك (2) النوع قول عمر رضي الله عنه: (نعمت البدعة هذه) لما كانت من أفعال الخير وداخلة في حيز المدح سماها بدعة ومدحها، لأن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لم يسنها لهم، وإنما صلاها ليالي ثم تركها، ولم يحافظ عليها، ولا جمع الناس لها،
Shafi 26
ولا كانت في زمن أبي بكر رضي الله عنه. وإنما جمع الناس عليها عمر رضي الله عنه، وندبهم إليها، ولهذا سماها (1) بدعة، وهي في الحقيقة سنة لقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم (عليكم (2) بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي (3).
Shafi 27
وعلى هذا التأويل يحمل الحديث الآخر: (كل محدثة بدعة) (1) إنما يريد ما خالف أصول الشريعة ولم يوافق السنة، وأكثر ما تستعمل البدع في الذم. (انتهى) (2). وهذا كلام أئمة هذا الشأن فخذ منه ما شئت.
واعلم أنه ظهر لك من هذا الكلام أن في الأعمال المحدثة ما
Shafi 28
يحمد صاحبه عليه بنص (من سن سنة حسنة)، وظهر لك أن العمل المحدث المذموم يسمى أيضا بدعة، لقول عمر رضي الله عنه، (نعمت البدعة)، وبهذا تعرف أن تسمية الشئ بالسنة أو البدعة لا ينفع ولا يضر.
وقد مدح الله تعالى قوما في القرآن من النصارى بابتداعهم للرهبانية، وذم الذين لم يرعوها حق رعايتها، فقال سبحانه وتعالى: (وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها) (1) فمدحهم بالابتداع، وذمهم لعدم رعاية ما ابتدعوه، تعليما لنا وتأديبا وحضا لنا وتهذيبا أنا إذا ابتدعنا شيئا فينبغي لنا أن لا نبتدعه (2) إلا ابتغاء رضوان الله، وأن نرعاه حق الرعاية.
Shafi 29
فكل بدعة يقال في مثلها: نعمت البدعة، وكل سنة يقال في صاحبها:
إنه سن سنة حسنة، فهي داخلة في هذه الآية، ومبينة لها، وهي من العمل بالقرآن والسنة، (والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل) (1) وأكثر ما ضر مدعي العلم أنه يرى لمشائخه تعريفات وحدودا يأخذها تقليدا، ويحمل الألفاظ القرآنية ولا نبوية عليها وليس بمحتاج إلى ذلك، فالقرآن يبين بعضه بعضا، والسنة كذلك، (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلاف كثيرا) (2)، فليس في القرآن اختلاف ولا في السنة، ولكن الاختلاف في أفكار أخذت نزرا من العلم تقليدا، وأوهام اضطربت، ولم ترج وعدا، ولم تخف وعيدا، فضلت وأضلت، وحلت من رار الحنظل ما فيه حلت، وهذا عمر رضي الله عنه يقول: نعمت البدعة هذه وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: (إن الله تعالى كتب عليكم صيام شهر
Shafi 30
رمضان، ولم يكتب عليكم قيامه، وإنما القيام شئ ابتدعوه فداوموا عليه ولا تتركوه، فإن أناسا من بني إسرائيل ابتدعوا بدعة، فعابهم الله تعالى بتركها، وتلا هذه الآية: (ورهبانية ابتدعوها.....
الآية) (1) أخرجه سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن مردويه (2).
فانظر يا طالب الحق ما فهمه من الآية خير القرون. بل تدبر في الآية نفسها، وما تفهمه أنت منها:
ودع عنك تقليد الرجال ولا تقل * هم عرفوا ما لم أنله بفطنة وما زال المراء والجدال بين العلماء سابقا ولاحقا في كل شئ من البدع المستحسنة. ونحن نحمل من منع من ذلك على السلامة.
فنقول: إنه ساء فهمه في هذا المقام فلم يعرف الفرق بين البدعة
Shafi 31
الحسنة والبدعة السيئة، وبعد على فهمه معرفة حقيقة حديث:
(وكل بدعة ضلالة فظن أن المراد بكل بدعة على حقيقته، وغفل عن حديث: (من سن سنة حسنة)، وعن قوله تعالى: (ورهبانية ابتدعوها)، وذهل عن كون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعث بمكارم الأخلاق، ورغب في فعل كل خير ترغيبا عاما على كل حال، وفي كل حال، وأقر أقواما على أفعال من الخير علمها منهم، ولم ينههم عن ذلك.
فلو نظر المنصف إلى هذه الأمور لعرف ممدوح البدعة من مذمومها، ولعلم أن البدعة تطلق على ما أحدثه المرء من طاعة ومن معصية، وأن ما أحدثه من الطاعة فهو ممدوح، وهي السنة الحسنة التي يكون له أجرها وأجر من عمل بها. لكن اعرف الطاعة ما هي؟.
فإن من صام الأبد مثلا لم يعمل طاعة بل معصية، ومن قام الليل كله لم يعمل طاعة بل معصية. فالبدعة المذمومة هي المرادة بقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: (وكل بدعة ضلالة وكل
Shafi 32
ضلالة في النار) هي ما لم يكن عليه أمره صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كما يفسرها حديث: (ما لم يكن عليه أمرنا فهو رد) (1) فمن جعل لنفسه أو لأتباعه - إن كان له أتباع - ذكرا لله تعالى معينا، أو صلاة على النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، أو دعاء، أو نحو ذلك، فهذا لم يفعل (ما لم يكن عليه أمرنا) بل هو داخل تحت (اذكروا الله ذكرا كثيرا) (2) وتحت قوله: (من صلى علي واحدة صلى الله وملائكته عليه بها عشر مرات فليقل عبد أو ليكثر) (3) فإن
Shafi 33
جعل العبد ذلك في وقت مخصوص كمن جعل الصلاة على النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عشر مرات بعد كل صلاة، فينبغي له ملازمة ذلك وأن يرعاه حق رعايته لئلا يكون كمن قال تعالى فيهم (فما رعوها حق رعايتها) وهو أيضا داخل تحت عموم قوله تعالى: (فإذا فرغت فانصب) (1).
قال ابن عباس حبر الأمة الذي دعا له النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن يعلمه الله التأويل في قوله تعالى: (فإذا فرغت فانصب). قال: (إذا فرغت من الصلاة فانصب في الدعاء).
أخرجه عبد بن حميد، وابن جرير وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، من طرق (2) وهي مفسرة لقوله تعالى: (فإذا قضيتم
Shafi 34
الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم) (1). والصلاة على النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أفضل من الدعاء بلا شك ولا ريب لمن يعقل، لأنها إيثار له صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على نفسك. ولا ريب أن من آثر مراد حبيب الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على مراد نفسه أرفع درجة من الداعي لنفسه.
وشغلي بالحبيب بكل وجه * أحب إلي من شغلي بنفسي ويدل عليه حديث (أجعل لك صلاتي كلها، قال: إذن تكفى همك ويغفر ذنبك، وحين قال: أجعل لك ربع صلاتي، قال:
وإن زدت فهو خير لك) (2) فقل لي أين من يفقه عن الله تعالى
Shafi 35