Farkon Zamani Batalima
بداءة عصر البطالمة: محاضرة ألقيت في المؤتمر الثامن للمجمع المصري للثقافة العلمية
Nau'ikan
بداءة عصر البطالمة
تعليقات وشروح
المراجع
بداءة عصر البطالمة
تعليقات وشروح
المراجع
بداءة عصر البطالمة
بداءة عصر البطالمة
محاضرة ألقيت في المؤتمر الثامن للمجمع المصري للثقافة العلمية
تأليف
Shafi da ba'a sani ba
إسماعيل مظهر
بداءة عصر البطالمة
بطلميوس الأول «سوطر» وبطلميوس الثاني «فيلادلفوس»
يحرص أعضاء هذا المجمع شديد الحرص على أن يحققوا ببحوثهم الأغراض التي أنشئ لخدمتها، ونشر الثقافة العلمية في اللغة العربية من أغراضه الأساسية، بل إنه الغرض الأسمى الذي يرمي إليه هذا المجمع وجمهرة المثقفين من أبناء هذه البلاد. لهذا قد يتبادر إلى البعض أن إلقاء محاضرة في «بداءة عصر البطالمة» فيه إقصاء للمجمع عن أغراضه الأصيلة، على اعتبار أن مسائل التاريخ ومشكلاته من الأدب لا من العلم. ولعل للذين يذهبون هذا المذهب مبررات كثيرة، غير أن مشاكل التاريخ ومسائله إن كانت إلى الأدب أكثر منها إلى العلم، فإنها تحتاج إلى أسلوب البحث العلمي؛ تحتاج إلى الاستقراء والمقارنة ومناقشة المقدمات واستخلاص النتائج، وبذلك يستولي عليها العلم بسلطانه الواسع. ويمكن بذلك أن نبرر، من طريق اتصال التاريخ بأسلوب البحث العلمي، أن ندخل في أغراض هذا المجمع بحث مشكلات التاريخ والفحص عن مسائله.
ولكن من الواجب أن أشير هنا إلى حقيقة قد تكون مؤلمة بعض الشيء؛ فإننا في التاريخ - بل وفي كل فروع المعرفة التي ندرسها - لا نجد بين أيدينا من المراجع الأصيلة شيئا يستعان به في الدرس والمقارنة والاستقراء. فكل المدونات التاريخية التي يتخذ بحثها أصلا للدرس، لم ينقل منها إلى العربية غير كتاب أو كتابين، يفضل الباحث الرجوع إلى أصولهما الأعجمية، من أن يظل مكبا على فك تلك الألغاز التي يرميه بها أسلوب الجمل العربية فيهما. أضف إلى ذلك أن مكتبة المدونات التاريخية - وبخاصة القديمة منها، وهي مادة التاريخ الأساسية - تعد مجلداتها بالمئات، ومن الواجب نقل هذه المدونات إلى اللغة العربية. والمؤسسة التي ينبغي لها أن تضطلع بهذا العمل الكبير، هي الجامعة المصرية، وكلية الآداب منها خاصة. وإني لأعتقد أنه لا يكون لنا أدب خاص تتجلى فيه مظاهر الفكر المصري الصميم، إلا بعد أن نعنى بنقل الأصول الصحيحة في مختلف فروع المعرفة؛ فإن جهلنا بهذه الأصول قيد يقيد الفكر، ولا ينتعش الفكر إلا في جو الحرية، فلنبدد القيود! هذا إذا أردنا أن نحيي الفكر المصري، ونجعل له طابعا خاصا. •••
في خريف سنة 332ق.م غزا مصر تحت إمرة الإسكندر المقدوني، جيش من المقدونيين والأغارقة، عدته أربعون ألف مقاتل.
ولقد استطاع المصريون، عقيب كل غزو دهمتهم به أمة أجنبية كالهكسوس وغيرهم، أن يستردوا حريتهم المرة بعد المرة، وأن يقيموا على عرش بلادهم أسرا من الفراعنة، تحيي تقاليد الحكم والثقافة واللغة؛ تلك التقاليد التي نشأت وربت في مدى عصور لا تعيها الذكريات. ولكن هذه الغزوة كانت آخر عهد الملوك - الذين تجري في عروقهم الدماء الفرعونية - بالحكم على ضفاف النيل، وإلى آخر الدهور. فمنذ أن وفد الإسكندر إلى مصر، خضعت مصر ألف سنة لحكام هلينيي الحضارة من مقدونيين ورومان. وفي نهايتها اندمجت مصر في الإسلام فبدلت تبديلا، وأصبحت لها لغة أخرى، ونظام اجتماعي لا عهد لها به، ودين جديد، ونبذ الآلهة الذين عبدوا فيها على أنهم آلهتها الخواص الآلاف من السنين نبذا أبديا، ثم دفنوا في ثراها.
وبقي المصريون طوال ثمان وستين ومائتين وألفين من السنين، تتوالى عليهم وعلى بلادهم الأحداث. حتى هيأت لهم الظروف مرة ثانية أن يستردوا حريتهم سنة 1936، وأن يعود الدم المصري الذي جرى من قبل في عروق الفراعنة إلى تقلد زمام الأمر على ضفاف النيل المقدس. وبهذا نضيف إلى سلسلة المجد التي أفرغ أول حلقاتها آباؤنا منذ ستة آلاف سنة أو تزيد، حلقة جديدة، لعلنا لا نخطئ إذا ترقبنا أنها ستكون أمجد الحلقات.
وما أجدرنا ونحن نستقبل عهدا جديدا؛ عهدا من الاستقلال والحرية، ألا ننسى الماضي، وأن نتخذ من أحداثه عبرا، تنير سبيلنا في عالم تتجمع في جوه عواصف القدر، عواصف أشبه بتلك التي أخذت تتجمع في جو الدنيا في أواخر عصر بطلميوس الأول.
في شهر يونيو من سنة 323ق.م حدث بالإسكندر حدث الموت فجاءة بمدينة بابل، بعد أن أسس قيصرية مقدونية أقامها على أملاك القيصرية الفارسية القديمة وزاد عليها. وبعد موته بخمسة أشهر، هبط مصر «بطلميوس بن لاغوس» واليا عليها من قبل ملك مقدونيا الجديد «فيلبس أرغيدايوس».
Shafi da ba'a sani ba
1 (1) وكان الملك الجديد، أخو الإسكندر من أبيه، أحمق ضعيف العقل، فانتقل السلطان كله إلى القواد المقدونيين، الذين خدموا تحت إمرة الإسكندر، وبخاصة في يدي «فردقاس» (2) الذي إن ظلت حقيقة الوظيفة التي شغلها خفية على الباحثين في العصور الحديثة، فإنها كانت موضع خلاف وجدل بين عظماء المقدونيين في أثناء المعارك المهوشة، التي تلت موت الغازي الأعظم، وتركه الميدان فجأة. ولا خفاء في أن «فردقاس»، وكان أقوى رجل في بابل، قد عقد النية على أن يعمل بدعوى الوصاية على القيصرية، ولكن حدث في تلك الآونة أن اتفق القواد في ندوة عقدوها على توزيع جديد للولايات؛ ليختص كل منهم بولاية منها.
وفي تلك الفترة التي ملأ جوها الشك، وسادتها الفوضى، اتجه نظر «بطلميوس» توا وبحزم نحو مصر، وهي الشيء الذي أراد أن يختص به، ولقد منحه «فردقاس»، وبالحرى مجلس القواد، الإمارة التي رغب فيها باسم الملك الأحمق، فسارع مرتدا إلى موضع أمين، بعيد عن ميدان المواقع التي ترقب نشوبها. ولا بد من أن تكون قد دارت مساومة بين «فردقاس» و«بطلميوس». وكانت مصر وتنصيب «أرغيدايوس» (3) (أحد الزعماء المقدونيين لا الملك) مشرفا على نظام الجنازة الملكية، الثمن الذي تقاضاه «بطلميوس» تلقاء اعترافه بدعوى «فردقاس».
2
وفي رواية أثبتها «ديودورس»
3 (4) أن من الأشياء التي تم اتفاق القواد عليها في بابل، أن يدفن جثمان الإسكندر في معبد أبيه الأقدس «أمون» بواحة «سيوة». وعهد إلى «أرغيدايوس» أحد القواد أن ينشئ عربة جنائزية فخمة، وأن ينظم مشهدا لتشييع الجثة لم يسبق له من مثيل عظمة ومهابة. ولقد تبادر إلى بطلميوس أنه مما يزيد الولاية التي أراد أن تكون من نصيبه كرامة ومجدا، أن تضم رفات البطل المقدوني العظيم، فتصبح بقاياه بمثابة نصب قدسي، لا حد لسلطانه على عقول الناس.
ولا شك أن مدينة «أيغا» (5)
Aegæ
مقر ملوك مقدونيا ومربى الأسرة الملكية، كانت أمثل مكان يتلقى رفات «الإسكندر»، ولا يبعد أن تكون الفكرة قد اتجهت إليها أول الأمر؛ لتكون لجثمان العاهل المقر الأخير، لا الواحة المنفردة المعزولة، هذا على الأقل ما استقر عليه رأي «فردقادس». ولكن «بطلميوس» عاجله، وكان «فردقاس» في آسيا الصغرى، فعمل «أرغيدايوس»، باتفاق سابق مع «بطلميوس»، وخرج من «بابل» بمشهد الجنازة الملكية، سالكا الطريق الذي يؤدي إلى مصر. أما إذا كانت الجثة سوف تنقل إلى سيوة، فلا بد من أن تعرج على «ممفيس» أولا، ما لم تنقل إلى «فرطونيوم» (6) بحرا.
ولا يبعد أن يكون «أرغيدايوس»، عندما غادر بابل، قد عدل عن الذهاب بالجثة إلى الواحة. غير أن «بطلميوس» استقبل مشهد الجنازة في سورية، ومعه حرس عظيم تام القوة والعدة، وتولى زمام الأمر. ولما وصل المشهد إلى «ممفيس» (7) بقي بها، ولم يتقدم خطوة نحو سيوة. ولا ندري أعقد «بطلميوس» (8) العزم منذ ذلك الحين على أن تكون الإسكندرية مقر الإسكندر الأخير؟ غير أن «فاوزنياس» (9) يقول: إن الجثة بقيت في «ممفيس» حتى نقلها ابن «بطلميوس» إلى «الإسكندرية»، بعد أربعين سنة من ذلك العهد.
4
Shafi da ba'a sani ba
ولقد اتفق «ديودورس» و«إسترابون» وغيرهما من ثقاة الأقدمين على أن «بطلميوس» الأول هو الذي أودع «السيما» (10) في مدينة الإسكندرية، جثمان الإسكندر، حيث ظلت فيه إلى العهد الروماني. ولا يبعد أن يكون ذلك القول حقا، وأن ما في رواية «فاوزنياس» من حقيقة، لا يتعدى أن الجثة بقيت في «ممفيس» بضع سنوات، حتى تمت إقامة الضريح بالإسكندرية، ثم نقلت إليه. وأبان «مهفي» (11) أن الطريق المسلوك من سورية إلى الإسكندرية، لم يكن عبر الدلتا، ولكن عن طريق «ممفيس». والراجح أن «فاوزنياس» كان يرتكن إلى حقيقة تاريخية وثيقة؛ إذ يعد من نقائص بطلميوس الثاني نقله جثة الإسكندر من مقرها في «ممفيس» إلى الإسكندرية. ومهما يكن من أمر ذلك، فإن الشواهد تدل على وجود نظام ديني رسمي أنشئ في عهد بطلميوس الأول. وكان من خصائص كاهنه الأكبر، أن يعين بدء السنين لتأريخ الصكوك في أنحاء المملكة، وكان الكهنة يسجلون في صكين بإشراف منلاوس (12) أخي الملك. ومنذ ذلك الحين فصاعدا، كان كاهن الإسكندرية رئيسا لشعبة الحكومة الدينية. والراجح - ولو لم يذكر ذلك - أن منلاوس كان كاهن الإسكندرية، فإذا صح ذلك، فإن هذه الشعبة الدينية الرسمية، كانت مستقرة أصلا في هيكل اتخذ ضريحا للإسكندر في مدينة «ممفيس»، ومن ثم نقله «بطلميوس» الثاني إلى «السيما» بمدينة الإسكندرية.
5 •••
كان البطل المقدوني الذي يحمل الاسم الإغريقي «إفطولماوس»
6
والذي هبط مصر سنة 323ق.م حاكما جديدا عليها، من سلالة رجل يدعى «لاغوس» (13)
Lagos or laagos
والرسم المطول للاسم مذكور في ورقة البردي التي كتبت في ذلك العصر ووجدت بجزيرة «ألفنطينية» (14)، ويرجح أنها عين اللفظة الإغريقية، «لا-آغوس»
La-agos
ومعناها زعيم الشعب أو الأمة.
7
Shafi da ba'a sani ba
وبعد أن تسنم بيت بطلميوس ذروة العظمة العالمية، أخذت الثقة بالقول بنشوء البيت من صلب «لاغوس»
Lagos
المغمور، يدخلها الشك وتساورها الريب. وهنالك قصة يظهر أنها وضعت عمدا، تروي أن بطلميوس سأل أحد النحويين عن أبي «فيلوبس» (15)، وهي مسألة ميثولوجية غامضة، فبادره ذلك النحوي بالقول متهكما: «أخبرك به إذا أخبرتني أولا عمن كان والد لاغوس». ويغالي «يوستن» (16) بأسلوبه الخطابي، في إظهار الفرق بين أصل «بطلميوس» الوضيع وما أصبح فيه من عظمة، فيقول إن الإسكندر رقاه من الصفوف. غير أننا نعرف يقينا أن «بطلميوس» كان في صباه من النبلاء الملحقين بخدمة الملك في بلاط «فيلبس»، وأنه كان من أصدقاء الإسكندر المقربين إليه قبل اعتلائه العرش.
8
وكانت أمه تدعى «أرسنوية» (17)
Arsinoe
وقد ألحقها صك النسب الرسمي، فيما بعد، بأقرباء الأسرة المالكة، ولا يبعد أن يكون ذلك حقا. كذلك حاز «بطلميوس» كثيرا من المراتب الرفيعة في غزوات الإسكندر، حتى لقد أصبح أحد الحراس السبعة الذين يلازمون الملك، وكان له في الهند - على الأخص - أثر رئيس. •••
كان «بطلميوس» على قدر ما نستشف الحقائق من حجب الزمان أيدا ذا مرة، من ذلك الطراز المقدوني المملوء فتوة، وفيه من النهى ما يتصف به زعماء الأمم التي يكون أفرادها زراع الريف، فكان ثاقب الفكر أريبا، حذرا نافذ البصيرة، يجنح دائما إلى أن يكون في كل عمل يأتيه إلى جانب الأمن والسلام؛ ليفوز بغنائم مادية محققة الفائدة. وكان فوق ذلك حيواني الشهوات، فاستمتع وأرضى شهوته بكثير من النساء. ولكن كان فيه من الظرف وأنس المعشر ما جعل كثيرا من الجنود البارزين يلتفون من حوله، وافدين إليه من نواحي العالم الإغريقي. وعلى الجملة كان رجلا فتيا، بدنا وعقلا، وليس خوارا ضعيفا.
كان يتذوق الأدب الإغريقي ويحبه، شأن شباب المقدونيين من أهل الطبقات العليا، وكانوا قد عكفوا مدى أهل أو أهلين، على تعلم الإغريقية كلاما وقراءة. ولم يكتف «بطلميوس» بأن يستهبط أدباء الإغريق وفلاسفتهم وفنانيهم بلاطه الملكي، بل كان مؤلفا أغنى أدب التاريخ الإغريقي بمؤلفات موثوق بها، وله في غزوات الإسكندر مؤلف امتاز بالصدق في رواية الحقائق، والاحتراز من الترسل الخطابي.
هذا مثل من الرجل الذي هبط مصر واليا عليها من قبل الملك «فيلبس أرغيدايوس» والملك الإسكندر القاصر، وهو الطفل الذي أعقبه الإسكندر الأكبر، وكان «بطليموس» في ذلك العهد، يبلغ من العمر الرابعة بعد الأربعين. •••
Shafi da ba'a sani ba
قضت القرارات التي أبرمت في بابل أن يبقى «إقليومنس» (18) وكان من صنائع «فردقاس» وكيلا لبطلميوس، حتى يصبح سلطانه في مصر بمثابة عقبة تشل مطامع الوالي الجديد. ولكن «بطلميوس» استولى على جثة الإسكندر عنوة، متحديا بذلك «فردقاس» مزدريا به، فكانت الحرب المكشوفة بين الوالي ووصي الملك، كما كان منتظرا أن يكون. ولا شك في أن «إقليومنس» كان يستطيع أن يظل عقبة في وجه «بطلميوس»، ما دام هذا يخشى أن يجابه «فردقاس» علانية، أما وقد جابهه جهرة، فلا أقل من أن يوجه «بطلميوس» تهمة إلى «إقليومنس» تنتهي بإدانته، ثم بقتله. ولم يرتب «بطلميوس» في أن «فردقاس» سوف يهاجمه بكل ما يستطيع من قوة، حالما تطلق يده في الأمر. ولكنه برغم هذا، مضى يوسع من أطراف مملكته على شاطئ البحر المتوسط الأفريقي بامتلاك «قورينا» (19)، المستعمرة الإغريقية القديمة، وربائبها من المدن.
وكانت الحرب الأهلية قد استعرت في تلك الأصقاع، خلال عصر الفوضى الذي عقب موت الإسكندر، فرأس مرتزق
Condottiere «إسبرطي» يدعى «ثبرون» (20) أحد الأحزاب، ورأس كريتي يدعى «إمنا سقلس» (21) حزبا آخر. فهبط مصر لاجئون من الحزب المهزوم يتشفعون بواليها أن يتدخل في الأمر، فأرسل «بطلميوس» قوة حربية، برية وبحرية، تحت إمرة «أفلاس» (22) وهو «أولنثي» (23) كان في خدمته؛ ليحتل البلاد. فجمع المرتزقان قواهما ليواجهاه بها، غير أن «أفلاس» نكل بهما، وأسر «ثبرون» وصلبه. ثم وفد «بطلميوس» بنفسه ليفتح «قورينا» وكان ذلك في أواخر سنة 322ق.م.
ولا شك في أن إذلال دويلة نبه ذكرها ولمع سناها، بيد عامل مقدوني، ومن ورائها تقاليد قرن بطوله متعت فيه منذ أن سقطت أسرتها الإغريقية الحاكمة بالحرية الجمهورية، كان حدثا له أثره البالغ في العالم الإغريقي. ولم يسبق لأهل «قورينا» أن عالجوا الخضوع وذلة الحكم الأجنبي؛ ولذا قدر لأهل هذه المدينة أن يكونوا في مستقبل أيامهم شوكة حادة في جنب الملوك المقدونيين في مصر، بدل أن يكونوا مصدر قوة وعزة لهم. ومع هذا فقد أمدت قورينا مصر البطلمية، كما أمدت أيرلندا بلاد بريطانيا، بعدد من الرجال النابهين مثل «قليماخوس» (24) الشاعر و«أراطوثنيس» (25) الجغرافي، وعدد عديد من رجال الحرب. فإن قراطيس البردي تحصي من القواد المستعمرين للفيوم ومصر العليا، عددا من «القورينيين» تلفت نسبته الأنظار، وترك بطلميوس «أفلاس» حاكما على تلك البقاع إلى حين.
وحدث هجوم «فردقاس» على مصر في خريف سنة 321ق.م ولقد ظهر في تلك الآونة مقدار الحكمة التي أبداها «بطلميوس» في أن يتخذ لقوته قاعدة برية يصعب مهاجمتها؛ فإن «فردقاس» عجز عن أن يقتحم فرع النيل الشرقي، وقتل في معسكره. وكان من الجائز أن يظفر «بطلميوس» إذ ذاك إلى مكانته، ولكنه كان يعلم حق العلم، أن من الأصوب أن يظل حاكما لمصر، على أن يكون وصيا على القيصرية.
كذلك حدث في خريف سنة 321ق.م أن عقد المنتصرون من زعماء الحزب الذي كان ينابذ «فرقاس» اجتماعا في «إتريفاراديسوس» (26)، وهي محلة يظهر أنها كانت في ناحية ما من شمال سورية، وأبرموا اتفاقا جديدا، أقروا فيه توزيع الوظائف وحكم الولايات في أنحاء القيصرية، وتم على أن يظل لبطلميوس الولاية على مصر وبرقة.
في خلال أربعين سنة تلت ذلك العهد، وهي سنون اشتعلت فيها نيران الخلاف بين الزعماء المقدونيين الذين تعلموا فن الحرب تحت إمرة الإسكندر، ظل «بطلميوس بن لاغوس» في ولايته الأفريقية، آمنا أمن السلحفاة حوتها الصدفة، والجيوش تمر رواحا وجيئة عبر آسيا، والأساطيل تطاحن في بحر «أيغا».
غير أن «بطلميوس» كان يخرج بعض الأحيان من صدفته، ولكن بقصد وقدر؛ ليشترك في الملحمة الدائرة، ذلك بأن القوة الحربية التي حكمت مصر بعد الفراعنة كانت ذات صبغة هلينية (27)، ولها علاقات عديدة - سياسية واقتصادية وثقافية - بغيرها من الدويلات الإغريقية الأخرى. وأخذت هذه القوة تولي وجهها شطر الشمال؛ أي في اتجاه البحر، ومن خلال الإسكندرية، وملء نفسها مصالح لم تجش في صدر أحد من وطنيي الفراعنة.
وفي الوقت الذي رغب فيه «بطلميوس» رغبة صادقة في أن يظل كرسيه وقوته في أمن وسلام في داخل إقليم النيل، مضى يتطلع إلى أقاليم مجاورة يحتلها؛ لتكون لمصر ربائب وتوابع، وأن يكون له من الجزائر وشواطئ بحر الروم مواطن ارتكاز تأوي إليها قواته الحربية: برية وبحرية؛ ذلك بأن مصر البطلمية قد أصبحت دولة أكثر نشدانا لمصالحها في حوض البحر المتوسط منها دولة أفريقية، على العكس من مصر الفرعونية، وقد كانت تمد سلطانها أحيانا إلى جوف السودان؛ فإن البطالمة لم يعنوا أبدا بأن يغزوا من أعالي النيل أرضا تقع بعد الشلال الأول. ولكن «بطلميوس» أحب أن يملك جنوب سورية، كما أحب ذلك الفراعنة الذين درجوا من قبله؛ لتصبح دريئته من الشرق، كما أن برقة دريئته من الغرب. وأحب أيضا أن يملك جزيرة قبرص، كما فعل الملك «أحمس» (28) في القرن السادس قبل الميلاد، وأن يتقدم خطوة أخرى فيبسط سلطانه على أغارقة الجزر الأيغية (29)، وعلى بقاع من آسيا الصغرى، بل على بقاع من إغريقية القديمة بالذات.
وإلى هذا الحد حاول «بطلميوس» أن يمتد إلى خارج صدفته، ليخاطر ويمعن في المخاطرة؛ فإن مصر إذا شاءت أن تصبح دولة قوية هانئة، معتدا بها في معترك السياسة والتجارة العالميين، فإنها لن تصل إلى ذلك إذا هي بقيت حبيسة في داخل حدودها، مكفية الحاجة بغلاتها، منها وإليها ؛ فإن الخشب الضخمة التي ينتفع بها في بناء السفن، لا أثر لها في وادي النيل، وكانت ترد مصر من جبال «لبنان» ومن تلال «قبرص». والطريق التجاري الذي كان يختط طوال النيل من الإسكندرية وإليها، كان له خصيم؛ هو ذلك الطريق الذي كان يمر من خليج العجم عبر بلاد العرب إلى «غزة»، ولا شبهة في أن من فائدة من يحكم مصر، أن يحتكم في الطريقين معا. •••
Shafi da ba'a sani ba
لما كان هذا البحث خاصا بفترة من تاريخ مصر، وموضوعه أمس بها مما هو ببيت بطلميوس بالذات، فإنه مما يخرج عن نطاقه ومرماه، تتبع أعمال «بطلميوس» وخليفته وأوجه نشاطهما في الحرب والسياسة، من حيث إنهما قوة من قوى العالم الإغريقي. وليس لنا على أية حال أن نلحظ دوران السياسة العالمية وصروفها، إلا بقدر ما يمس تاريخ مصر الداخلي، ففي خلال عامين بعد تسوية «إتريفاراديسوس»
9
امتلك «بطلميوس» سورية من حدود لبنان جنوبا، وهي الرقعة التي نسميها اليوم فلسطين، وكان يسميها الأغارقة سورية الخالية
Cœle Syria ، وهو اسم أخذ من منخفض وادي الأردن، وكان حاكم هذه المنطقة بتسوية «إتريفاراديسوس» إغريقي من «أمفيبولس» (30) يدعى «لومادون» (31) فساومه «بطلميوس» أول الأمر في أن يشتري منه البلاد، فلما رفض احتلها عنوة. وفي هذا الظرف عقد «بطلميوس» النية على أن يفتح «أورشليم» (32) يوم السبت، وفيه يحظر الدين على اليهود أن يقاوموا بأية صورة، ولأي سبب.
10
أما «بوشيه لكلار» فيرجح أن ذلك وقع سنة 312ق.م غير أنه مما يشق على بطلميوس أن يفوته الاستيلاء على مدينة ذلك الشعب الفذ (وكان الإغريق يعتقدون أن في اليهود فذاذة) عندما بسط سلطانه على فلسطين بين سنتي 320 و318 قبل الميلاد.
لما قفل «أنطيغونس» (33) عامل «فروغيا» راجعا من الولايات الشرقية في سنة 316ق.م بعد انتصاره على بقايا حزب «فردقاس» أصبح في نظر أحلافه القدماء في منزلة «فردقاس» خطرا عليهم. وكان «سلوقوس» (34) عامل «بابلونيا» (35) قد هرب إلى مصر، وتكونت شعبة جديدة من الزعماء تنابذ «أنطيغونس». على أن احتلال «بطلميوس» سورية الخالية، قد زود كل المتطلعين إلى الاستيلاء على الإمبراطورية بسبب للشكوى، له خطره ووزنه. ففي سنة 315ق.م غزا «أنطيغونس» سورية الخالية، فارتد «بطلميوس» أمامه مستهديا ببصيرته النقادة، وانكمشت السلحفاة في داخل صدفتها، واحتل «أنطيغونس» مدن الشاطئ السوري حتى «غزة». ولكن أسطول «بطلميوس» تحت إمرة «سلوقوس» كان في الوقت نفسه يشن الغارات بحرا على «أنطيغونس». وأنزل «بطلميوس» قوة حربية في قبرص، وكان سكان الجزيرة، وهم أخلاط من الأغارقة والفينيقيين، منقسمين شيعا، وكل مقاطعة من مقاطعاتها العديدة خاضعة لحاكم مستقل استقلالا جزئيا، وكان بعضهم من ممالئي «أنطيغونس». فاحتل «بطلميوس» ولايات صولي (36) وسلاميس (37) وفافوس (38) وختري (39). ولما أن وطئت قوات «بطلميوس» ثرى الجزيرة، أخذ سلطانه يمتد ويثبت في أطرافها، وكان يريد أن يتخذها قاعدة بحرية يناجز بها «أنطيغونس» الذي تملك كل الموانئ الفنيقية الواقعة على الشاطئ السوري.
في سنة 313ق.م فقد «بطلميوس» سورية الخالية، كما فقد «قورينا» إلى حين. فإن هذه المدينة بعد أن خضعت تسع سنوات لسلطان حاكم مقدوني غريب عنها، ثارت، وحاصر أهلها حامية «بطلميوس» في القلعة، ولكنه وجه إليها مددا حربيا، قضى على الثورة، وأخضع المدينة لسلطة «أفلاس» حاكمها. وفي هذه السنة نفسها هبط «بطلميوس» جزيرة «قبرص» وأتم غزوها، ثم قتل أمير «قطيوم» (40) الفنيقي واسمه «فوماياطون» (41) أو (فغماليون) وكان من صنائع أنطيغونس.
وفي سنة 312ق.م خرج «بطلميوس» من مصر مرة أخرى، وزحف على فلسطين؛ ليشد عليها بجيشه، لعله يستردها. وكان أنطيغونس قد ترك فيها ابنه «دمطريوس» (42) وهو فتى في العشرين من عمره، قائدا على حاميتها. ولقد قدر لهذا الفتى أن يكون ذا مستقبل باهر مملوء بالمجازفات الفذة، حتى عرف في التاريخ باسم المحاصر
، ولكنه هزم في المعركة التي دارت في خريف سنة 312ق.م على حدود فلسطين، أمام المجرب الكبير الذي حارب في صفوف الإسكندر. وكانت هزيمته كاملة، مزقت شمل جيشه.
Shafi da ba'a sani ba
وتعتبر معركة غزة بدء عصر تاريخي، فإنه عقيب الهزيمة التي مني بها «دمطريوس» وجد سلوقوس أن الطريق ممهود أمامه ليعود إلى بابل. ومنذ ذلك الوقت بدأ تاريخ الدولة السلوقية في آسيا، وللمرة الثانية تم امتلاك بطلميوس لفلسطين، وعاد سلطانه على المدن الفنيقية.
وسرعان ما قلب الحظ لبطلميوس ظهر المجن فجاءة، شأن الحياة في تلك الأيام المرتجة الخئون. فإن «دمطريوس» هزم جيشا لبطلميوس سنة 311ق.م في شمال سورية، وسارع أنطيغونس بالزحف منحدرا نحو فلسطين من الشمال. وللمرة الثانية انسحب «بطلميوس» من فلسطين، منكمشا في داخل صدفته. وفي ذات الوقت ثارت قورينا مرة أخرى، ولكنها لم تثر على أفلاس، بل تحت إمرته وبزعامته.
وكانت فترة عصيبة على «بطلميوس»، ففي سنة 311ق.م عقد وحليفاه من الزعماء المقدونيين؛ قصندر (43) حاكم مقدونيا، و«لوسيماخوس» (44) حاكم «تراقيا» (45) معاهدة مع «أنطيغونس» ترك ل «لبطلميوس» بمقتضاها سورية الخالية. ولم تكن إلا برهة تصعد فيها الأنفاس بعد طول الجلاد والعراك، لم تلبث الحرب أن عادت بعدها سجالا، كما كانت من قبل. وانحصرت جهود «بطلميوس» حينذاك في أن يمد سلطانه على البحار. ولئن فقد سورية الخالية وفنيقية، فإنه كان مالكا جزيرة «قبرص».
ومضى الزعماء المقدونيون يدعون الأمانة لمبدأ «الاستقلال الذاتي للهلينيين» (46)، واعتمادا على هذه الدعوى، كان كل منهم يطرد جيش زميله من أية مدينة إغريقية يحتلها؛ ليثبت مكانه قدم جيشه، بدعوى أنه حامي حريات المدينة.
ونشطت قوات بطلميوس البحرية في خلال الأعوام التي تلت سنة 311ق.م متخذة من شواطئ آسيا الصغرى مرسحا لجولاتها الحربية، مغتصبة - حيثما استطاعت - مدنا من قوات «أنطيغونس». وسعى وسطاء «أنطيغونس» في أن يشتروا أمراء «قبرص» بالمال؛ ليناصروا دعواه، فنجحوا مع واحد منهم، أو على الأقل اعتقد بطلميوس أنهم نجحوا، ولا ندري أكان هو «نيقوقلس» (47) أمير فافوس، على ما يقول «ديودورس»؟ أم «نيقوقريون» (48) أمير «سلاميس» الذي كان حاكما عاما من قبل بطلميوس على الجزيرة؟
11
وسواء أكان هذا أم ذاك، فإن بطلميوس أجبره على أن ينتحر. ومهما يكن من أمر ذلك، فإن بطلميوس استطاع أن يحتفظ بالجزيرة مؤقتا، برغم الدسائس التي كان يحيك عدوه شبكتها من حوله. وفي سنة 308ق.م
12
تمكن من أن ينزل بقوة حربية في إغريقية نفسها، واحتل «ماغرا» (49) «وقورنثوس» (50) و«سقيون » (51). وفي تلك السنة نفسها خطا أول خطوة في سبيل بسط الحماية البطلمية على أرخبيل «قوقلادس» (52) في بحر أيغا، بأن حرر جزيرة «أندروس» (53) من حامية معادية له كانت بها. وقد قدر لهذا الأرخبيل أن يصبح في مقبل الأيام عاملا ذا بال في التسلط على البحر المتوسط. ومن الجلي أن جزيرة «دلوس» (54) كانت بمنزلتها الدينية، المحور السياسي في جزائر ذلك الأرخبيل، فاغتصبها «بطلميوس» وفصلها عن أثينا (55). وقد ظلت هذه الجزيرة تابعة لها حوالي مائتي عام. وجاء في قائمة أحصيت بها مملوكات الهيكل في «دلوس» ذكر آنية عليها إهداء من «بطلميوس بن لاغوس» إلى «أفروديت»، ويرجح أن جيشا تحت إمرة «ماغاس» (56)، ابن زوجة «بطلميوس»، استرد برقة سنة 308ق.م ثم ظل بها حاكما.
13
Shafi da ba'a sani ba
في سنة 306ق.م تحطمت قوى «بطلميوس» البحرية، وحلت بها كارثة عظمى؛ فإن «دمطريوس» هاجم جزيرة قبرص على رأس أسطول، ونشبت معركة بحرية بالقرب من «سلاميس»، فأوقع «ببطلميوس» هزيمة، تشبه في مرارتها ونتائجها الهزيمة التي أوقعها به «بلطميوس» في «غزة» (57) قبل ست سنوات، وراح كثير من رجاله أسرى، ومنهم أخوه «منلاوس» حاكم الجزيرة، و«ليونتسقوس» (58) ولده من إحدى حظاياه الكثيرات، ومعهما عدد من كبار ضباطه. غير أن «دمطريوس»، بما عرف عن أشراف المقدونيين من نبل الأخلاق في معاملة بعضهم بعضا، وتنويها بروح الفروسة، رد إلى «بطلميوس» كل من أسر من النبلاء، بغير فدية. وقضي بذلك على حكم بطلميوس في جزيرة قبرص (59) وأتت الهزيمة على قوته البحرية إلى حين.
كذلك فقد بطلميوس في معركة واحدة نتائج كل الجهود التي جهدها خلال ستة عشر عاما ليملك في خارج أفريقية: (60) سورية وقبرص. ولكن بقيت له «مصر وقورينا»، فظل السيد المطلق اليد في مملكة النيل، الغنية بالمال والأرواح، المقفلة الحدود أمام العالم كله بالصحاري القاحلة، والشواطئ الخشنة، التي لا تئوي سفينا. وبالرغم من كل هذه الكوارث الشداد، استطاع «بطلميوس» أن يتريث، وأن ينتظر انقلاب دورة الحظ متلبثا، فانسحب بسلام من وسط العاصفة التي كانت ترسل بأهازيجها في الخارج. ولقد بان أن حكمته في اختيار هذه الخطة، كانت أبلغ مما ظهر بديئة الأمر. •••
كان موقف «بطلميوس» في مصر خلال ذلك الوقت، غيره عندما هبطها سنة 323ق.م؛ فإنه في تلك السنة لم يكن أكثر من وال تابع للملكين «فيلبس أرغيدايوس» (61) والملك «الإسكندر الصغير» (62). أما «فيلبس أرغيدايوس» فكان قد قتل سنة 317ق.م بسعاية أم الإسكندر الأكبر. كما قتل الملك قصندر (63) الملك «الإسكندر الصغير» سنة 311ق.م؛ فلم يصبح هنالك أي وزن للقول بوجود قيصرية مقدونية موحدة. غير أن القواد المقدونيين لم يجنحوا توا إلى الألقاب الملكية، بعد موت الإسكندر الصغير. وكان أنطيغونس أول من فعل ذلك في سنة 306ق.م بعد انتصار سلاميس (64). وتدلنا المراجع على أن «بطلميوس» تابعه في ذلك وشيكا؛ ليظهر بذلك أن الهزيمة لم تلن قناته، ولم تفل من عزمه. ومذكور في «سجل الملوك» الإسكندري أن ملوكية «بطلميوس» لم تبدأ قبل نوفمبر سنة 305ق.م وذلك ما يؤيده عدد من أوراق البردي «الديموطيقية»
14 (65)، على أن المراسيم الرسمية في مصر، استمرت تؤرخ إلى ذلك العهد بسنوات «الإسكندر الصغير»، حتى من بعد موته،
15
احتفاظا بمظهر وهمي. غير أن هذا الوهم كان له أثره في أن يحتفظ بطلميوس بعرش ظل شاغرا طوال فترة توسطت حكم ملكين، وقد ترقب فيها «بطلميوس» سير الحوادث؛ ليعين أي شكل سوف يتشكل به حكمه في مصر، والدنيا من حوله في حالة لم يسبق لها من مثيل.
ولقد يظن أن تغيير لقب «بطلميوس» من وال إلى ملك، أمر غير ذي بال، ولكن يجب أن نعي أنه إذا كانت سيادة ذلك الصبي الذي كان يقيم بعيدا في مقدونيا، لم تكن أكثر من وهم، حتى حال حياته، فإنه كان وهما له أثره في عقول الجماهير الغفيرة التي تعيش على ضفاف النيل؛ فإن المصريين كانوا يرون فيه شخصا مقدسا، يكمن من وراء ذلك الدولاب الحكومي الظاهر، وينعت بنفس الصفات والألقاب التقليدية القديمة التي كانت تخلع على فراعينهم مثل «حوروس الفتى» (66) و«صاحب التاجين» (67) و«سيد العالم كله» (68) و«ملك الوجهين: البحري والقبلي» (69) و«قرة عين آمن» (70) و«المختار من الشمس» (71)، وأن حاكمهم الجديد «إبطلوميس»
16 (72)، كما كان يدعوه المصريون غالبا، إنما هو حاكم حازم، قوي الشكيمة، يحكم باسم فرعون ، شأن «عونا» (73) في الزمان الخالي. •••
في لوح هيروغليفي استكشف في القاهرة سنة 1871، ويرجع تاريخه إلى صيف سنة 311ق.م عبارات تبين بعض الشيء عن علاقة «بطلميوس» بالكهنة الوطنيين، في خلال الوقت الذي كان فيه واليا اسميا للملك الإسكندر الصبي.
17
Shafi da ba'a sani ba
وقد جاء فيه:
في سنة سبع (أي: في السنة السابعة من حكم الملك الصبي الإسكندر الرابع، الذي بدأ حكمه الشكلي بعد موت فيلبس أرغيدايوس) عند بدء الفيضان، لما كان الفتى المشمول بقداسة حوروس الكلي القوة، صاحب التاجين، المحبوب من الآلهة الذين منحوه عظمة أبيه، حوروس الذهبي (74)، سيد الدنيا بأسرها، ملك الوجهين البحري والقبلي، وصاحب الأرضين، فرحة قلب آمن (75)، المختار من الشمس، ابن الإسكندر الخالد، صديق آلهة مدينتي «بي» (76) و«تب» (77)، ملكا في بلاد الأجانب بداخلية آسيا، كان في مصر حاكم عظيم اسمه بطلميوس.
كان قويا فتيا، مفتول الساعدين، متزن العقل والروح، حازما بين الناس، شجاع القلب، ثابت القدم، ينكل بالعابثين المرهبين، لا ينكص على عقبيه، بل يضرب أعداءه في وجوههم أثناء المعركة، إذا أمسك بالقوس، فإنه لا يصوب نحو عدوه من بعيد، بل يحارب بالسيف. ولم يكن في مستطاع أحد أن يقف أمامه في الوقيعة، فإن قوة ساعديه، لا تمكن أحدا من الإفلات من ضربات يديه. لا ينقض أمرا أمر به وتحركت به شفتاه، ليس له من مثيل في كل بلاد الأجانب. ولقد أعاد كل تماثيل الآلهة التي وجدها في آسيا، وكذلك أعاد الأثاثات والكتب التابعة لكل هياكل الشمال والجنوب إلى أماكنها. واتخذ من قلعة الإسكندر، المختار من الشمس وابن الشمس، وتدعى الإسكندرية، القائمة على شاطئ بحر اليونان الكبير، وكانت تدعى من قبل «رقوطيس» (78) مستقرا ومقاما. ولقد جمع كثيرا من اليونان، منهم فرسان، وجمع سفنا كثيرة العدد فيها ملاحوها، عندما ذهب مع زحفه إلى أرض السوريين الذين كانوا في حرب معه، فأخذ أرضهم وأوغل فيها، فحاكت شجاعته شجاعة الباشق بين بغاث الطير. وبعد أن أسرهم أجمعين، حمل أمراءهم وفرسانهم وسفنهم وآثارهم الفنية إلى مصر. وبعد أن غزا إقليم «مرمرتي» (79) - «قورينيقا»، وبسط يده على أهله، جلب إلى مصر رجاله ونساءه أسارى، كما سلب خيلهم؛ جزاء ما فعلوا بمصر.
ولما عاد إلى مصر أظهر فرحه بما أوتي من نصر، فأقام مهرجانا وزينة. وكان هذا الحاكم يسعى دائما في أن يعمل كل خير يستطيعه، لعله يرضي آلهة الوجهين: القبلي والبحري، فكلمه الذين يتصلون به، ومنهم شيوخ مصر السفلى قائلين: «إن أرض البحر، واسمها بطانوت (80)» كان قد وهبها الملك «خباش» (81) الخالد ابن الشمس، لآلهة «بي» و«تب» بعد أن ذهب قداسته إلى «بي» و«تب»؛ ليرى أرض البحر ويرود إقليمها، وأوغل في داخلية المستنقعات، وامتحن بنفسه كل مصب من مصبات النيل التي تذهب بمائه إلى البحر العظيم؛ كي يعرف كيف يصد غارة أساطيل آسيا عن مصر، فتكلم قداسته لمن حوله قائلا: «دعوني أرود أرض البحر لأحيط بها علما» فأجابوا قداسته قائلين: «إن أرض البحر (وتدعى أرض بطانوت) كانت ملك آلهة «بي» و«تب» منذ أزمان بعيدة لا تعيها الذكريات، فلما جاء العدو «إجزرسيز» (82) قلب آيتها ولم يترك منها شيئا لآلهة «بي» و«تب». فأمر قداسته أن يمثل أمامه حكام «بي» و«تب» وكهنتهما؛ فأحضروا على عجل، وتكلم فيهم قداسته قائلا: عرفوني ماهية آلهة «بي» و«تب» وصفاتهم، وماذا فعلوا اقتصاصا من الفاسق على عمل فاحش أتاه، وقد رأيت أن «إجزرسيز» الفاسق قد أنزل ببلدتي «بي» و«تب» شرا، واغتصب حقوقهما.
فتكلموا أمام قداسته قائلين: إن الملك سيدنا «حوروس» ابن «إيزيس» وابن «أزريس» حاكم الحاكمين، وملك ملوك مصر العليا، وملك ملوك مصر السفلى، المنتقم لأبيه، سيد «بي»، بداية الآلهة ونهايتهم، الذي ليس بعده من ملك، قد طرد الفاسق «إجزرسيز» مع ابنه الأكبر، وتجلى بقدرته العلوية في هيكل «نيط» (83) وفي مدينة «سايس» (صالحجر) (84) في نفس ذلك اليوم بجانب الأم المقدسة. فتكلم قداسته قائلا: «إن هذا الإله القادر، الذي ليس بعده من ملك، سيكوت منار قداستي، وأس شريعتي، هذا قسم أقسم به!» وهنا تكلم حكام «بي» و«تب» وكهنتهما قائلين: إذن، فلتأمر قداستك بأن توهب أرض البحر (الأرض التي تدعى بطانوت) لآلهة «بي» و«تب»، بخبزها وشرابها وثيرانها وطيورها وكل خيراتها وأطايبها، وليسجل تجديد الهبة باسمك تنويها بكرمك وجزل عطائك لآلهة «بي» و«تب»، وجزاء لك عن أعمالك العظيمة.
وهنا تكلم الحاكم العظيم قائلا: «فليصدر مرسوم بالكتابة في ديوان كاتب مالية الملك بالنص الآتي: «أنا بطلميوس الوالي، أعيد إلى حوروس المنتقم لأبيه سيد «بي» وإلى «بوطون» (85) سيدة «بي» و«تب»، أرض «بطانوت» منذ الآن إلى أبد الآبدين، بكل ما فيها من القوى والسكان، مع كل حقولها ومياهها وثيرانها وطيورها وقطعانها ومنتوجاتها، كما كانت من الزمن السالف، مع كل ما أضيف إليها مذ ذاك بمقتضى العطية التي أعطاها سيد الأرضين «خباش» الخالد، على أن يكون حدها الجنوبي بلدة «بوطون» وبلدة «هرموبولس» (86) الشمالية حتى المكان الذي يعرف باسم «ناونيبو» (87)، وعلى أن يكون حدها الشمالي كثبان الرمل التي تشرف على البحر العظيم، وعلى أن يكون حدها الغربي تعاريج النهر الصالحة للملاحة، حتى حدود تلك الكثبان، وعلى أن يكون حدها الشرقي إقليم «سبنوطس» (88). ولتكن عجولها غذاء للبواشق العظيمة، وفحولها لوجه الآلهة «نبطاوي» (89)، وثيرانها للبزاة العائشة، ولبنها للطفل الأعظم، ودجاجها لمن هو في «شعت» (90) الذي حياته من ذات نفسه. وكل الأشياء التي تخرج منها تكون وقفا على مذبح «حوروس» سيد «بي» و«بوطون» رئيس «رع هرماشيس» (91) إلى الأبد.
فكل الأرض التي منحها الملك سيد الأرضين، مثال «تانن» (92)، المختار من «فتاح» ابن الشمس «خباش» الخالد، جدد هبتها حاكم مصر العظيم «بطلميوس» لآلهة «بي» و«تب»؛ لتكون لهم أبد الآبدين، ودهر الداهرين. فليجز تلقاء صنيعه نصرا وقوة تملأ قلبه اطمئنانا؛ حتى تستمر الخشية منه مالئة قلوب الأمم الأجنبية التي تعيش الآن! أما أرض «بطانوت»، فإن من يجرؤ على أن يغتصبها، فإنه سوف يستباح دمه لمن هم في «بي»، وسوف تحل به لعنة الذين هم في «تب»، ولسوف تتلقفه أنفاس الآلهة «أفطاوي » (93) النارية، فتلتهمه في يوم فزعها الأكبر، ولن يغيثه بشربة ماء، ولد له ولا بنت.
منذ سنة 305ق.م أصبح بطلميوس ملكا، وفيه حصرت كل السلطة الدينية العليا في أرض مصر، وأضفى عليه الكهنة المصريون والكتاب كل الألقاب التي كانت تضفى على قدامى الفراعنة. وأوحي إلى الناس أنه كان في الحقيقة ملكا، طوال المدة التي قضاها في مصر، منذ موت الإسكندر الأكبر، حتى لقد نرى أن التاريخ الرسمي للوثائق الحكومية لم يبدأ بسنة 305؛ أي بأول سني حكمه التي انتحل فيها اسم الملك وألقابه، بل من سنة 324-323ق.م وإنا لنفهم كيف بدأ أغارقة ذلك الزمن العجيب يعتقدون في أن «الحظ» قوة مسيرة لا نهاية لأثرها في توجيه الأشياء الإنسانية وتصريفها؛ إذ يرون أن شخصا لم يتطلع في صباه إلى نصيب من الحياة أكثر مما يتطلع إليه سيد مقدوني، غاية مرجوة أن يقضي حياته بين حقول بلاده وتلالها، يطفر وهو في الرابعة بعد الستين، فيصير فرعونا في أرض مصر العظيمة! •••
بعد أن فقد بطلميوس كل أملاكه في خارج مصر في سنة 306ق.م انقلبت آية الحظ ثانية على أنطيغونس، فقد حلت بجيوشه كارثتان في خلال السنتين التاليتين، وقد أطمعه انتصاره على بطلميوس في سورية وقبرص أن يكرر محاولة فردقاس الأولى ويهاجم مصر نفسها، وفي هذا من قلة التبصر وقصر النظر ما فيه. على أنه لم يقدم على ذلك إلا بعد أن جهز قوة عظيمة، برية وبحرية، جعلته يأمل أن يستقوي على العقبتين المعروفتين: الصحراء الواقعة بين فلسطين ومصر، والنيل: صور مصر الخالد.
18
Shafi da ba'a sani ba
وعبئ الجيش أول الأمر في «أنطيغونيا» في شمال سورية (وهي المدينة التي قامت مكانها أنطاكية) ثم تحرك إلى غزة (نوفمبر 306ق.م) على حدود الصحراء، ويقول «ديودورس»: إن عدد الجيش بلغ 80000 راجل و8000 راكب و83 فيلا هنديا، مصحوبا بأسطول مكون من 150 قطعة حربية، و100 نقالة، تحت إمرة «دمطريوس». على أن الثقة بما يرويه قدماء المؤرخين عن مثل هذه الأشياء قليلة، كما أبان «مهفي».
وفي غزة، وقبل أن يبدأ الجيش اجتياز الصحراء، وزعت على رجاله مؤن تكفي عشرة أيام، وأجرت فئة من البدو أدلاء على الطريق، على أن يحملوا معهم 130000 «مدمني» (94) أي «وزنا» من القمح والعلف للدواب. ولقد كان الأوفق، إذا نظرنا في الأمر من الوجهة الطبيعية الصرفة، أن يؤجل أنطيغونس هجومه على مصر إلى الصيف؛ فإن النيل يكون فائضا في الشتاء والملاحة البحرية صعبة المراس، إذ تعصف رياح شمالية غربية على الشاطئ.
19
ولكن حاجات المعركة العالمية التي كانت في أوجها، وضرورة القضاء على «بطلميوس» وهو ما يزال ضعيفا بعد خسائره في قبرص، عامة إذ حمل «أنطيغونس» على أن يعجل بمحاولته. ولم يكن الرشد في أن تؤجل المحاولة فقط، بل كان النهى والتوفيق في أن تنبذ بتة. فقد جرت الأمور كلها على الضد مما يشتهي، وفي طريق كله خطل؛ فإن أسطول «دمطريوس» لم يستطع أن يقاوم الرياح، وجنح كثير من سفنه على الشاطئ في «رافيا» (95)، وأصبح التعاون بين الأسطول والجيش، كما كان منتظرا من قبل، في حكم المستحيل عمليا.
لما وصلت القوات المتحدة إلى «فلوسيوم»
20 (96) ألفتها محصنة أتم تحصين، وأن مدخل النهر موصد بالسفن كل إيصاد. هذا إلى أن النهر تغشاه طرادات صغيرة، متأهبة لمقاومة كل محاولة يقصد بها عبوره. وقد أوحي إلى رجالها فوق ذلك أن ينشروا بين الغزاة وعودا برشاوى مغرية، ووظائف عالية، إذا هم تركوا «أنطيغونس» وانضموا إلى «بطلميوس». وبلغت هذه الرشاوى «منين» لكل جندي، «وطالنطن» لكل ضابط. فلاقى «أنطيغونس» صعابا في صد تيار الفرار من جيشه، وقضى على من يحاول الفرار بعذاب الموت، حتى استطاع أن يدفع عن نفسه خاتمة أشبه بخاتمة «فردقاس».
ولما آنس «دمطريوس» تعذر النزول إلى البر في «فلوسيوم»، أراد أن ينزل في مكان أبعد منها غربا، وعالج النزول عبر مصب النيل الكاذب (97)، وهو ما يعرف الآن ببحيرة «المنزلة» ترجيحا، ثم عدل عن ذلك إلى مصب دمياط؛ أي المصب الفطنيتي (98). ولقد صد في كلا الموضعين، ثم عاجلته عاصفة أخرى حطمت ثلاثا من أكبر سفائنه، ولم يتمكن من العودة إلى معسكر أبيه شرقي المصب «الفلوسيومي » (99) إلا بكل عناء.
ولم يبق أمام «أنطيغونس» من حيلة إلا أن يرتد عن حدود مصر بأقصى ما يستطيع من سرعة. ولقد وضح للعالم بذلك قدر «بطلميوس» وقته، برغم ما نزل به من الهزائم والخسائر المادية من قبل. وكان القدر يخبئ ل «أنطيغونس» كارثة أخرى؛ فإن «دمطريوس» كان قد هاجم «رودس» (100) في بداءة سنة 305ق.م، ولا شك في أن دولة «رودس» العظيمة، باعتبارها دولة بحرية تجارية انتعشت في جوها الحرية الجمهورية قرونا عديدة قبل عصر الإسكندر وبعده، كانت ذات علاقات وثيقة بسوق الإسكندرية، ومن هنا كان الرودسيون من أصدقاء «بطلميوس».
وبعد أن حاصر «دمطريوس» جزيرة «رودس» خمسة عشر شهرا (305-304) عجز عن أن يفتحها عنوة، وأذعن لصلح أساسه التفاهم. وكان الدفاع الموفق عن الجزيرة، راجعا إلى المؤن والمدد الحربي الذي تمكن «بطلميوس» أن يمد الجزيرة المحصورة بهما، حينا بعد حين. •••
في سنة 303-302ق.م تألف حلف جديد من قصندر ولوسيماخوس وبطلميوس وسلوقوس، ينابذ «أنطيغونس». وكان «سلوقوس» في فجاج الشرق يغزو أقاليم الإمبراطورية السحيقة حتى حدود الهند، ولكنه في شتاء 302-301ق.م زحف بجيشه ميمما نحو الغرب؛ ليزود أحلافه بعدد عظيم من فيلة الهند. ولقد مثل بطلميوس دورا كان فيه إلى الحذر أدنى منه إلى طلب المجد والعظمة؛ فإن كل نصيبه من معاونة الثلاثة انحصر في أن يحتل «سورية الخالية» للمرة الثالثة، بينما كانت قوات أحلافه الثلاثة، تحشد ضد «أنطيغونس» في آسيا الصغرى. وتواترت الأنباء بأن «أنطيغونس» انتصر انتصارا حاسما، وأنه زاحف على سورية، فانسحب بطلميوس بجيوشه، مرتدا من «سورية الخالية» للمرة الثالثة. ولكن الأنباء كانت كاذبة؛ فإن أحلافه الثلاثة هم الذين انتصروا في معركة فاصلة، دارت بالقرب من «إبسس» (101) في صيف سنة 301ق.م، وترك جثمان الشيخ «أنطيغونس» مجدلا في الميدان.
Shafi da ba'a sani ba
وكان انتصار الملوك الثلاثة سببا في حدوث خلاف في ميدان السياسة موضوعه سورية الخالية، وهو خلف استمر قائما طوال عصر البطالمة. فإن الظاهر أن المعاهدة التي عقدت بين الحلفاء الأربعة قبل المعركة الأخيرة ضد أنطيغونس، قد نصت على أن تكون سورية الخالية من نصيب بطلميوس، إذا تم لهم النصر. وكان من الطبيعي أن يستمسك الملوك الثلاثة الذين حملوا أعباء موقعة «إبسس» بالفعل بنظرية أن ملك مصر، بنكوصه عن الظهور في ميدان الحرب، وتحمل جانب منها، وانسحابه من سورية الخالية فجأة وبلا سبب، اللهم إلا ذيوع إشاعة كاذبة، لم يجعل له من حق في الاستمساك بما تحالف وإياهم عليه. وأعاد الملوك المنتصرون النظر في الأمر، واتفقوا على توزيع جديد وضعوا شرائطه بعد انتصار «إبسس»، أصبحت سورية الخالية بمقتضاه جزءا من إمبراطورية «سلوقوس» الآسيوية. ورفض بطلميوس الاعتراف بهذا الاتفاق، كما رفض «سلوقوس» اعتبار الحلف الأصلي قائما، فكان ذلك سببا في قيام خصام سياسي، قدر له أن يظل قائما بين بيت «بطلميوس» وبيت «سلوقوس» أجيالا عديدة. ولما كانت فلسطين (أي سورية) قد ظلت طوال العصر الفرعوني القديم، موضوع نزاع وخلاف بين كل دولة تحكم ما بين النهرين، والدولة التي تحكم على ضفاف النيل، فإنها استمرت كذلك بعد أن تبدلت الأسرات الملكية الوطنية، بأسرتين مقدونيتين دخيلتين.
بعد معركة «إبسس» احتل بطلميوس سورية الخالية للمرة الرابعة. ولما حاول «سلوقوس» أن ينفذ الاتفاق الذي عقده مع حليفيه، ووفد بجيشه ليحتل سورية الخالية، وجد أن «بطلميوس» قد سارع فاحتلها قبله، وأن مدنها تعج بجيوشه، وكانت شكوى «بطلميوس» أن «سلوقوس» قد انتهك حرمة الصداقة، بأن عقد عهدا يكسبه حق امتلاك أرض، هي من نصيبه وتحت حكمه. وبالرغم من أنه أخذ في الحرب ضد «أنطيغونس» بضلع، فإن الأحلاف الثلاثة لم يخصوه بأي جزء من أرض الإمبراطورية المغزوة، فكان جواب «سلوقوس» أنه من المعقول أن يكون الذين كسبوا المعركة هم أصحاب الحق الثابت في توزيع الأرض باختيارهم، وأنه فيما يتعلق بسورية الخالية، لن يقوم بأي اعتداء؛ مراعاة لصداقتهما، وأنه سوف يفكر فيما بعد في أمثل طريقة يعامل بها أصدقاءه الذين يحاولون أن يأخذوا منه أكثر مما هو حق لهم.
في السنوات التي تلت الانتصار في معركة «إبسس»، وهي سنون ساد فيها سلام نسبي، مضى الشيوخ الثلاثة الذين بقوا من رجال الإسكندر؛ وهم: بطلميوس وسلوقوس ولوسمياخوس، ومن حولهم من صغار الملوك، ناشئة الجيل الثاني؛ وهم: قصندر في مقدونيا، وفورغوس (102) في أفيروس (103) ودمطريوس، وكان ما يزال ذا قوة، يحيكون من حول بعضهم البعض، شبكة من الدسائس السياسية، يتعذر علينا الآن تتبع أطوارها. وإن كنا نعرف أن الفتور بين حزب وآخر، كما كانت الصداقات والعداوات، محلا للتغيير والتبديل على مقتضى الظروف في كل آونة، وكان حدوث فتور في العلاقات ينذر دائما بحدوث حرب، كالحال بعد أن حصل «دمطريوس» على تاج مقدونيا سنة 924ق.م بعد موت قصندر، أو عندما هاجم دمطريوس مملكة لوسيماخوس سنة 287ق.م أو في أثناء المعارك الكبيرة التي قامت بين سلقوس ولوسيماخوس، تلك المعارك التي لم تنته إلا بعد موت بطلميوس. على أن بطلميوس لم يشترك بعد معركة «إبسس» في أية حرب ضد أي ملك من الملوك المتاخمين لملكه، واقتصر على أن يجعل السياسة ميدانه، فكان يناصر ذلك حينا، ثم يناصر ذاك حينا آخر، بحسب ما يرى من اتجاه دورة الحظ في رقعة الدنيا.
وقد نقف على أشياء نستدل منها على صورة من ذلك اللعب السياسي، تظهر بين حين وآخر في التزاوج بين الأسر، فقد رأينا أن العلاقات بين بطلميوس وسلوقوس قد كدرت وشيكا بعد معركة «إبسس»، بقيام مشلكة سورية الخالية. ثم نرى تقربا بين سلوقوس ودمطريوس، وبين بطلميوس ولوسيماخوس، فيتزوج سلوقوس من «إسطراطونيقية» (104) ابنة دمطريوس، كما يتزوج لوسيماخوس (بين عامي 300 و298) من «أرسنوية» (105) ابنة بطلميوس. ثم يتزوج الإسكندر بن قصندر، من ابنة أخرى من بنات بطلميوس تدعى «لوسندرا» (106)، ويتزوج دمطريوس من ثالثة من بناته اسمها «إفطولمايس» (وقد خطبت سنة 300 وزفت سنة 286)، وتتزوج «أنطيغونية» (107) ابنة «برنيقية»، من زوج لها قبل بطلميوس، من الملك فرغوس (108) سنة (298-295)، وتتزوج ابنة ثانية من بنات «برنيقية» واسمها «ثيوكسنا» (109)، من «أغاثوكلس» (110) حاكم سيراقوز (حوالي سنة 300ق.م). وفي النهاية يتزوج «أغاثوكلس» بن لوسيماخوس، وهو غير من ذكرنا، إحدى بنات بطلميوس.
21
لما حاصر ديمطريوس أثينا (296-294) لم يمد بطلميوس أصدقاءه الآثينيين بمساعدة تذكر، فإن أسطوله ظل يجوب البحر خارج «أيغينا» (111)، ولم يفعل من شيء يحول دون سقوط المدينة. وفي سنة 287 ثارت أثينا في وجه دمطريوس، فأرسل بطلميوس خمسين طالنطن (112)، وكمية من العملة، ولكن أسطوله لم يقم بشيء يصد «دمطريوس» عن أغراضه. •••
إن كل ما تطلع «بطلميوس» إلى إحرازه في خارج مصر، كان قد أحرزه فعلا بعد موقعة «إبسس»؛ فإن «سلوقوس»، كما رأينا من قبل، وجده مالكا سورية الخالية، عندما قدم ليحتل الجزء السوري من مملكة أنطيغونس. والظاهر أن احتلال «بطلميوس» فلسطين لم يكن كاملا؛ فإن المدن الفنيقية الواقعة على شاطئ البحر كانت ما تزال محتلة بجيوش «دمطريوس»، كما أن هنالك إشارة إلى امتلاك «دمطريوس» لمدينة سمرية (113) في سنة 296-295ق.م ولقد خيل لمسيو «بوشيه لكلار» - أو هو ظن عندما كتب الجزء الأول من كتابه سنة 1903 - أن أملاك دمطريوس في فنيقية وفلسطين قد انتقلت إلى سلوقوس لا إلى بطلميوس، وهذا الظن يشعر بأن بيت بطلميوس لم يتيسر له أن يمتلك فلسطين قبل مدة من الزمن لا تقل عن ثمانين عاما؛ أي بعد موت سلوقوس سنة 281. على أن «بوشيه لكلار» إنما يعتمد فيما يذهب إليه على المجادلات التي قامت بين ساسة السلوقيين سنة 219، وكان اعتمادهم فيما أخذوا به من وجهة نظر، على سيادة سلوقوس في تلك الأقاليم. والراجح كما يذهب جلة الباحثين الثقات أن بطلميوس قد ملك فلسطين منذ موقعة إبسس فصاعدا، ما عدا بضعة مواضع ظلت تحت سيادة دمطريوس، وقد احتلها بطلميوس بعد أن أصبح دمطريوس عاجزا عن الدفاع عنها. والراجح أن سيادة بيت سلوقوس في فلسطين، وهي التي أشار إليها سياسيو السلوقيين، كانت سيادة غير فعلية، بل سيادة اسمية، استمسك بها سلوقوس، اعتمادا على الحق السياسي الذي خول له بمقتضى التقسيم الذي تم بين الملوك المنتصرين في موقعة إبسس.
واسترد بطلميوس جزيرة قبرص سنة (295-294)، وكانت قوات دمطريوس قد احتلت هذه الجزيرة وظلت بها ست سنوات بعد موقعة إبسس. ولقد قام الدفاع عن الجزيرة هذه المرة تحت إمرة «فيلا» (114) ابنة «أنطيفاطروس» (115)، وزوجة دمطريوس، فكان دفاعا مجيدا، ولكنها اضطرت إلى التسليم في سلاميس. ولقد رد بطلميوس «فيلا» وأولادها إلى دمطريوس في مقدونيا، مثقلة بالهدايا، محوطة بالتشاريف، جزاء ما أبدى دمطريوس من نبل الأخلاق والشهامة سنة 306ق.م.
حوالي سنة 287، كان للأسطول المصري السيادة في بحر أيغا، واسترد بطلميوس حمايته الفعلية على مجموعة جزر «قوقلادس». ولعهد ما (حوالي 294 و287) كان بينه وبين مدينة ميلطوس (116) صداقة وحسن اتصال، وكانت من أملاك لوسيماخوس، فاستغل بطلميوس نفوذه عند حليفه؛ فتظاهر بالسعي في أن يرفع عن المدينة ما عليها من الضرائب. •••
لا تزودنا الكتب الإغريقية بغير نتف قليلة عن العمل الذي قام به بطلميوس في المعركة التي نشبت بين القوات العالمية، وظلت رحاها تدور أربعين عاما بعد موت الإسكندر. أما إذا تساءلنا عما كان يحدث في داخل حدود مصر نفسها مدى ذلك الزمن، فإن المدونات التاريخية تعجز عن أن تزودنا بمادة نحيك منها رواية كاملة، وكل ما نستطيع أن نصل إليه في هذا الصدد، استنتاجات ننتزعها من الحالات التي نصادفها قائمة، فنستدل منها على ما حدث في البلاد من تبديل.
Shafi da ba'a sani ba
إذا نظرنا في تاريخ مصر في ذلك العهد نظرة شاملة، وجدنا أن محوره يدور حول حقيقة بينة؛ هي أن سكان مصر قد تبدلوا من أمة متجانسة القومية نسبيا، كما كانت خلال حكم الفراعنة الأقدمين، أمة مقسومة طبقتين، تعيشان داخل حدود أرضها: فالطبقة العليا تتألف من أفراد الأمة الأوروبية الحاكمة، والطبقة الدنيا من جمهرة الأمة المصرية المحكومة. وهي حالة لا تبعد كثيرا عن الحالات التي تقوم في بعض الممالك في عصرنا؛ لأن حضارة الأمة الحاكمة في مصر البطلمية، كانت هي بذاتها الحضارة الإغريقية، أم الحضارة الأوروبية الحديثة، ولم يكن شعورهم بالتفوق والاستعلاء على أهل مصر مباينا للشعور الذي يشعر به «البيض» في هذا العصر نحو الوطنيين. وفي الحق أن الإغريق كانت تجري على ألسنتهم كلمة معناها «الوطنيين» كلما أرادوا الإشارة إلى المصريين.
إن وجود الطبقة الإغريقية المقدونية في مصر، لم يكن راجعا إلى أن الإغريق والمقدونيين قد وفدوا إليها باختيارهم، أو مسوقين بأن حالات البلاد الطبيعية من شأنها أن تغري بالهجرة إليها شأن الأوروبيين في تدفقهم على أمريكا وأستراليا في العصور الحديثة، بل على الضد من ذلك، كانت نتيجة جهد متواصل بذله البيت المقدوني الحاكم؛ فإن بطلميوس منذ ما اختار مصر لتكون مقرا لحكمه، ومتبوأ له من الدنيا بعد الإسكندر، وجد أنها قد وهبته أشياء عديدة، وهبته أرضا يسهل الدفاع عنها، وثروة مادية عظيمة، سواء من مواردها الطبيعية، أم من المتاجر التي كانت تردها على ظهر النيل، وخلعت على ملوكيته فوق ذلك عظمة التقاليد المصرية القديمة وهيبتها ونضارتها. ولكنها مع كل هذا لم تعطه كل الضروريات؛ فإنها لم تزوده «بالقوة البشرية»، وكانت من أمس الحاجات إليه.
والحقيقة أن مصر كان فيها عديد وافر من الرجال، ولكنهم لم يكونوا من ذلك الطابع الذي يريده، الطابع الذي يستطيع قائد حربي أن يؤلف منه جيشا يناجز كتائب مؤلفة من جنود مقدونيين وأغارقة، كالتي يسوقها «أنطيغونس» أو «سلوقوس» إلى ميادين الحرب، فكان من الضروري أن يحصل «بطلميوس» على عدته من المقدونيين. وما كان ليغيب عن ذهنه أن صفوة الجيش الذي فتح نصف الدنيا، تحت إمرة الإسكندر، كان من رجال مقدونيا، فكان الفرسان من النبلاء، وحملة الحراب الذين اشتهروا بالصلابة والقوة من جمهرة العمال الذين يفلحون حقول البلقان في زمن السلام. ولقد رأى بطلميوس أنه مقطوع الصلة بمقدونيا؛ مرباه الأصيل، فخطرت له فكرة إنشاء «مقدونيا اصطناعية» في مصر العجيبة غير المتجانسة، بأن يكون طبقة من الفلاحين المقدونيين أو الأغارقة، فنشر ألوفا منهم في عرض البلاد وطولها، يفلحون الأرض ويستولدون الماشية ما رفرف السلام في أجزاء من الأرض يقطعونها، ويواتيها النيل بمائه، فإذا أذن مؤذن الحرب هبوا إليها، فحملوا الحراب راجلين، أو امتطوا صهوات جيادهم فرسانا، وخرجوا فيالق أو صفوفا يتبعون «بطلميوس»، أو أحد قواده إلى فلسطين أو قورينا. أما نشأة هذا النظام الاستعماري العسكري، وهو الطابع الظاهر في نظام مصر البطلمية، فيرجع تحقيقا إلى عصر بطلميوس الأول.
ومن أجل أن تعمر المدن الإغريقية الجديدة، كالإسكندرية وإفطولمايس (117)، وتثبت قدم العساكر المستعمرين في البلاد، استوفد بطلميوس ألوفا من الأغارقة والمقدونيين إلى مصر. غير أنه لم يستطع أن يجلبهم جملة من إغريقية ومقدونيا، وهي بلاد خارجة عن سلطانه، كما كان يفعل ملوك الأشوريين في الزمن القديم، فينقلون جزءا من رعاياهم، من بقعة إلى أخرى في أطراف دولتهم. ولا ريبة في أن فكرته هذه كانت تصبح عقيمة وغير عملية لو لم تكن قوات مقدونيا وإغريقية قد بعثرتها غزوات الإسكندر، ونشرتها في فجاج الشرق الأدنى كله، فوزعت في معسكرات أو بقيت حاميات في المدن تحت إمرة هذا أو ذاك من الزعماء المقدونيين.
ولا مراء في أن بطلميوس عندما هبط مصر سنة 323، قد وجد بها حامية مقدونية مستقرة فيها، وكانت العادة عندما يهزم قائد مقدوني قائدا آخر، أن يخدم جنود المهزوم راية المنتصر، فإذا كانوا مقدونيين، فإن المنتصر يكون أحد قوادهم الوطنيين. ولا يبعد أن يكون جزء من جيش «فردقاس» (118) المهزوم سنة 321 قد وجد بمصر حمى في ظل «بطلميوس». ويقول «ديودورس» (119): إن «بطلميوس» بعد وقعة غزة سنة 312، أرسل ما ينيف على ثمانية آلاف جندي من جنود الجيش المهزوم؛ ليوزعوا على أقاليم مصر. والظاهر أن إقطاع الأرض في مصر، قد أحكم الوصلة بين عدد عظيم من بقايا الجنود المقدونية و«بطلميوس»، وربط بينهما برباط لن تنال منه حتى الهزائم أي منال، فقد خبرنا أن عددا كبيرا من جيش «بطلميوس» الذي أسره دمطريوس في قبرص سنة 306، قد عمل أفراده جاهدين على أن يعودوا إلى مصر، حيث تركوا أسرهم ومتاعهم، ورفضوا الخدمة تحت إمرة «دمطريوس».
وليس ببعيد أن يكون قد هبط مصر رجال من أطراف العالم الإغريقي؛ ليخدموا بطلميوس مرتزقين، ثم قبلوا الهبة التي تلجئهم إلى المقام الدائم بها. أضف إلى ذلك فرق الجند التي كان يستوفدها بطلميوس جملة إلى مصر؛ فإن الجيوش التي كانت تؤلف من المقدونيين المقيمين فيها، لم تكن وحدها كافية، فكان لزاما أن تعزز بجنود مرتزقة وأهل البلقان. وكانت صفة الجنود المرتزقة في ذلك الزمن، أن يأجر مغامر من المغامرين جماعات منهم في سوق من أسواق استئجار الجنود، مثل طايناروم (120) بجزر الفلوبونيسوس (121)، أو أسفندوس (122) بآسيا الصغرى، وكانت ملتقى المرتزقين من الجنود، ومجتمع أخلاطهم، يؤمونها من أطرف العالم الإغريقي، أو ينضوي عدد منهم تحت لواء ضابط يمنيهم بأعظم ما يطمع فيه من المال أو التشاريف أو المجد، ومن ثم يبيع الضابط، ومن انضوى تحت لوائه من الجنود، خدمته لأي ملك من الملوك، أو لحكومة أية مدينة من المدن يختارها. وكانت أسلحة خاصة من أسلحة الجيوش تتكون من مرتزقين يفدون من جهات معينة، وليس من جند مقدونيا النظامي، فكان الرماة من إقريطش (123) (كريت) وحملة الحراب من «تراقيا» (124). ولقد استقر بمصر - على ما يظهر - كثير ممن وفد إليها من الكريتيين والتراقيين والآثنيين والإسبرطيين (125) والبوطيين (126) والصقليين (127) وأقاموا بها.
وقد نرى أن بطلميوس قد آثر أن يذاع عنه في العالم الإغريقي، أنه ذلك الجواد الكيس، والكريم الشهم، الذي يجدر بكل رجل أو فتى، يريد أن يعيش جنديا، أن يعبر البحر ليكون تحت إمرته. ولقد هيأت له موارد مصر الطائلة، أن يكون كريما معطاء على وتيرة لم يباره فيها أحد من خصومه. •••
تفرد حكم بطلميوس بن لاغوس في مصر ببدعة قدر أن يكون لها أثر في مستقبل العالم الإغريقي؛ تلك هي خلق عبادة جديدة. فإن إلها جديدا لم يعرفه من قبل الأغارقة في خارج حدود مصر، أصبح من أعظم الآلهة الذين عبدوا في العصر الوثني؛ ونعني به «الإلهة» سرافيس (128). ولقد ظل الأصل في عبادة «سرافيس» موضع نقاش طويل وجدل بين الثقات من أهل العلم. غير أن هذا المشكل أنيرت ظلماته بعض الشيء، بعد أن نشر «فلكن» (129) قرطاسا من البردي، كتب في العهد البطلمي. وهنا يتعين علينا أن نلتفت بداءة ذي بدء إلى هيكل مصري قديم بالقرب من «ممفيس»، عرف منذ ذلك العصر فصاعدا باسم «السرافيوم»؛ أي معبد «سرافيس» عند الإغريق، وهو على أربعة أميال من «ممفيس» غربي النيل، بالقرب من التلال القاحلة التي تحصر الوادي من تلك الجهة.
ولقد أظهر «فلكن» أن الفروض التي فرضت في أصل «السرافيوم» (130)، منذ عصر «ماريت »، ونقلت عنه من كاتب إلى كاتب، كلها أوهام؛ فإنه لم يوجد «سرافيوم» إغريقي منفصل عنه السرافيوم المصري، بل سرافيوم واحد هو عبارة عن مجموعة من المباني الضخمة، قائمة على المرتفع المشرف على الأرض المزروعة. وحذاء النهر تقع الأرض المزروعة، ومن بعدها وعلى ارتفاع قليل تمتد الصحراء ثم التلال وعلى طرف الصحراء. وبالقرب من الحقول كان يقوم معبد «لأنوبيس» (131) يحيط به فناء، وفي هذا الفناء كانت تقيم فيما بعد نقطة للشرطة، وفيها سجن متصل بها، ومكتب رسمي وأماكن يقيم بها ممثلو حاكم إقليم «ممفيت»، وكان يقيم فيه إذا زار «السرافيوم». وقد أقام أحد الحكام في إحدى الزيارات تحت حكم بطلميوس السادس يومين في هيكل أنوبيس، قضاهما لاهيا ساكرا. ومن هيكل «أنوبيس»، يمتد طريق مرصوف، تقوم على جانبيه تماثيل أبي الهول، فيخترق تلك الرقعة الصحراوية إلى «السرافيوم».
كان «السرافيوم» هيكلا متصلا بمحاريب خصصت لدفن ما يموت من عجول «أبيس» (132)، وكانت جثثها تدفن في أنفاق أو سراديب تحت الأرض. وكان العجل «أبيس» حال حياته يعيش في مكان يدعى «الأبيوم» (133) (نسبة إلى أبيس
Shafi da ba'a sani ba
Apis ) يجاور هيكل «فتاح»، القائم على أربعة أميال داخل الرقعة المزروعة من الوادي. وكان العجل في حياته، يعتبر إله النيل المجسد، وقد يعتبر بعض الأحيان مساويا «لفتاح» نفسه.
22
ولما كان المعتقد أن كل إنسان يحدث به حدث الموت ينقلب «أوزيريسا»، كذلك العجل «أبيس»، فإنه ينقلب عند موته إلى «أوزيريس (134)-أبيس»، أو «أوزير-حابي». وهناك رأي ذاع في العصر الروماني، إن لم يكن ذيوعه راجعا إلى أزمان أقدم، يقول: إن ألوهية الحيوانات المقدسة تبدأ بموتها.
وكانت جنازة العجل أبيس حادثا تهتز له مصر كلها، فتقام الجنائز في كل مكان سبعين يوما كاملة، وفي خلالها تتم عملية التحنيط، وترسل كل الهياكل أنسجة ولفائف من الكتان ليكفن بها. ويقيم بجوار الجثة في «ممفيس» كاهنتان تندبانه، فإذا تم تحنيط الجثة خرجت في مشهد جنائزي، وأمامها كاهن مقنع يمثل الإله «توت» (135)، إلى حيث يقوم هيكل «أنوبيس» على حدود الصحراء. وهنالك يتسلم الجثة كاهن آخر، مقنع بقناع الثعلب الذي هو شعار أنوبيس مرشد الموتى، فيقود المشهد في الطريق المرصوف المؤدي إلى «السرافيوم». ثم تودع الجثة مرقدها الأخير بغرفة أعدت لها في أحد السراديب الأرضية. ومنذ ما تعد هذه الغرفة - وقد تعد قبل حادث الدفن بسنتين - تغلق السراديب غلقا محكما، ولا يسمح لكاهن ما أن يطأها بقدميه. فإذا أودعت بها المومياء المقدسة أغلقت السراديب ثانية، حتى تكون جنازة الثور التالي، ما عدا الزمن الذي يستغرقه إعداد غرفة أخرى لخلفه.
23
أما نظرية «فلكن»، فمحصلها أنه في الفترة التي يكون العمال منهمكين خلالها في نحت حجرة تحت «السرافيوم»؛ لتكون مقرا لجثمان العجل العائش في «ممفيس» بعد موته، تبدأ عبادة هذا العجل في السراديب الأرضية على أنه شخص «أوزيريس» إله الموتى، لا على الصورة التي يتبدل بها أي ميت فيصبح «أويزيريسا»، بل على صورة أكثر بيانا وأدخل في الذاتية. فكان العجل العائش يدعى «أبيس-أوزيريس» ويدعى العجل الميت «أوزيريس-أبيس»، ويظن فلكن، أن العبادة في الهيكل القائم على سطح الأرض، كانت توجه إلى قداسة أوزيريس الشاملة الحالة فيهم أجمعين. وبهذه تتجه عقول المتعبدين إلى التفكير في «أوزيريس-أبيس» لا باعتباره عجلا ميتا، بل على أنه إله العالم السفلي نفسه، متقمصا صورة موضوعية، وفي الغالب صورة إنسانية تمثل متربعة من فوق عرش، ولا يبعد أن تحمل رأس ثور.
إن أقدم رقعة من رقاع البردي انحدرت إلينا من ذلك العصر، تتضمن «لعنة» كتبتها امرأة إغريقية تدعى «أرتميسيا» (136)، كانت في مصر، استدرت فيها انتقام السيد (القاهر) «أوزرافيس» (137)؛ كي يحل برجل كان لها منه ابنة. والراجح أن هذه القصاصة البردية، التي قدر لها أن تكون موضع العناية ومتجه الأنظار بعد قرون من كتابتها، وهي الآن في خزانة الكتب الملكية بمدينة فينا، قد ألفتها «أرتميسيا» بعد أن كتبت مباشرة - ولما يجف مدادها - عند قدمي الإله، قبل أن يكون لمصر ملك يدعى «بطلميوس»؛ أي في زمن الإسكندر الأكبر. وهذه الرقعة برهان على أن «أوزير-حابي»، صاحب هيكل «السرافيوم» في ممفيس، كان إلها ذا عظمة وجلال عند الإغريق المقيمين بمصر، قبل أن يؤسس بطلميوس عبادة «سرافيس» في مدينة الإسكندرية.
إذا جارينا وجهة النظر التقليدية اعتقدنا بأن عبادة «سرافيس» قد أسست بدعاية قصر بطلميوس الملكي، غير أن «شوبرت» (138) يشك في ذلك، ويعتقد على الضد منه بأنها نشأت نشأة ذاتية كدين جديد، اعتنقه الإغريق المتمصرون. في حين أن البراهين التي يقيمها «فلكن» تثبت على ما يلوح لي أنها أيدت بنفوذ متقدمي البطالمة، ونشرت بحمايتهم. وهنالك سؤال آخر: أكان «سرافيس» هو نفس الإله «أوزير-حابي»؟ ولقد حاول «لهمن هبت» (139) أن يظهر أنه كان إلها بابليا هو «شار-أبسي»، غير أن هذه النظرية كما يظهر لا تتفق وما يراه غيره من ثقات المشتغلين بدراسة الآثار الآشورية. ونزع «فلكن» بديئة إلى إنكار أية علاقة بين اسم «سرافيس» والاسم المصري «أوزير-حابي»، غير أنه يعتقد الآن بأن الاسم «سرافيس» هو تصحيف شعبي للاسم المصري «أوزير-حابي» جرى على ألسنة الإغريق المتمصرين، ويرى فوق ذلك أن سرافيس الذي عبد في مدينة الإسكندرية، هو نفس إله العالم السفلي الذي عبد في ذلك الهيكل، القائم من فوق جثث العجول المحنطة بالقرب من «ممفيس».
وإلى هنا يكون «سرافيس» إلها مصريا في حقيقته. ولا شك مع هذا في أن صورة «سرافيس» المنحوتة التي وجدت بالإسكندرية هي من طابع إغريقي، لا من طابع مصري؛ فهو في صورة إله ملتح يشابه «زوس» (140) أو «حادس» (141) أو «أسقلفيوس» (142)، متربعا من فوق عرش و«قاربروس» (143) كلب العالم السفلي ذي الرءوس الثلاثة واقف بجانب قدميه، وعلى رأسه غطاء طويل (قلنسوة) يسمى السلة
Basket = Kalathos (144)؛ لأنه يشبهها. وهنالك أسطورة ذكرها «طقيطوس» (145) تصف كيف أن بطلميوس - استجابة لموحيات رؤيا رآها - عمل حتى حصل على التمثال الذي يمثل «سرافيس» من معبد في مدينة «سينوفية» الإغريقية، الواقعة على البحر الأسود. وليس في هذه الرواية ما يدعو إلى الشك فيها، وإنما يدخلها الشك وتحوطها الريبة، إذا ذكرنا حقيقة أن الهيكل الذي كان يضم العجول المحنطة القائم بجوار «ممفيس»، أو إقليم التلال الصحراوية حيث الهيكل، كان يدعى «سينوفيون» فكأن الإغريق قد انتحلوا اسما مصريا ، ليس من المستطاع الآن أن نبين عن أصله، فإذا كانت عبادة «سرافيس» منذ بدايتها في مدينة الإسكندرية هي بذاتها عبادة إله «سينوفيون» (146) الممفيسي، فالظاهر أن هذه الأسطورة مدخولة بالتخليط، إذا زعم بأن صورة «سرافيس» قد أحضرت من «سينوفية» القائمة على شاطئ البحر الأسود .
Shafi da ba'a sani ba
أما أن هنالك علاقة عرضية ربطت بين الإله «سرافيس» وبين موضعين متباعدين، لهما اسم واحد، فأمر يخرج عندي من مجال الترجيح، وربما كانت العلاقة غير عرضية. فلنفرض أن تمثال «سرافيس» قد جلب من مدينة «سينوفية» حقيقة، وأن هذا كان بوحي رؤيا رآها بطلميوس، فهل في ذلك ما ينافي أن يكون عقل الحاكم، وهو في جولة البحث عن أقوم سبيل يمكن أن يمثل به إله «سينوفيون» للإغريق، قد اتجه سياله الخفي نحو «سينوفية»، لمجرد الاتفاق في الجرس بين الاسمين؟ ولا يغيب عنا أن القدماء كانوا يستهدون في مثل هذه الحالات بالأحلام، والأمثال على ذلك كثيرة، تثبتها قراطيس البردي والنقوش، وسواء أصنع هذا التمثال أصلا ليكون في معبد «سينوفية» (147) أم في معبد الإسكندرية، فالغالب أن الخبر المنقول الذي ينسب صنعه إلى المثال المشهور «برويكسيس» (148) الذي اشتهر في القرن الرابع، صحيح غير مدخول بالشك.
وعلى قدر ما نستطيع أن نحدس اليوم، أرى أن بطلميوس في العهد الذي قضاه واليا على مصر كان يعتقد أن مصر ملكه الدائم، فخيل إليه أن يقيم عبادة دينية جديدة ينشرها في البلاد؛ ليؤلف بين قلوب الإغريق والمصريين. وكان له مستشارون منهم «طيموثوس الأثيني (149)»، وهو أحد أفراد أسرة «أومولفي» (150) الكهنوتية، وكان حجة ثبتا في العقائد الإغريقية، والكاهن المصري «مانيثون» (151)، وكان من أئمة العارفين بالديانة المصرية؛ ولذا يظهر أنه لم يكن هنالك من إله إلا الإله المصري «أوزيريس» الممفيسي، وأنه بعينه الذي اعتنق الأغارقة المتمصرون عبادته باسم «سرافيس»، فبادر بطلميوس إلى اتخاذ هذا الأمر ركيزة لإقامة دين جديد.
ويصعب أن يكون المصريون قد شعروا أن في هذا الدين شيئا جديدا؛ فإنهم عندما يتكلمون عن «سرافيس»، فكأنما هم يتكلمون عن «أوزير-حابي»، شأنهم في الزمن الخالي. ويقول «مقروبيوس » (152): إن المصريين اعتنقوا عبادة «سرافيس» جبرا، ويأخذ من وجود هياكل «سرافيس» في خارج أسوار المدن المصرية الأصيلة، بضد ما كان في الإسكندرية دليلا على ذلك. والغالب - كما يذهب فكلن - أن الفكرة في أن المصريين قاوموا عبادة «سرافيس» ليست أكثر من وهم، يدلل على فساده بقول «مقروبيوس» نفسه، أو بقول كاتب إغريقي متقدم عليه، من أن هياكل «السرافيون» (153) المصرية جميعها كانت تقام في العادة في خارج أسوار المدن وعلى حافة الصحراء، والتعليل الثابت لهذه الحقيقة أن هذه الهياكل إنما تعتبر بيوتا لإله الموتى؛ ولذا كانت تشاد بالقرب من المدافن.
لما أن ثبت «بطلميوس» قدم الإله «سرافيس» في مدينة الإسكندرية، على أنه الإله الرئيس للإغريق المتمصرين، وصوره لهم في صورة مشابهة لصورة الإله الإغريقي، أضفيت عليه صفات ونسبت إليه خصيات مشابهة لتلك التي كانت تضفى على غيره من آلهة الإغريق الأولين، وانتحلت له على الأخص صفات «أسقلفيوس» (154)، فأصبح إله الشفاء، وما على المرضى إلا أن يناموا في داخل الهيكل فينزل عليهم من طريق الرؤيا إلهامات تبين عن أمراضهم. ولم يكن للإله «أوزير- حابي» الممفيسي - على قدر ما يبلغ إليه علمنا - شيء من ذلك، وهذه الصفات لا بد من أن تكون قد خلعها الإغريق على «سرافيس» منذ البداية. ولقد عثر في أنقاض معبد إغريقي صغير كان قائما بجوار الطريق المرصوف الذي يصل بين «السرافيوم» الممفيسي و«الأبيوم» على رقيم، يستدل من شكل حروفه على أنه كتب حوالي سنة 300ق.م وفيه أن إغريقيا يتقدم إلى «سرافيس» بالشكران؛ جزاء ما شفاه.
وبالرغم من أن الأغارقة قد صوروا «سرافيس» على مثال الإله الإغريقي، وألقحوا عبادته بعناصر إغريقية، فإن الجانب المصري فيه ظل بين الطابع، حتى بعد أن ذاعت عبادته في البلاد الإغريقية فيما وراء البحار، فكان يشترك وآلهة مصرية أصيلة مثل إيزيس وأنوبيس وحوروس (155) والعجل أبيس. ولما كان «سرافيس» نفسه ليس إلا صورة محورة من «أوزيريس»؛ فإنه كان يحتل عند الإغريق مكان «أوزيريس»، إذ يظهر إلى جانب «إيزيس»، غير أن «أوزيريس» كان يظهر معهما بعض الأحيان. ويشير «فلكن» إلى أن الآلهة المصرية التي كانت تشترك مع سرافيس، هم بعينهم الذين كانوا يشتركون غالبا مع «أوزير-حابي» في السرافيون الممفيسي. وكذلك كان يقدم «الإوز» قربانا لسرافيس، وهو مما لا يتقرب به إلى إله من آلهة الإغريق الأصلية.
وشيد لعبادة سرافيس معبد جديد؛ أي سرافيوم آخر في رقوطيس (156) وهو الحي الوطني من مدينة الإسكندرية أعظم وأضخم؛ ليستظهر به على الهيكل الذي أقام الإسكندر قواعده لإيزيس. وقد بقيت مسلات الهيكل القديم قائمة في خارج فناء المعبد الجديد، وكان مهندسه إغريقيا اسمه فارمنسقوس (157)، وكان طابعه الهندسي - على قدر ما نعرف مما وصل إلينا من أوصافه ومن نقوش العملة - إغريقيا، وواجهته المعمدة الضخمة مشرفة على منحدر عظيم مكون من درجات. وكان هذا الهيكل معدودا من أضخم هياكل العالم الحاف بحوض البحر المتوسط وأضخمها، ولا يفوقه كما يقول أميانوس (158) إلا الكابتول (159) في رومية. وأضحى سرافيس إله الإسكندرية الأعلى خاصة، ومصر عامة.
وفي عصر بطلميوس الثالث كان القسم الرسمي؛ أي القسم الذي كانت تصوغه الحكومة ليقسم به أمام المحاكم وفي المعاملات الشرعية، يتضمن ذكر الملوك، وسرافيس وإيزيس وكل الآلهة والآلهات الأخر، ولا يذكر بالاسم غير سرافيس وإيزيس، دون غيرهما من الآلهة. غير أنا نستطيع أن نظهر أنه منذ بداية العهد الذي كان بطلميوس فيه واليا على مصر، كان بلاط الإسكندرية قد أحل عبادة الإله الجديد محلا رفيعا. نثبت ذلك برقيم كتبته أرسنوية (160) في هليكارناسس (161) هذه عبارته: «بنعمة بطلميوس المخلص الإله، أقامت أرسنوية الهيكل لسرافيس وإيزيس.» والظاهر أن تاريخ هذا الرقيم يرجع إلى عصر لم يكن بطلميوس قد أخذ فيه اللقب الملكي. كذلك أظهرت ورقة زينون البردية (162)، أن عبادة سرافيس كانت من التقاليد المرعية بشكل خاص، في قصر بطلميوس الثاني.
ومن الإسكندرية انتشرت عبادة سرافيس وذاعت في غيرها من المدن الإغريقية، وأخذت معابد سرافيس - أو بالأحرى سرافيس وإيزيس - تشاد في مكان بعد مكان على مدى قرون تالية من حول حوض البحر المتوسط. ولقد استمدت هذه العبادة عونا جديدا في خلال القرن الأول من التاريخ الميلادي، عندما استغل القصر الإمبراطوري في رومية نفوذه، منذ بداية عصر القياصرة الفلاويين (163) فصاعدا؛ لتأييد عبادة سرافيس وإيزيس في رومية وفي أنحاء الإمبراطورية.
لم يكن سرافيس الإله الوحيد الذي عبده المقدونيون والأغارقة، علاوة على آلهة آبائهم الأقدمين؛ فإن تأليه رجال ماتوا، أو ما يزالون أحياء، كان طابع العالم الإغريقي بعد الإسكندر، وهو طابع هليني أصيل، وليس منتحلا من تقليد شرقي كما كان يظن. وفي خلال القرن الخامس كانت الفكرة في إضفاء تشاريف وألقاب إلهية على الرجال؛ تعبيرا عن الاحترام الفائق أو الشكران، من الأشياء التي تجري على ألسنة أهل «أثينا».
24
Shafi da ba'a sani ba
وفي الوقت الذي كانت تمص فيه حرية الفكر نخاع الدين وتحز في أصوله، وقد راج القول بأن الآلهة الأقدمين ليسوا إلا رجالا عاشوا في عصر فارط، فألههم الخيال، ورفعهم الوهم إلى مرتبة الأرباب، كان من الهين أن تنقلب الآية، وتخرج من حيز الفكر إلى حيز العمل، وأن تستخدم صور العبادات الدينية أداة تمليق وإطراء لمشهوري رجال العصر. ووقف المحافظون من رجال الدين إزاء هذا الأمر موقف المعارضة على أنه كفر وزيغ، غير أنهم لم يفلحوا في شيء، فشاعت العادة في العالم الإغريقي قبل عصر الإسكندر.
ولقد أله الإسكندر، وربما كان تأليهه برغبة أبداها. وبعد أن مات الإسكندر وأصبح قواد جيشه محور القوة العالمية، ورغبت المدن الإغريقية في أن تصيب شيئا من عطفهم وحمايتهم، أو التقرب من أولئك الذين هزت تلك المدن نحوهم هزة الشعور بوجوب الاعتراف بالفضل، أو التعبير عن الشكران تلقاء فائدة جنيت، أو حاجة قضيت، سارع أهلها إلى إضفاء الألوهية عليهم، ورفعوا إليهن القرابين، وحرقوا البخور، وأسسوا الكهنوتيات. وكانت الخطوة الثانية أن تؤسس القصور الملكية الهلينة الجديدة، عبادات رسمية يعبد فيها أعضاءالأسر المالكة أمواتا كانوا أم أحياء؛ ليعبر الرعايا بذلك في أطراف كل مملكة منها عن خضوعهم، ويبينوا عن ولائهم.
وكان الإسكندر عند الإغريق المقيمين بمصر إلها منذ بداءة أعماله، وسرعان ما أصبح ملوك بيت بطلميوس وملكاته آلهة وآلهات. غير أننا لا نرتاب في أن المستنيرين من الأغارقة، كانوا ينظرون إلى العبادات الرسمية نظرة المعتقدين بأنها صورة رمزية لا أكثر ولا أقل. ولقد أضحى من الهين في تلك الأزمان أن يصبح أي إنسان إلها، ولكن من غير أن يكون لألوهيته كبير قيمة.
وكانت عبادة الموتى من الرجال أكثر ملاءمة لتقاليد الإغريق الدينية الموروثة عن أسلافهم من البدعة الجديدة؛ فإن روح الميت تكون على أية حال قد عبرت من هذا العالم إلى عالم خفي. وكان الأغارقة يعتقدون منذ أزمان أولى أن روح الإنسان ذي الشخاصة البينة، تحدث في الأحياء أحداث خير، أو أحداث شر، على غرار ما يفعل الأرباب. وقد نشئت عبادات تختلف بعض الاختلاف عن العبادات التي يتوجه بها إلى الآلهة، ووجهت إلى أرواح رجال عظام عبدوا تحت عنوان الأبطال
heroes
وكثر ما نقع على مدن إغريقية أقامت عبادات ذات شعائر وفرائض خاصة، توجهت بها إلى مؤسسيها باعتبارهم أبطالا. فكان مما يتفق وتقاليد الأغارقة وعاداتهم أن تعبد الإسكندرية الملك الإسكندر.
25
ولا ريب في أن الخطوة من عبادة إنسان ميت على أنه بطل إلى عبادته على أنه إله، خطوة قريبة. ولم يقتصر الأمر في تلك الأيام على أن يعبد الإغريق الإسكندر، بل تعدى إلى بطلميوس، فعبد حيا.
وينبغي لنا أن نفرق بين أربع صور من العبادات اتخذ فيها ملوك بيت بطلميوس وملكاته آلهة وإلهات، وإليك هي: (1)
عبادتهم في الهيكل المصري، وعلى الشعائر المصرية التقليدية التي عبد بها الفراعين المصريون. وكان الكهنة المصريون يقومون بطقوس هذه العبادة للإسكندر، ولا شك في أنها وجهت إلى بطلميوس منذ صار ملكا على مصر من بعده. ولم يكن للأغارقة من صلة بهذه العبادة المصرية، فكان كل ما يحدث في داخل المعابد المصرية، وكل ما يكتب في الهيروغليفية من العبارات المقدسة خارج عن عرفهم، ولو أن القصر البطلمي، لا بد من أن يكون قد اتخذ من الوسائط كل ما يحقق لديه بإشراف عيون من الأغارقة أن الكهنة المصريين يدأبون على تلاوة العبارات الدالة على الخضوع والولاء. (2)
Shafi da ba'a sani ba
العبادة التي كان يباشرها الأغارقة على الشعائر الإغريقية، فإما أن يقوم بها أفراد مستقلون، بأن يشيد الواحد منهم مذبحا أو محرابا للملك أو المملكة، وإما من طريق جمعيات تتخذ الملك أو الملكة معبودا، فيحل أحدهما محل أحد المعبودات التي تعكف الجمعية على عبادتها. ومثل هذه العبادات الخاصة قد تتشكل في أي شكل يختاره المتعبد، كما أنه حر في أن يخلع على الملك أو المملكة - موضوع العبادة - أي لقب أو نعت فيه، فيدعوه «المخلص» أو «المنعم» أو غير ذلك؛ مما يثبت به الطاعة والولاء له، من غير تقيد بالنعوت الرسمية. (3)
العبادات التي نشأت كعبادة مدنية، وهي الخاصة بحكومات المدن الإغريقية التي كانت حرة اسما، كالإسكندرية وإفطولمايس، أو المدن الإغريقية الخاضعة لسلطان بطلميوس في الخارج، أو كحكومات أثينا ورودس، عندما تريد أن تضفي التشاريف على حكام مصر. (4)
عبادة الإسكندر: وهي العبادة التي أقامتها الحكومة البطلمية كشعيرة رسمية لمصر جمعاء. وكان لها كل سنة كاهن رئيس، يعين بدء السنين لتأريخ الصكوك الرسمية. ولم تؤسس في حكم بطلميوس الأول عبادة رسمية ثابتة توجه إلى الملك الحاكم يتعبد بها الأغارقة خاصة. هذا برغم أن بطلميوس كان يعبده أفراد من الأغارقة، بله مدن إغريقية.
ويروى عن ديودورس أن أهل رودس أرادوا أن يظهروا لبطلميوس ما تكنه صدورهم لهم من شكران، بعد أن فشلت محاولة «دمطريوس» في أن يفتح مدينة رودس عنوة سنة 304، فأرسلوا بعثا إلى واحة سيوه؛ ليسأل هاتف آمون: أيشير على الرودسيين بأن يكرموا بطلميوس باعتباره إلها؟ فلما أجاب الهاتف بالإيجاب، شيدوا في مدينتهم محرابا قائم الزوايا أوقفوه عليه، وأقاموا على جانبيه عمدا بطول «إستاديوم» (164) وسموا هذا المحراب «إفطولمايوم» (165).
ويقول «فاوزنياس» (166): إنه من ذلك الوقت أضفى الرودسيون على بطلميوس - باعتباره إلها - ذلك اللقب الذي عرف به من بعد في التاريخ، فلقبوه «سوطر»؛ أي المخلص. ولكن نقشا محفورا، يثبت لاتحاد جزر «قوقلادس» خطر السبق إلى عبادة بطلميوس كإله. وكان بطلميوس - كما تقدم - قد بسط على تلك الجزر ضربا من الحماية سنة 308ق.م وإذا ثبت أن الإهداء الذي أمرت أرسنوية بإثباته، وذكرناه قبلا، يرجع تاريخه إلى فترة تقع بين 308 و306ق.م؛ فذلك مما يثبت أن بطلميوس كان قد لقب «بالمخلص الإله» قبل أن يفقد سلطانه على بحر أيغا، بهزيمته في سلاميس وقبل أن ينتحل لقب «الملك». وإنا إذ نرى أن أحد أفراد أسرته قد نعته بالألوهية، نثق بأن رجال الحاشية في الإسكندرية قد فعلوا مثل ذلك. وفي نقش طبعت صورته حديثا، أن الثلاثة من الأغارقة كرموا الملك بطلميوس والملكة برنيقية على أنهما إلهين مخلصين؛ وفاء لنذر نذروه جزاء النجاة من خطر أحدق بهم. •••
في سنة 285ق.م شعر بطلميوس بأن الوقت الذي ينصب فيه وريثه للعرش قد حان. وكان شيخا بلغ الثانية بعد الثمانين، وقد سلخ جلها في مخاطرات فذة، منذ أن هجر سكنه في البلقان شابا صغيرا، فقاد الجحافل للجلاد إلى جوف آسيا، ومن فوق تلال الأفغان، وعلى ضفاف أنهر الهند، وتزوج من أميرة فارسية في «سوسه». وانتهى به الأمر أن يكون فرعونا للمصريين، وإلها للأغارقة. وأعقب أولادا كثرا من زوجاته وحظاياه المختلفات. وكانت أول زوجاته المعروفات «أرتقاما» (167) الأميرة الفارسية، وقد تزوج منها في ذلك العرس التاريخي العجيب، الذي أقيم مهرجانه في «سوسه» سنة 324ق.م؛ إجابة لرغبة الإسكندر في أن يتخذ عدد كبير من ضباطه المقدونيين والأغارقة زوجات فارسيات. غير أننا لا نسمع عن «أرتقاما» من بعد ذلك شيئا، ويرجح أن بطلميوس قد نبذها بغير جلبة عندما غادر بابل إلى مصر بعد موت الإسكندر. وإذا صح هذا فإن فعلته هذه تكون على النقيض من سلوك صديقه سلوقوس، وقد احتفظ بزوجته «أفاما» (168) الفارسية، التي تزوج منها في «سوسه» وظلت معه، فكانت جدة ملوك الأسرة السلوقية والجدة الأولى من طريق زيجة ملكية وقعت في المستقبل لآخر سلالة ملوك البطالمة وملكاتها: من كان منهم باسم بطلميوس، ومن كانت منهن باسم إقليوفطرا.
ولم يمض على موت الإسكندر غير بعيد حتى تزوج بطلميوس من «أورديقية»، ابنة الشيخ «أنطيفاطروس»، الذي كان ملكا على مقدونيا. وربما كان ذلك قبل اتفاقية «إتريفاراديسوس» (169)، سنة 321؛ فاستولدها ابنان، كان أحدهما - ويرجح أنه الأكبر - يدعى بطلميوس، وابنتان هما «إفطولمايس» (170) و«لوسندرا» (171). أما إذا كان بطلميوس لم يتزوج منها قبل سنة 321، كما يظن «مهفي»، فإنه مما يبعد أن تكون قد أنجبت منه أكثر من أربعة أولاد؛ لأن بطلميوس لا بد من أن يكون قد تزوج من «برنيقية» قبل سنة 316. اللهم إلا أن يكون بطلميوس قد استولد الأولى، بعد أن تزوج من الثانية.
في تلك السنة (316ق.م) تزوج بطلميوس من «برنيقية» زواج حب، وكانت سيدة مقدونية قدمت مصر في ركاب «أورديقية» (172)، وكان لها ثلاثة أولاد من زوج سابق.
26
والذي نعرفه أن بطلميوس استولدها طفلين: أرسنوية، وقد ولدت سنة 315 على الأكثر؛ لأنها تزوجت من «لوسيماخوس» حوالي سنة300، وابن سمي بطلميوس على اسم أخيه من أبيه، ولد في «قوص» لما كان أسطول أبيه حاكما بأمره في بحر «أيغا». والظاهر ترجيحا أن «فيلوطيرا»، كانت نجيبة بطلميوس وبرنيقية (173)؛ اعتمادا على ما نعرف من المركز الاجتماعي الذي شغلته فيما بعد.
Shafi da ba'a sani ba
ولم يكن لبطلميوس من زوجات شرعيات في مصر إلا «أورديقية» و«برنيقية». أما المصادر التي بين أيدينا، فلا نعرف منها أطلق بطلميوس «أورديقية» قبل أن يتزوج من «برنيقية»، أم كان له بعد سنة 315 زوجتان جمع بينهما؟ أما ملوك الأسرة، بعد بطلميوس الأول، فلم يكن لهم أكثر من زوجة شرعية واحدة في وقت واحد؛ مراعاة للعرف السائد في العالم الإغريقي. غير أن ملوك مقدونيا قبل عصر الإسكندر كانوا يتزوجون بأكثر من واحدة، ومن خلفاء الإسكندر دمطريوس وفورغوس (174)، وكان كلاهما من هذا الطابع، ولا يبعد أن بطلميوس كان من هذه الناحية مقدونيا، لا إغريقيا.
والراجح أن بطلميوس كان له حظايا كثيرات، بجانب زوجاته الشرعيات، فقد كان له علاقة ب «ثايس»
Thais (175) الأثينية المعروفة، وكانت من نجوم الطبقة الوسطى في إغريقية، ومما يؤثر عنها - وإن كانت القصة مشكوك فيها كل الشك - أنها كانت في وليمة بمدينة «فرسوفولس» (176) سنة 330ق.م - في أثناء مغزاة الإسكندر المقدوني في فارس - وبتحريضها أحرق القصر الذي أقيمت فيه الوليمة.
27
ولقد استولدها بطلميوس ليونتسقوس
28 (177) ولاغوس وإرينة (178). ومن الممكن أن يقرأ الاسم المسجل بصيغة: «ليونتسقوس» المسمى أيضا «لاغوس» (179). وتزوجت «إرينة» من «أونوسطس» (180)، الذي كان ملكا - أو أميرا - في صولي (181) بجزيرة قبرص، وكان له عدا هؤلاء ولدان؛ أحدهما: «ملياغار» (182)، والآخر: «أرغايوس» (183)، ولا علم لنا بأمهما. غير أن «ملياغار» قد تبع «بطلميوس قراونوس» (184) إلى مقدونيا، فمن هنا ظن أنه كان من أبناء «أورديقية»، وهنا يلزمنا أحد فروق ثلاثة، الأول: أن يكون «توأم» واحد من أولاد «أورديقية» الأربعة الذين ذكرناهم. الثاني: أن تكون «أورديقية» قد تزودجت من بطلميوس قبل سنة 321. والثالث: أنها أنجبت من بطلميوس بعد سنة316.
لو أراد بطلميوس أن يتبع سنة الإسكندر، أو سنة ملوك مصر الأقدمين الذين كونوا أسرا جديدة، لكان لزاما عليه أن يتزوج من العترة الملكية؛ ليسبغ على حكمه صبغة شرعية في نظر رعاياه، ولكنه لم يفعل، ولم نسمع أن أحدا من بيت بطلميوس الملكي كان له صلة بامرأة مصرية إلا مرة واحدة، وكانت حظية لا زوجة.
ولما بلغ بطلميوس الثانية بعد الثمانين، أراد أن ينزل عن عرشه لخلفه، وهو أشد رغبة في أن يرى خليفته آمنا من فوق العرش، ثابت القدم في الملك، منه في طلب راحة الجسم والعقل. وكان أكثر حبا لبرنيقية منه «لأورديقية». وبالرغم من أن «بطلميوس» ابنه من «أورديقية» كان أرشد الاثنين، فإنه اختار بطلميوس ابن «برنيقية»؛ ليكون ملكا من بعده.
ولا ريبة في أن «أورديقية» قد نبذت بعد أن ظفرت برنيقية - إحدى وصيفاتها - بمكانتها من قلب بطلميوس؛ ولذا تركت «أورديقية» مصر سنة 286، وعاشت في «ميلطوس» (185)، ومعها ابنتها إفطولمايس. وهنالك، بعد أن سقط دمطريوس عن عرش مقدونيا، حضر بأسطوله وتزوج من إفطولمايس، وكان بطلميوس قد وعده بها قبل ثلاثة عشر عاما مضين.
وظل بطلميوس بن «أورديقية» بمصر؛ على أمل أن يكون وريث أبيه في الملك. ولقد تدخل لاجئ أثيني مشهور في العالم الإغريقي اسمه «دمطريوس الفالرومي» (186) في الأمر، متخذا من نفوذه عند بطلميوس شفيعا لتأييد الأرشد من أبنائه. ولا شك أن حزبا قويا من المقدونيين كان يفضل حفيد الشيخ الموقر «أنطيفاطروس» على ابن «برنيقية»، غير أن تعلق بطلميوس ببرنيقية وأولادها، حتى ولو كانت قد ماتت في ذلك الوقت،
Shafi da ba'a sani ba
29
كما هو الراجح أضاع سعي الحزب الآخر، وذهب بدعايته بددا.
في أوائل سنة 284ق.م نودي «بطلميوس الأصغر» ابن «برنيقية» ملكا في الإسكندرية. والظاهر أن «بطلميوس» لم ينزل عن ملوكيته نزولا تاما، بل أشرك ولده معه في الملك. أما بطلميوس ابن أورديقية، ويكنى قراونوس (187)؛ أي «الصاعقة»، فلم يجد بعد ذلك في مصر مكانا يسعه، فسافر لاجئا إلى بلاط «لوسيماخوس»، وكان قد أصبح ملكا على مقدونيا، وكانت الملكة زوجة لوسيماخوس أختا شقيقة لملك مصر الصغير، وهي «أرسنوية» ابنة بطلميوس من «برنيقية». أما شقيقة بطلميوس قراونوس، «لوسندرا» ابنة بطلميوس من «أورديقية»، فكانت زوجة «أغاثوكلس»، ولي عهد مقدونيا، وأرشد أولاد لوسيماخوس من زوجة سابقة.
وأرادت «أرسنوية»، وكانت في ذلك العهد شابة في الأولى بعد العشرين من عمرها، أن تحتفظ بالعرش لولدها، وكانت من طراز الأميرات المقدونيات، جريئات القلوب محترات الأرواح، اللواتي لن يحجمن عن عمل، مهما كان فيه من عنف وقسوة، إذا كان في الإقدام عليه وتنفيذه ما يقربهن من أغراضهن التي يرمين إليها. وكانت «إقليوفطرا» (188) المعروفة، مثالهن الأخير، فوشت بأغاثوكلس وشاية كاذبة انتهت به إلى الموت قتلا، بعد أن هبط «بطلميوس قراونوس» مقدونيا بفترة وجيزة. وترملت «لوسندرا»، ففرت هاربة إلى بلاط سلوقوس، وفر معها شقيقها «قراونوس»، أو هو لحق بها هنالك. •••
إن ما طمع فيه «سلوقوس» من الاستيلاء على كل الإمبراطورية التي خلفها الإسكندر، قد قرب بين بلاط مصر وبلاط مقدونيا، وحينذاك هبطت مصر شقيقة أغاثوكلس، أو أخته من أبيه: «لوسيماخوس»، وكان اسمها أرسنوية على اسم زوجة أبيها، قادمة من مقدونيا؛ لتتزوج من ملك مصر الفتى.
كانت عواصف القدر تتجمع في جو الدنيا، ولكن بطلميوس الشيخ لم يعش ليرى انفجارها العظيم، فمات وهو في الرابعة بعد الثمانين (283 أو 282ق.م)، ولقد تفرد من بين القواد الذين شيدوا إمبراطورية الإسكندرية بأن يموت في فراشه ميتة طبيعية.
وإن في ذلك دليلا قاطعا على بعد تلك النظرة التي استشف بها مذ كان في بابل حجب أربعين عاما من الزمان، فطلب مصر ورغب عن سواها. •••
عرف الملك الشاب، الذي ارتقى عرش مصر في سنة 283 أو 282ق.م وله من العمر خمس وعشرون عاما، باسم «بطلميوس فيلادلفوس» (189). على أن هذه الكنية لم تطلق عليه حال حياته، فقد عرف عند معاصريه بأنه «بطلميوس بن بطلميوس». ولم يكن لاسم «بطلميوس»، في آذانهم رنة اسم ملكي، انحدر المسمون به من عترة تتابع منها الملوك، بل اسم زعيم مقدوني، قدر له الحظ أن يصبح ملك مصر، ثم انتقل الاسم من الأب إلى الابن. والغالب أن النية لم تتجه في ذلك الوقت إلى أن يتخذ ملوك ذلك البيت جميعا اسم بطلميوس، حتى إذا فرض واستمر أفراده يحكمون أرض مصر متعاقبين. ولقد ورد في بيت «أنطيغونس» أسماء ملكية عديدة، منها أنطيغونس ودمطريوس وفيلبس. وكذلك الحال في بيت «سلوقوس»، فكان منه اثنان: «سلوقوس» و«أنطيوخس»، ثم أضيف إليهما فيما بعد «دمطريوس» و«فيلبس»؛ ليظهر بذلك أن الملوك السلوقيين يمتون بالدم إلى بيت «أنطيغونس». أما تتابع ملوك من بيت «بطلميوس»، يحملون جميعا اسم مؤسس تلك السلالة الملكية، فأمر فيه من المصادفة أثر - قل أم كثر - ثم اتخذ من بعد ذلك سنة مرعية.
30
كان بطلميوس الابن من طابع يختلف عن بطلميوس الأب كل الاختلاف؛ فإن الخور الذي أخذت آثاره تظهر شيئا بعد شيء في كثير من أعقاب ذلك البيت، قد تجلى منه طرف في ابن القائد المقدوني الصلب الشديد المراس. وفي ذلك أسوة بما بين داود وسليمان من فروق؛ فإن المترف ذا النعمة، المفتون بالعقليات والفنون، كان لرجل الحرب خليفة. وقد نشئ بعناية «أسطراطون» (190) أحد أعيان المدرسة الأرسطوطالية، وصنع على عينه. وكان شغف بطلميوس الثاني بعلمي الجغرافية والحيوان صفة نماها استعماق أرسطوطاليس وحواريوه في الدراسات العلمية، وعكوفهم عليها. ومع هذا، فإن إقليم مصر لم يكن قد أثر في حيوية تلك العترة المقدونية ومرتها، فكان أثره في بطلميوس الثاني أقل منه فيمن أتى بعده من الأعقاب.
Shafi da ba'a sani ba
كان أشقر الشعر فأضفت عليه هذه الصفة صبغة أوروبية . ويغلب أنه كان ربلا ممتلئ الجسم، وفي ملوك هذا البيت نزعة إلى الربالة، تصيبهم في أخريات أيامهم. أضف إلى ذلك ضعفا تكوينيا، وإن شئت فقل: ميلا إلى الإفراط في العناية بأمر صحته، صرفه عن الجهد البدني وكره بسببه الكد والنصب.
ومضت أكثر أيام حكمه ومصر في حروب متعاقبة، ولكنها كانت تحت إمرة قواد جيوشه البرية ، أو أمراء بحريته. ولم يقد بطلميوس الثاني جيشا، متأسيا بما فعل أبوه من قبل أو بما كان معاصروه من الملوك، مثل أنطيوخس الأول (191) أو أنطيغونس غوناطس (192)، إلا مرة واحدة، زحف فيها حذاء النيل إلى مصر العليا.
ولم يلبث غير قليل حتى اكتنفت سياسته أعاصير عنيفة، رجفت منها الممالك الحافة بشرقي البحر المتوسط. ففي سنة 201ق.م اشتبك الشيخان الباقيان من جيل الإسكندر، «سلوقوس» (193) و«لوسيماخوس» (194)، وقد حطم كلاهما الثمانين في حربهما الأخيرة، وسقط «لوسيماخوس» وبقي «سلوقوس» بغير خصيم - كما لاح إذ ذاك - يصده عن أن يتبوأ مكانة الإسكندر من الدنيا. وكان موقف أقض مضجع بطلميوس الصغير، وبخاصة أن أخاه «بطلميوس قراونوس» (195) كان مع «سلوقوس»، ومما لا يبعد، بل مما هو قريب أن يؤيد «سلوقوس» دعواه في الأحقية بعرش مصر. ولكن الآية انقلبت سراعا، وسادت الدنيا فوضى غامرة عندما اغتال «بطلميوس قراونوس» الشيخ «سلوقوس» في الدردنيل، فأنقذ هذا الحدث ملك مصر وأيد موقفه؛ فإن الخطر كل الخطر، كان في «سلوقوس» ولكن مطامع «بطلميوس قراونوس» قد انصرفت عن مصر، واتجهت نحو مقدونيا. وكانت «أرسنوية» أرملة «لوسيماخوس» وشقيقة بطلميوس الثاني، وأخت «بطلميوس قراونوس» من أبيه، لا تزال من مقدونيا عاقدة العزم على أن تحتفظ بالعرش الشاغر لولدها. وكانت قد تخطت طور الفتوة، وهي بعد أميرة مقدونية على ما وصفنا الأميرات المقدونيات من قبل، وفيها من افتراس النمرات أثر غير قليل. ولكن «قراونوس» بذها مكرا وافتراسا، فتزوج منها أول الأمر، ثم قتل ابنها من «لوسيماخوس»، ولجأت «أرسنوية» إلى معبد «سموثراقية» (196).
وتبع ذلك تعقيدات مروعة، فقد أغارت جماهير من أهل الغال (197) المستوحشين مما وراء البلقان، واكتسحت مقدونيا وإغريقية وآسيا الصغرى . وفي فيض هذه البربرية قضى «بطلميوس قراونوس» نحبه سنة 280، وقامت معارك متشابكة متهاوشة فترة من الزمان، تسنم خلالها «ملياغار» (198) أحد أبناء بطلميوس الكبير ذروة الملك شهرين اثنين، ثم انحدر إلى حيث طواه ظلام القرون.
وظهر في الميدان شخص آخر هو «أنطيفاطروس» (199)، من أبناء عمومة «قصندر» (200)، تسنم عرش مقدونيا أشهرا قلائل، فلما سقط فر لاجئا إلى الإسكندرية ، وفيها عرف باسم «أطسياس» (201)، وهي كنية أطلقت عليه، وأصلها اسم رياح موسمية تعصف خمسا وأربعين يوما. ولقد عثر بالمصادفة على قرطاس بردي، ثبت منه أنه كان ظهير رجل يصنع كعوب النرد للعبة تدعى لعبة العاشق (202).
أما في آسيا الصغرى وشمال سورية، فقد عمل «أنطيوخس الأول» ابن سلوقوس من زوجته «أفاما» الفارسية جاهدا في أن يثبت قدمه في ملوكية أبيه؛ فإن سلطانه في آسيا الصغرى كان مرتجا غير مستقر، وكان مظهر سلطانه الرئيس يتجلى في حروب يشنها على دويلات نشأت حديثا من إمارة وطنية تظهر هنا، أو أسرات فارسية تطفر هنالك، إلى الإمارة الإغريقية التي نشأت تحت إمرة «فرغامن» (203)، ناهيك بجماهير أهل الغال بغارتها التخريبية. وفي النهاية، وبعد نصف قرن من الزمان قضاه العالم في فوضى غامرة بعد موت الإسكندر، قرت الدنيا الحافة بشرقي البحر المتوسط في ظل مجموعة من الدول مستقرة استقرارا نسبيا، فحكم في مقدونيا بيت «أنطيغونس»، وفي آسيا الصغرى وما بين النهرين وبابلونيا وفارس بيت «سلوقوس»، وفي بقاع أخرى من آسيا الصغرى أسرات موضعية جديدة، وفي مصر وفلسطين وقبرص بيت «بطلميوس». أما في إغريقية، وفي الجزر المنشورة على شواطئ بحر أيغا (204)، وفي البوسفور (205) والبحر الأسود، فإن دويلات المدن القديمة كانت تعيش في ظل حريات، قد يزيد قدرها أو يقل بنسبة ما تهيئ لها الظروف أن تنفض عن عاتقها عبء الخضوع لإحدى الدول الملكية.
وفيما بين هذه الدول العظمى نشطت المنابذات السياسية والحربية طوال حكم «بطلميوس الثاني». وكانت مصر «المقدونية» (206) في أوج قوتها وعظمتها. ولكن الأخبار التي كان من الممكن أن نحيك منها رواية كاملة في الدور الذي مثله «ملك الشمس» وقواده وسفراؤه في رقعة الدنيا قد عدمت جميعا، وكل عمدتنا في ذلك على خلاصات غير وافية حررها كتاب متأخرون، فكانت إشارات تذكر عرضا، أو محررات شتيتة متفرقة، غاية مستطاعنا أن نستخلص منها إلمامة، يصدع فيها النقص الكمال ويرهق فيها الإبهام اليقين.
إن مطامع بيت «بطلميوس» في أن يبسط سلطانه على بقاع معينة من آسيا الصغرى، وفي أن تظل له السيادة البحرية، وفي أن يتدخل تدخلا فعليا في سياسة العالم الإغريقي، قد منع عليه أن يظل بعيدا عن مغامرات السياسة الخارجية. وفي فترة بين سنتي 279 و274ق.م تسلطت على البلاد الإسكندري إرادة أقوى من إرادة «بطلميوس»؛ فقد هبطت مصر شقيقته «أرسنوية» بعد أن ضاع كل أمل لها في أن تكون ملكة في مقدونيا، وفي نفسها - على الأرجح - عزم على أن تصبح ملكة في بيت أبيها. وكان في مصر ملكة هي «أرسنوية» ابنة «لوسيماخوس» (207) وزوجة «بطلميوس»، غير أن هذا الأمر لم يكن عقبة تقف في وجه امرأة من طراز أرسنوية ابنة «بطلميوس الأول»؛ فإنها استطاعت من قبل سنوات أن تكتسح «أغاثوكلس» من طريقها بأن حملت أباه على أن يقتله؛ جزاء تهمة كاذبة. وكانت «أرسنوية لوسيماخوس» قد أنجبت من بطلميوس ثلاثة أولاد؛ ابنان: بطلميوس ولوسيماخوس، وابنة: هي برنيقية. ولكنها - برغم هذا - اتهمت بالتآمر على حياة الملك زوجها، وقتل اثنان اتهما غدرا بالتواطؤ معها: شخص يدعى «أمنتاس» (208)، و«خروسبوس الرودسي» (209) طبيبها الخاص، ونفيت الملكة إلى بلدة «قفطوس» (210) بمصر العليا.
وكان «مهفي»، أول من كشف عن لوح مصري، عثر عليه في «قفطوس»، يشير إلى أرسنوية الأولى بما يأتي:
هذا تذكار «سنخرود» (211) المصري، الذي أثبت في سيرة كتبها عن نفسه أنه كان حارسها، وأنه شيد لها محرابا وجمله. وعلى الرغم من أن هذه السيدة كانت تدعى: «زوجة الملك العظيمة التي تملأ جوانب القصر بجمالها، وتغمر قلب الملك بطلميوس بالطمأنينة والغبطة»، فإنها لم تنعت بأنها «محبة أخيها» (212). ومما هو أنكى من ذلك أن اسمها لم يحو في خرطوش ملكي، كما يجب أن يصنع في أسماء الملكات.
Shafi da ba'a sani ba