185

Farko da Karshe

بداية ونهاية

Nau'ikan

وعاود الشاب إحساسه بالغرابة، وغلبه الإحساس على ما عداه، فلم يشعر لا بحزن ولا بارتياح، ولم يتحرك فكره لا إلى الأمام ولا إلى الوراء، كأنه لم يطق هذا الفراغ المخيف فركز انتباهه في الجثة الراقدة غير بعيد من قدميه، جرى بصره عليها، وقد تبعثر شعرها والتصقت خصلات منه بخدها وجبينها، وران على الوجه جمود صامت لا يبشر بيقظة، وعلته زرقة مروعة، وخيل إليه أنه يرى أخاديد دقيقة حول الفاغر والعينين، كأنها تقلصات العذاب الذي كان آخر عهدها بالدنيا، أما الفستان المشبع بالماء فقد لزق بالجسد وتلوثت أهدابه بتراب الأرض فتطينت، وبدت قدم ما تزال ممسكة بفردة حذائها والأخرى في جوربها. ورجع بصره إلى وجهها فجاش صدره وامتلأ فراغه باضطراب وثوران؛ «لماذا أضطرب هكذا؟ ألم أقتنع حقا بأن هذه هي خير نهاية! ألم أسقها إلى الموت بنفسي؟ ينبغي أن تطمئن نفسي، بيد أنني أتساءل عما داخلها من شعور وهي تهوي إلى الماء، وكيف تلقى جسمها النحيل صدمة الماء الغليظ، وماذا دار بذهنها وهي تتخبط بين أمواجه، وأي جهد وجدت والطمي يكتم أنفاسها، وأي عذاب ذاقت ورغبة الحياة تثب بها إلى سطحه فيشدها باطنه إلى الأعماق؟! إن محاولة الغريق اليائسة للنجاة أشبه بأحلام الشقي بالسعادة؛ كلتاهما أمنية ضائعة. أتراها تراني الآن من عالمها الآخر؟ أراضية هي أم غاضبة أم ساخرة؟! ماذا ترى في موقفها هذا؟ لماذا وقع هذا كله؟» وذكر بغتة أمه فحجبت صورتها الجثة عن عينيه، وهز رأسه كأنما ليطردها عن مخيلته، وصمم بقوة على أن يتحامى التفكير فيها، وعاد بانتباهه المحموم إلى الجثة، وعلى رغمه وجد نفسه يتذكر أيادي الفتاة عليه؛ ما كانت تكن له من حب وما جادت به من كرم، فما كان يخطر لها ببال أن تكون نهايتها على يديه، وشعر بإعياء وقنوط، وتساءل في جزع: «لماذا هذا كله؟!» وأغمض عينيه لأنه لم يعد يطيق النظر إليها. كان رأسه محموما، وغيض الهم كل رغبة في الحياة في قلبه، وانقلب وجه الدنيا في عينيه كهذا الوجه الأزرق الناطق بالعدم، وقال لنفسه وهو يتنهد من الأعماق: «رباه! لقد قضي علي.» وسمع عند ذاك صوت الضابط وهو يأمر الشهود بالذهاب معه إلى النقطة، ثم رأى الجثة تحمل ورأى القوم يمضون بها إلى الجهة الأخرى من الطريق فأتبعهم طرفه حتى حال الظلام بينه وبينهم. وفي أقل من دقيقتين وجد نفسه وحيدا يكتنفه حفيف الأشجار التي تكاد تطبق أغصانها الغليظة الملتوية على البقعة كلها، وتراجع في تراخ وترنح حتى أسند ظهره إلى جذع شجرة وراح فيما يشبه السبات وكأنه يتردى في هاوية معتمة، ليس بها بارقة أمل؛ «قضي علي، كنا جميعا فريسة للشقاء فما كان ينبغي لأحدنا أن يعين الشقاء على أخيه، ماذا فعلت؟ إنه اليأس الذي فعل، ولكني قضيت عليها بالعقاب الصارم، أي حق اتخذت لنفسي! أحق أني الثائر لشرف أسرتنا؟! إني شر الأسرة جميعا. حقيقة يعرفها الجميع، وإذا كانت الدنيا قبيحة فنفسي أقبح ما فيها. ما وجدت في نفسي يوما إلا تمنيات الدمار لمن حولي، فكيف أبحث لنفسي أن أكون قاضيا، وأنا رأس المجرمين! لقد قضي علي.» وألقى نظرة على ما حوله في حيرة وخوف؛ «أين أذهب؟ أيمكن أن أمرق من هذه المحنة كما مرقت من غيرها من قبل؟ .. لشد ما تهزأ بي الأماني! لا تبال، حسن .. ولكن هل يسعك هذا؟ احمل نفسك بشرها وانشد النسيان ثم السعادة، ها ها. إني أعبث بنفسي بلا رحمة! طالما أحببت أن أمحو الماضي، ولكن الماضي التهم الحاضر، ولم يكن الماضي المخيف إلا نفسي، لماذا لا أواصل الحياة بهذه الأعباء؟ لا أستطيع، كان ينبغي أن أحب الحياة إلى النهاية، ومهما يكن من أمر، ولكن في طبيعتنا خطأ جوهري لا أدريه، لقد قضي علي!»

واستوى واقفا ؛ إما لأنه ضاق بمسنده، وإما لأنه وجد حافزا جديدا، وابتعد عن الشجرة وهو يلقي نظرة الوداع على نقطة البوليس، ما في شعوره إلا السأم والنزوع إلى الهرب؛ «لا أريد أن يمسك سوء بسببي. أمر ربنا. أمر الشيطان. النيل. ليكن. وإذا ساورك خوف. كلا، إن ما ورائي في الحياة أفظع من الموت. أأنت مستعدة؟ لماذا تغيب الملازم حسنين، ألم يرسل خطاب اعتذار؟ رأيت صاحب هذا الوجه عقب انتشال الجثة وسألته هل شاهدت الحادثة وكان مذهولا.» وبلغ الموضع نفسه من الجسر، فارتفق السور وألقى ببصره إلى الماء تتدافع أمواجه في هياج واصطخاب. وأخلى رأسه من الفكرة. «إذا أردت هلم. لن أصرخ. فلأكن شجاعا ولو مرة واحدة. ليرحمنا الله!»

Shafi da ba'a sani ba