180

Farko da Karshe

بداية ونهاية

Nau'ikan

فكرر قوله في نفس الصوت الميت: دعني أراها من فضلك.

ومضى الضابط إلى الباب المغلق متثاقلا، وفتحه، واقترب حسنين منه كمن يمشي في حلم، وألقى بنظرة من فوق كتفه كمن ينظر ليتعرف على جثة في المشرحة، فرأى لصق الجدار المواجه للباب أريكة ارتمت عليها فتاة قد ألقت برأسها إلى الحائط، عيناها نصف مفتوحتين، ولكنهما مظلمتان لا تريان شيئا، ميتة أو مغمى عليها، أو لعلها في ذهول الإفاقة الأول، وقد التصقت بجبهتها شعرات مبتلة وعلت بشرتها صفرة الموت. لكنها نفيسة دون غيرها! «قلبي لا يكذبني في المصائب أبدا، لو كانت ميتة لادعيت أني لا أعرفها بلا تردد.» ولم تبد حراكا كأنها لم تحس للقادمين وجودا، أو أنها لم تستطع أن تبدي حراكا، ونظر الضابط صوبه متسائلا، ولكن عينيه لم تتحولا عنها، جمد بصره وتحجر، وغشيه ذهول وجد فيه مهربا مؤقتا مما كان ومما سيكون، وخيم عليهم سكون الموت، وانقضت فترة طويلة أو قصيرة، ثم شق الصمت صوت باطني يصرخ في أذنه: «انتهى ...»، وتخايلت لعينيه صورة أمه كما رآها منذ ساعة، واقفة بينه وبين حسن في حيرة يائسة والرجل يتوثب للفرار. ود تلك اللحظة لو يقتحم تجارب الكفر والقسوة والموت؛ «ماذا ينتظر هذا الضابط أن أفعل؟ .. ماذا ينبغي أن أفعل؟ رباه كيف أغادر هذا المكان؟!».. ثم سمع الرجل يقول: لقد قدمت ما عندي من واجب نحوك، فهات ما عندك من حكمة.

فسأله بدوره وهو يتحامى من عينيه: أين الآخر؟!

وأدرك الضابط ما يعنيه، فقال بلهجة لا تخلو من حزم: طبقت عليه الإجراءات وأطلق سراحه.

فغمغم قائلا: لنترك هذا المكان شاكرين.

90

في الخارج لفحه هواء بارد، وكان الظلام قد خيم فابتعد عن نقطة البوليس في خطوات ثقيلة تتبعه هي على بعد ذراع منكسة الوجه، سارا مع قضبان الترام، ولم يكن يدري أين ينتهي به المسير؛ لأنه لم يسبق له المجيء لهذا الحي، ومع أن الليل كان في أوله إلا أن الطريق بدا مقفرا، وتساءل في نفسه ترى أين ينتهي الطريق؟ .. ثم بدا تساؤله آية في الغرابة، فلم يكن المهم أن يعرف أين ينتهي الطريق، ولكن الجدير بالمعرفة حقا أن يعلن ما هو صانع «بها». كان يحسب أنه سيبدأ بالتنفيذ توا بعد خروجه من النقطة، وكانت هي تتوقع هذا، ولكن أقدامهما تقدمت بهما دون أن يفعل شيئا، وكان يشعر بوجودها وراءه في ضيق لا يحتمل، ويسمع وقع قدميها كأنه رصاص في ظهره، ويمحو أول فأول أية رغبة في أن ينظر إلى الخلف، ومع أنه بدا في صمته - ذلك الصمت الهائل الذي وقف حائلا بينهما - وكأنه يفكر تفكيرا متواصلا إلا أنه في الحقيقة كان فارغ الرأس! كان فارغ الرأس بحال مزعجة، لم يردها إرادة، ولكنها فرضت عليه قسرا، وبثت في نفسه إحساسا بالقلق، إحساس من يتلهف على السيطرة على إرادته سيطرة غاشمة ، فلا يجد إلى ذلك سبيلا. واصطدمت قدمه بحجر صغير اعترض سبيله، فانطلقت في صدره شرارة حنق، وكأنها جذبت إليها أفكاره الهاربة في الظلام، وسرعان ما وجد نفسه يتساءل في صمت؛ أيخنقها؟ .. أيحطم رأسها بحذائه؟ .. لا بد لصدره من متنفس! وظل الصمت الجهنمي سائدا، وبينما كان يجمع عزمه لزحزحة هذا الصمت تطوعت هي - وهو ما عجب له - لزحزحته، فسمعها تغمغم في نبرات مرتعشة متهدجة قائلة: لقد أجرمت! إني أعلم هذا .. ولن أسألك غفرانا لست جديرة به.

هل حقا واتتها قواها على الكلام! يا للشيطان! وأحدث صوتها - على ضعفه - زوبعة من الهياج في صدره، زوبعة عمياء طاغية صبت الغضب في أطرافه صبا، فتوقف عن السير والتفت نحوها في سرعة غريبة، وارتفع ذراعه في الهواء وهوى على وجهها كالقذيفة، فتراجعت مترنحة دون أن تنبس ثم سقطت على ظهرها واصطدم مؤخر رأسها بالأرض. لم تنبس بكلمة ولا ند عنها أي صوت، ولكنها جلست على الأرض بسرعة ثم لمت نفسها، ووقفت وأخذت في التراجع حتى ارتكنت إلى جدار بيت، واقترب منها فتراءى لعينيها تصميمه رغم الظلمة التي تظل وجهه، فلوحت له بيدها كأنها تسأله أن يقف، ثم اندفعت قائلة في عجلة وتوسل: قف، لا تفعل، لست أخاف على نفسي، ولكني أخاف عليك، لا أريد أن يمسك سوء بسببي.

وزادته رقة كلامها هياجا على هياج فصاح بها بصوت كالخوار: لا تريدين أن يمسني السوء بسببك؟! .. يا عاهرة لقد صببت السوء علي صبا.

فأعادت بتوسل حار: ولكني لا أطيق أن يسيئوا إليك ولو كان السبب هلاكي. - هذا مكر حقير لن ينفعك في إنقاذ حياتك الحقيرة، هيهات! لن ينالني سوء بقتلك.

Shafi da ba'a sani ba