فهزت الأم رأسها غير مقتنعة وتمتمت: المسألة أخطر من هذا! - لا يوجد ما هو أخطر من هذا، أنا أكره الفقر وسيرته، ولا أحب أن أخفض رأسي بين أناس مرفوعي الرءوس!
ولم يكن هذا فحسب دافعه الحقيقي إلى هذا الاختيار، والواقع أنه طمح إلى المدرسة الحربية مدفوعا بنفسه الظمأى إلى السيادة والقوة والمظهر الخلاب، بيد أن أمه ظلت على قلقها وعدم اقتناعها فتساءلت: وإذا لم يتيسر إعفاؤك من المصروفات؟
ففكر متجهما ثم قال: سأحتاج بادئ الأمر إلى الدفعة الأولى من المصروفات، وفي مرجوي أن أنالها من أخي حسن! لا أظنه يتخلى عني كما لم يتخل عن حسين، أما الباقي فليس بمتعذر توفيره إذا نزلت لي عن نقود حسين إلى ما يمكن أن تجود به نفيسة (ناظرا إلى أخته) ولا أظنها تبخل علي، خاصة وأن عملها يجيئها بكسب لا بأس به.
ونقل بصره بين أمه وأخته ليسبر وقع كلامه، ولكنه لم يحظ بما يشجعه، فاستطرد يقول برقة: عامان شدة يمران كما مر غيرهما، وبعدهما الراحة والهناء!
وثابر على ترديد بصره بينهما في رجاء، ثم قال بإغراء: أم ضابط وأخت ضابط! .. تصورا هذا! تصورا مغادرتنا لهذه العطفة إلى شقة محترمة بالشارع العام!
ورقت نفيسة لنظرته المتوسلة فاجتاحها موجة إيثار وكرم فقالت: لا تحمل هما من ناحيتي سأهبك أقصى ما يمكنني أن أهبه!
فتجلت في عينيه نظرة امتنان وغمغم: شكرا لك يا نفيسة، ولن تكون أمي دونك كرما، وسيمضي كل شيء على الوجه الذي نحب جميعا.
ودعت له الأم بالتوفيق، لم تكن ترجو من ورائه خيرا كثيرا، وكان أقصى ما تطمح إليه أن يؤجل زواجه - بعد توظفه - عامين حتى ترمم ما تهدم من أسرتها، ولكن لم يسعها إلا أن تنزل له عن نقود الإنقاذ التي يرسلها حسين، وأن تدعو له بالتوفيق من أعماق قلبها، وتأثرت نفسية بما غمرها من إيثار وكرم ارتقيا بها إلى منزلة عالية من الصفاء والسرور والحماس، ونعمت بهذه السعادة لحظات غالية، ولكنها لم تدم طويلا؛ اصطدم تيارها الدافق بعقبة كئود من الذكريات السود، فتوقف عن الجريان الساجع وتجمع وتطين، وفتر الحماس فخفضت عينيها في خمود، ليس الفرح الصافي من حقها، وما عسى أن يصنع السرور بنفس ملوثة مطوية على البشاعة والشقاء؟
58
قال حسنين لنفسه وهو يغادر ميدان الخازندار إلى شارع كلوت بك «سيقول حسن إننا لا نسعى إليه إلا إذا طمعنا في نقوده!» وتألم لهذا الخاطر، ولكنه خفف من وقعه قائلا إنه هو - حسن - الذي لم يشأ أن يتردد أحد منهم على بيته، وجعل يتساءل في حب استطلاع عما سيجد في هذا المسكن المحرم! ثمة شيء «غير طبيعي، ولكنه لا يستغرب من حسن!»
Shafi da ba'a sani ba