ولبث وحده مغتما قلقا، وتزايد قلقه بمرور الوقت، ثم لم يعد يشك في افتضاح سره، ثم تساءل مدافعا عن نفسه: فيم هذا الوهم كله؟! عسى أن يمر كل شيء في سلام، لا يمكن أن يلمحوا إلى شيء، هذا مؤكد، ولكن هل تغيب عنها الحقيقة إذا رأت إحسان؟ وتنبه إلى زحف الظلام، فقام وأشعل المصباح الغازي، ثم سمع الباب يدق فدق قلبه معه في عنف، ومضى إليه ففتحه، فدخلت أمه وهي تقول: لا أظنني غبت كثيرا.
وعادا إلى الحجرة، فوقف هو مستندا إلى حافة النافذة، وراحت هي تخلع معطفها وحذاءها في صمت، وجعل يقول لنفسه: «وراء هذا الوجه شيء، بل أشياء! إني أعرف هذا، أراهن على أنها لم تتجشم السفر لتطمئن على صحتي، ليست أمي بالأم الضعيفة، إنها حنونة حقا، ولكنها قوية، ما في هذا من شك، ما أفظع! هذا الصمت! متى ينقطع؟» وسألها متظاهرا بعدم الاكتراث: كيف وجدتهم؟
فارتقت فراشه وتربعت عليه ثم قالت باقتضاب: لا أدري لماذا لم يرتح قلبي إليهم!
إنه يدري لماذا، برح الخفاء، ووقع المحذور! وقال: الحق أن حسان أفندي رجل طيب. - ربما. لم أقابله بطبيعة الحال.
لن يسألها عما لم ترتح إليه منهم، فليتجاهل المسألة، ولن يطول هذا طويلا على أية حال. ووجدها تنظر إلى يديها اللتين شبكتهما على حجرها. إنها تفكر فيما ينبغي قوله، لشد ما أخطأ! ما كان ينبغي أن يستسلم لإغراء الظروف التي انتهت بمنع إرسال نقوده هذا الشهر، كيف ضل عائل الأسرة؟! ورأى أمه ترنو إليه بطرف واجم ثم تقول: أما وقد اطمأننت عليك فلا أظن أن يخجلني أن أصارحك بأن منع النقود عنا قد أخافني. اعذرني يا بني إذا اعترفت لك بأنه ساورني بعض الظن بأن يكون المرض مجرد اعتذار!
فصاح وهو لا يدري: أماه! - معذرة يا بني إن بعض الظن إثم، ولكني كنت أفكر طويلا فيما يمكن أن يلقى شاب وحيد في بلد غريب. أجل، إني أومن بعقلك، ولكن الشيطان شاطر! فخفت أن يكون أضلك، ولا تسل عن حزني وأنت تعلم بأني أعتمد بعد الله عليك. أخوك حسن لم يعد منا، ونفيسة فتاة تعيسة الحظ، وحسنين تلميذ وسيظل تلميذا طويلا، وأنت أدرى به! وإنا لنشقى ونجوع في مغالبة حظنا، وقد خسرنا نصيبك من المعاش وسنخسر عما قريب نصيب أخيك منه.
فقال حسين بانفعال: لست في حاجة إلى من يذكرني بهذا يا أماه، لقد أخطأت .. اضطررت إلى منع النقود اضطرارا لا حيلة لي فيه. إني جد حزين يا أماه.
فقالت برقة وكأنها تحدث نفسها: أنا الحزينة ..
ثم استطردت بعد لحظة صمت: أنا حزينة لأني أبدو كثيرا وكأني أحول بين أبنائي وبين سعادتهم!
فقال بقلق: لشد ما تظلمين نفسك! أنت أم رحيمة كأحسن ما تكون الأم رحمة. - يسرني أنك تفهمني يا بني.
Shafi da ba'a sani ba