وقطبت الأم في غضب وصاحت به: أنت ثور، تأكل وتنام، ولا تدري عن الدنيا شيئا، وهيهات أن يفهم عقلك الغبي حقيقة حالنا!
وفتح فاه ليعترض ولكنها صاحت به: اخرس.
فنفخ دون أن ينبس بكلمة. ورأت الأم أنها فرغت من معارضته؛ فالتفتت إلى حسين، فالتقت عيناهما برهة قصيرة، ثم خفض الفتى عينيه وتمتم على مضض: إذا لم يكن من هذا بد فالأمر لله!
فقالت الأم بتأثر: ما عيب إلا العيب كما يقول حسن. لست أحب لأحد منكم المهانة، ولكن للضرورة أحكام، ولا حيلة لي.
وساد صمت مؤلم. وكان حسين أشبه الأبناء بأخلاق أمه في صبرها، وعقلها، وإخلاصها للأسرة. وقد تألم كثيرا لمصير أخته، ولكنه استسخف الاعتراض على اقتراح أوحت به الضرورة. وشعر في ألمه بأنه تعلم في هذين اليومين ما لم يتعلم في حياته كلها. أما نفيسة فسكتت مغلوبة على أمرها. ولم تكن تسمع الاقتراح لأول مرة؛ فقد أقنعتها أمها بضرورته ووجاهته معا. وكانت الخياطة هوايتها وملهاتها، فلم يبق إلا أن توطن النفس لقبول الأجر. لهذا كله تضاعف حزنها على أبيها الذي لم تعد بعده شيئا. ثم قطع حسن الصمت قائلا بلهجة تنم عن الحسرة: من المؤسف حقا أن المرحوم أبى على نفيسة أن تواصل تعلمها في المدرسة. تصوروا لو كانت أختنا مدرسة الآن!
وحدجوه بغرابة، فأدرك أنه تورط فيما يشبه الدعابة وهو لا يدري. أفلم يكن الأولى به أن يعرف للتعليم قيمته، فيواصل حياته المدرسية؟! وقطب مغيظا وقال: التعليم ينفع أمثالها ممن لا حيلة لهم.
7
وفي صباح اليوم التالي مضت الأم إلى وزارة المعارف مصطحبة معها حسن أكبر الأبناء. ولما علم هناك أنها أرملة المرحوم كامل علي أفندي أظهر كثير من زملائه استعدادهم لأن يكونوا في خدمتها، وطلبت المرأة صرف المستحق من مرتبه فدلها بعضهم على إجراءات إثبات الوراثة. وسألت عن معاشه فذهب معها أحد الزملاء إلى إدارة المستخدمين. وتبين أن المرحوم خدم الحكومة حوالي الثلاثين عاما فبلغ مرتبه 17 جنيها، واستحق معاشا قدره خمسة جنيهات لورثته، لم تكن المرأة تتصور هذا، ولا كانت تعلم شيئا عن نصيب الحكومة من معاش المتوفى، ولكن الذي أفزعها حقا هو ما قيل عن الإجراءات الطويلة التي تسبق صرف المعاش، والتي تستغرق أشهرا طوالا. هالها الأمر فلم تملك أن قالت: وكيف يتيسر لنا الانتظار طوال فترة الانتظار؟
وقال حسن مسوغا قلق أمه: نحن لا نملك إلا هذا المعاش المنتظر!
وندم حسن على قوله عقب إلقائه مباشرة لأنه بدا غريبا من شخص في مثل طوله ورجولته، ولكن الموظف قال دون أن يلقي بالا إلى هذا: أعدك يا سيدتي بألا نضيع دقيقة واحدة بلا عمل. أما إجراءات وزارة المالية فلا حيلة لنا فيها.
Shafi da ba'a sani ba