إننا لا نحيا إذن استجابة لنداء حب الحياة، ولكننا نحيل برغمنا، بحكم قانون شكلنا الحي وحركتنا، بحكم أننا مختلفون عن بقية أشكال الوجود اختلافا لا نملك معه إلا أن نستمر نختلف وندافع عن اختلافنا، ليس فقط بمجرد تمسكنا السلبي ببقائنا أحياء، ولكن بالتمسك الإيجابي، بالدخول في صراع مستمر مع غيرنا من أشكال الحياة واللاحياة، والانتصار عليها ورفعها إلى مستوى حركتنا الإنسانية، ولأن قانون الوجود الأساسي أن الشيء الذي لا يغير لا يتغير، وأننا ما لم نغير نحن من أشكالها ونستأنسها، فأشكال الوجود الأخرى حتما سوف تغيرنا وتخضعنا لقانون حركتها. تلغي وجودنا المختلف ... تقتلنا.
لهذا، فمجرد أن نبقى أحياء هو في حد ذاته موت؛ لأنه إلغاء لخاصيتنا كأحياء؛ إذ خاصية الحي أن يغير كل ما هو غير حي إلى حي، وإلا حوله غير الحي إلى جماد مثله، ونحن نفعل هذا برغمنا وبإرادتنا.
دافعنا للحياة إذن ليس هو الخوف من الموت، أو الرغبة في التناسل، أو المحافظة على النوع، دافعنا أننا فعلا أحياء بغير إرادتنا، حياة من تلقاء نفسها دفعتنا لأن تنشأ لنا إرادة، نستخدمها لكي نتحرك حركة الإنسان الراقية المعقدة، وأن نجعل غيرنا من الكائنات والمركبات - وحتى الأكوان - يتحرك مثلها.
وصحيح أن معظم الناس لا يحيون هكذا، بعضهم يستخدم هذه الإرادة التي تفرد بها في خدمة نفسه فقط، وإحاطتها بما يؤمن وجودها على سطح الأرض، ومع أن في هذا أيضا تحقيقا لبعض إرادة الحياة الكبرى، إلا أنه تحقيق لها على أضيق وأحط نطاق، أما حركة الجنس البشري ككل، فهي تمضي تنتصر وتكسب وتنجح، لا في إحالة كل ما هو حي إلى حي، ولكن أيضا في إحالة أشكال الحياة الإنسانية اسما إلى إنسانية حقيقية، والصراع بين ما هو خير في الإنسان وما هو شر، صراع ليس أبديا كما يعتقد البعض، إنه مرحلة من مراحل تأنيس الحركة الإنسانية داخل المجتمع الإنساني، تمهيدا للتفرغ كلية لتأنيس كل ما ليس إنسانا.
الإجابة عن السؤال: لماذا نحب الحياة رغم قسوتها، ونحتمل شظفها؟ الإجابة أننا نفعل هذا لأن الحياة لا تكون إلا بالانتصار على قسوتها. وتحمل صعاب الحياة ليس ضريبة مفروضة على الإنسان، ولكن صعاب الحياة هي الحياة، وأن نحيا معناه القدرة على التغلب عليها، فالحياة ليست نزهة أو وليمة. إنها معركة، من لا يحاربها ميت، وإن ظلت تحمله الأقدام! (4) الإنسان الآخر الذي يسكنني
أمضيت اليوم بطوله في البيت أحيا كالناس الطيبين الصالحين. وفي المساء ذهبت مع زوجتي في زيارة، وتعشينا في البلد، وحضرنا حفلة، ثم عدنا في منتصف الليل، زوجتي سعيدة تتساءل عن اليهودي الذي لا بد قد مات وجعلني أقضي يوما كاملا معها، وابننا سعيد وإن كان يعبر عن سعادته بطريقته الخاصة، بالصراخ ورفضه خدعة البزازة، وكل شيء في البيت هادئ وسعيد ومرتب! والقاهرة، والليل، والأنوار، وكل ما في الكون يئوب مسترخيا راضيا إلى السكون الذي طال انتظاره. أما أنا فقد كنت أكاد أنفجر - لا من الغيظ - ولكن من هاتين العينين الدخيلتين اللتين ظلتا تراقباني في سخرية وأنا أقوم بدوري طيلة اليوم، بطريقة جعلتني أخجل من نفسي ولا أستطيع أن أذوق طعما لكل ما رأيت وفعلت، عينان لا أعرف أين أذهب منهما، ومنه، من هذا الإنسان الآخر المخيف الذي يحيا داخلي ويحيل صدري إلى نار دائما موقدة لا تهدأ ولا تخمد، الإنسان الجاد الذي لا يبتسم ولا يعجبه العجب، والذي يرتدي على الدوام ملابس الميدان ولا يستريح أبدا، وليس في حربه المتصلة هدنة، الإنسان الدائم القلق، الدائم التفكير، الخطير المشروعات، الباتر الإرادة، العنيد الذي يضعني كل لحظة أمام أوامر لا قبل لي بها: اذهب حالا وتطوع في جيش التحرير الجزائري، اكتب قصة عن السجن، امتنع عن هذه النظرات الحنونة الخاصة التي تسترقها لابنك، اعتبره مجرد واحد من مئات الملايين من أطفال العالم أنت أبوهم جميعا، اقطع كل صلاتك الخاصة بالحياة، لا تستمتع بهذا الطعام فغيرك جائع، أنت مسئول عن الجوعى في العالم، أنت مسئول عن منكوبي أغادير، مسئول عن الحرية في بلدك وعنها في العالم، أنت لم تخلق لنفسك فلا ترح نفسك، أنت خلقت لغيرك فافن في غيرك وعش كيفما اتفق، فالمهم أن تعمل أعمالا تجلب السعادة لكل الناس، وتبدأ من الآن. قم وانهض!
إنسان يسكنني ويجعلني أنام وأنا واقف، وأفكر وأنا واقف، وإذا وقفت أريد أن أطير، إنسان ألهث ولا أعجبه، وأكتب ولا أعجبه، وأجد نفسي مضغوطا بشدة بينه وبين المجتمع الصغير الذي أحيا فيه، بل أجده يدفعني جانبا أحيانا ويتصرف هو فلا يحفل بإحساس صديق، أو قد يسيء إلى عزيز، وأبادر لأصلح وأتعذب لفشلي في الإصلاح، وأتمزق لإحساسي أني لا أستطيع أن أكون عاديا كما يريدني الناس، وغير عادي كما يريدني هو.
طوال اليوم الذي أمضيته «سعيدا» كالأزواج الصالحين، أمضيه وأنا أكتم قطع الفحم المتقدة في صدري، قضيته وأنا «أتحمل» السعادة، وأدفع ثمنها الفادح، هذا الإحساس الممض القاتل، الإحساس أني أتواكل عن مهمة عظمى، أني أهملت، أني مقصر، إحساس التلميذ الذي «يزوغ» عن المذاكرة أيام الامتحان، ولكن التلامذة يعرفون امتحانهم ويؤدونه، أما أنا فلا أعرف امتحاني ولا مهمتي.
ومصيبتي أني لست ضيقا بهذا الإنسان، وكل مرادي أن أرضيه. وهو جبار لا يرضى أبدا ولا يهدأ، كالنار التي أقدم لها نفسي لأرضيها فتزداد ضراما واشتعالا، وربما لن ترضى وتخمد النار إلا بانتهائي وموتي.
أتريدون أن تعرفوا رأي هذا الإنسان الأخير فيما أكتبه الآن، إنه يتهمني بالسخافة والأنانية، وبتهمة أكبر: أني أشرك قراء لديهم مشاكلهم الكثيرة في مشكلة تخصني أنا وحدي.
Shafi da ba'a sani ba