وينبغي أن نلاحظ ها هنا إذا ما ضمت قضية ذرية إلى غيرها بأداة مثل واو العطف أو كلمة «أو» أو كلمة «إذا» إلخ، فإنه يتكون لنا بذلك قضية مركبة، لا يكون لها ما يقابلها بين وقائع العالم، إذ وقائع العالم كلها بسيطة، وإنما يكون ضم بعضها إلى بعض في عبارات اللغة وحدها، ولكي أزيد ذلك شرحا أقول: إنني إذا شاهدت أمامي واقعتين مثل (1) غياب الشمس و(2) نزول المطر، ثم ربطت بين الواقعتين في عبارة واحدة مركبة بواسطة واو العطف، فقلت: «غابت الشمس ونزل المطر»، فإن ذلك لا يجعل من الواقعتين واقعة واحدة، بل سيظلان في العالم الخارجي واقعتين، وبعبارة أخرى ليس هنالك في عالم الأشياء شيء يقابل «واو العطف»، بل إن هذه «الواو» التي تضم حقيقة إلى حقيقة أخرى هي مجرد أداة منطقية نستخدمها نحن لربط الحقائق البسيطة، دون أن تكون هي نفسها دالة على حقيقة قائمة بذاتها. وخلاصة القول هي أن القضايا الذرية يقابلها في العالم وقائع ذرية، فإذا ما ركبت من الذرات مجموعة كان هذا التركيب مقتصرا علي وعلى طريقتي في تركيب الكلام دون أن يكون له مقابل في عالم الأشياء، فهذا العالم قوامه بسائط، ولهذا كان صدق القضية الذرية البسيطة متوقفا على مطابقتها للواقعة التي جاءت تلك القضية لتصفها، وأما صدق القضية المركنة، فمرهون بصدق أجزائها، كل جزء على حدة، فلو أردت التحقق من صدق العبارة المركبة «غابت الشمس ونزل المطر» كان لا بد لي من حلها إلى جزأيها؛ لأطابق بين كل جزء بسيط من هذين الجزأين وبين الواقعة الخارجية التي تقابله، فأتحقق من «غياب الشمس»، ثم من «نزول المطر» إذ قد تصدق الأولى وحدها دون أن تصدق معها الثانية.
إذا أردت التثبت من صدق عبارة صادفتك، فلا مندوحة لك عن تحليلها أولا - إذا كانت عبارة مركبة - إلى بسائطها التي تتركب منها، أي تحليلها إلى القضايا الذرية التي منها تتألف، ما دامت القضية الذرية وحدها هي التي يمكن المطابقة المباشرة بينها وبين الواقعة الخارجية التي تقابلها، ويتحتم بالبداهة أن يكون موضوع القضية الذرية اسما جزئيا، أعني أنه لا بد للقضية الذرية - لكي تبلغ آخر درجات البساطة - أن يدور الحديث فيها عن كائن جزئي واحد، بحيث أستطيع أن أدير إلى ذلك الكائن الجزئي حواسي؛ لأدرك إدراكا مباشرا إن كان ذلك الكائن الجزئي في الخارج على الحالة التي تزعمها العبارة المقولة عنه.
وها هنا نضع إصبعنا على نوع المعرفة الذي يجعله «رسل» أساس المعرفة اليقينية كلها، وأعني به «المعرفة بالاتصال المباشر»،
40
وكل ما عداها من صنوف المعرفة إنما هو مستدل منها، فما هي «المعرفة بالاتصال المباشر»؟ هي باختصار انطباع المعطيات الحسية على أعضاء الحس منك، فإذا نظرت إلى هذه المنضدة - مثلا - فليست المنضدة كلها بما يمكن معرفته بالاتصال المباشر؛ لأنك لا ترى «منضدة»، ولا تحس بأصابعك «منضدة»، إنما ترى «لمعة من الضوء» هو لونها، وتحس درجة معينة من «الصلابة» وهكذا، وإذن فما قد عرفته «بالاتصال المباشر» هو هذه الإحساسات المباشرة، أما إذا عدت فركبت من مجموعة هذه المعطيات الحسية «منضدة»، فهذا التركيب الناتج إنما يأتي خطوة ثانية بعد الخطوة الأولى، هو في الحقيقة «استدلال»، وليس هو بالمعرفة المباشرة، هو - باصطلاح «رسل» - معرفة بالوصف،
41
وليس معرفة مباشرة، المعرفة بالاتصال المباشر هي الخبرة المباشرة التي نستخدمها بعد ذلك في تركيبات عقلية، وتلك الخبرة المباشرة وحدها هي المعرفة اليقينية المؤكدة، وأما ما نستدله منها بعد ذلك - كائنا ما كان - فمعرض للخطأ .
إننا نقول عن معرفتنا إنها بالاتصال المباشر أو بالخبرة المباشرة حين يكون موضوع المعرفة حاضرا حضورا مباشرا، لو وقفت إزاء «العقاد» وجها لوجه كنت بمثابة من يعرفه بالاتصال المباشر، أما إذا عرفته عن طريق تسميته ب «مؤلف سارة» فقد عرفته بالوصف، ولما كانت المعرفة بالاتصال المباشر تقتضي أن يكون بينك وبين الشيء المعروف صلة مباشرة، كانت تلك المعرفة مجرد وعي منك بوجود الشيء المعروف دون أن يكون هنالك حكم منك عليه بأي وجه من الوجوه. وعيك بوجود لمعة الضوء المنبعثة من المنضدة التي أمامك، هو معرفة بالاتصال المباشر، أما معرفتك بأن هذه «منضدة» فذلك «حكم»، وإذن فهو نتيجة مترتبة على الخبرة المباشرة، وليس هو في ذاته بالخبرة المباشرة، نقول ذلك لأنه قد يخيل إليك للوهلة الأولى أن إدراكك «للأشياء» المحسوسة من حولك كالمقاعد والمناضد وما إلى ذلك هو من قبيل الإدراك المباشر، ومن ثم فهو مما يصح أن يكون موضوعات للقضايا الذرية البسيطة التي هي الخطوة الأولى والمؤكدة من بناء العلم الإنساني، مع أن كل «شيء» من هذه الأشياء التي تدركها بحواسك هو في الحقيقة «تركيبة» عقلية بنيتها لنفسك من خبراتك المباشرة؛ إذ بنيتها مما أدركته قبل ذلك من لمعات الضوء ولمسات الصلابة ... إلخ.
42
وأعود الآن إلى ما بدأت به وهو أنك إذا أردت التثبت من صدق عبارة صادفتك، فلا مندوحة لك عن تحليلها أولا - إذا كانت عبارة مركبة - إلى بسائطها التي تتركب منها، أي تحليلها إلى القضايا الذرية التي منها تتألف، ويتحتم أن يكون موضوع القضية الذرية «حاضرة حسية» أو «حاضرة عقلية» مما لا يحتاج إدراكه إلى شيء أكثر من مجرد الوعي «بحضور» الموضوع المدرك، إن بناء المعرفة الإنسانية قائم على أساس هذه المعطيات الأولية التي يدركها الإنسان إدراكا مباشرا، ولا تكون هذه المعطيات الأولية موضع شك؛ لأنها ليست «بأحكام» تصيب فيها أو تخطئ، وجدير ها هنا بالذكر أن نقول إن «رسل» حين أراد أن يعين أنواع المعطيات الأولية، لم يقتصر بادئ ذي بدء على المعطيات الحسية، بل أضاف إليها أوليات أخرى؛ كإدراكنا للعلاقات، وإدراكنا للمعاني الكلية، وإدراكنا للذات العارفة،
Shafi da ba'a sani ba