والأعداد هي نقطة الابتداء في دراسة الرياضة، عندها يبدأ الطفل دراسته، حتى ليخيل إلينا أنها - كما تبدو في ظاهر أمرها - أبسط المدركات الرياضية، بمعنى أنها الأساس الأول الذي لا تسبقه خطوة أخرى، مع أنها في الحقيقة على درجة بعيدة من التركيب، ولا يظهر ذلك فيها إلا بعد تحليل طويل دقيق، كالذي قام به كثيرون من علماء الرياضة والمنطق المحدثين، وعلى رأسهم «رسل»، الذين أظهروا بتحليلاتهم أن فكرة العدد لا تأتي إلا بعد أن تسبقها خطوات عقلية أبسط منها، ثم بينوا أن هذه الخطوات العقلية السابقة إنما تقع كلها في مجال المنطق، وإذن فالخطوة الأولى من التفكير الرياضي إن هي إلا مرحلة متقدمة من شوط فكري يبدأ مع الأصول الأولى للمنطق، وبهذا تكون الرياضة في حقيقة أمرها استمرارا للمنطق.
فإذا لم يكن العدد بهذه البساطة التي تبدو، وإذا كان في حقيقة أمره مركبا من عناصر كثيرة أبسط تأتي في الفكر سابقة عليه، فلماذا - إذن - نتخذه في تعليم الناشئ نقطة ابتداء؟ يجيب عن ذلك «رسل» في فاتحة كتابه «مدخل إلى الفلسفة الرياضية»
16
بقوله إنه كما أن أيسر الأجسام إدراكا هي تلك التي لا تكون شديدة القرب، ولا تكون شديدة البعد، وهي أيضا تلك التي لا تكون شديدة الصغر ولا شديدة الكبر، فكذلك أيسر الأفكار العقلية إدراكا هي التي لا تكون شديدة التركيب ولا شديدة التبسيط، وهذه الشروط متوافرة في العدد؛ فلا هو شديد البساطة، ولا هو شديد التركيب، بحيث يتعذر إدراكه على الناشئ الصغير، ولذلك يسهل عليه فهمه كنقطة ابتداء يمضي بعدها إلى دراسة التركيبات الرياضية، ثم إذا أراد بعد اكتمال نضجه الرياضي أن يفلسف الرياضة، مضى في سيره وراء العدد ليكشف عن العناصر البسيطة التي منها يتألف ويتركب.
إننا قد ألفنا العدد في دراستنا وفي حياتنا اليومية إلفا يخدعنا، بحيث نظن أنه كان بهذه السهولة من الفهم والإدراك عند الإنسان الأول كما هو عندنا اليوم، لكن الإنسان الأول لا بد أن يكون قد سلخ من التاريخ دهرا طويلا قبل أن يدرك أن هنالك تشابها بين عصفورتين ويومين، بحيث يستخدم رمزا واحدا هو العدد «2» ليرمز به إلى هذا الجانب الذي تتشابه فيه العصفورتان واليومان!
17
ولا بد كذلك أن يكون الإنسان الأول قد قضى شطرا كبيرا من دهره - حتى بعد إدراكه للأعداد التي يعد بها الأشياء - قبل أن يدرك أن «الواحد» عدد كسائر الأعداد ودع عنك هذا العسر الشديد الذي لا بد أن يكون الإنسان قد صادفه قبل أن يعلم أيضا أن «الصفر» هو الآخر حلقة من سلسلة الأعداد، ولعلك لا تدري أنه لا اليونان القدماء ولا الرومان قد عرفوه، فكانت الأعداد عندهم - كما هي عند كثير جدا من الناس في يومنا هذا - تبدأ من «1»، وذلك على اعتبار أن الصفر لا يعد شيئا، وجاء إدراك السفر متأخرا جدا في التاريخ، حتى لترجع نشأته إلى العرب .
فما هو العدد؟ يقول «رسل» إنه سؤال طالما ألقاه السائلون، ولكنه لم يجد الجواب الصحيح إلا في زماننا هذا، وكان أول من قدم الجواب الصحيح هو «فريجه»
Frege
سنة 1884م، غير أن تعريف «فريجه» للعدد ظل مجهولا حتى جاء «رسل»، فكشف للناس عنه سنة 1901م.
Shafi da ba'a sani ba