Bertrand Russell: Gabatarwa Ta Gajere
برتراند راسل: مقدمة قصيرة جدا
Nau'ikan
4
كان رد فعل راسل على اندلاع الحرب معقدا؛ إذ كانت سنه كبيرة؛ فلم يكن من الممكن أن يصبح محاربا؛ لذلك لم يكن قط في موقف الرافض للخدمة العسكرية لأسباب أخلاقية. (ترك عدد من معارفه ممن اتخذوا هذا الموقف - مثل ليتون ستارشي - واجباتهم الزراعية الإجبارية وراحوا يمضون وقتهم في عزبة أوتولين في جارسينجتون.) وشأنه شأن الكثير من المثقفين الذين عاصروا عهد الملك إدوارد، كان راسل يكن ضعفا تجاه ألمانيا والثقافة الألمانية. كان يتحدث الألمانية بطلاقة، وكان يقرأ الكتب الألمانية بحكم الطبع، وسبق له أن أقام هناك وكتب عن السياسة الألمانية. ولكنه كان أيضا وطنيا متحمسا؛ إذ كتب ذات مرة أن «حب إنجلترا يكاد يكون أقوى عاطفة أمتلكها.» ولم يكن كذلك من مناهضي الحروب مناهضة مطلقة؛ إذ إنه أيد الحرب ضد النازية أشد التأييد بعد ذلك بربع قرن. وكان يرى أن اندلاع الحرب في عام 1914 لم يكن بدافع مبدأ معين، وأن الحرب لم تكن تبشر بأي فوائد، بل إن حماقة السياسيين هي التي تسببت فيها، وإنها تهدد بالزج بالحضارة في فوضى عارمة تضيع فيها حياة الشباب سدى. وكتب في رسالة موجهة إلى الأمة عقب اندلاع القتال: «كل هذا الجنون وكل هذا الغضب وكل هذا الموت المشتعل الذي أصاب حضارتنا وآمالنا، تسببت فيه مجموعة من المسئولين الرسميين الذين يعيشون حياة مرفهة، ومعظمهم أغبياء، وكلهم مجردون من سعة الخيال والعاطفة، واختاروا أن تندلع الحرب بدلا من أن يتحمل أي منهم أي انتقاص ولو بسيطا من كرامة بلاده.»
كانت بصيرة راسل بشأن الحرب ثاقبة في ذلك الوقت، تماما مثلما كانت حيال حرب فيتنام التي اندلعت بعد ذلك بنصف قرن. لم تكن المجازر الفظيعة التي راح ضحيتها الجنود في الخنادق قد بدأت بعد، ومع ذلك رأى راسل أنها محتومة، وأن عواقبها بشعة على المدى الطويل. لم يستطع سوى القليلين حينئذ أن يتنبئوا بأن هناك عملية عسكرية قد بدأت ومقدر لها أن تستدرج معظم العالم في حرب فعلية أو كامنة لبقية القرن، وسينتج عنها سقوط عشرات الملايين من الضحايا، وتوجيه الموارد الهائلة توجيها خاطئا إلى تطوير التكنولوجيا العسكرية، كل خطوة جديدة في تطويرها أخطر وأشد فتكا من التي تسبقها. لم يستطع راسل بالطبع أن يتنبأ في عام 1914 بالبلشفية والنازية والمحرقة النازية (الهولوكوست)، والأسلحة النووية والحرب الباردة، والنزعة القومية التي زادت من غلوائها تجارة الأسلحة العالمية، والأصولية التي حفزتها الفجوة المسببة للغيرة القائمة بين الدول الغنية والفقيرة. ولكن كان لديه حس يقظ أوحى له بأن اندلاع الحرب معناه أن الأبواب انفتحت على مصاريعها لكارثة من نوع ما؛ وأتت عقود طويلة من الكوارث كما توقع تماما.
روعه أيضا الدعم الشعبي للحرب في البلدان المشاركة في الحرب، وما اتسمت به من طابع «البربرية البدائية» وإطلاق العنان «لغرائز الكراهية والتعطش للدماء»، وهي العناصر نفسها - كما أشار هو - التي جبلت الحضارة على مناهضتها. وكان أسوأ ما في الأمر هو ظهور هذه الانفعالات نفسها على غالبية أصدقائه ومعارفه. لم يستطع راسل الوقوف مكتوف الأيدي؛ فطوال سنوات الحرب كان يكتب مقالات ويلقي خطبا، يؤيد فيها المعارضة المنظمة للحرب في صورة اتحاد القيادة الديمقراطية وجماعة لا للتجنيد. وفي بداية الحرب أخذ يؤدي أنشطة خيرية فيما بين الألمان المقيمين في إنجلترا ممن أصبحوا معوزين بعد أن تقطعت بهم السبل عن بلادهم. ولم تستمر الحاجة إلى أداء هذه الأنشطة الخيرية طويلا؛ نظرا لأن مواطني البلدان المعادية سرعان ما جرى اعتقالهم ووضعهم رهن الإقامة الجبرية.
كان قائد جماعة لا للتجنيد شابا يدعى كليفورد ألين (وأصبح فيما بعد اللورد ألين أوف هيرتوود)، وكان قد سجن أكثر من مرة لرفضه التخلي عن نشاطه في مجال مناهضة الحرب. وفي إحدى محاكمات ألين، التقى راسل بالليدي كونستانس ماليسون، وهي ممثلة كان اسم شهرتها هو كوليت أونيل، وكانت تشارك في النشاط المناهض للحرب هي الأخرى، وكانت تقضي أمسياتها في المسرح وتقضي ساعات النهار في ملء المظاريف في مكاتب الجماعة. أصبح الاثنان عشيقين؛ إذ وجد راسل في هدوئها ملاذا يهرب إليه من قسوة الصراع إبان زمن الحرب.
وقع راسل عدة مرات تحت طائلة القانون لنشاطه المناهض للحرب؛ ففي عام 1916 رفعت عليه دعوى قضائية بسبب مقال كتبه، وحكم عليه بدفع غرامة قدرها 100 جنيه إسترليني. ولكنه رفض الدفع؛ فقضت المحكمة بالحجز على متعلقاته، ولكن أصدقاءه كانوا كرماء فاشتروها وأعادوها إليه؛ مما أبطل تأثير الموقف الذي اتخذه. وبعدئذ منع من دخول أي منطقة عسكرية في بريطانيا، وخصوصا أي منطقة ساحلية (وافترض هو ساخرا أن السبب في ذلك هو منعه من إرسال إشارات للغواصات المعادية). ورفضت السلطات منحه جواز سفر حين حاول السفر إلى أمريكا في عام 1916. وفي عام 1918 سجن لمدة ستة أشهر بسبب مقال كتب فيه أن القوات الأمريكية القادمة إلى أوروبا قد تستخدم في فض الإضرابات، وهي مهمة سبق أن نفذتها القوات الأمريكية في بلادها. وبفضل علاقاته الاجتماعية (أقر متهكما أنه من المفيد أن يكون المرء أخا لإيرل) وضعوه في الشعبة الأولى من السجن؛ أي إنه كان يقيم في زنزانة مخصصة له وحده، وكان يسمح له بالاحتفاظ بكتب؛ ومن ثم كان يقرأ ويكتب، وأنتج كتابا واحدا - «مدخل للفلسفة الرياضية» - وبدايات كتاب آخر - «تحليل العقل» - إضافة إلى عدد من العروض النقدية والمقالات. وأطلق سراحه في سبتمبر من عام 1918، وذلك حين أصبح من الواضح أن الحرب شارفت على أن تضع أوزارها.
تسببت أول معركة قصيرة خاضها راسل مع القانون في إنزال عقوبة إضافية به. كان كل المحاضرين الشباب في كلية ترينيتي قد ذهبوا للمشاركة في الحرب؛ فتولى مسئولية شئون الكلية حفنة من الرجال الأكبر سنا. وكان هؤلاء يشعرون بعداء شديد تجاه نشاط راسل المتعلق بالحرب. وحين علموا بإدانته، أجروا تصويتا لحرمانه من منصبه كمحاضر. وشعر عالم الرياضيات جي إتش هاردي بالاستياء من معاملة راسل بهذه الطريقة؛ فكتب فيما بعد سردا لما حدث. وحين عاد المحاضرون الشباب بعد أن وضعت الحرب أوزارها، أجروا تصويتا لإعادة راسل إلى منصبه، ولكن بحلول ذلك الوقت كانت اهتمامات راسل توجهه إلى خارج البلاد.
من بين التغيرات الجمة التي انتابت راسل بسبب الحرب اتساع مدى نشاطه الأدبي؛ فقد أنتج كتابين غير فلسفيين إبان هذه السنوات، وهما: كتاب «أسس لإعادة البناء الاجتماعي» (وكان عنوانه في الولايات المتحدة «لماذا يحارب البشر؟») ونشر في عام 1916، وكتاب «الطريق إلى الحرية»، ونشر في عام 1918، وكان هذان الكتابان باكورة كتبه الأخرى الرائجة التي تتناول مسائل اجتماعية وسياسية وأخلاقية. كان راسل يلقي محتويات كتاب «مبادئ إعادة الإعمار الاجتماعي» كسلسلة من المحاضرات في عام 1916، وفي تلك الأثناء التقى راسل بدي إتش لورانس وبدأ معه في ما كان يفترض أن يصبح مشروع تأليف كتاب مشترك، ولكن سرعان ما أصبح أسلوب لورانس عدائيا. في البداية انزعج راسل انزعاجا شديدا من اتهامات لورانس الموجهة إليه بأن نشاطه المناهض للحرب كان قناعا يخفي مشاعر عنيفة من كراهية البشر؛ لأنه كان يظن أن لورانس كان يتمتع بفهم عميق للطبيعة البشرية، ولكن رسائل لورانس ذات اللهجة المسعورة واللاذعة، والتي أخذت تتزايد حدتها، جعلت راسل يكتشف ميول لورانس السياسية الفاشية وعبادته للفلسفة اللاعقلانية، وانقطعت الصلة بينهما.
حين كان راسل في السجن في عام 1918، عكف - كما ذكرت - على تأليف كتابين فلسفيين. ولكن عودته إلى الفلسفة كانت قد بدأت قبل ذلك؛ إذ إنه ألقى سلسلة من المحاضرات في الشهور الأولى من عام 1918 بعنوان «فلسفة مذهب الذرية المنطقية»، ونشرت بعد ذلك بمدة قصيرة في أعداد متعاقبة من دورية اسمها ذا مونيست. وبكرمه المفرط المعروف عنه، نسب راسل أفكاره للودفيج فيتجنشتاين، الذي تتلمذ على يديه لمدة قصيرة في كامبريدج قبل الحرب. في الواقع، فإن معظم الأفكار الواردة في محاضرات راسل كانت واضحة في الأعمال التي أنتجها قبل أن يلتقي بفيتجنشتاين بمدة طويلة؛ ولكن كما نلاحظ من كتاب فيتجنشتاين «دراسة منطقية فلسفية» - وهو كتاب ألفه فيتجنشتاين حين كان مجندا على الجبهة في الجيش النمساوي - فإن الاثنين قد ناقشا هذه الأفكار بشيء من الاستفاضة قبل الحرب. تلقى راسل رسالة من فيتجنشتاين من محبسه في معسكر للأسرى في إيطاليا، يطلعه فيها على كتابه «دراسة منطقية فلسفية». وبعد أن أطلق الإيطاليون سراح فيتجنشتاين، حاول أن ينشر كتابه، ولكنه فشل في ذلك؛ لذا قدم راسل له المساعدة، وأقنع أحد الناشرين بنشر الكتاب بعد أن اتفق معه على كتابة مقدمة له. قدم راسل مساعدات مهمة إلى فيتجنشتاين عدة مرات - ومن أهمها تدبير حصوله على زمالة بحثية في كلية ترينيتي بعد ذلك بعشر سنوات - ومع ذلك انقطعت الصلة بين الرجلين بسبب خلافات مزاجية وفلسفية شديدة.
وقع راسل في الحب مرة أخرى، وكانت من أحبها هذه المرة شابة تخرجت في كلية جيرتون تدعى دورا بلاك. وفي عام 1920 زار كل منهما الاتحاد السوفييتي وحده، وعادت دورا من الاتحاد السوفييتي وهي متحمسة له، فيما عاد راسل وهو يشعر بالعداء حياله. ألف راسل كتابا لاذعا عن البلاشفة، وتشاجر هو ودورا بسببه. ولكن ذلك لم يمنعهما من السفر معا إلى الصين في عام 1921؛ إذ تلقى راسل دعوة لقضاء عام هناك كأستاذ زائر في بكين.
Shafi da ba'a sani ba