Bertrand Russell: Gabatarwa Ta Gajere
برتراند راسل: مقدمة قصيرة جدا
Nau'ikan
مقدمة
كان الحافز الفلسفي الأساسي الذي يدفع راسل - على حد تعبيره - هو اكتشاف ما إذا كان من الممكن معرفة أي شيء معرفة يقينية. وقد راوده هذا الطموح - الذي يطابق طموح ديكارت - بسبب أزمتين فكريتين مبكرتين: فقدانه الإيمان الديني، وخيبة أمله في الاضطرار إلى تقبل البديهيات كأساس للهندسة. وكان أول مسعى فلسفي حقيقي يتولاه هو إثبات أن الرياضيات تعتمد على المنطق؛ فنجاحه في هذا المسعى كان من شأنه أن يقدم أساسا من اليقين للمعرفة الرياضية. فشل المشروع، لكن انطلقت من المحاولة عدة تطورات فلسفية مهمة. واتجه راسل بعد ذلك إلى مشكلات الفلسفة العامة؛ حيث يصبح العثور على اليقين أصعب. ومع ذلك أخذ يعمل في بناء نظريات كان يأمل أن توفر حلولا مرضية، بصرف النظر عن الطابع المراوغ لليقين. وراح يعود إلى هذه المشكلات مرة بعد مرة، ويطور آراءه ويغيرها وهو يؤمن بالأساليب التحليلية المستمدة من عمله المنطقي. وقد شعر في آخر الأمر أن بإمكانه أن يقول إنه حقق درجة من النجاح، مع أنه كان يدرك أنه لم يكن يتفق معه إلا قلة من أقرانه الفلاسفة.
حين يدرس المرء الأعمال الفلسفية لراسل، ويتجاهل حقيقة أنها تطورت على مدى فترة زمنية طويلة للغاية - إذ كانت كثيرا ما تتخللها أنشطة كثيرة أخرى تدوم لفترات طويلة - فإنه يندهش لمدى استمرار ومنطقية التطور الذي تمثله. وحسب وصف راسل لتطوره الفلسفي، يقول إن حياته الفلسفية انقسمت إلى قسمين: القسم الأول تمثل في التجريب المبكر والقصير الأمد للمثالية، أما القسم الثاني - وهو مستلهم من اكتشافه لأساليب منطقية جديدة - فظل يسيطر على رأيه منذ ذلك الحين فصاعدا:
هناك قسم مهم في عملي الفلسفي - في عامي 1899-1900 - أخذت فيه أعتنق فلسفة مذهب الذرية المنطقية وأسلوب بيانو في المنطق الرياضي. كان هذا تغيرا جذريا هائلا بحيث إنه يجعل عملي السابق - فيما عدا ما كان رياضيا بحتا - غير ذي صلة بكل ما أنجزته فيما بعد. كان التغير في هذه السنوات بمنزلة تغير جذري؛ أما التغيرات اللاحقة فكانت تتسم بأنها بمنزلة تطور. (تطوري الفلسفي، ص11)
كان التطور الذي أعقب التغير الجذري كبيرا، ولكن كانت تحفزه في كل مرحلة حاجة إلى حل المشكلات التي تأتي بها المراحل السابقة، أو - إذا كانت المشكلات أكبر من اللازم - إلى اكتشاف طرق بديلة للتقدم للأمام. وتوضح هذه المتوالية الجدلية من المشكلات أن الطرفة التي أطلقها تشارلز برود «ينتج السيد برتراند راسل نظاما فلسفيا جديدا كل عام أو نحو ذلك، أما السيد جي إي مور فلا ينتج أي نظام فلسفي على الإطلاق.» مع أنها تنطبق على مور، فإنها لا تنطبق على راسل، ولا سيما في تلميحها إلى الطابع المتقلب الذي تتسم به خطوات رحلة راسل الفلسفية.
وخلال السنوات التي تفصل بين حصوله على شهادته واكتشافه لبيانو - وهي تقريبا عقد التسعينيات من القرن التاسع عشر - كان راسل خاضعا لتأثير المثالية الألمانية كما كان يفضلها أساتذته في كامبريدج. وكانت النسخة المنشورة من أطروحة حصوله على الزمالة عبارة عن سرد عن الهندسة بالأسلوب الكانطي، ولكن ولاءه الأساسي كان لهيجل؛ إذ كتب سردا عن الرياضيات بالأسلوب الهيجلي، وأعد جدلية مثالية كاملة للعلوم يهدف منها إلى إثبات أن كل الواقع أصله تصور ذهني، وذلك بأسلوب هيجل.
تبرأ راسل من هذا العمل فيما بعد، بصرامته المعهودة، واصفا إياه بأنه «ليس إلا محض هراء» (تطوري الفلسفي، ص32). لقد طرأ التغير الجذري في أسلوبه الفلسفي - كما رأينا - نتيجة لثورته المشتركة مع مور على المثالية، ونتيجة لاكتشافه للعمل الفلسفي الذي أنجزه بيانو. وكان عمل بيانو مهما للغاية؛ لأنه حفز من رغبة راسل لاشتقاق الرياضيات من المنطق، وقدم له الوسيلة اللازمة لتنفيذ ذلك. وكرس راسل السنوات ما بين عام 1900 و1910 لهذه المهمة أساسا، ونتج عن ذلك قدر كبير من الإنجاز الفلسفي القيم. يناقش كتاب «مبادئ الرياضيات» (1903) هذا المشروع، ويتألف كتاب «أصول الرياضيات» (1910-1913) من وصف تفصيلي لمحاولة تنفيذه. ومن بين الأبحاث الفلسفية القيمة التي أنجزها راسل أثناء ذلك كتاب «عن التدليل» (1905)، وبعض الأفكار الواردة فيه صار لها تأثير هائل على تاريخ الفلسفة لاحقا.
واستمر العمل الفلسفي إبان هذه السنوات بعد أن انتهى العمل المنطقي المشترك بإصدار كتاب «أصول الرياضيات». وشرع راسل في تطبيق أساليب التحليل التي توصل إليها في هذا العمل على مشكلات الميتافيزيقا (الاستقصاء عن طبيعة الواقع) والإبستمولوجيا (الاستقصاء عن طريقة حصولنا على المعرفة واختبارنا لها). ويصف كتابه القيم القصير الخالد «مشكلات الفلسفة» (1912) الآراء الميتافيزيقية والإبستمولوجية التي كان يعتنقها آنذاك. كان ينوي أن يتناول هذه الآراء بمزيد من التفصيل في كتاباته اللاحقة، وبدأ في عام 1913 في كتابة مسودة لكتاب كبير ، نشر بعد وفاته بعنوان «نظرية المعرفة» (1984). ولكنه كان غير راض عن بعض جوانب الكتاب؛ لذلك قرر تفكيكه ونشره كجزء من سلسلة من الأبحاث، بدلا من نشره في كتاب. وفي الوقت نفسه بدأ يطبق الأساليب المنطقية على تحليل الإدراك بناء على اقتراح من وايتهيد؛ وأسفر ذلك عن مجموعة من المحاضرات ألقاها في جامعة هارفرد ونشرها لاحقا في كتاب بعنوان «معرفتنا بالعالم الخارجي» (1914). ويمثل هذا الكتاب - إضافة إلى بحث بعنوان «صلة البيانات الحسية بالفيزياء» نشر في العام نفسه - استطرادا من راسل ناقش فيه شيئا مثل مذهب الظواهر. ومذهب الظواهر هو الرأي القائل بأن المعرفة الإدراكية يمكن تحليلها في إطار معرفتنا بالمعلومات الأساسية للتجربة الحسية. (وأقول «شيئا مثل مذهب الظواهر» لأنه مع أن راسل وصف هذه الآراء بعد ذلك بنصف قرن بأنها تابعة لمذهب الظواهر، فإنها في الكتابات الأصلية ليست واضحة هكذا؛ وأناقش هذه النقطة في مكانها المناسب أدناه.) وبعد ذلك بأربع سنوات، في سلسلة أخرى من المحاضرات، طبق راسل منهجه التحليلي على الأشياء وطريقة حديثنا عنها. وأطلق على هذا المنهج «فلسفة مذهب الذرية المنطقية». وفي الوقت نفسه نشر كتابا كان في الواقع نسخة شعبية من كتاب «أصول الرياضيات»، وعرض فيه الأفكار الأساسية لفلسفة الرياضيات. والكتاب بعنوان «مقدمة إلى الفلسفة الرياضية» (1918).
وفي عشرينيات القرن العشرين سعى راسل إلى تحسين تطبيق أساليبه التحليلية على فلسفة علم النفس والفيزياء والتوسع في ذلك. وكانت أول ثمرة لهذا السعي هي كتاب «تحليل العقل» (1921)، ويطبق فيه فهمه لمبدأ يشبه مذهب الظواهر على تحليل الكيانات العقلية. وكان الكتاب الثاني هو «تحليل المادة» (1927)، وفيه يسعى راسل إلى تحليل المفاهيم الأساسية للفيزياء، مثل القوة والمادة، من منظور الأحداث. وحجة هذا الكتاب تتبع مذهب الواقعية تماما؛ فقد كان راسل يرى أنه من غير الممكن تحليل المفاهيم الأساسية للفيزياء دون الإقرار بوجود كيانات معينة يستحيل إدراكها؛ وبهذا انتهت علاقة راسل مع مذهب الظواهر. ومن الممكن أيضا وصف الكتاب بأنه عودة إلى الواقعية؛ لأن راسل كان ملتزما بشكل صارم بعض الشيء من الواقعية قبل أن يؤلف كتاب «معرفتنا بالعالم الخارجي».
شكل 2-1: الصورة المصدرة لكتاب «مبادئ الرياضيات »، المنشور عام 1900، والقائم على افتراض أن لا فارق بين الرياضيات والمنطق.
Shafi da ba'a sani ba