تمهيد
1 - حياته وعمله
2 - المنطق والفلسفة
3 - الفلسفة والعقل والعلم
4 - السياسة والمجتمع
5 - تأثير راسل
الأعمال المقتبس منها داخل النص
قراءات إضافية
تمهيد
1 - حياته وعمله
2 - المنطق والفلسفة
3 - الفلسفة والعقل والعلم
4 - السياسة والمجتمع
5 - تأثير راسل
الأعمال المقتبس منها داخل النص
قراءات إضافية
برتراند راسل
برتراند راسل
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
إيه سي جرايلينج
ترجمة
إيمان جمال الدين الفرماوي
تمهيد
عاش برتراند راسل حياة مديدة وحقق الكثير من الإنجازات، وهو من بين قلة من الفلاسفة أصبحت أسماؤهم معروفة للعامة، وأصبحوا - في حياتهم وعملهم - تجسيدا للتراث الفكري العظيم الذي يمثلونه. وقد قامت السمعة التي تمتع بها راسل بين معاصريه على تعدد إسهاماته - وكثيرا ما كانت تلك الإسهامات خلافية للغاية - في النقاشات الاجتماعية والأخلاقية والسياسية والتعليمية. ولكن سبب تمتعه بشهرة باقية يستند على إسهاماته الفنية المدهشة في مجالي المنطق والفلسفة. وفيما يلي سأقدم عرضا لما أنجزه من عمل في كلا المجالين على مدى حياته. والهدف من ذلك العرض هو تقديم سرد واضح لهذين المجالين حسبما تسمح به ضرورة الإيجاز. ولما لم يكن هذا مقام التقييم المفصل للمناقشات الفلسفية، ولا مقام التفاصيل الفنية المتعلقة بالمنطق الرياضي، فإني أخصص معظم المساحة للعرض؛ وإن كنت سأجازف بتقديم شيء من المناقشة كذلك. ويمكن الاستزادة من موضوعات المناقشة بالرجوع إلى المؤلفات المذكورة في قسم القراءات الإضافية، وهو القسم الذي يرشد كل من قد يود التبحر في موضوع ما بعد أن يتعرف على نبذة سريعة عنه في هذا الكتاب. ومع ذلك يتسنى للقراء غير المهتمين على وجه الخصوص بنطاقات المنطق والفلسفة المتخصصة أن يغفلوا الفصلين
الثاني
و
الثالث ، ويمكنهم أن يركزوا بدلا من ذلك على سيرة حياة راسل وإسهاماته في المناقشات العامة، كما يرد في الفصلين
الأول
و
الرابع .
أشكر كيث توماس ومصحح البروفات المطبعية لدى مطبعة جامعة أكسفورد الدقيق الملاحظة لما قدماه من تعليقات، وكين بلاكويل لمساعدته الفورية وما قدمه من مستندات من مؤسسة سجلات راسل، وأليكس أورينشتاين وراي مونك لما شاركا به من مناقشات ذات صلة. والشكر موصول أيضا للينا موخي لما بذلته من جهد في الفهرس.
إهداء إلى سو: «أمرتني ربة الشعر أن أمتدح صوت خليلتك ليسيمنيا العذب.»
إيه سي جرايلينج
لندن
1996
الفصل الأول
حياته وعمله
يعد راسل من أشهر فلاسفة القرن العشرين. ويرجع ما يتمتع به من شهرة أساسا - ومن سوء سمعة أحيانا - إلى مشاركته في الجدل الاجتماعي والسياسي. ظل راسل من الشخصيات العامة المألوفة على مدى نحو 60 عاما؛ إذ كان يظهر في الصحافة الشعبية أحيانا كموضوع للفضائح، وأحيانا أخرى في الفترات التي حظي فيها بالاحترام كمثقف حكيم؛ وأثناء تلك الفترات ظهر كمذيع أيضا. كان يدلي بدلوه كثيرا في شئون الحرب والسلام والأخلاق والجنسانية والتعليم وسعادة البشر. ونشر الكثير من الكتب والمقالات الرائجة، وجلبت عليه آراؤه مجموعة متنوعة من ردود الأفعال تراوحت بين أحكام بالسجن وجائزة نوبل.
ولكن أعظم إسهاماته والأسس الحقيقية التي قامت عليها سمعته تكمن في النطاقات الفنية المتخصصة لمجالي المنطق والفلسفة؛ فقد كان تأثيره شديدا على مضمون الفلسفة وأسلوبها في البلدان الناطقة بالإنجليزية في القرن العشرين، حتى إنه أصبح يمثل اللحن الأساسي للفلسفة في تلك الفترة. صار الفلاسفة يستخدمون الأساليب والأفكار الناشئة من عمله دون أن يشعروا بالحاجة إلى ذكر اسمه - بل وأحيانا دون إدراك وجود تلك الحاجة - مما يوضح مدى تأثيره. وبهذه الطريقة قدم راسل إسهاما أهم بكثير في الفلسفة مقارنة بتلميذه لودفيج فيتجنشتاين. لقد تعلمت الفلسفة دروسا قيمة من فيتجنشتاين، ولكنها اكتسبت إطار عمل كاملا من راسل، يشكل ما صار يطلق عليه حاليا «الفلسفة التحليلية».
ويقصد بكلمة «التحليل» الاستقصاء الدقيق للمفاهيم الفلسفية المهمة، وكذلك للغة التي تجسدها، وذلك باستخدام طرق وأفكار مشتقة من المنطق الصوري. لم ينشئ راسل الفلسفة التحليلية بالطبع من دون مساعدة؛ إذ تأثر بعلماء المنطق جيوسيبي بيانو وجوتلوب فريجه وبزملائه في جامعة كامبريدج جي إي مور وإيه إن وايتهيد. وكان من بين مصادر التأثر الأخرى مفكرو القرنين السابع عشر والثامن عشر رينيه ديكارت وجوتفريد لايبنتس وجورج بيركلي وديفيد هيوم. كان أول كتاب فلسفي ألفه عبارة عن دراسة تحمل طابعا متعاطفا لثاني هؤلاء الفلاسفة. ولكنه جمع بين مصادر التأثر هذه بحيث أصبحت تقدم نهجا جديدا للمشكلات الفلسفية؛ مما ساعد في إيضاحها بضوء منطقي كاشف جديد؛ وبهذه الطريقة أدى دورا محوريا في تغيير فلسفة القرن العشرين تغييرا جذريا في التراث الفلسفي الناطق بالإنجليزية.
إذن كان راسل فيلسوفا بالمعنى الشعبي؛ أي كحكيم ومعلم للبشرية، وبالمعنى الأكاديمي المهني. في الفصول التالية سأقدم وصفا لإسهاماته في هذين الوجهين الفلسفيين. أما في الفصل الحالي فأقدم صورة وصفية لحياته الطويلة الثرية، المضطربة أحيانا، والتي تشكل في مجملها وتنوعها إحدى أهم السير الملحمية في العصر الحديث.
ولد برتراند آرثر ويليام راسل في 18 مايو 1872 في أسرة شهيرة، هي الفرع الأصغر من نبلاء بيدفورد. وكان جده لأبيه هو اللورد جون راسل الشهير الذي استحدث قانون الإصلاح في عام 1832، وكانت تلك هي الخطوة الأولى نحو إضفاء الطابع الديمقراطي على البرلمان. وشغل اللورد جون منصب رئيس الوزراء مرتين - من 1846 إلى 1852 ومن 1865 إلى 1866 - ومنحته الملكة فيكتوريا لقب إيرل. وكان جد راسل لأمه - اللورد ستانلي أوف ألديرلي - من الحلفاء السياسيين للورد جون.
كان والدا راسل زوجين غير عاديين ومثيرين للجدل؛ إذ كانا ملتزمين بالقضايا التقدمية مثل تنظيم الأسرة وحق التصويت للنساء. واختار أبوه - الفيسكونت أمبيرلي - جون ستيوارت مل ليكون أباه بالمعمودية بالمعنى غير الديني. وتوفي مل قبيل عيد ميلاد راسل الأول؛ لذا كان تأثيره عليه غير مباشر، مع أنه كان كبيرا.
شكل 1-1: عائلة راسل في عام 1863، ويظهر في الصورة دكتور فاجنر، وهو معلم خصوصي، وويليام راسل عم برتراند راسل، وليدي راسل، ورولو راسل (عم آخر) وجورجي (ابنة اللورد جون من زواجه الأول)، ولورد أمبيرلي، ولورد جون راسل، وأجاثا راسل (عمة برتراند راسل).
1
كان أمبيرلي عضوا بالبرلمان لمدة قصيرة، ولكن مسيرته السياسية تهاوت حين أصبح معروفا عنه تأييده لفكرة منع الحمل. ومن أمثلة آراء آل أمبيرلي التقدمية حالة دي إيه سبولدينج، وهو عالم بارع شاب كان يعمل معلما خصوصيا لشقيق راسل الأكبر فرانك؛ إذ كان سبولدينج مصابا بمرض السل؛ ولذا لم يكن وضعه يسمح له بالزواج وتكوين أسرة. وقرر آل أمبيرلي أن هذا ليس مبررا لكي يصير متبتلا؛ لذا فإن أم راسل «سمحت له بالعيش معها» - على حد تعبير راسل في سيرته الذاتية - ويضيف قائلا: «مع أنه على حد علمي ليس هناك دليل على أنها كانت تستمد أي متعة من تلك العلاقة» (السيرة الذاتية لبرتراند راسل، ص12).
توفيت أم راسل وأخته بمرض الدفتيريا في 1874 حين كان في الثانية من عمره، وتوفي أبوه بعد ذلك بثمانية عشر شهرا. كان أمبيرلي قد خصص اثنين من اللاأدريين أوصياء على أبنائه - كان سبولدينج أحدهما - ولكن جديه، الإيرل راسل وزوجته، رفضا رفضا قاطعا، ورفعا دعوى لإسقاط وصية أمبيرلي، وأخذا أحفادهما ليقيموا معهما في منزلهما في «بيمبروك لودج»، وهو منزل ملكي يقع في حديقة ريتشموند بارك. أحس فرانك - وكان يكبر راسل بسبع سنوات - أن الإقامة هناك غير محتملة؛ فراح يسلك سلوكا متمردا. فأرسلوه إلى مدرسة داخلية. أما بيرتي - وكان لين العريكة ودمث الطباع - فقرروا أن يظل مقيما في المنزل. توفي جده بعد ذلك بثلاث سنوات فقط، وأصبح خاضعا تماما لتأثير جدته المتزمتة التي تعتنق مذهب الكنيسة المشيخية الاسكتلندية، وكانت ابنة إيرل أوف مينتو الثاني. وغالبا ما يمكن تفسير شخصية راسل، بل تبريرها - حين تستدعي المناسبة ذلك فيما يبدو - بالرجوع إلى أصوله الأرستقراطية؛ ولكن التكوين الأولي لشخصيته جاء نتيجة المذهب البيوريتاني المتشدد الذي كانت تعتنقه جدته، وهو المذهب الذي كان يميز الطبقة الوسطى أكثر مما كان يميز الطبقة العليا الأرستقراطية في العصر الفيكتوري. وقد كتبت له جدته على الصفحة البيضاء في مقدمة الكتاب المقدس الذي أهدته إياه في ذكرى ميلاده الثانية عشرة نصا من أهم النصوص المفضلة لديها: «لا تتبع الكثيرين إلى فعل الشر.» وظل هذا النص من المبادئ التي ظل يتبعها راسل طوال حياته.
شكل 1-2: الصورة المصدرة لكتاب «العناصر»، وهو أشهر بحث لإقليدس عن الرياضيات.
2
بادئ ذي بدء، كانت طفولة راسل طفولة موحشة ولكنها لم تكن تعيسة. كان لديه مربيات ألمانيات وسويسريات، فبدأ يتحدث الألمانية مبكرا بطلاقة تضارع تحدثه بالإنجليزية. وكان يهيم حبا بالمساحات الشاسعة المحيطة بمنزل «بيمبروك لودج»، وهي مساحات تتميز بمناظرها الجميلة المطلة على الأراضي الريفية المحيطة. وجاء فيما كتبه: «كنت أعرف كل ركن من الحديقة، وكنت أبحث كل عام عن زهور الربيع البيضاء في مكان ما، وعن عش طائر الحميراء في مكان آخر، وعن برعم زهرة الأكاسيا وهو يخرج من خميلة من اللبلاب» (السيرة الذاتية لبرتراند راسل، ص26). ولكن مع دخوله مرحلة البلوغ، أخذت عزلته - الفكرية والعاطفية - تزداد ألما. كان وحيدا بين أسرة من كبار السن متباعدين عنه من كل النواحي. وكان الرابط الوحيد الذي يربطه بالعالم الأكبر هو مجموعة متعاقبة من المعلمين الخصوصيين. ومع ذلك أنقذته الطبيعة والكتب - وفيما بعد الرياضيات - من الإحساس بتعاسة جارفة. كان أحد أعمامه يكن اهتماما بالعلوم، وهو ما نقله إلى راسل؛ مما ساعد على تحفيز يقظته الذهنية. ولكن اللحظة الفارقة الحقيقية جاءت حين بلغ 11 عاما وبدأ أخوه يعلمه الهندسة. صرح راسل أن التجربة كانت «مبهرة مثل تجربة الحب الأول» (السيرة الذاتية لبرتراند راسل، ص30). وبعد أن أتقن النظرية الخامسة بسهولة النظريات نفسها التي تسبقها، أخبره فرانك أنها عادة ما يجدها الآخرون صعبة، وهذه النظرية الخامسة هي «جسر إقليدس» الشهير الذي يضع حدا للكثير من الناشئين في دراسة الهندسة. وكتب راسل: «كانت تلك المرة هي أول مرة يتبادر لذهني أنني قد أمتلك شيئا من الذكاء.» ولكن ما أفسد الأمر هو أن إقليدس يبدأ ببدهيات، وحين طلب راسل إثباتها، رد عليه فرانك بأنه لا بد أن يقبلها كما هي، وإلا تعذر استمرار المسألة الهندسية. فقبل راسل ذلك على مضض، ولكن الشك الذي ساوره في تللك اللحظة ظل يلازمه، وهو ما حدد سياق عمله اللاحق الذي قام على أسس الرياضيات.
عام 1888 التحق راسل كتلميذ داخلي بمعهد تابع للجيش مخصص لحشو أدمغة الطلاب بالمعلومات في مدة قصيرة؛ وذلك للاستعداد لاختبارات منحة جامعة كامبريدج. وكانت من المنغصات التي تخللت مدة إقامته هناك ما رآه سلوكا فظا بين بعض من الشباب الآخرين. ومع ذلك نال منحة للالتحاق بكلية ترينيتي ، والتحق بها في أكتوبر 1890 لدراسة الرياضيات.
شعر وكأنه قد دخل الجنة. وكان ألفريد نورث وايتهيد - الذي تعاون معه فيما بعد في كتابة كتاب «مبادئ الرياضيات» - قد نظر في أوراق إجابة راسل في المنحة الدراسية التي حصل عليها، وأوصى به عددا من الطلاب والمحاضرين الموهوبين؛ ومن ثم وجد نفسه بين رفاق يشابهونه إلى حد كبير، فلم يعد منعزلا فكريا، ووجد أخيرا سبيلا إلى الصداقة؛ إذ كون صداقات قوامها الاهتمامات المشتركة والمستوى الذهني المتجانس.
وفي أول ثلاث سنوات أمضاها راسل هناك، درس الرياضيات. وفي السنة الرابعة أصبح منكبا على دراسة الفلسفة، ودرس على يد هنري سيدجويك وجيمس وارد وجي إف ستاوت. وكان الفيلسوف الذي يعتنق المذهب الهيجلي، جيه إم إي ماك تاجارت، في ذلك الحين مؤثرا بين الطلاب والمحاضرين الشباب في كامبريدج. وهو الذي حفز راسل على اعتبار الفلسفة التجريبية البريطانية - ويمثلها لوك وبيركلي وهيوم وجون ستيوارت مل - فلسفة «غير مكتملة»، وشجعه بدلا من ذلك على دراسة فلسفة كانط وخصوصا هيجل. وبدافع تأثير ستاوت، أصبح راسل معجبا بالفيلسوف المعتنق للمذهب الهيجلي القادم من جامعة أكسفورد، إف إتش برادلي، فأخذ يدرس أعماله بعناية، وكانت أعماله تروج لصورة من الرأي الفلسفي المعروف باسم «المثالية».
ولكن أكثر من أثر في راسل أشد التأثير كان أحد معاصريه الشباب، وكان ذلك هو جي إي مور، وقد بدأ كمعتنق للفلسفة الهيجلية شأنه شأن راسل، ولكنه سرعان ما نبذها، وأقنع راسل أن يحذو حذوه. كان برادلي يرى أن كل ما يصدقه المرء بدافع المنطق السليم - مثل التعددية والتغير في عالم الأشياء - ليس إلا مظهرا خارجيا، وأن الواقع ما هو إلا حقيقة ذهنية مطلقة. رفض كل من راسل ومور هذا الرأي من منطلق حس عنيد بالتحرر. ومع أنهما تطورا بعد ذلك بطريقتين مختلفتين، ومع أن راسل بالتحديد حاول بكل جهده البحث عن بدائل مرضية، فإن العمل الفلسفي الذي أنجزه كل منهما كان يسلم بالواقعية والتعددية (انظر الفصل
الثاني
للاطلاع على توضيح لهذين المصطلحين).
ولكن التمرد الذي تزعمه مور جاء لاحقا . نجح راسل وصنف بين المتفوقين في امتحانات درجة الشرف بجامعة كامبريدج «ترايبوز» في الرياضيات لعام 1893، وكان ترتيبه السابع في امتحانات الرياضيات بجامعة كامبريدج، وصنف بين المتفوقين مع مرتبة الشرف في امتحانات العلوم الأخلاقية «ترايبوز» في العام التالي (كانت العلوم الأخلاقية الاسم الذي يطلق على مواد مثل الفلسفة والاقتصاد في جامعة كامبريدج). ثم بدأ يكتب أطروحة الزمالة على أسس الهندسة، وذلك على خطا كانط الذي كان له التأثير الأكبر على آرائه في ذلك الحين. وإبان تلك الأحداث الحافلة، بلغ سن الرشد، وأصبح لذلك حرا ليقدم على فعل كان ينتويه على الرغم من المعارضة الشديدة التي أبدتها عائلته، وكان ذلك هو الزواج من أليس بيرسول سميث، وهي فتاة أمريكية من طائفة الكويكرز تكبره بخمس سنوات، كان قد التقاها وهام بها حبا على الفور في 1889، مع أنها لم تبادله المشاعر إلا بعد ذلك بأربع سنوات. ورأت عائلة راسل أنها غير مناسبة على الإطلاق، وأخبرته أنه يستحسن على أي حال من الأحوال ألا ينجب منها لأن بعض أفراد عائلته كانوا يعانون من الجنون، وبرهنوا على ذلك بالإشارة إلى كل من عمه ويليام، وكان مقيما في مصحة للمرضى العقليين، وعمته أجاثا، وكانت تنتابها تهيؤات وتزداد غرابة أطوارها كلما تقدمت في السن.
شكل 1-3: كانت أليس بيرسول سميث - وهي أمريكية من طائفة الكويكرز - أول حبيبة لراسل، التقى بها حين كان في السابعة عشرة من عمره، وتزوجها بعد ذلك بأربع سنوات في 1894.
1
في محاولة لإبعاده عن أليس، اتخذت عائلة راسل ترتيبات لتعيينه ملحقا شرفيا في السفارة البريطانية في باريس. ومما لا شك فيه أنهم كانوا يأملون أن تلبي المغريات التي كانت تعج بها باريس في تسعينيات ذلك القرن الدوافع التي كانت تدفعه نحو الزواج. ولكن التربية البيوريتانية المتزمتة التي فرضتها عليه جدته كانت مؤثرة فيه إلى أقصى حد؛ وأحبطت تلك التربية الخطة، وذلك كما يتضح من الرسائل - وهي نماذج للتزمت - التي كان راسل يرسلها إلى عائلته ويشكو فيها من الحياة الباريسية؛ فجاء في رسالة كتبها: «في باريس وجدت الجميع يسلكون مسلكا بذيئا، وكلما تلفت المرء حوله يرى نماذج لتدنيس الحب، إنهم يجعلونني أرتجف اشمئزازا.» وما إن أصبح راسل يتحكم في أحواله المالية (كان يتلقى ميراثا طيبا قدره 600 جنيه إسترليني سنويا، وكانت عروسه ميسورة الحال أيضا) حتى تزوج من أليس، وفي البداية كانا سعيدين.
نال راسل بفضل أطروحته زمالة بحثية بمدة ثابتة في كلية ترينيتي دون أي واجبات مفروضة عليه؛ مما ترتب عليه أنه لم يكن مضطرا للتدريس في جامعة كامبريدج أو الإقامة فيها؛ ومن ثم سافر راسل مع أليس إلى برلين حيث درس الديمقراطية الاجتماعية الألمانية وألف كتابا عنها. كان هذا أول كتاب يؤلفه، وهو الأول بين كتبه وكتيباته الكثيرة إلى حد استثنائي؛ إذ بلغ عددها 71 كتابا وكتيبا (دون احتساب المقالات التي لا تحصى) نشرت إبان حياته. وأثناء وجوده في برلين، خطرت له فكرة إنشاء مشروع بحثي كبير، يضم خطين للبحث - أحدهما يتناول العلوم الطبيعية، والآخر يتناول المسائل الاجتماعية والسياسية - كان من المزمع أن يتضافرا في نهاية المطاف ليكونا «عملا موسوعيا هائلا». كان راسل لا يزال متأثرا آنذاك بالفلسفة الهيجلية، والتي كان مشروع كهذا يتوافق معها؛ ولكن الخطة صمدت أمام التغير الجذري الذي اعترى رأي راسل الفلسفي - وإن لم تتخذ شكلا منهجيا - إذ كتب راسل الكثير فعلا عن المسائل النظرية والتطبيقية من بين أعماله الكثيرة.
وبعد نشر كتاب «الديمقراطية الاجتماعية الألمانية» بعام، ظهرت النسخة المنشورة من أطروحة الزمالة التي أعدها، وعنوانها «مقال عن أسس الهندسة». ثم نشر راسل في عام 1900 كتاب «عرض نقدي لفلسفة لايبنتس». جاء تأليفه لهذا الكتاب بدافع صدفة، ولكنها كانت صدفة مهمة له؛ إذ كان لراسل زميل من كامبريدج ألقى عدة محاضرات عن لايبنتس، وطلب منه ذلك الزميل أن يحل محله لمدة عام واحد، فرحب راسل بالفكرة، مع أنه لم يحظ بفرصة لدراسة أعمال لايبنتس بالتفصيل. ونشأ الكتاب من المحاضرات التي كان يلقيها. كان راسل يختلف مع العقائد الأساسية لفلسفة لايبنتس، ومع ذلك ظلت جوانب منها مؤثرة في فكره.
إبان الفترة التي كان راسل يلقي خلالها محاضرات عن لايبنتس، أقنعه مور بالتخلي عن مذهب المثالية. وبعدئذ بمدة وجيزة اكتسب اهتمامه بفلسفة الرياضيات - وخصوصا بمسألة ما إذا كان من الممكن إضافة أسس منطقية للرياضيات - قوة دفع كبيرة بفضل لقائه مع عالم المنطق الإيطالي جيوسيبي بيانو في المؤتمر العالمي للفلسفة في باريس في يوليو عام 1900. كان بيانو قد أنجز تطورات فنية معينة في المنطق، وهو ما أوحى لراسل بطرق لتنفيذ الخطوة المرجوة، وهي إخضاع الرياضيات للمنطق. وأخذ يقرأ أعمال بيانو بنهم، ثم بدأ يحسن المناهج الواردة فيها ويوسعها ويطبقها. وفي فورة اهتمامه، وفي غضون بضعة أشهر فحسب، كتب مسودة كاملة للنقاط التي من المقرر أن تبرهن على أولى أطروحاته الكبرى؛ كتاب «مبادئ الرياضيات». وانشغل بالمراجعات والتحسينات لمدة عام آخر، ثم نشر الكتاب في عام 1903. وحين كتب راسل تمهيدا لطبعة جديدة في عام 1937، ذكر أنه ظل مقتنعا بصحة الفرضية الأساسية للكتاب؛ وهي «أن الرياضيات والمنطق متطابقان».
إن النشوة الفكرية التي شعر بها راسل في عام 1900 لم تعاوده بعدها قط؛ وذلك لأن الأحداث التي وقعت في حياته الشخصية أثناء السنوات اللاحقة ألقت بسحب سوداء على عمله؛ إذ اكتشف أنه فقد حبه لزوجته، وأخبرها بذلك. كتب فيما بعد: «كنت أرى في تلك الفترة (لست واثقا من ماهية التجربة التي علمتني أن أفكر بهذه الطريقة) أن المرء يجب أن يصرح بالحقيقة في العلاقات العاطفية.» (السيرة الذاتية لبرتراند راسل، ص151). وتسبب ذلك في بؤس جارف لكل منهما في غضون السنوات التسع اللاحقة التي عاشا فيها تحت سقف واحد. وفي الوقت نفسه تقريبا كانت تعتمل ثورة في حياته العاطفية حين شهد معاناة المرض التي تعرضت لها إيفيلين وايتهيد زوجة معلمه السابق ألفريد نورث وايتهيد؛ فحين رآها في العزلة الشديدة التي يكابدها من يعاني الجزع، تغيرت نظرته للعالم فجأة؛ وكانت تلك هي اللحظة التي أخذ يؤرخ منها لاحقا بدء مناهضته للحروب وتوقه للأطفال، وبدايات ارتفاع إحساس مرهف من حيث تذوق الجمال، وظهور إحساس عميق بأن كلا منا قدره أن يكون وحيدا في نهاية المطاف . وقد أورد في سيرته الذاتية وصفا مؤثرا لتلك التجربة.
وعلى صعيد عمله في مجال الرياضيات - الذي كان من الممكن أن يمنحه السلوى - حدث تغير جذري خطير مشابه، وهو أن راسل اكتشف تناقضا في صلب المشروع الذي كان يحاول تنفيذه. يأتي وصف للتناقض وأهميته في المكان المناسب في الفصل
الثاني
أدناه. وبسبب تأثير ذلك التغير توقف عمل راسل لمدة تزيد على عامين، كان يحدق خلالها في صفحة بيضاء وهو لا يدري كيف يبدأ. وفي هذه الفترة كان منشغلا بكتاب «أصول الرياضيات»، وهو كتاب ألفه بقصد أن يكون جزءا ثانيا لكتاب «مبادئ الرياضيات». وكان من المقرر أن يحتوي هذا الجزء الثاني المفترض على التفاصيل الفنية للأفكار الواردة باختصار في كتاب «مبادئ الرياضيات»، إضافة إلى معالجة أشمل لعدد من الصعوبات التي لم يتناولها الكتاب الأول؛ ولكن سرعان ما اتضح أن راسل يحتاج لما هو أكثر من ذلك لإنجاز هدف المشروع، وهو «إثبات أن كل الرياضيات البحتة تنبع من مقدمات منطقية بحتة ولا تستخدم إلا المفاهيم القابلة للشرح بالحدود المنطقية» (تطوري الفلسفي، ص57). ولذلك طلب راسل تعاون وايتهيد معه في الكتاب، ومنذ ذلك الحين وحتى عام 1910 كرس راسل جل طاقاته الذهنية لإنتاج هذا العمل البارز. كان راسل مسئولا عن الجوانب الفلسفية للكتاب وصياغته الفعلية انطلاقا من المادة الفنية؛ وقدم وايتهيد إسهامات مهمة من حيث استخدام مجموعات الرموز، وأسهم بقدر كبير في استنباط البراهين، وذلك من بين نواح أخرى.
يروي راسل أنه كان يعمل في كتاب «أصول الرياضيات» لمدة ثمانية أشهر كل عام، بمعدل يتراوح بين عشر ساعات واثنتي عشرة ساعة يوميا. وعند تسليم المخطوطة أخيرا لمطبعة جامعة كامبريدج كانت هائلة الحجم، حتى إنه كان لا بد من نقلها إلى هناك على عربة حصان بأربع عجلات. واحتسب موظفو المطبعة أن الكتاب سينزل بهم خسارة قدرها 600 جنيه إسترليني، وقالوا إنهم مستعدون لتحمل نصف ذلك المبلغ فقط. فأقنع راسل ووايتهيد الجمعية الملكية بمساعدتهما بالتصويت لصالح منحة مقدارها 200 جنيه إسترليني، ولكن كان لا بد من دفع المبلغ المتبقي من جيبيهما. وهكذا، كانت المكافأة المالية التي عادت عليهما بعد سنوات من العمل في هذا المشروع الهائل هي تكبد خسارة قدرها 50 جنيها إسترلينيا لكل منهما.
ولكن المكافآت الحقيقية كانت عظيمة؛ ففي أثناء إنجاز هذا الكتاب، وانطلاقا منه، نشر راسل بعض الأبحاث الفلسفية المهمة للغاية. وانتخب زميلا للجمعية الملكية وهو لم يتجاوز الخامسة والثلاثين، وكان ذلك أمرا استثنائيا. ورسخ مكانته في تاريخ المنطق والفلسفة. وتحقق الكثير مما باشره وأنجزه راسل فيما بعد في مجالات أنشطته الكثيرة بفضل نيله للمنزلة الرفيعة التي منحه إياها تأليفه لكتاب «أصول الرياضيات».
لم يستسلم راسل للخمول في المناحي الأخرى إبان سنوات الكدح الفكري هذه؛ إذ ظل اهتمامه بالسياسة نشطا؛ فكان يدافع عن حرية التجارة، ورشح نفسه للبرلمان متبنيا قضية منح حق التصويت للنساء في الانتخابات الفرعية في دائرة ويمبلدون لعام 1907. وكانت قضية منح حق التصويت للنساء قضية لا تحظى بقبول على الإطلاق، وكان المدافعون عنها يتعرضون للإساءة بل والعنف بصفة دائمة. وكان من الممكن أن يدخل راسل البرلمان في آخر الأمر لو لم يقف إلحاده في طريق ذلك؛ إذ كان في سبيله إلى الترشح عن دائرة بدفورد في انتخابات عام 1911، ولكن حال دون ذلك معرفة منظمي حملته الانتخابية بأنه يرفض إخفاء إلحاده عن الناخبين، وأنه يرفض التوجه إلى الكنيسة؛ ومن ثم اختاروا مرشحا آخر.
ولكن سنحت فرصة تناسبه أكثر بكثير بعد ذلك؛ إذ عينته كلية ترينيتي في وظيفة محاضر لمدة خمس سنوات؛ فسلك راسل حياة المحاضر، ووجه انتباهه إلى تأليف كتاب صغير أصبح من الكتب المرموقة، وهو كتاب «مشكلات الفلسفة»، ويظل هذا الكتاب حتى اليوم من أفضل المقدمات القصيرة إلى هذا الموضوع.
كانت العلاقات العاطفية من النتائج غير المتوقعة لأنشطة راسل السياسية؛ ففي عام 1910 وأثناء إقامته بالقرب من جامعة أكسفورد، كان يساعد في حشد تأييد الناخبين للمرشح المحلي فيليب موريل، وكانت زوجة موريل الليدي أوتولين موريل من معارف راسل في طفولته. وتطورت علاقتهما على مر العام التالي، وتحولت إلى علاقة غرامية. كان راسل يتمنى الزواج منها ، وهو ما كان يستلزم طلاقه من أليس وطلاق أوتولين من فيليب. ولكن أوتولين لم تكن ترغب في ترك فيليب؛ ولذا ظلت علاقتهما علاقة زنا، وتقبل فيليب علاقتهما، ولكن العلاقة لاقت معارضة شديدة من أليس وأسرتها. انفصل راسل وأليس في أوائل عشرينيات القرن العشرين، مع أنهما كانا منذ وقت سابق على هذا في حكم المطلقين، ولم يلتقيا ثانية طوال 40 عاما.
كانت أوتولين مناسبة لراسل قطعا. وكتب عنها راسل: «كانت تضحك علي حين كنت أتصرف كمحاضر جامعي أو متزمت، وحين كنت أستبد برأيي في الحديث. وشفتني تدريجيا من الاعتقاد بأنني أفيض بفجور شنيع لا يمكن كبحه إلا بقبضة حديدية من ضبط النفس. وساعدتني على أن أقلل من أنانيتي واعتدادي بنفسي وبآرائي» (السيرة الذاتية لبرتراند راسل، ص214).
شكل 1-4: الليدي أوتولين موريل (1873-1938)، رسمها أغسطس جون عام 1926؛ لوحة زيتية على قماش.
3
وهكذا وفرت له إشباعا لدوافع تذوق الجمال لديه، سواء بذاتها أو بالجمال البديع لكل ما يحيط بها. كان راسل يبلغ حينئذ نحو 40 عاما؛ أي إنها كانت صحوة متأخرة ولكنها عميقة الأثر.
وفي عام 1914 زار راسل الولايات المتحدة، وألقى محاضرات في جامعة هارفرد، وذلك من بين أماكن أخرى. ونشرت محاضراته فيما بعد في كتاب «معرفتنا بالعالم الخارجي». وكان تي إس إليوت من بين تلاميذه في جامعة هارفرد، وكتب إليوت قصيدة عنه بعنوان «السيد أبوليناكس»، وصوره فيها على أنه كائن أسطوري غريب بل ومفزع، قد يتدحرج رأسه المزين بأعشاب البحر فجأة تحت مقعد أو يقفز وهو يبتسم فوق حجاب مصباح؛ صوره على أنه يضحك - حسبما يقول إليوت: «مثل جنين مستهتر.» ومع ذلك فإن «حديثه القوي الحماسي» يستهلك كل فترة بعد الظهيرة، مذكرا إليوت بوقع حوافر وحش القنطور الخرافي فوق أرض صلبة. ترك لقاء إليوت براسل انطباعا قويا عليه؛ أما عن غيره من الحاضرين، فلم يتذكر إلا أنهم كانوا يأكلون شطائر الخيار.
أثناء زيارة راسل لشيكاجو أحب ابنة مضيفه - ولا يرد اسمها في السيرة الذاتية - وكانت آنذاك طالبة في كلية برين مور. وأعدا العدة كي تلحق به في إنجلترا حتى يتمكنا من الزواج بعد أن يطلق أليس. وقد سافرت الفتاة فعلا، ولكن الحرب العالمية الأولى كانت قد اندلعت في ذلك الحين؛ مما أصاب راسل بصدمة نفسية، لكن مشاركته الحماسية في الأنشطة المناهضة للحرب أدت إلى محو مشاعره تجاهها. وتفاقمت كارثة زيارتها إليه بإصابتها بالجنون. ويسرد راسل في سيرته الذاتية هذه القصة القصيرة المحزنة بندم ملؤه الألم.
شكل 1-5: كتب تي إس إليوت (1888-1965) - أحد طلاب راسل في جامعة هارفرد - قصيدة عنه بعنوان «السيد أبوليناكس»، ويظهر فيها كمخلوق أسطوري رأسه مزين بالأعشاب البحرية وله حوافر قنطور.
4
كان رد فعل راسل على اندلاع الحرب معقدا؛ إذ كانت سنه كبيرة؛ فلم يكن من الممكن أن يصبح محاربا؛ لذلك لم يكن قط في موقف الرافض للخدمة العسكرية لأسباب أخلاقية. (ترك عدد من معارفه ممن اتخذوا هذا الموقف - مثل ليتون ستارشي - واجباتهم الزراعية الإجبارية وراحوا يمضون وقتهم في عزبة أوتولين في جارسينجتون.) وشأنه شأن الكثير من المثقفين الذين عاصروا عهد الملك إدوارد، كان راسل يكن ضعفا تجاه ألمانيا والثقافة الألمانية. كان يتحدث الألمانية بطلاقة، وكان يقرأ الكتب الألمانية بحكم الطبع، وسبق له أن أقام هناك وكتب عن السياسة الألمانية. ولكنه كان أيضا وطنيا متحمسا؛ إذ كتب ذات مرة أن «حب إنجلترا يكاد يكون أقوى عاطفة أمتلكها.» ولم يكن كذلك من مناهضي الحروب مناهضة مطلقة؛ إذ إنه أيد الحرب ضد النازية أشد التأييد بعد ذلك بربع قرن. وكان يرى أن اندلاع الحرب في عام 1914 لم يكن بدافع مبدأ معين، وأن الحرب لم تكن تبشر بأي فوائد، بل إن حماقة السياسيين هي التي تسببت فيها، وإنها تهدد بالزج بالحضارة في فوضى عارمة تضيع فيها حياة الشباب سدى. وكتب في رسالة موجهة إلى الأمة عقب اندلاع القتال: «كل هذا الجنون وكل هذا الغضب وكل هذا الموت المشتعل الذي أصاب حضارتنا وآمالنا، تسببت فيه مجموعة من المسئولين الرسميين الذين يعيشون حياة مرفهة، ومعظمهم أغبياء، وكلهم مجردون من سعة الخيال والعاطفة، واختاروا أن تندلع الحرب بدلا من أن يتحمل أي منهم أي انتقاص ولو بسيطا من كرامة بلاده.»
كانت بصيرة راسل بشأن الحرب ثاقبة في ذلك الوقت، تماما مثلما كانت حيال حرب فيتنام التي اندلعت بعد ذلك بنصف قرن. لم تكن المجازر الفظيعة التي راح ضحيتها الجنود في الخنادق قد بدأت بعد، ومع ذلك رأى راسل أنها محتومة، وأن عواقبها بشعة على المدى الطويل. لم يستطع سوى القليلين حينئذ أن يتنبئوا بأن هناك عملية عسكرية قد بدأت ومقدر لها أن تستدرج معظم العالم في حرب فعلية أو كامنة لبقية القرن، وسينتج عنها سقوط عشرات الملايين من الضحايا، وتوجيه الموارد الهائلة توجيها خاطئا إلى تطوير التكنولوجيا العسكرية، كل خطوة جديدة في تطويرها أخطر وأشد فتكا من التي تسبقها. لم يستطع راسل بالطبع أن يتنبأ في عام 1914 بالبلشفية والنازية والمحرقة النازية (الهولوكوست)، والأسلحة النووية والحرب الباردة، والنزعة القومية التي زادت من غلوائها تجارة الأسلحة العالمية، والأصولية التي حفزتها الفجوة المسببة للغيرة القائمة بين الدول الغنية والفقيرة. ولكن كان لديه حس يقظ أوحى له بأن اندلاع الحرب معناه أن الأبواب انفتحت على مصاريعها لكارثة من نوع ما؛ وأتت عقود طويلة من الكوارث كما توقع تماما.
روعه أيضا الدعم الشعبي للحرب في البلدان المشاركة في الحرب، وما اتسمت به من طابع «البربرية البدائية» وإطلاق العنان «لغرائز الكراهية والتعطش للدماء»، وهي العناصر نفسها - كما أشار هو - التي جبلت الحضارة على مناهضتها. وكان أسوأ ما في الأمر هو ظهور هذه الانفعالات نفسها على غالبية أصدقائه ومعارفه. لم يستطع راسل الوقوف مكتوف الأيدي؛ فطوال سنوات الحرب كان يكتب مقالات ويلقي خطبا، يؤيد فيها المعارضة المنظمة للحرب في صورة اتحاد القيادة الديمقراطية وجماعة لا للتجنيد. وفي بداية الحرب أخذ يؤدي أنشطة خيرية فيما بين الألمان المقيمين في إنجلترا ممن أصبحوا معوزين بعد أن تقطعت بهم السبل عن بلادهم. ولم تستمر الحاجة إلى أداء هذه الأنشطة الخيرية طويلا؛ نظرا لأن مواطني البلدان المعادية سرعان ما جرى اعتقالهم ووضعهم رهن الإقامة الجبرية.
كان قائد جماعة لا للتجنيد شابا يدعى كليفورد ألين (وأصبح فيما بعد اللورد ألين أوف هيرتوود)، وكان قد سجن أكثر من مرة لرفضه التخلي عن نشاطه في مجال مناهضة الحرب. وفي إحدى محاكمات ألين، التقى راسل بالليدي كونستانس ماليسون، وهي ممثلة كان اسم شهرتها هو كوليت أونيل، وكانت تشارك في النشاط المناهض للحرب هي الأخرى، وكانت تقضي أمسياتها في المسرح وتقضي ساعات النهار في ملء المظاريف في مكاتب الجماعة. أصبح الاثنان عشيقين؛ إذ وجد راسل في هدوئها ملاذا يهرب إليه من قسوة الصراع إبان زمن الحرب.
وقع راسل عدة مرات تحت طائلة القانون لنشاطه المناهض للحرب؛ ففي عام 1916 رفعت عليه دعوى قضائية بسبب مقال كتبه، وحكم عليه بدفع غرامة قدرها 100 جنيه إسترليني. ولكنه رفض الدفع؛ فقضت المحكمة بالحجز على متعلقاته، ولكن أصدقاءه كانوا كرماء فاشتروها وأعادوها إليه؛ مما أبطل تأثير الموقف الذي اتخذه. وبعدئذ منع من دخول أي منطقة عسكرية في بريطانيا، وخصوصا أي منطقة ساحلية (وافترض هو ساخرا أن السبب في ذلك هو منعه من إرسال إشارات للغواصات المعادية). ورفضت السلطات منحه جواز سفر حين حاول السفر إلى أمريكا في عام 1916. وفي عام 1918 سجن لمدة ستة أشهر بسبب مقال كتب فيه أن القوات الأمريكية القادمة إلى أوروبا قد تستخدم في فض الإضرابات، وهي مهمة سبق أن نفذتها القوات الأمريكية في بلادها. وبفضل علاقاته الاجتماعية (أقر متهكما أنه من المفيد أن يكون المرء أخا لإيرل) وضعوه في الشعبة الأولى من السجن؛ أي إنه كان يقيم في زنزانة مخصصة له وحده، وكان يسمح له بالاحتفاظ بكتب؛ ومن ثم كان يقرأ ويكتب، وأنتج كتابا واحدا - «مدخل للفلسفة الرياضية» - وبدايات كتاب آخر - «تحليل العقل» - إضافة إلى عدد من العروض النقدية والمقالات. وأطلق سراحه في سبتمبر من عام 1918، وذلك حين أصبح من الواضح أن الحرب شارفت على أن تضع أوزارها.
تسببت أول معركة قصيرة خاضها راسل مع القانون في إنزال عقوبة إضافية به. كان كل المحاضرين الشباب في كلية ترينيتي قد ذهبوا للمشاركة في الحرب؛ فتولى مسئولية شئون الكلية حفنة من الرجال الأكبر سنا. وكان هؤلاء يشعرون بعداء شديد تجاه نشاط راسل المتعلق بالحرب. وحين علموا بإدانته، أجروا تصويتا لحرمانه من منصبه كمحاضر. وشعر عالم الرياضيات جي إتش هاردي بالاستياء من معاملة راسل بهذه الطريقة؛ فكتب فيما بعد سردا لما حدث. وحين عاد المحاضرون الشباب بعد أن وضعت الحرب أوزارها، أجروا تصويتا لإعادة راسل إلى منصبه، ولكن بحلول ذلك الوقت كانت اهتمامات راسل توجهه إلى خارج البلاد.
من بين التغيرات الجمة التي انتابت راسل بسبب الحرب اتساع مدى نشاطه الأدبي؛ فقد أنتج كتابين غير فلسفيين إبان هذه السنوات، وهما: كتاب «أسس لإعادة البناء الاجتماعي» (وكان عنوانه في الولايات المتحدة «لماذا يحارب البشر؟») ونشر في عام 1916، وكتاب «الطريق إلى الحرية»، ونشر في عام 1918، وكان هذان الكتابان باكورة كتبه الأخرى الرائجة التي تتناول مسائل اجتماعية وسياسية وأخلاقية. كان راسل يلقي محتويات كتاب «مبادئ إعادة الإعمار الاجتماعي» كسلسلة من المحاضرات في عام 1916، وفي تلك الأثناء التقى راسل بدي إتش لورانس وبدأ معه في ما كان يفترض أن يصبح مشروع تأليف كتاب مشترك، ولكن سرعان ما أصبح أسلوب لورانس عدائيا. في البداية انزعج راسل انزعاجا شديدا من اتهامات لورانس الموجهة إليه بأن نشاطه المناهض للحرب كان قناعا يخفي مشاعر عنيفة من كراهية البشر؛ لأنه كان يظن أن لورانس كان يتمتع بفهم عميق للطبيعة البشرية، ولكن رسائل لورانس ذات اللهجة المسعورة واللاذعة، والتي أخذت تتزايد حدتها، جعلت راسل يكتشف ميول لورانس السياسية الفاشية وعبادته للفلسفة اللاعقلانية، وانقطعت الصلة بينهما.
حين كان راسل في السجن في عام 1918، عكف - كما ذكرت - على تأليف كتابين فلسفيين. ولكن عودته إلى الفلسفة كانت قد بدأت قبل ذلك؛ إذ إنه ألقى سلسلة من المحاضرات في الشهور الأولى من عام 1918 بعنوان «فلسفة مذهب الذرية المنطقية»، ونشرت بعد ذلك بمدة قصيرة في أعداد متعاقبة من دورية اسمها ذا مونيست. وبكرمه المفرط المعروف عنه، نسب راسل أفكاره للودفيج فيتجنشتاين، الذي تتلمذ على يديه لمدة قصيرة في كامبريدج قبل الحرب. في الواقع، فإن معظم الأفكار الواردة في محاضرات راسل كانت واضحة في الأعمال التي أنتجها قبل أن يلتقي بفيتجنشتاين بمدة طويلة؛ ولكن كما نلاحظ من كتاب فيتجنشتاين «دراسة منطقية فلسفية» - وهو كتاب ألفه فيتجنشتاين حين كان مجندا على الجبهة في الجيش النمساوي - فإن الاثنين قد ناقشا هذه الأفكار بشيء من الاستفاضة قبل الحرب. تلقى راسل رسالة من فيتجنشتاين من محبسه في معسكر للأسرى في إيطاليا، يطلعه فيها على كتابه «دراسة منطقية فلسفية». وبعد أن أطلق الإيطاليون سراح فيتجنشتاين، حاول أن ينشر كتابه، ولكنه فشل في ذلك؛ لذا قدم راسل له المساعدة، وأقنع أحد الناشرين بنشر الكتاب بعد أن اتفق معه على كتابة مقدمة له. قدم راسل مساعدات مهمة إلى فيتجنشتاين عدة مرات - ومن أهمها تدبير حصوله على زمالة بحثية في كلية ترينيتي بعد ذلك بعشر سنوات - ومع ذلك انقطعت الصلة بين الرجلين بسبب خلافات مزاجية وفلسفية شديدة.
وقع راسل في الحب مرة أخرى، وكانت من أحبها هذه المرة شابة تخرجت في كلية جيرتون تدعى دورا بلاك. وفي عام 1920 زار كل منهما الاتحاد السوفييتي وحده، وعادت دورا من الاتحاد السوفييتي وهي متحمسة له، فيما عاد راسل وهو يشعر بالعداء حياله. ألف راسل كتابا لاذعا عن البلاشفة، وتشاجر هو ودورا بسببه. ولكن ذلك لم يمنعهما من السفر معا إلى الصين في عام 1921؛ إذ تلقى راسل دعوة لقضاء عام هناك كأستاذ زائر في بكين.
شكل 1-6: كانت دورا بلاك (1894-1986) شابة متخرجة في كلية جيرتون. التقت براسل في عام 1916، وأحب كل منهما الآخر، ولكن دورا لم تقبل عرضه بالزواج إلا في سبتمبر عام 1921. وأنجبا طفلين، هما جون راسل وكاثرين راسل.
1
أحب راسل الصين، شأنه في ذلك شأن الكثيرين ممن يقضون أي مدة في الصين. وشأنه شأن أغلب هؤلاء الكثيرين، كان يميل إلى إضفاء طابع شاعري على الصينيين أنفسهم. وأشاد بحس الفكاهة الذي يتمتعون به وبحكمتهم وقدرتهم على الاستمتاع بكل ما هو جميل وحبهم الشديد التحضر للثقافة والعلم. ولكنه على نحو ما لم يدرك مدى قسوة حياة غالبية الناس في ذلك البلد الكبير، ولا كيف كانت التقاليد العتيقة تقهر الصين وتعيقها. وأثناء إقامته هناك رفض أن ينصب نفسه كناصح للكثيرين الذين طلبوا نصحه بشأن طريقة حياتهم وتفكيرهم، وعن الكيفية التي يتسنى بها للصين الخروج من فقرها والاضطراب الإقطاعي الذي كانت تعاني منه. كان الفيلسوف الأمريكي جون ديوي يزور الصين في الوقت نفسه، ولم يتردد أن يتحدث في كل هذه الموضوعات؛ مما نتج عنه أن ذكراه لا تزال ذات تأثير أقوى من ذكرى راسل. إن ميراث الحكماء شديد القوة في الصين؛ ومن ثم ضاعت من راسل فرصة لإفادة هذا البلد. ألف راسل كتابا يعرض فيه آراءه عن الصين ومستقبلها، بيد أن هذا الكتاب الذي نشر في وقت لاحق في بلد بعيد عن الصين مثل إنجلترا لم يصلح بديلا عن النبوءات التي كان ضيوفه يأملون أن يسمعوها منه. بدلا من ذلك، ألقى عليهم راسل محاضرات عن المنطق الرياضي.
وقرب نهاية إقامة راسل في بكين، مرض مرضا شديدا؛ إذ أصيب بنزلة شعبية وكاد يموت. وبسبب التحمس الزائد لبعض الصحفيين اليابانيين أعلن خبر وفاة راسل؛ وهكذا أتيح له أن يقرأ نعيه بنفسه، وقرأ أيضا نعيا من سطر واحد ظهر في دورية تبشيرية أضحكه بصفة خاصة، وكان يقول: «ها قد سنحت الفرصة للبعثات التبشيرية ليتنفسوا الصعداء لسماع خبر وفاة السيد برتراند راسل.»
كانت أليس قد وافقت أخيرا على الطلاق؛ لذا تزوج راسل ودورا في سبتمبر عام 1921 عند عودتهما إلى إنجلترا، وسرعان ما رزقا بعدئذ بمدة وجيزة بابنهما الأول جون كونراد، ورزقا بعد ذلك بسنتين بابنة أطلقا عليها كيت. ترشح راسل مرتين لعضوية البرلمان كمرشح عن حزب العمال في منطقة تشيلسي، وذلك في عامي 1922 و1923، ولكنه لم يفز. كان ينوء تحت إلحاح المسئوليات الأسرية؛ وكان بحاجة إلى كسب رزقه؛ مما دفعه إلى التخلي مرة أخرى عن فكرة المشاركة السياسية البرلمانية، والانكباب على الكتابة والتدريس في الجامعة. وكانت أكثر أوساط التدريس الجامعي ربحا موجودة في الولايات المتحدة، فزارها أربع مرات خلال العشرينيات من القرن العشرين. وكان من بين الكتب الرائجة التي نشرها كتب «ألف باء النسبية » و«ألف باء الذرات» و«ما أومن به» و«عن التربية» و«مقالات متشككة» و«الزواج والأخلاق» و«الفوز بالسعادة». وحققت بعض هذه الكتب نجاحا ماليا، وتسبب بعضها في التشهير به، وكان ذلك غالبا بسبب ما تحتويه من آراء ليبرالية عن الأخلاقيات الجنسية. لم يهمل راسل الفلسفة أيضا؛ إذ ظهر كتابه «تحليل العقل» - الذي بدأ تأليفه وهو في السجن - في عام 1921؛ وقد وجهت إليه الدعوة لإلقاء «محاضرات تارنر» في كامبريدج عام 1925، ونشرت في عام 1927 بعنوان «تحليل المادة». وأنتج كذلك كتابا دراسيا تمهيديا بعنوان «موجز للفلسفة».
أشبع مجيء الأطفال توقا طالما كان يراود راسل. أمده طفلاه ب «محور عاطفي جديد» استغرقه في الاهتمامات الأبوية لبقية عقد العشرينيات من القرن العشرين. اشترى بيتا في كورنوول حتى تقضي فيه الأسرة العطلات الصيفية، وحين بلغ جون وكيت سن المدرسة، قرر راسل ودورا إنشاء مدرسة تخصهما حتى يتعلم الأطفال على النحو الأفضل من وجهة نظرهما. واستأجرا القصر الريفي الذي يملكه أخو راسل في التلال الجنوبية، وأسسا مدرسة يرتادها 20 طفلا كلهم في السن نفسها تقريبا. كان القصر كبيرا، ويقع على مساحة 200 فدان من أراضي الغابات البكر، والتي تعج بأشجار الزان وأشجار الصنوبر، وكانت تجوبها كائنات من مختلف أشكال الحياة البرية، بما فيها الغزلان. وكان المنظر من القصر نفسه جميلا.
ومع كل هذه المثاليات والموقع الريفي الساحر الذي تتمتع به المدرسة، فشلت التجربة في النهاية؛ إذ لم تتمكن المدرسة قط من تغطية تكاليفها، وكان الهدف الذي يسعى إليه راسل من تأليف الكتب والمقالات الصحفية الرائجة، والسفر عبر المحيط الأطلنطي ذهابا وعودة في جولات لإلقاء محاضرات - مع أنه كان يكره الرحلات البحرية - هو دعم المدرسة في المقام الأول. قامت دورا أيضا بجولة لإلقاء محاضرات في أمريكا، ولكن مسئوليتها الأساسية كانت إدارة المدرسة. واتضح أنه من بين الصعوبات التي واجهت المدرسة طاقم موظفي المدرسة؛ إذ لم يعثر راسل ودورا على معلمين يمكنهم تطبيق مبادئهما باستمرار، وكانت تلك المبادئ تشمل السماح بالحرية التي يحكمها الانضباط؛ إذ لم تكن مدرسة راسل مكانا فوضويا للصغار، وذلك بالرغم من ادعاءات كانت تقول عكس ذلك؛ وكتب راسل فيما بعد: «السماح للأطفال بالانطلاق من شأنه أن يفسح المجال لمكان يسوده العنف، يرعب فيه الأقوياء الضعفاء؛ فأي مدرسة هي أشبه بالدنيا؛ لا يمنع العنف الوحشي فيها إلا وجود حكومة.»
ومن الصعوبات الأخرى أن المدرسة كانت تجتذب نسبة مرتفعة من الأطفال المشاغبين، الذين حاول أولياء أمورهم إرسالهم إلى مدارس أخرى، ولكن اضطروا في النهاية إلى تجربة المدارس التجريبية. ولما كان راسل وزوجته بحاجة إلى المال، قبلوا هؤلاء الأطفال، ولكنهما اكتشفا أن وجودهم تسبب في صعوبة شديدة في إدارة المدرسة.
ومع ذلك كان أسوأ ما في الأمر هو تأثير ذلك على أطفال راسل. كان التلاميذ الآخرون يظنون أن طفليه يتلقيان معاملة تفضيلية دون وجه حق لأن والديهما يديران المدرسة، ولكن راسل ودورا حاولا أن يعاملاهما على قدم المساواة مع الآخرين، في محاولة منهما ليكونا عادلين، وتسبب ذلك في حرمان جون وكيت من والديهما في واقع الأمر، وكم تألما لذلك. وعلى حد وصف راسل، فإن أول فرحة في حياة الأسرة «تبددت وحل محلها الإحراج» (السيرة الذاتية لبرتراند راسل، ص390).
في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الأولى سادت العالم آمال معقودة على التعليم كطريقة لتغيير وجه العالم؛ ففي النمسا، على سبيل المثال، حيث كان لسقوط الإمبراطورية النمساوية المجرية تأثير مدمر، امتهن الكثير من المثقفين الشباب التدريس في المدارس أملا في بناء البشر من جديد. وكان كارل بوبر ولودفيج فيتجنشتاين من بينهم. كان راسل منتميا إلى هذا الاتجاه بطريقة غير مباشرة. ولكن التفاصيل الواقعية للتدريس ومدى تعقيد الطبيعة البشرية سرعان ما جعلت معظمهم يفيق من وهمه، وتخلوا عن مهنة التدريس.
وفي عام 1931 توفي شقيق راسل - فرانك - فجأة، وورث راسل عنه لقب إيرل، وورث أيضا ديون أخيه والتزاما يقضي بأن يدفع 400 جنيه إسترليني سنويا كنفقة لثاني زوجات أخيه الثلاث السابقات. كان موقفه من لقب إيرل ساخرا بعض الشيء، ولكنه لم يكن يمانع في استغلاله بعدة طرق، كان أهمها استغلال ما منحته إياه من حق الدخول تلقائيا إلى منابر دوائر أهل الحل والعقد؛ فهناك كان من الممكن لآرائه المستقلة التي تنتقد الأفكار والمعتقدات الراسخة السائدة أن يكون لها أكبر الأثر. ولكنه لم يكن يكثر من حضور جلسات مجلس اللوردات، وكان يكن شيئا من الاحتقار للنظام الطبقي البريطاني.
وفي هذا التوقيت تقريبا كان زواج راسل ينوء تحت وطأة التوتر بسبب المدرسة والعلاقات الغرامية المتعددة التي كان كلا الزوجين ينغمسان فيها. ولم يكن راسل يعارض في أن يكون لدورا علاقات غرامية، ولكنه لم يكن يرغب في أن يكون مسئولا عن أي أطفال يأتون ثمرة لتلك العلاقات. حملت دورا بطفلة من عشيق أمريكي، وسجلت الطفلة في البداية باعتبارها ابنة راسل؛ ولكنه حين وجدها فيما بعد مسجلة باسمه في كتاب ديبريتس الذي يشتمل على أسماء النبلاء، اتخذ إجراءات قانونية لشطب اسمها من الكتاب. كان راسل إذن يملك دوافع تتعلق بالحفاظ على نقاء السلالة.
وفي أعقاب ما حل براسل من نكبات بسبب المدرسة وانفصاله عن دورا، فضلا عن الأعباء المالية الإضافية التي ورثها عن أخيه، كان راسل لا يزال بحاجة إلى كسب عيشه من نتاج قلمه. انتهت علاقة العمل المجزية التي جمعت راسل بصحف هيرست في أمريكا - وكان راسل يكتب عمودا فيها - في أوائل ذلك العقد؛ ولذا اضطر إلى تكريس كل طاقته لتأليف الكتب. وفي عام 1932 نشر كتاب «الاستشراف العلمي»، وفي عام 1934 نشر كتابا من أفضل كتبه، وهو يتناول التاريخ السياسي، وهو بعنوان «الحرية والتنظيم 1814-1914». ونشر في عام 1935 كتاب «في مديح الكسل»، وفي عام 1936 كتاب «أين الطريق إلى السلام؟» وفي هذا الكتاب أعاد التأكيد على اتجاهه المناهض للحرب مع بعض التحفظات والتزامه بفكرة الحكومة العالمية. ولكن بحلول توقيت نشر هذا الكتاب كان قد أدرك من قبل ضرورة وجود تحفظات أكبر على حركة مناهضة الحرب، وخصوصا - كما تبين من الأحداث التي شهدتها ألمانيا على مدى العامين أو ثلاثة الأعوام السابقة - في مواجهة خطر رأى أنه «منفر للغاية» مثل النازية. وبحلول وقت اندلاع الحرب العالمية الثانية كان قد قرر أن مقاومة هتلر يجب أن تكون بلا تحفظات.
في عام 1937 نشر راسل كتاب «أوراق أمبيرلي»، وهو سيرة لحياة والديه يتألف من ثلاثة أجزاء. كان يرى أن هذا العمل «مريح»؛ لأنه كان معجبا بالآراء الجريئة التي كان يعتنقها والداه وكان متفقا معها تماما، وكان يشعر بالحنين إلى العالم الرحب والمفعم بالأمل - هكذا كان يبدو لراسل - الذي كانا يناضلان فيه دفاعا عن آرائهما. كانت تعاون راسل في هذا الكتاب وفي كتاب «الحرية والتنظيم 1814-1914» امرأة شابة - كانت تعمل معلمة في مدرسته سابقا، ثم أصبحت عشيقته، ثم زوجته الثالثة في عام 1936 - تدعى باتريشا سبينس (وكانت تدعى عادة «بيتر»). وفي عام 1937 رزقا بابن، سمياه كونراد. وانتقلا إلى منزل بالقرب من جامعة أكسفورد حيث كان راسل يدرس مقررا من المحاضرات ويعقد مناقشات مع مجموعة من الفلاسفة الشباب، من بينهم إيه جيه آير. ثم نشر كتاب «القوة، تحليل اجتماعي جديد» في عام 1938، وتحولت محاضراته التي ألقاها في جامعة أكسفورد - التي كانت بعنوان «كلمات وحقائق» في البداية - إلى كتابه الفلسفي التالي، بعنوان «ما وراء المعنى والحقيقة»، ونشر عام 1940.
عام 1938 سافر راسل مع زوجته بيتر وكونراد إلى أمريكا لتسلم منصب أستاذ زائر في جامعة شيكاجو. وعقد مناقشات منشطة هناك مع طلاب وزملاء أذكياء - كان من بين الزملاء رودولف كارناب - ولكنه لم يكن على وفاق مع رئيس قسم الفلسفة، وكان يكره شيكاجو، ووصفها بأنها «مدينة بغيضة ذات طقس سيئ.» وفي أواخر العام انتقلت أسرة راسل إلى كاليفورنيا؛ حيث وجد طقسها ألطف بكثير. كان راسل يدرس في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس. وفي صيف عام 1939 جاء جون وكيت لقضاء عطلة في كاليفورنيا، ولكن اندلاع الحرب حال دون عودتهما إلى إنجلترا؛ لذلك أدخلهما راسل في جامعة كاليفورنيا.
وبرغم الطقس المشرق في كاليفورنيا، كان راسل يشعر بقدر أقل من الرضا في جامعة كاليفورنيا عما كان عليه شعوره في شيكاجو؛ لأن الموظفين والطلاب لم يكونوا مؤهلين، وكان رئيس الجامعة سيئ الطبع إلى حد كبير من وجهة نظر راسل ؛ ولذلك، بعد عام واحد، قبل عرضا لشغل منصب أستاذ في كلية سيتي كوليدج أوف نيويورك. ولكن قبل أن يتمكن من تسلم منصبه، ثارت حوله فضيحة بسبب الإلحاد والفجور. وكان أول من فجر شرارة الفضيحة هو أسقفا من الكنيسة الأسقفية، ونقلها الكاثوليكيون بكل حماس، وذاعت أنباؤها بسبب دعوى قضائية رفعتها أم طالبة كانت ستدخل الكلية. وقالت الأم - وتدعى السيدة كاي - إن وجود راسل في الكلية سيكون خطيرا على عفة ابنتها. ولم يتمكن راسل من الدفاع عن نفسه في المحكمة؛ لأن الدعوى كانت مرفوعة ضد بلدية نيويورك ولم يكن هو طرفا فيها. ووصف محامي السيدة كاي أعمال راسل بأنها «فاسقة، وداعرة، وشهوانية، وشبقة، ومثيرة للشهوة، وماجنة، وتتسم بضيق الأفق، وكاذبة، ومجردة من القيمة الأخلاقية.» وكان من أسباب هذا الوصف أن راسل ذكر في كتاب له أنه لا ينبغي عقاب الأطفال الصغار على الاستمناء. وتفوق القاضي الأيرلندي الكاثوليكي في سب وذم راسل على محامي السيدة كاي وهو يوجز الاتهام الموجه لراسل. وربحت القضية السيدة كاي طبعا.
ولم تتسبب القضية في تأليب مدينة نيويورك وولاية نيويورك بأكملها ضد راسل فحسب، بل تسببت في تأليب البلاد بأكملها ضده. وبعد طرده من وظيفته في نيويورك، لم يستطع في البداية أن يجد أي مكان آخر يقبل بمنحه وظيفة في مجال التدريس، ولم يستطع كذلك أن يجد أي جريدة تعرض عليه كتابة عمود فيها، ونظرا لظروف الحرب كان من المستحيل الحصول على المال من إنجلترا؛ وهكذا تقطعت به السبل خارج بلاده دون مورد للرزق، وهو مسئول عن أسرة عليه أن يعولها.
أنقذ راسل من هذه المعضلة جامعة هارفرد أولا؛ إذ وجهت إليه دعوة كريمة للتدريس فيها في عام 1940، ثم أنقذه مليونير من مدينة فيلادلفيا، يدعى د. بارنز، وكان من هواة جمع القطع الفنية وصاحب مؤسسة مخصصة في المقام الأول لدراسة تاريخ الفنون. منح بارنز راسل عقدا مدته خمس سنوات للتدريس في المؤسسة. ومن الأمور التي وجدها راسل مسلية أن القاعة التي كان يلقي فيها محاضراته كانت معلقة على جدرانها لوحات فرنسية تصور أشخاصا عراة، بيد أنه كان يعتقد أن ذلك لا يتناسب مع الفلسفة الأكاديمية. كان بارنز غريب الأطوار ويشتهر بالتشاجر مع الموظفين العاملين لديه؛ فأصدر فجأة إخطار فصل بعد أقل من نصف مدة عقد راسل؛ لأن محاضرات راسل كانت - في رأيه - سيئة الإعداد. نشرت هذه المحاضرات بعدئذ ككتاب بعنوان «تاريخ الفلسفة الغربية»، وأصبح أكثر كتب راسل نجاحا بفارق كبير على المستويين الشعبي والمالي. ورفع راسل دعوى على بارنز لخرق العقد، وأعطى المخطوطة للقاضي ليقرأها، وربح القضية. ومن نافلة القول أنه توجد أجزاء من هذا الكتاب الشهير مختصرة إلى حد يجعل المرء يشعر بشيء من التعاطف مع مليونير فيلادلفيا. ولكنه من نواح أخرى عبارة عن دراسة شاملة رائعة تتناول الفكر الغربي تتسم بأسلوب ممتع سهل القراءة، ويتميز الكتاب بوضع الفكر الغربي في سياقه التاريخي على نحو مفيد. من الواضح أن راسل استمتع بكتابته، ويظهر هذا الاستمتاع في الكتاب، كما تظهر تعليقاته اللاحقة عن الكتاب أنه كان يدرك مواطن القصور فيه.
استكمل راسل العمل في كتاب «تاريخ الفلسفة الغربية» في مكتبة كلية برين مور بعد انفصاله عن بارنز. ويعود الفضل في ذلك إلى كرم الأستاذ الجامعي بول فايس، الذي وجه الدعوة لراسل للعمل في الكلية، وذلك حين كان راسل ينتظر الحصول على إذن من السفارة البريطانية في واشنطن للعودة إلى إنجلترا. عرضت كلية ترينيتي على راسل فرصة الحصول على درجة الزمالة؛ مما أنقذ راسل من الصعوبات التي كان يواجهها، وأنقذه كذلك التقدم الهائل الذي كان يحرزه كتاب «تاريخ الفلسفة الغربية». وقبل عودة راسل بحرا وسط أخطار الغواصات الألمانية التي كانت تجوب المحيط الأطلنطي، أمضى راسل مدة قصيرة في جامعة برينستون، حيث كانت له مناقشات مع أينشتاين وكيرت جوديل وفولفجانج باولي. وعلى مدى السنوات القليلة التالية، درس راسل في جامعة كامبريدج، ونشر كتاب «تاريخ الفلسفة الغربية» في عام 1945 وكتاب «المعرفة الإنسانية: نطاقها وحدودها» في عام 1948. كان هذا الكتاب هو آخر الأعمال الفلسفية لراسل، وقد أصيب بخيبة أمل حين تلقى الكتاب اهتماما محدودا من الأوساط الفلسفية. ونسب ذلك إلى الشعبية الهائلة التي كانت تحظى بها أفكار فيتجنشتاين آنذاك ولفترة بعد ذلك. وفي عام 1949 - وهو عام وصفه بأنه «أوج الرفعة» التي نالها - تغيرت الزمالة التي حصل عليها في كلية ترينيتي إلى زمالة مدى الحياة دون تحمل واجبات تدريس، واختير للحصول على زمالة شرفية للأكاديمية البريطانية، ودعته هيئة الإذاعة البريطانية لإلقاء أول سلسلة من محاضرات رايث، ومنحه الملك جورج الخامس وسام الاستحقاق، وفي العام التالي فاز بجائزة نوبل للآداب، ووصله نبأ نيله الجائزة وهو في زيارة جديدة للولايات المتحدة.
سر راسل لمنحه وسام الاستحقاق، وتوجه إلى قصر باكنجهام لحضور حفل تقليد الوسام. وشعر الملك جورج بالحرج لاضطراره إلى التعامل بلطف مع رجل ارتكب الزنا وسبقت إدانته ويميل إلى انتقاد الأفكار والمعتقدات الراسخة، وفضلا عن ذلك - على حد وصف الملك - عجيب المظهر؛ فقال له الملك: «لقد كنت تسلك أحيانا مسلكا لن يكون من اللائق أن يكون مسلكا شائعا.» وكان الرد الذي كاد يفلت من بين شفتي راسل، ولكنه تمكن من كبحه: «مثل أخيك.» وكان يقصد الملك إدوارد الثامن الذي تنازل عن العرش؛ لكنه قال بدلا من ذلك: «يتوقف السلوك الذي ينبغي على المرء أن يسلكه على مهنته؛ فساعي البريد، مثلا، ينبغي أن يدق على كل الأبواب في شارع معين ليسلم الخطابات، ولكن إذا دق أحد غيره على كل الأبواب، فسيعتبر ذلك من قبيل الإزعاج.» وعندها غير الملك الموضوع بسرعة (السيرة الذاتية لبرتراند راسل، ص516-517).
وبفضل المكانة الرفيعة الجديدة التي اكتسبها راسل، ولا سيما معارضته الطويلة الأمد للشيوعية في الاتحاد السوفييتي، استعانت به الحكومة البريطانية في زيادة برودة الحرب الباردة. وفي سبيل تحقيق هذه المهمة زار ألمانيا والسويد لإلقاء محاضرات. وأثناء زيارته للسويد سقطت الطائرة المائية التي كان يستقلها في ميناء تروندهايم، واضطر عندئذ إلى السباحة في مياه شديدة البرودة لينجو؛ أما خلال زيارته لألمانيا فقد أصبح مؤقتا فردا من أفراد القوات الجوية البريطانية، وهو ما أسعده كثيرا.
كان راسل كثير السفر في خمسينيات القرن العشرين - إلى أستراليا والهند وأمريكا مرة أخرى، وكذلك أوروبا والبلدان الإسكندنافية - وكان يلقي محاضرات هناك طوال الوقت، وكان يحظى بشهرة كبيرة هناك. وبعد انفصال راسل عن بيتر سبينس بثلاث سنوات تزوج من صديقته الأمريكية التليدة إيديث فينش، وأمضيا شهر العسل في باريس؛ ولكن حتى حينما كان راسل يتجول بأرجاء المدينة لمشاهدة معالمها - ولم يكن أي منهما قد تجول فيها كسائح قط؛ لأن كلا منهما سبقت له الإقامة فيها - كان الناس يتعرفون عليه ويتجمعون حوله.
تحولت الأسفار وجولات إلقاء المحاضرات إلى كتب، كدأب راسل دوما. وظهرت محاضرات رايث ككتاب بعنوان «السلطة والفرد». وفي عام 1954 نشر كتاب «المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة»، وهو الكتاب الذي أدرج فيه الخطبة الرسمية التي ألقاها بمناسبة تسلمه جائزة نوبل. ولما كان راسل قد نال جائزة نوبل في الآداب (ورد في خطاب التنويه كتاب «الزواج والأخلاق»)، حفزه ذلك على الكتابة القصصية. وفي عام 1921 كتب رواية ولكن لم يحاول نشرها، وكتب مجموعتين من القصص القصيرة - أو إن شئنا الدقة قلنا الحكايات الرمزية القصيرة - وكلها ذات مغزى فلسفي أو جدلي، بعنوان «الشيطان في الضواحي» و«كوابيس المرموقين». وفي عام 1956 نشر كتاب «صور من الذاكرة»، وهو سلسلة من المقالات الوصفية لأشخاص مرموقين تعرف عليهم، وفي عام 1959، قدم للعالم سيرته الذاتية الفكرية، وعنوانها، «تطوري الفلسفي»، وتلخص التقدم الذي شهدته آراؤه منذ الطفولة فصاعدا.
لكن أي فكرة مفادها أن راسل قد تمكن أخيرا من الدخول إلى دوائر أهل الحل والعقد - وأنه سيخفف من غلوائه ويركن إلى الشيخوخة الهادئة المكللة بالجلال والاحترام - كانت خاطئة؛ إذ إن راسل كان يرى أن العالم يحدق به خطر داهم ومتزايد بسرعة، وكان يرى أنه من المحتم مقاومته. وكان هذا الخطر هو انتشار أسلحة الدمار الشامل. وبدءا من منتصف خمسينيات القرن العشرين وحتى وفاته في فبراير عام 1970، ظل يناضل ضد الأسلحة والحرب بحماس شاب في مقتبل العمر؛ مما أدى إلى الحكم عليه بالسجن مرة أخرى، وذلك فضلا عن عواقب أخرى - خفف الحكم بسبب تقدمه في السن (كان آنذاك في التسعينيات من عمره)، بحيث أصبحت العقوبة أسبوعا في مستشفى السجن - وجلب عليه موقفه ذلك الكراهية والعداوة في سنواته الأخيرة، خاصة بسبب معارضته الطائشة المفرطة بل والمسعورة - فيما كان يبدو - للأفعال الأمريكية في حرب فيتنام. اتضح فيما بعد أن اتهاماته للولايات المتحدة بارتكاب جرائم حرب كانت قائمة على معلومات صحيحة في معظمها. وفي إطار هذه المساعي أصبح راسل أول رئيس للحملة المعنية بنزع السلاح النووي، ونشر كتابين - «المنطق السليم والحرب النووية» و«هل يوجد مستقبل للبشر؟» - وأدى دورا مهما في تأسيس مؤتمر بوجواش وفي تأسيس المحكمة الدولية لجرائم الحرب تعبيرا عن المعارضة لحرب فيتنام، وذلك بمشاركة جان بول سارتر.
ترد مناقشة للصراعات السياسية التي شهدها راسل إبان السنوات الخمس عشرة الأخيرة من حياته في الفصل
الرابع . كان راسل يبدو وكأنه يزداد شبابا مع الزمن عند خاتمة حياته، رغم شيخوخة الجسد وشيء من الوهن (ولكنه كان نشطا ومتيقظا حتى النهاية، حين توفي وهو في عامه الثامن والتسعين)؛ إذ قدمته جدته إلى العالم على صورة كهل فيكتوري، لكنه غير من نفسه إلى فارس مطوف دائم الشباب؛ فارس صادق وصارم ذي فكر مهيب ومقدرة هائلة ككاتب، يستخدم مواهبه - ولعل من أهمها قدراته الفريدة المتعلقة بالمنطق وخفة الظل - للتصدي للقوى الغاشمة.
إن منظور الزمن من شأنه إما أن يضخم من شأن من شغلوا المشهد العام وإما أن يقلل منه. ويتضاءل السواد الأعظم من هؤلاء ويظلون في السفوح، فيما يسمو قلائل إلى قمم الجلال. ويظهر راسل صرحا منيفا بين القمم.
هوامش
الفصل الثاني
المنطق والفلسفة
مقدمة
كان الحافز الفلسفي الأساسي الذي يدفع راسل - على حد تعبيره - هو اكتشاف ما إذا كان من الممكن معرفة أي شيء معرفة يقينية. وقد راوده هذا الطموح - الذي يطابق طموح ديكارت - بسبب أزمتين فكريتين مبكرتين: فقدانه الإيمان الديني، وخيبة أمله في الاضطرار إلى تقبل البديهيات كأساس للهندسة. وكان أول مسعى فلسفي حقيقي يتولاه هو إثبات أن الرياضيات تعتمد على المنطق؛ فنجاحه في هذا المسعى كان من شأنه أن يقدم أساسا من اليقين للمعرفة الرياضية. فشل المشروع، لكن انطلقت من المحاولة عدة تطورات فلسفية مهمة. واتجه راسل بعد ذلك إلى مشكلات الفلسفة العامة؛ حيث يصبح العثور على اليقين أصعب. ومع ذلك أخذ يعمل في بناء نظريات كان يأمل أن توفر حلولا مرضية، بصرف النظر عن الطابع المراوغ لليقين. وراح يعود إلى هذه المشكلات مرة بعد مرة، ويطور آراءه ويغيرها وهو يؤمن بالأساليب التحليلية المستمدة من عمله المنطقي. وقد شعر في آخر الأمر أن بإمكانه أن يقول إنه حقق درجة من النجاح، مع أنه كان يدرك أنه لم يكن يتفق معه إلا قلة من أقرانه الفلاسفة.
حين يدرس المرء الأعمال الفلسفية لراسل، ويتجاهل حقيقة أنها تطورت على مدى فترة زمنية طويلة للغاية - إذ كانت كثيرا ما تتخللها أنشطة كثيرة أخرى تدوم لفترات طويلة - فإنه يندهش لمدى استمرار ومنطقية التطور الذي تمثله. وحسب وصف راسل لتطوره الفلسفي، يقول إن حياته الفلسفية انقسمت إلى قسمين: القسم الأول تمثل في التجريب المبكر والقصير الأمد للمثالية، أما القسم الثاني - وهو مستلهم من اكتشافه لأساليب منطقية جديدة - فظل يسيطر على رأيه منذ ذلك الحين فصاعدا:
هناك قسم مهم في عملي الفلسفي - في عامي 1899-1900 - أخذت فيه أعتنق فلسفة مذهب الذرية المنطقية وأسلوب بيانو في المنطق الرياضي. كان هذا تغيرا جذريا هائلا بحيث إنه يجعل عملي السابق - فيما عدا ما كان رياضيا بحتا - غير ذي صلة بكل ما أنجزته فيما بعد. كان التغير في هذه السنوات بمنزلة تغير جذري؛ أما التغيرات اللاحقة فكانت تتسم بأنها بمنزلة تطور. (تطوري الفلسفي، ص11)
كان التطور الذي أعقب التغير الجذري كبيرا، ولكن كانت تحفزه في كل مرحلة حاجة إلى حل المشكلات التي تأتي بها المراحل السابقة، أو - إذا كانت المشكلات أكبر من اللازم - إلى اكتشاف طرق بديلة للتقدم للأمام. وتوضح هذه المتوالية الجدلية من المشكلات أن الطرفة التي أطلقها تشارلز برود «ينتج السيد برتراند راسل نظاما فلسفيا جديدا كل عام أو نحو ذلك، أما السيد جي إي مور فلا ينتج أي نظام فلسفي على الإطلاق.» مع أنها تنطبق على مور، فإنها لا تنطبق على راسل، ولا سيما في تلميحها إلى الطابع المتقلب الذي تتسم به خطوات رحلة راسل الفلسفية.
وخلال السنوات التي تفصل بين حصوله على شهادته واكتشافه لبيانو - وهي تقريبا عقد التسعينيات من القرن التاسع عشر - كان راسل خاضعا لتأثير المثالية الألمانية كما كان يفضلها أساتذته في كامبريدج. وكانت النسخة المنشورة من أطروحة حصوله على الزمالة عبارة عن سرد عن الهندسة بالأسلوب الكانطي، ولكن ولاءه الأساسي كان لهيجل؛ إذ كتب سردا عن الرياضيات بالأسلوب الهيجلي، وأعد جدلية مثالية كاملة للعلوم يهدف منها إلى إثبات أن كل الواقع أصله تصور ذهني، وذلك بأسلوب هيجل.
تبرأ راسل من هذا العمل فيما بعد، بصرامته المعهودة، واصفا إياه بأنه «ليس إلا محض هراء» (تطوري الفلسفي، ص32). لقد طرأ التغير الجذري في أسلوبه الفلسفي - كما رأينا - نتيجة لثورته المشتركة مع مور على المثالية، ونتيجة لاكتشافه للعمل الفلسفي الذي أنجزه بيانو. وكان عمل بيانو مهما للغاية؛ لأنه حفز من رغبة راسل لاشتقاق الرياضيات من المنطق، وقدم له الوسيلة اللازمة لتنفيذ ذلك. وكرس راسل السنوات ما بين عام 1900 و1910 لهذه المهمة أساسا، ونتج عن ذلك قدر كبير من الإنجاز الفلسفي القيم. يناقش كتاب «مبادئ الرياضيات» (1903) هذا المشروع، ويتألف كتاب «أصول الرياضيات» (1910-1913) من وصف تفصيلي لمحاولة تنفيذه. ومن بين الأبحاث الفلسفية القيمة التي أنجزها راسل أثناء ذلك كتاب «عن التدليل» (1905)، وبعض الأفكار الواردة فيه صار لها تأثير هائل على تاريخ الفلسفة لاحقا.
واستمر العمل الفلسفي إبان هذه السنوات بعد أن انتهى العمل المنطقي المشترك بإصدار كتاب «أصول الرياضيات». وشرع راسل في تطبيق أساليب التحليل التي توصل إليها في هذا العمل على مشكلات الميتافيزيقا (الاستقصاء عن طبيعة الواقع) والإبستمولوجيا (الاستقصاء عن طريقة حصولنا على المعرفة واختبارنا لها). ويصف كتابه القيم القصير الخالد «مشكلات الفلسفة» (1912) الآراء الميتافيزيقية والإبستمولوجية التي كان يعتنقها آنذاك. كان ينوي أن يتناول هذه الآراء بمزيد من التفصيل في كتاباته اللاحقة، وبدأ في عام 1913 في كتابة مسودة لكتاب كبير ، نشر بعد وفاته بعنوان «نظرية المعرفة» (1984). ولكنه كان غير راض عن بعض جوانب الكتاب؛ لذلك قرر تفكيكه ونشره كجزء من سلسلة من الأبحاث، بدلا من نشره في كتاب. وفي الوقت نفسه بدأ يطبق الأساليب المنطقية على تحليل الإدراك بناء على اقتراح من وايتهيد؛ وأسفر ذلك عن مجموعة من المحاضرات ألقاها في جامعة هارفرد ونشرها لاحقا في كتاب بعنوان «معرفتنا بالعالم الخارجي» (1914). ويمثل هذا الكتاب - إضافة إلى بحث بعنوان «صلة البيانات الحسية بالفيزياء» نشر في العام نفسه - استطرادا من راسل ناقش فيه شيئا مثل مذهب الظواهر. ومذهب الظواهر هو الرأي القائل بأن المعرفة الإدراكية يمكن تحليلها في إطار معرفتنا بالمعلومات الأساسية للتجربة الحسية. (وأقول «شيئا مثل مذهب الظواهر» لأنه مع أن راسل وصف هذه الآراء بعد ذلك بنصف قرن بأنها تابعة لمذهب الظواهر، فإنها في الكتابات الأصلية ليست واضحة هكذا؛ وأناقش هذه النقطة في مكانها المناسب أدناه.) وبعد ذلك بأربع سنوات، في سلسلة أخرى من المحاضرات، طبق راسل منهجه التحليلي على الأشياء وطريقة حديثنا عنها. وأطلق على هذا المنهج «فلسفة مذهب الذرية المنطقية». وفي الوقت نفسه نشر كتابا كان في الواقع نسخة شعبية من كتاب «أصول الرياضيات»، وعرض فيه الأفكار الأساسية لفلسفة الرياضيات. والكتاب بعنوان «مقدمة إلى الفلسفة الرياضية» (1918).
وفي عشرينيات القرن العشرين سعى راسل إلى تحسين تطبيق أساليبه التحليلية على فلسفة علم النفس والفيزياء والتوسع في ذلك. وكانت أول ثمرة لهذا السعي هي كتاب «تحليل العقل» (1921)، ويطبق فيه فهمه لمبدأ يشبه مذهب الظواهر على تحليل الكيانات العقلية. وكان الكتاب الثاني هو «تحليل المادة» (1927)، وفيه يسعى راسل إلى تحليل المفاهيم الأساسية للفيزياء، مثل القوة والمادة، من منظور الأحداث. وحجة هذا الكتاب تتبع مذهب الواقعية تماما؛ فقد كان راسل يرى أنه من غير الممكن تحليل المفاهيم الأساسية للفيزياء دون الإقرار بوجود كيانات معينة يستحيل إدراكها؛ وبهذا انتهت علاقة راسل مع مذهب الظواهر. ومن الممكن أيضا وصف الكتاب بأنه عودة إلى الواقعية؛ لأن راسل كان ملتزما بشكل صارم بعض الشيء من الواقعية قبل أن يؤلف كتاب «معرفتنا بالعالم الخارجي».
شكل 2-1: الصورة المصدرة لكتاب «مبادئ الرياضيات »، المنشور عام 1900، والقائم على افتراض أن لا فارق بين الرياضيات والمنطق.
1
بعد رحلة العودة من شكل من أشكال مذهب الظواهر أو ما يشبهه، أعاد راسل التفكير في المشكلات التي أصبح يرى أنها لم تكن محل معالجة مناسبة في ظل افتراضاته المبنية على مذهب الظواهر. ونتج عن ذلك كتاب «ما وراء المعنى والحقيقة» (1940) حيث يناقش فيه ثانية علاقة التجربة بالمعرفة المشروطة، وكتاب «المعرفة الإنشائية» (1948) ويعود فيه - من ضمن أمور أخرى - إلى موضوع تركه دون أن يناقشه مناقشة مناسبة في الكتابات السابقة؛ وهو الموضوع المهم المتعلق بالاستنتاج غير البرهاني (غير الاستدلالي)، من النوع الذي يفترض عموما أنه يستخدم في العلوم.
تستحق كل مرحلة من هذه المراحل على مدى تطور فكر راسل مناقشة مستفيضة، ويمكن الاطلاع عليها في الأعمال المذكورة في قسم القراءات الإضافية في نهاية الكتاب. وفي الأقسام التالية أقدم سردا موجزا لهذه المراحل.
رفض المثالية
تتخذ المثالية عددا من الصور المتباينة، ولكن عقيدتها الأساسية مفادها أن الواقع في جوهره له طابع ذهني. ولعل مصطلح «الفكرية» من الممكن أن يكون تسمية أفضل من المثالية، فمصطلح «المثالية» من المصطلحات الفنية في الفلسفة، وليس له علاقة بالمعاني العادية لكلمة «مثالي». والمثالية - في إحدى صورها، وفي رأي بيشوب بيركلي - هي الفرضية القائلة بأن الواقع يتألف جوهريا من مجموعة من العقول وأفكارها. وأحد هذه العقول غير متناه، وتنشأ منه معظم الأفكار؛ ويعتبره بيشوب هو الذات الإلهية. وفي آراء لاحقة من النوع الذي يعتنقه تي إتش جرين وإف إتش برادلي - وكلاهما تأثر تأثرا كبيرا بالمثالية الألمانية - تكون الفرضية هي أن الكون يتألف جوهريا من عقل واحد يستشعر نفسه، إذا جاز التعبير. وهما يؤكدان أن خبرتنا المحدودة والجزئية والفردية، والتي تخبرنا أن العالم يتألف من مجموعة متعددة من الكيانات ذات الوجود المنفرد - والكثير منها، إن لم يكن معظمها، مادية أكثر منها ذهنية - متناقضة، أو على أقل تقدير مضللة. وتعددية الأشياء هذه ليست إلا «مظهرا»، يخفي الطبيعة الحقيقية للواقع بدلا من أن يصورها. ويشي هذا بفكرة مهمة ملازمة للمثالية ، تعلم راسل أن يتقبلها؛ وهي أنه نظرا لأن التعددية عبارة عن مظهر مضلل، فإن الحقيقة هي أن كل شيء متصل بكل الأشياء الأخرى في الكون؛ ولذلك فإن الكون عبارة عن شيء واحد، وكل شيء هو عبارة عن كيان واحد. وهذا الرأي يعرف بمذهب «الأحادية».
حين رفض مور وراسل المثالية في عام 1898 (وكان نشر مقال مور في ذلك العام، وعنوانه «طبيعة الرأي»، علامة على ذلك الرفض) اعترض كل منهما على الفرضيات الأساسية التي تقوم عليها المثالية، وهي أن التجربة ومكوناتها تعتمد بعضها على بعض اعتمادا متبادلا ومعقدا، وأن كل شيء عبارة عن كيان واحد. وبهذه الطريقة التزما بمذهب «الواقعية»، وهي الفرضية التي تقول بأن مكونات الخبرة منعزلة عن الخبرة ذاتها، والتزما بمذهب «التعددية»، وهي الفرضية القائلة بأنه يوجد الكثير من الأشياء المستقلة المنفردة في العالم.
كان راسل يرى أن المثالية والفكرة الملازمة لها - الأحادية - تنشآن من نظرة «للروابط» تفسح، فور دحضها، المجال للواقعية التعددية. والروابط تعبر عنها تعبيرات مثل «أ تقع على يسار ب»، و«أ موجودة قبل ب»، و«أ تحب ب». كان راسل يرى من وجهة النظر المثالية أن كل الروابط «داخلية»، بمعنى أنها عبارة عن صفات للأطراف التي تصل بينها، وتظهر - في وصفها الكامل - كصفات للكل الذي تؤلفه بما فيها من أطراف. يكون هذا أحيانا قابلا للتنفيذ؛ ففي «أ تحب ب» فكرة محبة «أ» ل «ب» عبارة عن صفة ل «أ» - بمعنى أنها عبارة عن حقيقة عن طبيعة «أ» - والحقيقة المعقدة التي تدل عليها «أ تحب ب» تحمل صفة المحبة التي يتلقاها «ب» من «أ». ولكن إذا كانت كل الروابط داخلية، يترتب على ذلك فورا أن الكون يتألف مما يطلق عليه الفيلسوف المثالي هارولد جواكيم «الكل ذو المعنى»؛ لأنه يعني أنه من طبيعة أي شيء أن يكون متصلا بكل شيء آخر؛ وبناء على ذلك، فإن أي وصف كامل لأي شيء سيطلعنا على كل شيء عن الكون بالكامل، وبالعكس. يعبر برادلي عن هذه الجزئية كما يلي: «الواقع واحد. ويجب أن يكون مفردا لأن التعددية - في حالة الإقرار بأنها حقيقية - تناقض نفسها؛ فالتعددية تفترض ضمنا وجود الروابط، وهي تفرض دائما كرها وجود وحدة عليا، وذلك من خلال روابطها» (المظهر والواقع، ص519).
رد راسل معترضا على هذا الرأي بقوله إن أتباع مذهب المثالية يرتكبون خطأ جوهريا، وهو أنهم يفترضون أن كل القضايا تتخذ صيغة الموضوع والمحمول. فلنأخذ عبارة «الكرة مستديرة». يمكن استخدام هذه العبارة للتعبير عن قضية تسند فيها صفة الاستدارة إلى كرة معينة («تسند» معناها: تنطبق على، تقال عن). ففي رأي راسل، أخطأ أتباع مذهب المثالية حين ظنوا أن كل القضايا - حتى الارتباطية - تتخذ شكل الموضوع والمحمول؛ مما يعني أن كل قضية يجب أن تؤلف في التحليل النهائي إسنادا عن الواقع ككل، وأن الروابط في حد ذاتها غير واقعية. على سبيل المثال: من وجهة النظر المثالية، ينبغي فهم القضية «أ موجودة إلى اليسار من ب» على أنها تقول: «الواقع يتصف بصفة أن أ تبدو إلى اليسار من ب» (أو نحو ذلك).
ولكن إذا رأى المرء أن الكثير من القضايا ارتباطي في الشكل على نحو يتعذر فصمه، فإن المرء هكذا يرى أن الأحادية زائفة؛ فقولنا إن الكثير من القضايا ارتباطي على نحو يتعذر فصمه يساوي قولنا إن الروابط حقيقية أو «خارجية»؛ فهي لا تقوم على الأطراف التي تصلها؛ فالرابطة «إلى اليسار من» لا تنتمي في حد ذاتها إلى أي شيء مكاني، بمعنى أنه ليس من الضروري أن يوجد شيء مكاني إلى اليسار من أشياء أخرى. وذهب راسل إلى أنه لكي نضمن صحة أن «أ على يسار ب»، يجب أن يكون لدينا «أ» وكذلك «ب» «على نحو منفصل» حتى تصبح الأولى طرفا في رابطة مع الثانية، وهي رابطة «إلى اليسار من». وبالطبع فإن قولنا بوجود أكثر من شيء واحد معناه رفض الأحادية.
ويشكل رفض الأحادية رفضا للمثالية في رأي راسل؛ لأنه من الضروري في المثالية أن تكون الرابطة التي تربط الخبرة بالأشياء المكونة لها رابطة داخلية؛ وهو ما يساوي بالتبعية أن نقول بعدم وجود رابطة من هذا النوع؛ وهو ما يساوي بالتبعية أن نقول إن الروابط غير حقيقية. ولكن في رأي راسل المخالف القائل بأن الروابط حقيقية، لا يمكن دمج الخبرة مع الأشياء المكونة لها؛ بمعنى أن تلك الأشياء موجودة بمعزل عن كونها أشياء تستشعر. ويصب هذا في صميم ما كان يقصده كل من راسل ومور بالواقعية.
من غير المؤكد ما إذا كان راسل محقا في الظن أن كل أتباع المثالية (بما فيهم لايبنتس) - وقبلهم فلاسفة العصور الوسطى أصحاب فكرة ميتافيزيقا المادة والصفة - كانوا ملتزمين بالرأي القائل بأن كل القضايا تتخذ شكل الموضوع والمحمول. ولكنه قطعا اعتبر أنه اكتشف خللا مهما للغاية في الفلسفة السابقة. وبعد رفض المثالية اتجه لفترة إلى النقيض منها؛ وهو أن يكون واقعيا حيال كل شيء. وكان على حد قوله «تابعا ساذجا لمذهب الواقعية» من حيث إنه كان يؤمن أن كل ما يدركه من صفات الأشياء المادية هي صفات حقيقية لها، وأنه كان تابعا لمذهب الواقعية من الزاوية الفيزيائية؛ لأنه كان يؤمن بأن كل الكيانات النظرية للفيزياء هي عبارة عن «كيانات موجودة فعليا» (تطوري الفلسفي، ص48-9)، وأنه كان تابعا لمذهب الواقعية من الزاوية الأفلاطونية؛ لأنه كان يؤمن كذلك بوجود - أو على الأقل ب «كينونة» (وهي درجة مخففة وربما أقل من الوجود) - «الأعداد والآلهة الإغريقية والروابط والكائنات الخرافية مثل وحش الكمير والأمكنة الرباعية الأبعاد» (مبادئ الرياضيات ص449). ولاحقا شذب راسل هذا الكون الباذخ بتطبيق قاعدة نصل أوكام، وهو المبدأ القائل بأنه لا ينبغي زيادة عدد الكيانات دون ضرورة. فعلى سبيل المثال، إذا كان من الممكن شرح الأشياء المادية باستفاضة في سياق الكيانات دون الذرية، فينبغي ألا تحتوي القائمة الأساسية لمكونات الكون على الأشجار من جهة وأيضا على اللبتونات والكواركات وغيرها من الجسيمات القياسية التي تتألف منها الأشجار من جهة أخرى. وكانت هذه هي الطريقة التي طبق بها أسلوب التحليل فيما بعد. ولكنه كان لا يزال يؤمن بصيغة شاملة من مذهب الواقعية في كتاب «مبادئ الرياضيات»؛ فعاد إلى الواقعية بعد أن اطلع على أعمال جيوسيبي بيانو في باريس في عام 1900.
أصول الرياضيات
كان لايبنتس يحلم بوجود «لغة شاملة»، وهي لغة شاملة ودقيقة تماما، ستحل عند استخدامها كل المشكلات الفلسفية. وأقر راسل - في كتابه الذي يتناول لايبنتس - أن هذا الحلم كان توقا إلى اكتشاف منطق رمزي، كان يقصد به راسل آنذاك الجبر البولياني الذي وضعه جورج بول في منتصف القرن التاسع عشر. ولكنه لم يكن يظن في تلك المرحلة أن لايبنتس كان على الصواب في افتراض أنه يمكن حل المشكلات الفلسفية باستخدام التفاصيل الفنية التي يقوم عليها نظام منطقي استدلالي؛ لأن الأسئلة المهمة حقا في الفلسفة تتعلق بشئون «سابقة على الاستدلال»، وهي المفاهيم أو الحقائق المشار إليها في المقدمات التي ينطلق منها الاستنتاج. وكان راسل يؤكد أنه أيا كانت هذه المشكلات، فإن المنطق لا يقدمها لنا؛ إذ إن المنطق يمكنه مساعدتنا في الاستدلال عليها فقط.
ولكن راسل غير رأيه حين اطلع على أعمال بيانو. واستلهم راسل على الفور من خطوات التقدم التي حققها بيانو في الأسلوب المنطقي (سبقه إليها جوتلوب فريجه، ولكن ذلك لم يدركه أي من بيانو أو راسل آنذاك) طرقا لصياغة المبادئ الأساسية للمنطق، ولعرض شيئين في غاية الأهمية؛ أولا: كيفية تعريف كل مفاهيم الرياضيات من حيث المبادئ الأساسية، وثانيا: كيفية إثبات كل الحقائق الرياضية انطلاقا من تلك المبادئ الأساسية. باختصار، استلهم راسل منها كيفية إثبات أن لا فارق بين المنطق والرياضيات. وهذا هو الهدف من كل من كتاب «مبادئ الرياضيات»، وصيغته الأكثر استفاضة وهو كتاب «أصول الرياضيات».
ويعرف مشروع اشتقاق الرياضيات من المنطق باسم «النزعة المنطقية». ولم يسع راسل في كتاب «مبادئ الرياضيات» إلى مناقشة هذه الجزئية من البرنامج باستفاضة؛ إذ لم يزد عن تقديم وصف مختصر سطحي. لكنه أدرج المناقشة المستفيضة في كتاب «أصول الرياضيات». وكان من بين أهم الأسباب التي دعت راسل إلى تأجيل المهمة حتى إصدار كتاب «أصول الرياضيات» هو أنه اكتشف وجود تناقض ظاهري؛ مما كان يهدد المشروع بأكمله.
كانت أول مهمة ينفذها راسل هي تعريف مفاهيم الرياضيات باستخدام أقل عدد ممكن من المفاهيم المنطقية البحتة. (فيما يأتي ثلاث فقرات تحتوي على تفاصيل فنية مبسطة، ويجب ألا تعيق القارئ.) إذا جعلنا الحرفين
و
يرمزان إلى القضايا، تكون هذه المفاهيم كما يأتي: النفي (ليس )، والفصل (
أو )، والربط (
و )، والتضمين (إذا كان
إذن يكون ). وتضاف إلى هذه العمليات رموز لتمثيل البناء الداخلي للقضايا:
تعبير وظيفي يكون فيه
متغيرا يرمز إلى أي فرد، ويكون
بمنزلة محمول يرمز إلى أي صفة؛ وهكذا تعني الصيغة
أن
هو (مثال لما ترمز إليه هو: «الشجرة عالية»). ومن خطوات التقدم المهمة التي تمكن راسل من استخدامها تحديد كمية مثل هذه الدالات. وباستخدام الرموز التي أصبح استخدامها معمما حاليا في المنطق، يرمز إلى تحديد الكمية بهذه الطريقة:
يرمز إلى كل أفراد ؛ إذن
تقول إن كل أفراد
هي ، و
ترمز إلى «
واحد على الأقل»؛ إذن
يقصد بها أن «
واحد على الأقل» هو . وأخيرا يتبقى مفهوم الهوية؛ فالتعبير
يقصد به أن
و
ليسا شيئين بل شيء واحد. ويصبح من الممكن باستخدام هذه اللغة البسيطة تعريف مفاهيم الرياضيات.
كان علماء الرياضيات الأوائل يستقصون عن الروابط الموجودة ضمن المفاهيم الرياضية وأقروا بأنها كلها قابلة للاختزال إلى الأعداد الطبيعية (الأعداد المستخدمة في العد 1، 2، 3 ...) مع أنه لم يكن أحد قد برهن على هذا بدقة حتى ذلك الحين. وكانت الخطوة الأولى في البرنامج إذن هي تعريف الأعداد الطبيعية بمصطلحات منطقية. وهذا هو ما أنجزه فريجه من قبل، مع أن راسل لم يدرك ذلك آنذاك.
يستخدم التعريف مفهوم الفئات؛ حيث الفئة 2 تعرف على أنها فئة كل الثنائيات، والفئة 3 تعرف على أنها فئة كل الثلاثيات، وهكذا. ويعرف «الثنائي» بدوره باعتباره فئة تضم الفردين
و ، حيث
و
ليسا متطابقين، وحيث - في حالة وجود أي فرد آخر في الفئة يسمى - يصبح
متطابقا مع أي من
أو . ويصاغ التعريف العام للعدد من حيث مجموعات من الفئات المتشابهة، حيث يكون التشابه مفهوما دقيقا يدل على رابطة بين شيئين؛ حيث تصبح الفئتان متشابهتين إذا أمكن تحديد علاقة فردية تجمع بين أفرادهما.
وفي ظل تطبيق هذه المفاهيم، يتسنى حل مجموعة كبيرة من المشكلات، ومن بينها: كيفية تعريف العددين صفر و1 (أشار راسل إلى أن هذين العددين من أصعب المفاهيم في الرياضيات)، وكيفية التغلب على الأحاجي المستندة إلى «واحد وكثير» (هل الكرسي شيء واحد أم كثير من الأشياء: أهو كيان واحد، أم كثير، إذا أحصيت أجزاءه ومكوناته؟) وكيفية فهم الأعداد غير المتناهية. وفور تعريف الأعداد الكاملة، لا تمثل الأعداد الأخرى (الأعداد الموجبة والسالبة والكسور والأعداد الحقيقية والأعداد المركبة) أي صعوبة تذكر.
ومن ثم يصبح الجزء الأول من البرنامج - وهو تعريف المفاهيم الرياضية في ضوء المفاهيم المنطقية - عموما غير معقد، وذلك بمجرد أن تتوافر التفاصيل الفنية المناسبة. ويتضح أن الجزء الثاني - وهو الجزء المتعلق بالنزعة المنطقية الذي ينطوي على بيان إمكانية إثبات الحقائق الرياضية من المبادئ الأساسية التي يقوم عليها المنطق - أصعب بكثير.
والسبب الأساسي في ذلك - من وجهة نظر راسل آنذاك - كان اكتشافه لوجود تناقض ظاهري. ويتصل ذلك التناقض الظاهري بمفهوم محوري للمشروع، كما يعرض الوصف المختصر السابق: مفهوم الفئات. ووجد راسل نفسه يتفكر أثناء عمله في حقيقة أن بعض الفئات - وبعضها ليس كذلك - أفراد لأنفسها؛ فمثلا، فئة ملاعق الشاي ليست في حد ذاتها ملعقة شاي؛ ولذلك ليست عضوا لنفسها، ولكن فئة الأشياء من غير ملاعق الشاي هي فرد من نفسها لأنها ليست ملعقة شاي. ماذا إذن بخصوص الفئة التي تضم كل الفئات التي ليست أفرادا لأنفسها؟ إذا لم تكن هذه الفئة فردا من نفسها، تصبح بالتبعية فردا من نفسها؛ وإذا كانت فردا من نفسها، فلن تصبح بالتبعية فردا من نفسها؛ إذن فهي فرد من نفسها وليست فردا من نفسها في الآن عينه؛ ومن هنا يأتي التناقض الظاهري.
في البداية ظن راسل أن السبب في ذلك يعود إلى خطأ تافه، ولكن اتضح له أن كارثة قد حلت، وذلك بعد أن بذل جهدا كبيرا لتصحيح الأمور، وبعد التشاور مع فريجه ووايتهيد. ونشر راسل «مبادئ الرياضيات» دون أن يجد حلا. ولكن أثناء انكبابه هو ووايتهيد على تأليف كتاب «أصول الرياضيات»، ظن أنه قد وجد الحل، ولكن ثبت أن الاستراتيجية التي وضعها خلافية للغاية. وفيما يلي وصف لمجريات الأمر.
اكتشف راسل أنه يتعذر مواصلة محاولة استنتاج النظريات الرياضية من بديهيات منطقية بحتة دون وجود بديهيات إضافية تتيح إثبات نظريات معينة في علم الحساب ونظرية المجموعات. ويوجد بديهيتان من هذه البديهيات الإضافية (تفاصيلهما غير مهمة؛ أذكرهما على سبيل الاكتمال) هما: «بديهية اللانهائية»، وتقول إنه يوجد مجموعات غير متناهية في العالم، و«بديهية التغير» (وأحيانا يطلق عليها «بديهية التضاعف») وتقول بأن داخل كل مجموعة من المجموعات غير المتوالية غير الفارغة توجد مجموعة تتقاسم عضوا واحدا بالضبط مع كل من المجموعات الفردية الأخرى. توجد حاجة إلى وجود البديهيات حتى يتسنى تعريف الأعداد من حيث الفئات، كما سبق الوصف. ولكن يبدو أن كلتيهما تنطويان على صعوبة ما، وهي أنهما ذواتا طابع وجودي، بمعنى أنهما تقولان «يوجد كذا» - في الحالة الأولى عدد، وفي الثانية مجموعة - وهذه مشكلة لأنه لا ينبغي أن يعنى المنطق بما يوجد أو بما لا يوجد، بل ينبغي أن يعنى بالأمور الشكلية تماما فقط. ولكن راسل وجد حلا، وهو تناول التعبيرات الرياضية باعتبارها جملا شرطية؛ أي باعتبارها جملا بصيغة «إذا ... إذن»، على أن تشغل البديهيات الفراغ الموجود بعد «إذا»: وكأنها تقول، «إذا سلمت بصحة هذه البديهية، إذن ...» ونظرا لأن هذه الجمل الشرطية قابلة للاستنتاج من بديهيات المنطق؛ فلا يهم الاستعانة الظاهرية بالاعتبارات الوجودية.
ولكن نشأت صعوبة أكبر بكثير من بديهية إضافية ثالثة، وهي «بديهية قابلية الاختزال». هذه هي البديهية التي استخدمها راسل للتغلب على مشكلة التناقض الظاهري، ولكن علماء المنطق الآخرين لا يستطيعون تقبلها.
ترتبط بديهية قابلية الاختزال ب «نظرية الأنماط» التي وضعها راسل. توجد طريقة مبسطة لفهم هذه النظرية، وذلك من خلال ملاحظة أن التناقض الظاهري الذي اكتشفه راسل سببه أن صفة «عدم كون الفئة فردا من نفسها» تنطبق على الفئة التي تضم كل الفئات التي تحمل تلك الصفة. لكن إذا أمكن ابتكار قيد يقضي بأن هذه الصفة قابلة للتطبيق على الفئات التي تضم أفرادا فقط وليس على الفئة التي تضم فئات، فلن ينشأ تناقض ظاهري. ويوحي هذا بأنه لا بد من وجود ما يشبه فارقا يتألف من مستويات فيما بين الصفات، بحيث إن الصفات المسندة في مستوى معين يتعذر إسنادها عند مستوى أعلى.
توجد صيغة معدلة من نظرية الأنماط - وهي صيغة أبسط من الصيغة التي وضعها راسل - تحمل هذا المعنى وتبدو جديرة بالتصديق في رأي بعض علماء المنطق. وكان من اقترحها هو عالم الرياضيات والفيلسوف فرانك رامزي، وتعرف هذه النسخة باسم «النظرية البسيطة للأنماط». وهذه النظرية تسير كما يأتي: اللغة التي تنطبق على حقل معين تحمل تعبيرات جبرية من المستوى 1 - الأسماء - وتشير إلى الأشياء الموجودة في الحقل، وتحمل تعبيرات جبرية من المستوى 2 - المحمولات - وتشير إلى صفات تلك الأشياء فقط، وتحمل تعبيرات جبرية من المستوى 3 - محمولات المحمولات - وتشير إلى صفات تلك الصفات فقط ... وهكذا. والقاعدة هي أن كل تعبير جبري ينتمي إلى نمط معين ولا ينطبق إلا على التعبيرات الجبرية من النمط التالي الذي يليه في التسلسل الهرمي. وفي ضوء الوصف المبسط الذي ذكرته، نرى كيف أن هذه الاستراتيجية تقدم حلا لمشكلة التناقض الظاهري.
تعرف النسخة المعقدة من نظرية الأنماط التي وضعها راسل باسم «النظرية المتشعبة للأنماط». (فهم هذه النظرية فهما صحيحا من الأمور الخلافية - انظر، على سبيل المثال، هايلتون 1990، الفصل السابع - ولكن الوصف التالي قد يقدم تقريبا أوليا.) كان السبب الذي دفع راسل إلى ابتكار «التشعب» - ويقصد به التقسيم الداخلي للأنماط إلى «رتب» - هو أنه كان يعتقد أن العثور على حل لمشكلة التناقض الظاهري كان يتطلب ذلك بالتحديد. وكان تصوره أن مشكلة التناقض الظاهري تنشأ من محاولة تعريف الصفات باستخدام تعبيرات جبرية تحتوي على إشارة إلى «كل الصفات»؛ لذلك كان لا بد من التحكم بشدة في الحديث عن «كل الصفات»؛ ومن ثم، يجب تقسيم صفات النمط 1، مثلا، تقسيما فرعيا إلى رتب: رتبة أولى من الصفات لا يرد في تعريفها التعبير الجبري «كل الصفات»؛ ورتبة ثانية من الصفات يرد في تعريفها التعبير الجبري «كل صفات الرتبة الأولى»؛ ورتبة ثالثة يرد في تعريفها التعبير الجبري «كل صفات الرتبة الثانية»؛ وهكذا. وما دام لا ترد إشارة قط إلى «كل الصفات» ولا تنسبها إلى رتبة محددة، فلا تعرف أي صفة بحيث يشار إلى المجموعة الكلية التي تنتمي إليها. وتضمن هذه الطريقة تجنب التناقض الظاهري.
ولكنها تحقق هذه النتيجة على حساب جانب آخر؛ فهي تتسبب في إدخال صعوبات في نظرية الأعداد الحقيقية بحجب أهم تعريفاتها ونظرياتها. وللتغلب على هذه المشكلة ابتكر راسل بديهية القابلية للاختزال، وتحاول هذه البديهية تصميم طريقة لاختزال الرتب الموجودة ضمن نمط ما إلى الرتبة الأدنى. وتخلى راسل عن هذه الخطوة في الطبعة الثانية من كتاب «أصول الرياضيات» (1927) بعد أن شبهها أحد المعلقين باستخدام «القوة المفرطة» لإنقاذ نظرية الأعداد الحقيقية. ولكنه وجد نفسه في مأزق لأنه لم يستطع قبول وجود أي بديل للنظرية المتشعبة للأنماط. وفي رد فعل لهذا الموقف، قدم رامزي النظرية «البسيطة» للأنماط التي سبق وصفها. (تجدر الإشارة إلى أن نظرية رامزي تستدعي المناقشة في حد ذاتها؛ فهي تقدم طرحا خلافيا مفاده أن الطابع الدائري الذي تتسم به التعريفات التي تنسب الصفات إلى نفسها غير ضار؛ وتتطلب النظرية اعتناق وجهة نظر واقعية خلافية بالقدر نفسه عن وجود المجموعات الكلية قبل تعريفها.)
اصطدمت طموحات راسل المتعلقة بالنزعة المنطقية بصعوبات، وهو ما يرجع في جزء منه إلى طبيعة الطموحات نفسها وفي جزء آخر إلى أن النزعة المنطقية نفسها غير قابلة للتنفيذ، وذلك كما توحي التطورات اللاحقة التي شهدتها الرياضيات، ولا سيما أعمال كيرت جوديل. برهن جوديل على أن أي نظام منهجي يلائم نظرية الأعداد ينطوي على معادلة غير قابلة للتحديد، بمعنى أنها معادلة لا يمكن إثبات صحتها أو إثبات نفيها. ومن النتائج المباشرة لهذه النظرية أن يتعذر إثبات اتساق مثل هذا النظام داخل النظام؛ لذلك لا يستطيع المرء افتراض أن الرياضيات (أو أيا من أقسامها الكبرى) يمكن تزويدها بمجموعة من البديهيات الكافية لإنتاج كل حقائقها. وتبرهن أعماله على أن المنهج القائم على البديهيات ينطوي على عوائق شديدة متأصلة، وأن الطريقة الوحيدة لإثبات اتساق الكثير من أنواع أنظمة الاستدلال هي استخدام نظام استنتاج معقد إلى حد يجعل اتساقه هو نفسه محل شك بالقدر نفسه.
كان ما يحتاج إليه راسل لمواصلة مشروعه المنطقي هو تنظيما منهجيا يستبعد إمكانية التناقض. وتفيد أعمال جوديل أن هذا مستحيل. ولا بد من أن نستنتج من ذلك أن الإنجاز الذي أحرزه كتاب «مبادئ الرياضيات»، وكتاب «أصول الرياضيات» بوجه خاص، لا يكمن في درجة تحقيق كل منهما لأهدافه المعلنة، بل فيما يمكن أن يطلق عليه «النتائج الاشتقاقية» المهمة التي حققاها في مجالي المنطق والفلسفة.
نظرية الأوصاف
كان من أبلغ النتائج الاشتقاقية تأثيرا «نظرية الأوصاف» التي وضعها راسل. وحقق راسل باستنباط هذه النظرية المهمة عددا من الأهداف المختلفة؛ فمن الدروس التي استفادها من انتقاد المذهب المثالي هو أن القواعد النحوية السطحية للغة من الممكن أن تضللنا بخصوص معنى ما نقوله. كما سبق، كان راسل يظن أن السبب الذي كان يدفع الفلاسفة إلى اعتناق ميتافيزيقا المادة والصفة - وهو رأي يتوغل في صعاب عويصة، كما يتبين من الجدل الذي شهده تاريخ الفلسفة - هو أنهم رأوا أن كل القضايا تتخذ صيغة موضوع ومحمول أساسا؛ فقد تناول الفلاسفة عبارتي «الطاولة مصنوعة من الخشب» و«الطاولة تكون إلى يسار الباب» على أن الموضوع في كل منهما هو كلمة «الطاولة»، وأن المحمول هو الكلمات التي تلي الفعل الرابط «فعل الكينونة» في كلتيهما. ولكن فيما يمكن أن تعد الجملة الأولى قضية من هذا النوع، فإن الجملة الثانية تعبر عن شيء مختلف بعض الشيء؛ قضية ارتباطية، وهي في الواقع تحتوي على موضوعين («الطاولة» و«الباب»)، وهي تؤكد على أن كلا منهما تجمعه رابطة معينة بالآخر. وهكذا فإن الصيغة المنطقية للجملة الثانية مختلفة بعض الشيء عن الصيغة المنطقية للجملة الأولى؛ ومن ثم، كان لا بد - من وجهة نظر راسل - من وجود منهج لكشف الصيغة الكامنة الحقيقية لما نقوله من أجل مساعدتنا على تجنب الأخطاء الفلسفية.
وكانت الخطوة المهمة التالية التي اتخذها راسل هي تطبيق المنطق الجديد على هذه المهمة. ومثلما يفيد المنطق الجديد في تعريف مفاهيم الرياضيات وعملياتها، فهو يفيد أيضا في تحليل ما نقوله عن العالم؛ وبهذا نحصل على صورة صحيحة عن الواقع.
ولعرض كيفية تنفيذ نظرية الأوصاف لهذه المهمة، يمكن وصف كيفية حل هذه النظرية لمشكلة مهمة تتعلق بالمعنى والإسناد. تأتي أصول تناول راسل لهذه المشكلة في أعمال الفيلسوف النمساوي أليكسيوس مينونج، وقد درسها راسل دراسة متأنية؛ ولذلك كانت من المؤثرات المبكرة التي تأثر بها. كان مينونج يرى أن العبارات الدالة - أسماء مثل «راسل» وأوصاف مثل «مؤلف كتاب مبادئ الرياضيات» - لا يمكن أن ترد على نحو ملحوظ في القضايا (تحديدا: في الجمل التي تعبر عن قضايا) إلا إذا كان ما تدل عليه موجودا. وأخذ مينونج يدافع عن رأيه بقوله: فلنفترض أنك تقول «الجبل الذهبي ليس موجودا». من الواضح أنك تتحدث عن شيء - الجبل الذهبي - وأنت تؤكد على أنه غير موجود؛ وما دام ما تقوله له معنى، فلا بد أنه يوجد جبل ذهبي، بمعنى معين. وتقول نظريته إن كل شيء يمكن التحدث عنه - تسميته والإشارة إليه - لا بد أن يكون إما موجودا أو له «كينونة» من نوع ما حتى لو كانت تلك الكينونة لا تساوي الوجود، وإلا صار ما نقوله مجردا من المعنى.
تقبل راسل هذا الرأي في البداية، وطرحه فعلا في كتاب «مبادئ الرياضيات»؛ وهذا هو السبب - كما ذكرت آنفا - في أنه ذكر في هذا الكتاب اعتقاده بوجود - أو على الأقل بكينونة - «الأعداد والآلهة الإغريقية والكائنات الخرافية مثل وحش الكمير». ولكن سرعان ما أساءت عدم قابلية تصديق هذا الرأي إلى «رؤيته النابضة بالحياة للواقع» - على حد تعبيره - لأنه لم يحشد الكون بكيانات مجردة وأسطورية فقط، بل أيضا بأشياء مستحيلة مثل «المربع المستدير»، ولم يستطع راسل أن يقبل هذا.
استخدم راسل أساليب المنطق لاستنباط حل جميل. لم يكن يرغب في التخلي عن الرأي القائل بأن أي اسم لا يكون ذا معنى إلا إذا كان يوجد شيء يطلق عليه هذا الاسم، ولكنه حاول أن يؤكد أن الأسماء «الصحيحة منطقيا» هي وحدها تلك الأسماء التي تدل على كيانات «محددة» يمكن أن «يتعرف» عليها المرء. وكان راسل يقصد ب «التعرف» صلة مباشرة وفورية بين الذهن والشيء؛ وتشمل الأمثلة الوعي بالبيانات الحسية التي يحيط بها الإدراك (انظر أدناه) ومعرفة مثل تلك الكيانات المجردة على أنها قضايا. الأسماء الصحيحة منطقيا هي وحدها التي يمكنها أن تشغل مكان الموضوع نحويا في الجمل. وأفضل الأمثلة اسما الإشارة «هذا» و«ذلك»؛ لأنه من المؤكد وجود إحالة لهما في كل مرة يستخدمان فيها. وكل عبارات التسمية الظاهرية الأخرى هي في الحقيقة ليست عبارات تسمية على الإطلاق، بل هي - أو عند تحليلها يتضح أنها - «أوصاف معرفة»، بمعنى أنها عبارات معرفة ب «أل». وتكمن أهمية هذا في أنه عند تحليل الجمل التي تحتوي على أوصاف، تختفي العبارات الوصفية؛ ومن ثم لا يتوقف معنى ما يقوله المرء على وجود مفترض أو كينونة مفترضة لكيان ما يبدو أن الأوصاف - وفقا للقواعد النحوية السطحية - تدل عليه.
ويمكن فهم هذا بدراسة مثال؛ فلنأخذ جملة «الملك الحالي لفرنسا أصلع»، على أن تقال في فترة لا يكون لفرنسا فيها ملك. على افتراض أن الجمل دائما إما صحيحة أو كاذبة، فماذا عساه أن يرد المرء إذا سئل: هل هذه الجملة صحيحة أم كاذبة؟ يبدو من الواضح أن الرد سيكون: «كاذبة»، ليس لأن الملك الحالي لفرنسا شعره غزير، بل لأنه غير موجود. ومنحت هذه الجزئية لراسل مفتاح الحل؛ فأخذ يؤكد أن الجمل التي تحتوي على أوصاف معرفة وتقع في مكان الموضوع/الفاعل نحويا يتضح عند تحليلها أنها اختزال لمجموعة من الجمل التي تؤكد وجود وتفرد وصلع شيء يحمل صفة كونه الملك الحالي لفرنسا؛ وهكذا فإن جملة «الملك الحالي لفرنسا أصلع» تعادل: (1)
لفرنسا ملك. (2)
ليس لفرنسا أكثر من ملك واحد. (3)
ملك فرنسا أيا كان هو أصلع.
الجملة (1) هي ادعاء بالوجود؛ والجملة (2) ادعاء بالتفرد، بمعنى أنها تحتوي على معنى ضمني لأداة التعريف «أل» في الوصف يقضي بأنه لا يوجد إلا شيء واحد نتحدث عنه؛ والجملة (3) هي الإسناد. تكون الجملة الأصلية «الملك الحالي لفرنسا أصلع» صحيحة حين تكون كل العناصر الثلاثة صحيحة؛ وتكون كاذبة إذا كان أي منها كاذبا. وفي الحالة الراهنة تكون الجملة كاذبة لأن العنصر (1) كاذب.
لا يظهر وصف «الملك الحالي لفرنسا» في أي من (1)-(3). وما دامت العبارة الوصفية قد اختفت - جرى التخلص منها بالتحليل - فلا ضرورة لاستحضار ملك حقيقي لفرنسا لجعل الجملة ذات معنى.
نظرا للعيوب التي تنطوي عليها اللغة العادية، ولأن الصيغ السطحية للجمل قد تختلف عن صيغها المنطقية الكامنة؛ فإن التحليل الذي طبق - كما يقول راسل - ما زال غير مناسب بما يكفي، بل لا بد من صياغته ب «اللغة المثالية» للمنطق الرمزي؛ فهذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكنها إيضاح المعنى الذي تؤكده جملة «الملك الحالي لفرنسا أصلع» بوضوح «تام». وبالرموز التي أصبحت حاليا مستخدمة ومتعارفا عليها، يصبح التحليل المنطقي للجملة كما يأتي:
يرمز الرمز
في سلسلة الرموز هذه إلى «و»، ويقسم سلسلة الرموز إلى ثلاث معادلات متصلة؛ إذن تكون الجمل الثلاث السابقة (1)-(3) بالترتيب كما يلي: (1)
تنطق «يوجد
على أن يكون
هو ». وبفرض أن « » يعني «يحمل صفة كونه ملك فرنسا»؛ ترمز المعادلة إلى «يوجد شيء هو ملك فرنسا». (يربط السور الوجودي
كل حرف
في السلسلة كلها، بالطبع، كما تبين الأقواس المربعة.) (2)
تنطق «لكل ما هو ، إذا كان
هو
إذن يصبح
و
متطابقين». وتعبر عن التفرد الذي تنم عنه أداة التعريف «أل»، بمعنى الشيء الوحيد الذي يحمل الصفة . (3)
تنطق «
هو ». وبفرض أن
يعني «أصلع»؛ ترمز المعادلة إلى أن «
هو أصلع».
تتخذ أوجه الاعتراض على نظرية راسل أساسا صورة التصدي لادعائه بأن الأوصاف المعرفة ليست عبارات إحالة مطلقا، والتشكيك في تحليله للجمل التي تحتوي عليها في مكان الموضوع نحويا. وفي العلاقة الأخيرة يذهب البعض إلى الادعاء بأن الأوصاف المعرفة تضم ادعاءي التفرد والوجود.
من الممكن أن نضرب مثالا على مشكلة التفرد بشخص يقول: «الطفل الرضيع يبكي.» يفترض تحليل راسل ضمنا - فيما يبدو - أن هذه الجملة لا يمكن أن تكون صحيحة إلا في حالة وجود طفل رضيع واحد فقط في العالم. والحل هو اشتراط وجود فهم ضمني يجعل سياق الكلام يوضح أي قدر من العالم يندرج في النطاق الذي ينطبق عليه الكلام. لنفترض أن والدي طفل رضيع يقيمان في بناية سكنية يوجد فيها عشرات الأطفال الرضع، وكلهم يبكون، فيبدأ طفلهما يبكي هو الآخر. فإذا قال الأب: «الطفل الرضيع يبكي.» فلن يحدث سوء فهم بالتأكيد لأن السياق يقيد الإحالة إلى الطفل الرضيع الوحيد الذي يهمهما. يبدو الأمر بديهيا، ويقدم طرقا للتخلص من الاعتراض من خلال الاحتكام إلى الحدود الضمنية والصريحة ل «مجال الخطاب».
أما المشكلة المتعلقة بالوجود، فهي أشد تعقيدا بعض الشيء. في مناقشة يكثر الاستشهاد بها لنظرية راسل، يحاول بي إف ستروسون أن يبرهن على أن قول «الملك الحالي لفرنسا أصلع» لا يعادل «التصريح» بوجود ملك لفرنسا حاليا، بل هو افتراض أو افتراض مسبق بوجوده (كتاب «عن الإحالة»، من دورية مايند، 1950). ويتضح ذلك من خلال فكرة أنه إذا قال شخص هذه الجملة، فمن غير المحتمل أن يقول محدثوه: «تلك معلومة كاذبة.» بل سيقولون بدلا من ذلك: «ليس لفرنسا ملك حاليا.» وبهذا يصوغون الجزئية التي لم يصغها هو في الواقع كتصريح، بمعنى أنه لم ينجح في أن يقول شيئا صحيحا أو كاذبا. وهذا يساوي القول بأن الأوصاف يجب أن تكون عبارات إحالة؛ لأن جزءا مهما من إسهامها في قيم الصواب للجمل التي تحتوي عليها هو أن الجمل قيد المناقشة - ما لم تؤد وظيفة إحالة - لا تحمل أي قيمة حقيقة مطلقا.
إن استخدام ستروسون لفكرة «الافتراض المسبق» لشرح كيفية عمل الأوصاف - وذلك في سياق رأيه المعارض - في الجمل؛ قد تسبب في انطلاق قدر هائل من الجدل النقدي، وتسبب ذلك أيضا في استعداده للسماح ب «فجوات قيم الصواب»، بمعنى انعدام قيمة الصواب في جملة ذات معنى؛ وبهذا ينتهك «مبدأ ثنائية التكافؤ» الذي يقضي بأن كل جملة (تقريرية) يجب أن تحتوي على إحدى قيمتي الحقيقة: إما «صحيحة» وإما «كاذبة». ولكن لا شك أن الرد الأهم على النقد الذي وجهه لراسل هو القول بأن الفكرة التي تستند إليها حجته - وهي أنه من المستبعد أن نقول: «هذه معلومة كاذبة.» حين يقول شخص: «الملك الحالي لفرنسا أصلع.» - لا تعني أنه يتعذر اعتبار الوصف بمنزلة إصدار ادعاء يتعلق بالوجود. ربما يكون صحيحا أننا قد نرد على ذلك بإنكار وجود ملك لفرنسا؛ وعلى كل ربما يكون قولنا فقط «هذه معلومة كاذبة» مضللا؛ لأنه قد يلمح إلى شيء مختلف للغاية، وهو أن لفرنسا ملكا غير أصلع. ولكن إذا أجبنا ب «ليس لفرنسا ملك حاليا.» فإننا نكون قد أقررنا في الواقع بأن استخدام الوصف يصدر ادعاء يتعلق بالوجود؛ إذ إن ذلك هو بالضبط ما يتناوله النفي.
من الانتقادات الأخرى أن راسل لم يدرك إمكانية استخدام الأوصاف بطريقتين مختلفتين؛ فلنتأمل الحالتين الآتيتين؛ أولا: تشاهد لوحة فنية تعجبك، فتقول: «إن الرسام الذي رسم هذه اللوحة عبقري.» أنت لا تعرف الرسام، ومع ذلك تنسب العبقرية إليه. ثانيا: اللوحة هي لوحة «العذراء مريم جالسة على الصخور»، وأنت تعلم أن ليوناردو دافنشي هو الذي رسمها. وتتمتم بالجملة نفسها في إعجاب. في الحالة الأولى يستخدم الوصف استخداما «يفيد النعت»، أما في الحالة الثانية فيستخدم استخداما «يفيد الإحالة». وكما يقول كيث دونيلان - وهو الذي وجه هذا الانتقاد - فإن رؤية راسل تتعلق فقط بالاستخدامات التي تفيد النعت. وهذه جزئية مهمة نظرا لوجود حالات يمكن استخدام الوصف فيها استخداما ناجحا للإحالة إلى شخص ما حتى إذا لم يكن ينطبق عليه؛ فيمكن استخدام جملة «الرجل الذي يحتسي الشمبانيا هناك أصلع» لقول معلومة صحيحة حتى إذا كانت كأس الرجل الأصلع لا تحتوي إلا على ماء فوار.
من المحتمل أن يكون الرد على ذلك عن طريق التفرقة بين مستويات التحليل الدلالية والذرائعية. تصح رؤية راسل في المستوى الدلالي، وتجعل جملة «الرجل الذي يحتسي الشمبانيا أصلع» كاذبة حرفيا؛ لأنه مع أنه أصلع فعلا، فإنه يحتسي الماء. وعلى المستوى الذرائعي نجحت الجملة في الإحالة، وأبلغت عن حقيقة؛ لأن هذا النوع من الاستعمال ينجز المهمة. ولكن ربما يحاول راسل أن يدافع عن رأيه بالقول إنه ما دام أن تحليله يهدف إلى نوع محدد من «التعبير» الذي يفهم عموما على أنه إحالي تحديدا، فإن ما يقوله يصح. أما الأسئلة المتعلقة بالاستعمال فهي موضوع آخر.
ومع ذلك، يطرح هذا الرد فعلا أسئلة عن العلاقة التي تربط الاستعمال بالمعنى. فإذا كان الاستعمال يشغل جزءا كبيرا من المعنى، فلا بد من أخذ الحقائق المتعلقة به في الاعتبار عند شرح كيفية عمل العبارات. والسؤال المتعلق بقدر الأهمية التي يجب أن نوليها للاستعمال من الأسئلة الخلافية؛ إذ تزعم إحدى وجهات النظر أنه يكاد يستنفد المعنى، وترفض وجهات نظر أخرى هذا الادعاء. تتطلب نظرية راسل أن نفكر في دلالات العبارات واستعمالاتها على أنهما موضوعان قابلان للفصل على أقل تقدير.
ولهذا السبب ولأسباب أخرى تتعلق أساسا بموضوع الإحالة المهم من الناحية الفلسفية - عن كيفية تأثير اللغة على العالم - تؤدي نظرية راسل التي تتناول الأوصاف دورا مهما في المناقشات المتعلقة بفلسفة اللغة. وهذه النظرية مهمة لأغراضنا الحالية باعتبارها مثالا للأسلوب التحليلي الذي طبقه على محاولاته لحل المشكلات التي كانت تعتري نظرية المعرفة والميتافيزيقا، كما سنرى الآن.
الإدراك والمعرفة
من أهم أسئلة الفلسفة السؤال التالي: ما هي المعرفة، وكيف نحصل عليها؟ أكد جون لوك ومن جاءوا بعده من أتباع المدرسة التجريبية أن أساس المعرفة المشروطة عن العالم يكمن في الخبرة الحسية؛ أي استخدام الحواس الخمس، بمساعدة أجهزة مثل مناظير الرؤية المقربة وما شابه ذلك، عند الضرورة. ولكن المدرسة التجريبية تواجه اعتراض الحجج المتشككة التي تهدف إلى إثبات أن مزاعمنا عن التوصل إلى المعرفة ربما كثيرا - بل ربما دائما - ما تكون غير مبررة، وتوجد أسباب كثيرة لذلك؛ فنحن أحيانا ما نرتكب أخطاء في الإدراك أو الاستنتاج، وأحيانا ما نحلم دون أن ندرك أننا نحلم، وأحيانا ما تضللنا حواسنا بسبب تأثير الحمى أو المشروبات الكحولية؛ فكيف يمكننا أن نتيقن أن ما نزعمه لم تضعفه أي من هذه العوامل، في كل مرة نزعم فيها معرفتنا بشيء ما؟
وضع راسل في كتاب «مشكلات الفلسفة» في عام 1912 أول محاولة منهجية للتصدي لهذه الأسئلة. وسأل راسل: هل توجد أي معرفة يقينية إلى حد يمنع أي إنسان لبيب من الشك فيها؟ ويجيب على ذلك بالإيجاب؛ ولكن يتضح أن اليقين أبعد ما يكون عن اليقين المطلق الذي يعززه الدليل.
على أساس الملاحظات المباشرة المتعلقة بالخبرة الإدراكية - فكرة أن طاولة مثلا تبدو وكأن لها ثلاثة ألوان وأشكال وملامس مختلفة، وذلك حسب تفاوتات توجد إما لدى من يدركها وإما في الظروف المحيطة بإدراكها - يمكننا أن نلاحظ أنه يوجد فارق بين مظاهر الأشياء وحقيقتها. كيف يمكننا أن نكون واثقين من أن المظهر يمثل بأمانة الحقيقة التي نفترض أنها تتوارى وراءه؟ بل قد يثار سؤال - كما تشير نقاط التشكك المتعلقة بالأحلام والأوهام - بشأن ما إذا كان من الممكن أن نكون واثقين من وجود أشياء حقيقية فعلا «وراء» خبراتنا الحسية أساسا.
للرد على هذه الأسئلة يستنبط راسل مصطلح «البيانات الحسية» لتسمية الأشياء التي نعرفها مباشرة عن طريق الحس؛ وهي أمثلة معينة تتعلق بالمعرفة الإدراكية للألوان والأصوات والنكهات والروائح والملامس، وكل فئة من المعلومات تقابلها إحدى الحواس الخمس. ويجب التمييز بين البيانات الحسية وبين أفعال الإحساس بها؛ أي إنها هي ما ندركه مباشرة عن طريق أفعال الإحساس. ولكن يجب أيضا - كما تبين الاعتبارات الواردة في الفقرة السابقة - التمييز بينها وبين الأشياء الموجودة في العالم خارجنا، تلك الأشياء التي نفترض أنها مترابطة؛ ومن ثم يكون السؤال المهم هو: ما هي علاقة البيانات الحسية بالأشياء المادية؟
ويأتي رد راسل على من يشكك في حقنا في ادعاء المعرفة بما يقع وراء نقاب البيانات الحسية، أو حتى حقنا في الظن بأن الأشياء المادية موجودة أساسا، فيقول إنه مع أن الحجج المتشككة لا تدحض على وجه التحديد، فإنه «لا يوجد أدنى مبرر» لافتراض أنها صحيحة (مشكلات الفلسفة، ص17). وتقوم استراتيجيته على جمع الاعتبارات المقنعة التي تدعم وجهة النظر هذه. في البداية يمكننا أن نسلم بأن خبراتنا القائمة على البيانات الحسية تتسم ب «يقين بدائي»؛ فنحن نقر بأننا حين نواجه بيانات حسية نعتبرها بطبيعة الحال مرتبطة بطاولة، مثلا، فإننا لم نقل كل ما يجب أن يقال عن الطاولة؛ فمثلا، نحن نظن أن الطاولة تظل موجودة حين نكون موجودين خارج الغرفة، ومن الممكن أن نشتري الطاولة ونضع عليها مفرشا ونحركها من مكان لآخر، ونفترض أن الآخرين يمكنهم إدراك الطاولة «نفسها». كل هذا يوحي بأن الطاولة شيء يسمو على البيانات الحسية التي تظهر لنا. ولكن لو لم يكن هناك وجود لأي طاولة في العالم، لكان لزاما علينا أن نصوغ فرضية معقدة تتعلق بوجود عدة طاولات ظاهرية مختلفة بعدد الأشخاص المدركين، وأن نشرح لماذا نتحدث كلنا وكأننا ندرك الشيء نفسه.
ولكن تجدر الإشارة إلى أنه من وجهة النظر المتشككة - كما يشير راسل - لا ينبغي أن نعتقد بوجود أشخاص مدركين آخرين أيضا؛ فعلى كل، إذا لم نستطع دحض التشكك في وجود الأشياء، فكيف لنا أن ندحض التشكك في وجود عقولنا؟
ويتغلب راسل على هذه الصعوبة بتقبل صيغة مما يطلق عليه «الحجة التي تقود إلى التفسير الأفضل». ويؤكد أنه قطعا من الأبسط والأكثر تأثيرا بكثير أن نقر بالافتراض القائل بأنه؛ أولا: توجد أشياء مادية لها وجود منفصل عن خبرتنا الحسية، وثانيا: أنها تتسبب في قدراتنا على الإدراك؛ ومن ثم «تطابق» قدراتنا على الإدراك مطابقة موثوقة. ويرى راسل أن الإيمان بهذا الافتراض مسألة «فطرية»، وهو يتبع في ذلك الفيلسوف هيوم.
وهو يؤكد أنه يمكننا إضافة نوع آخر من المعرفة إلى ذلك، وهي معرفة بديهية بحقائق المنطق والرياضة البحتة (بل وربما القضايا الأساسية لعلم الأخلاق). هذه المعرفة مستقلة تماما عن التجربة، وتعتمد اعتمادا كليا على بديهية الحقائق المعروفة، مثل «1 + 1 = 2» و«أ = أ». ويساعدنا ضم المعرفة الإدراكية والمعرفة البديهية على الوصول إلى معرفة عامة عن العالم وراء نطاق خبرتنا المباشرة؛ لأن النوع الأول من المعرفة يمنحنا معلومات تجريبية، والنوع الثاني يتيح لنا أن نستخلص استنتاجات منه.
وينقسم هذان النوعان من المعرفة إلى نوعين فرعيين، يصفهما راسل بأنهما المعرفة المباشرة والمعرفة الاشتقاقية على التوالي. وهو يطلق اسم «الاطلاع» على معرفة الأشياء معرفة مباشرة. وتنقسم الأشياء القائمة على الاطلاع إلى نوعين: النوع الأول هو «الجزئيات»، بمعنى البيانات الحسية الفردية وربما نحن؛ والنوع الثاني هو «الكليات». وللكليات أنواع مختلفة، وهي تشمل الصفات الملموسة مثل الحمرة والنعومة، والعلاقات المكانية والزمنية مثل «إلى اليسار من» و«قبل»، وبعض الأفكار المجردة المنطقية.
يطلق راسل على المعرفة الاشتقاقية للأشياء مصطلح «المعرفة بالوصف»، وهي معرفة عامة بالوقائع نصل إليها من خلال مزيج من المعرفة التي لدينا والاستنتاج منها. ومعرفة المرء بأن جبل إفرست هو أعلى جبل في العالم مثال على المعرفة الوصفية.
يطلق راسل على المعرفة المباشرة للوقائع مصطلح «المعرفة الحدسية»، ويصف الحقائق التي تعرف بهذا الأسلوب بأنها «بديهية». وهذه عبارة عن قضايا «واضحة وضوحا شديدا، ولا يمكن استنتاجها من أي شيء أكثر وضوحا منها.» على سبيل المثال، نحن نلاحظ أن العبارة «1 + 1 = 2» صحيحة. ومن بين عناصر المعرفة الحدسية تأتي إفادات من التجربة المباشرة؛ فإذا ذكرت فقط البيانات الحسية التي أدركها الآن، لا يمكن (فيما عدا زلات اللسان التافهة) أن أكون مخطئا.
تتألف المعرفة الاشتقاقية للحقائق من أي شيء يمكن استنتاجه من الحقائق البديهية عن طريق مبادئ الاستدلال البديهية.
يقول راسل إنه على الرغم من المظهر الدقيق الذي يتخذه امتلاكنا لمعرفة بديهية، فعلينا أن نتقبل أن ما لدينا من معرفة عامة إنما هو صحيح فقط في حدود صحة تبرير «التفسير الأفضل» والغرائز التي تجعله قابلا للتصديق؛ ولذلك تعادل المعرفة العادية - في أفضل الأحوال - «رأيا مرجحا بعض الشيء». ولكن حين نلاحظ أن آراءنا المرجحة تكون نظاما يتسم بالترابط والدعم المتبادل - كلما كان النظام مترابطا ومستقرا، زادت أرجحية الآراء التي تكونه - ندرك لماذا يتاح لنا أن نمنحها ثقتنا.
من السمات المهمة في نظرية راسل سمة تتعلق بالمكان، وبالتحديد الفرق بين المكان العام الشامل الذي تشغله العلوم، والأمكنة الخاصة التي توجد فيها البيانات الحسية التي يحصل عليها الأفراد المدركون. ويتألف المكان العام من الخبرات الكثيرة البصرية واللمسية وغيرها التي ينسقها المدرك في قالب يكون هو في مركزه. ولكن نظرا لأننا ليس لدينا اطلاع على المكان العام للعلوم، فوجوده وطبيعته مسألة تعتمد كليا على الاستدلال.
ومن هنا جاءت الصيغة الأولى من نظرية المعرفة والإدراك التي وضعها راسل، وذلك كما وردت في كتاب «مشكلات الفلسفة». وتتسم النظرية من الوهلة الأولى بحس منطقي بديهي، ولكنها أبعد ما تكون عن البساطة؛ فمثلا يتحدث راسل عن المعرفة «البدائية» ويصفها بأنها حدسية، ولكنه لا يقدم وصفا عن طبيعة مثل هذه المعرفة، فيما عدا القول بأنها لا تتطلب إثبات ما هو أكثر بديهية منها هي نفسها. ولكن هذا التعريف قلما يكون مناسبا، ويصبح أكثر غموضا حين يضيف أنه يوجد نوعان من البديهية، نوع واحد منهما فقط أساسي. هل هذا الفارق منطقي؟ ما هي «البديهة» على أي حال؟ وهو كذلك لا يدرس احتمال أن تتعارض قضيتان كل منهما مع الأخرى رغم أنهما تظهران على أنهما بديهيتان عند النظر إليهما على انفراد. وإذا قدر أن يحدث هذا، فأي منهما هي التي يجب اختيارها؟ وما هي المبادئ البديهية الإضافية التي تحكم اختيارها؟
ومن الانتقادات الأخرى التي وجهت إلى رأي راسل هو أنه يضع افتراضا مهما، ولكنه موضع شك عن الطبيعة الأساسية للتجربة الحسية. وهذا الافتراض هو أن البيانات الحسية - أي الحدود الدنيا الحسية مثل ألوان أو روائح أو أصوات معينة - نحصل عليها في سياق الخبرة، وأنها أكثر عناصرها بدائية. ولكن الخبرة الحسية في الواقع ليست «هزيلة» ومباشرة على هذا النحو على الإطلاق، بل هي بالأحرى خبرة وافرة ومعقدة تشمل البيوت والأشجار والناس والقطط والسحب؛ أي إنها «غليظة» وفقا لمذهب الظواهر، والبيانات الحسية لا يمكن الوصول إليها إلا بعملية معقدة تقوم على تفريغ الخبرة الإدراكية العادية من كل ما هو طبيعي من وجهة نظرنا؛ ومن ثم فإننا لا نشاهد مستطيلا ونتستنج أنه عبارة عن طاولة، بل نشاهد طاولة، وحين نبدأ في التركيز على شكلها نرى أنها مستطيلة الشكل.
لا شك أن هذا الانتقاد محق إلى حد ما، ولكن توجد طرق تتيح استيعابه وفي الوقت نفسه تسمح لنا بوصف الجانب الحسي البحت للخبرة بمعزل عن العبء المعتاد من المعتقدات والنظريات الذي تحمله هذه الخبرة. وما دامت الغاية كلها هي أننا نحاول تبرير امتلاك تلك المعتقدات عن طريق البرهنة على أن الخبرة الإدراكية تمكننا من تلك المعتقدات، فمن الواضح أننا بحاجة إلى بيان عن خبرتنا الإدراكية باعتبارها هكذا فقط، حتى نتمكن من تقييم مدى ملاءمتها للمهمة. والهدف الذي يرجوه راسل من الحديث عن البيانات الحسية يقتصر على تنفيذ ذلك فحسب. فضلا عن ذلك، أقر راسل بأن البيانات الحسية ليست «المعطيات» المباشرة الإدراكية؛ ففي كتاباته التي ألفها إبان العقد الذي أعقب كتاب «مشكلات الفلسفة»، يشير أكثر من مرة إلى أن مواصفات البيانات الحسية تأتي في المرتبة الأخيرة في التحليل، وليس في المرتبة الأولى في الخبرة.
ومن الانتقادات الأخرى أن راسل يفترض أن الخبرة المباشرة يمكن أن نرمز إليها بالقضايا - رغم أنها تقتصر على وصف «المعطيات» الذاتية - التي من الممكن استخدامها كأساس لمعرفة العالم. ولكن كيف يمكن أن يكون ما ينطبق فقط على التجربة الخاصة فيما يبدو - ولا يحمل أي إحالة إلى ما يتعدى تلك التجربة - هو الأساس الذي تقوم عليه نظرية للمعرفة؟ ولا يفيد أن يقال إن راسل يسمح بالمعرفة البديهية للمبادئ المنطقية التي تتيح استخلاص الاستنتاجات من هذه القضايا؛ لأنه لن يوجد حافز لاستنتاجها إلا إذا كان الشخص لديه بعض المعتقدات التجريبية العامة التي تصلح لتكون المقدمات الكبرى في تلك الاستنتاجات، ولديه كذلك بعض الافتراضات التجريبية التي تختبرها الاستنتاجات أو تدعمها في الواقع. ولكن هذه المعتقدات والافتراضات التجريبية لا تتوافر لشخص - حسبما يقدمه راسل - يتعرض لخبرة ما دون أن يكون لديه سوى بيانات حسية وحقائق بديهية منطقية.
أثرت هذه المشكلة في راسل نفسه، وتصدى لها في وقت لاحق (في كتاب «المعرفة البشرية») بقبول شكل من أشكال شيء كان يستنكره في فلسفة كانط، وهو أنه لا بد من وجود بعض الأشياء (بخلاف حقائق المنطق) المعروفة لنا باعتبارها بديهية، هذا إذا كانت المعرفة ممكنة من الأساس. وسأناقش هذه الجزئية المهمة للغاية في المكان المناسب أدناه.
ومن المشكلات الأخرى التي طرحها منتقدو راسل أن الاعتبارات التي يعتمد عليها راسل للبرهنة على وجود فارق بين المظهر والواقع لا تقنع أحدا، بالطريقة التي يعرضها بها؛ فحين يبدو شيء بلون ما أو بشكل ما لشخص مدرك، ولكن يبدو بلون أو شكل آخر لمدرك آخر، أو يبدو بألوان أو أشكال مختلفة للمدرك نفسه في ظروف مختلفة - على سبيل المثال، يتوقف ذلك على ما إذا كان يشاهده في ضوء النهار أو في الظلام، أو من زاوية نظر معينة أو أخرى - فإن ذلك يخبرنا أن مسألة كيفية ظهور الأشياء للإدراك من الأمور المعقدة، ولكنه لا يخبرنا في حد ذاته أن الشيء موضع الإدراك مختلف في كل مرة.
وهذا الانتقاد صحيح في حد ذاته، ولكن يتصادف أنه توجد طرق أخرى ملائمة للغاية لتحديد الفارق بين المظهر والواقع، وذلك كما يتضح في الأعمال الأحدث التي ظهرت في مجال فلسفة الإدراك؛ ومن ثم من الممكن النظر إلى حجج راسل هنا - كما كان ينظر هو إليها - على أنها تشجع على الاكتشاف، بمعنى أنها توضح الجزئية فقط بغرض إطلاق شرارة المناقشة.
ولكن هذا الانتقاد يوحي بانتقاد آخر أهم؛ إذ إن راسل - مثل كل سابقيه منذ ديكارت ومثل بعض من جاءوا بعده مثل إتش إتش برايس وإيه جيه آير - تقبل افتراضا مهما للغاية من ديكارت، وهو أن نقطة الانطلاق المناسبة لأي بحث عن المعرفة هي تجربة فردية. فلا بد أن يبدأ الفرد بالمعلومات الخاصة المستمدة من الوعي والبحث عن أسباب ضمنها لدعم استنتاجاته - أو عادة معتقداته - عن عالم خارج ذهنه. ومن التغيرات الكبرى التي شهدتها الفلسفة في القرن العشرين رفض هذا الافتراض الديكارتي؛ فمن بين الصعوبات البالغة المتعلقة بهذا الافتراض أنه يصبح من المستحيل تجاهل أو دحض الرؤية المتشككة إذا قبلنا به. ومن الصعوبات الأخرى أنه بناء على أساس بهذا الضعف لا يحق لنا أن نرى في الشخص الراغب في المعرفة - الذي لا يرى وجودا إلا لعقله فقط - شخصا قادرا على تسمية أحاسيسه وخبراته والتفكير فيها، بل لا يحق لنا أن نفكر فيه على أنه شخص يستطيع استنتاج وجود عالم خارجي من هذه الأحاسيس والخبرات. وتدفعنا الفكرتان كلتاهما بثبات نحو فكرة أن المكان المناسب لبدء نظرية المعرفة هو - على نحو ما - المجال العام.
العالم الخارجي والعقول الأخرى
لم يكن راسل راضيا عن الطريقة التي عرض بها الأمور في كتاب «مشكلات الفلسفة»، وهو على كل كتاب كان الغرض منه أن يكون كتابا شعبيا غير موجه للمتخصصين، ولم يقدم عرضا دقيقا لأطروحاته. وعلى مدى العقود الأربعة التالية أخذ يعود إلى مشكلة المعرفة والإدراك بصفة متكررة. وطوال السنوات التي أعقبت نشر كتاب «مشكلات الفلسفة» وسبقت اندلاع الحرب العالمية الأولى، انكب راسل على تلك الأمور بجدية؛ إذ وضع مسودة لمخطوطة كتابه الكبير «نظرية المعرفة»، نشر جزءا منها وتخلى عن جزء آخر، وكتب سلسلة مهمة من المحاضرات ظهرت في عام 1914 في كتاب بعنوان «معرفتنا بالعالم الخارجي». وفي هذا العمل قدم راسل مناقشة أكثر تفصيلا لجوانب النظرية الواردة في كتاب «مشكلات الفلسفة»، وتوصل إلى نتائج مهمة.
ومن الاختلافات بين النظريات الواردة في كتابي «مشكلات الفلسفة» و«معرفتنا بالعالم الخارجي» أن راسل أصبح مقتنعا بأن أساس المعرفة التي يحصل عليها الشخص الذي يتعرض للخبرة - البيانات الحسية التي تظهر له وحده، ومعرفته الحدسية القائمة على قوانين المنطق - هو نقطة انطلاق أضعف من اللازم. لم يرفض راسل الافتراض الديكارتي الذي ناقشته للتو، بل أصبح أشد حساسية حيال الصعوبات التي يخلقها؛ ولذلك كان يحاول أن يحد منها؛ ومن ثم أخذ يولي أهمية أكبر لامتلاك الشخص لحقائق الذاكرة وفهمه للعلاقات المكانية والزمنية السارية من ضمن عناصر أي خبرة راهنة. ويتسنى للشخص كذلك مقارنة المعلومات، مثلا، من حيث الاختلافات المتعلقة باللون والشكل. لكن أمورا مثل المعتقدات الشائعة والاعتقاد بوجود عقول أخرى لا تزال مستبعدة.
ويصوغ راسل في ضوء هذ الأساس الغني لما أصبح يطلق عليه الآن «المعلومات الواقعية» سؤالا يقول: «هل من الممكن استنتاج وجود أي شيء غير معلوماتنا الواقعية؟» ويقوم نهجه أولا على عرض كيفية إمكاننا - كفرضية - تكوين مفهوم يتعلق بالمكان توضع فيه حقائق التجربة؛ حقائق خبرة الشخص نفسه والحقائق التي يعرف بوجودها من خلال شهادة آخرين. ثم يقدم راسل - في سبيل معرفة ما إذا كان لدينا مبرر للاعتقاد بأن هذا العالم المكاني حقيقي - برهانا يؤيد وجود عقول أخرى؛ لأنه إذا كان يتسنى للمرء حقا أن يصدق هذا، فإذن يمكنه أن يعتمد على شهادة الآخرين - إضافة إلى خبرة المرء نفسه - التي ستقدم دعما قويا للرأي القائل بوجود عالم مكاني، بمعنى حقيقي.
هذه الاستراتيجية مبتكرة. وفي البحث المعنون «صلة البيانات الحسية بالفيزياء»، الذي ألفه راسل في أوائل عام 1914، يضيف راسل أسلوبا مبتكرا أيضا يتعلق بالتفكير في صلة الخبرة الحسية بالأشياء؛ ففي كتاب «مشكلات الفلسفة»، كان قد ذكر أننا نستنتج وجود الأشياء المادية من بياناتنا الحسية؛ والآن يصفها بأنها تابعة للبيانات الحسية، أو على حد وصفه أحيانا، «أبنية» مكونة من البيانات الحسية. وتستخدم هذه الاستراتيجية الأسلوب المنطقي الذي يمكن فيه إثبات إمكانية تحليل الشيء وتحويله إلى أشياء من نوع آخر. ويصف راسل المبدأ القائل بأنه «لا بد من إحلال الأبنية المنطقية محل الكيانات المستنتجة بقدر الإمكان» باعتباره «القاعدة العليا للفلسفة العلمية». ووفقا لهذا المبدأ، يجب تحليل الأشياء المادية بناء على ذلك باعتبارها أبنية مكونة من البيانات الحسية؛ ومع ذلك لا تكون مكونة من البيانات الحسية الفعلية أو الحالية فقط، بل من «الأشياء المحسوسة» أيضا، والمقصود بتلك الأشياء على حد تعبير راسل «المظاهر أو النحو الذي تبدو عليه الأشياء»، بصرف النظر عما إذا كانت تكون البيانات الحسية التي هي حاليا جزء من خبرة أي شخص مدرك. والغرض من ذلك هو تفسير فكرة وجود الشيء رغم عدم وجود أشخاص يدركونه.
أصبح راسل يرى في هذه المرحلة أن من الجوانب المهمة لهذا الرأي أن البيانات الحسية والأشياء المحسوسة ليست كيانات عقلية خاصة، بل هي جزء من المادة الفعلية للفيزياء. إنها فعلا «المكونات النهائية للعالم المادي»؛ نظرا لأن التحقق من المنطق السليم والفيزياء يعتمد عليها أساسا. وهذا مهم لأننا عادة ما نعتقد أن البيانات الحسية تابعة للأشياء المادية، بمعنى أن وجودها وطبيعتها مرجعهما إلى أن الأشياء المادية هي التي تتسبب فيها؛ ولكن لا يتسنى التحقق إلا إذا كان الأمر على عكس ذلك؛ أي أن تكون الأشياء المادية تابعة للبيانات الحسية. وهذه النظرية «تبني» الأشياء المادية من الأشياء المحسوسة؛ ومن ثم يفيد وجود الأشياء المحسوسة في التحقق من وجود الأشياء المادية.
تخلى راسل عن هذه النظرية المميزة بدلا من تطويرها إلى مستوى أكبر؛ وفي أعماله اللاحقة - وبالتحديد في كتاب «تحليل المادة» في عام 1927 وكتاب «المعرفة البشرية» في عام 1948 - عاد إلى تناول الأشياء المادية، والمكان الذي تشغله، باعتبارها مستنتجة من الخبرة الحسية. وقد دفعه إلى ذلك عدة اعتبارات، وكان من بينها قبوله بالرأي السائد الذي تدعمه علوم الفيزياء وعلم وظائف الأعضاء البشرية الذي يقول بأن الإدراك سببه نشاط البيئة المادية على أعضاء الحس لدينا. ويكتب راسل: «إن كل من يقبل نظرية الإدراك العفوية مضطر لاستنتاج أن المدركات موجودة في أذهاننا؛ لأنها تأتي في نهاية سلسلة عفوية من الأحداث المادية التي تنتقل - مكانيا - من الأشياء إلى دماغ المدرك» (تحليل المادة، ص32). وتخلى راسل أيضا - في كتاب «تحليل العقل» الصادر في عام 1921 - عن الحديث عن «البيانات الحسية»، ولم يعد يفرق بين فعل الإحساس والشيء الذي يحس به الشخص. والسبب الذي دفعه إلى ذلك يتعلق بنظرية العقل التي وضعها، والمعروضة لاحقا.
كان من أهم الأسباب التي دفعت راسل إلى التخلي عن النظرية هو التعقيد الشديد، وعدم قابلية التصديق الذي كانت تتسم به الآراء التي حاول أن يصوغها عن الأمكنة الخاصة والعامة، والعلاقات بينها، والطريقة التي من المفترض أن تشغل بها الأشياء المحسوسة هذه الأمكنة. وقد ذكر هذه المجموعة من المشكلات عرضيا في كتاب «تطوري الفلسفي»، ويقول فيه إن السبب الأساسي الذي دفعه إلى التخلي عن «محاولة بناء «مادة» من المعلومات المتعلقة بالتجربة وحدها» هو أنه «برنامج مستحيل ... فلا يمكن تفسير الأشياء المادية باعتبارها أبنية مؤلفة من عناصر يتعرض لها المرء فعليا في الخبرة» (تطوري الفلسفي، ص79). هذه المقولة الأخيرة ليست متسقة بدقة مع رأي راسل الذي ذكره في النصوص الأصلية، ومفاده أنه ليس من الضروري إدراك الأشياء المحسوسة فعليا؛ ويقدم كتاب «تطوري الفلسفي» تعليقا على النظرية أكثر التزاما بمذهب الظواهر مقارنة بما يقدمه نصها الأصلي. ولكنه تعرض لمشكلة جسيمة تتعلق بالنظرية؛ وهي أنه يبدو من باب عدم الترابط أن تتحدث عن «معلومة حسية غير محسوسة» لا تتطلب حتى أي صلة جوهرية بالإدراك، بل إن اسمها نفسه يبدو مناقضا لهذا المطلب.
بلا شك كان التخلي عن المشروع الذي تحتوي عليه مخطوطة كتاب «نظرية المعرفة» وكتاب «معرفتنا بالعالم الخارجي» لطمة لراسل؛ لأنه حين وجه اهتمامه إلى أسئلة المعرفة والإدراك بعد أن انتهى من كتاب «أصول الرياضيات»، رأى أن مهمة حل المشكلات المتعلقة بالعلاقة بين هذه المسائل وبين الفيزياء هي إسهامه المهم التالي. وكان ذلك من الطموحات التي كان يفكر فيها منذ أواخر تسعينيات القرن التاسع عشر.
توجد أسئلة أخرى مهمة في نظرية المعرفة لم يعرها راسل - في إطار هذه المساعي - إلا اهتماما عابرا. وهي تتعلق بنوع الاستنتاج الذي طالما ظل من المفترض أن يكون عماد العلوم، وهو بالتحديد الاستدلال غير البرهاني. ولم يرجع راسل إلى التفكير في هذه الأسئلة إلا بعد عدة سنوات، وترد المناقشة الأساسية التي يقدمها راسل في كتاب «المعرفة البشرية: نطاقها وحدودها»، وكتبه بعد الحرب العالمية الثانية. بعد ذلك وجه راسل اهتمامه إلى أسئلة معينة تتعلق بموضوع المنهج والميتافيزيقا، والذي كان يرى أنه من الموضوعات المهمة، وذلك أثناء انشغاله بالعمل في مجال الإدراك. وهذه الأسئلة هي موضوع الفصل التالي.
هوامش
الفصل الثالث
الفلسفة والعقل والعلم
المنهج والميتافيزيقا
أطلق راسل اسم «مذهب الذرية المنطقية» على الآراء التي طورها من كتاب «معرفتنا بالعالم الخارجي» منذ ذلك الحين فصاعدا. ومذهب الذرية المنطقية هو أساسا عبارة عن منهج، وكان راسل يأمل أن يحل هذا المنهج الأسئلة المتعلقة بطبيعة الإدراك وعلاقته بالفيزياء. وتجدر الإشارة إلى أن الأعمال الفلسفية التي أنجزها راسل خلال العقود الأربعة بعد كتاب «أصول الرياضيات» مخصصة في أغلبها لمناقشة موضوع علاقة الإدراك بالفيزياء؛ ومن ثم فهي في الواقع عبارة عن مسعى لتقديم أساس تجريبي (مع وجود تحفظات) للعلوم، واعتبرت بمنزلة أكثر النظريات التي تبحث في طبيعة العالم تمتعا بفرصة أن تكون صحيحة أو على الأقل في طريقها للوصول إلى الحقيقة. وقدم مذهب الذرية المنطقية هكذا لراسل سبيلا للميتافيزيقا - بمعنى وجهة نظره في طبيعة الواقع - والتي اتضح أنها ليست الخواص المادية الراهنة للمادة، على الأقل بطريقة مباشرة، بل على أنها تمثيل للمادة باعتبارها بنية منطقية. تتخذ نصوص راسل عن آرائه في الميتافيزيقا دائما هيئة عرض سطحي يشغل الأقسام الختامية لمناقشاته الكثيرة للتحليل المنطقي، بينما يوجه معظم اهتمامه لوصف استراتيجية التحليل نفسها.
فلسفة مذهب الذرية المنطقية
يصف راسل مذهب الذرية المنطقية في أكثر من مقام، وأهمها هو الفصل الوارد في كتاب «معرفتنا بالعالم الخارجي» بعنوان «المنطق باعتباره روح الفلسفة»، وفي سلسلة من المحاضرات ألقاها في عام 1918 بعنوان «فلسفة مذهب الذرية المنطقية» (أعيد طبعها في كتاب بعنوان «المنطق والمعرفة» من تحرير مارش). وتحتوي مقالة مذهب الذرية المنطقية (1924) على موجز لمناهج وأهداف مذهب الذرية المنطقية، وأعيد طبعها أيضا في الكتاب نفسه من تحرير مارش.
من أهم سبل فهم منهج مذهب الذرية المنطقية ادعاء راسل أن «المنطق هو جوهر الفلسفة»؛ حيث يقصد ب «المنطق» المنطق الرياضي. وتكمن أهميته في أنه يقدم وسيلة لإجراء تحليلات قوية وكاشفة فلسفيا للأبنية؛ وهي بالتحديد أبنية القضايا والوقائع.
تبين بالفعل كيف أن تحليل القضايا يثبت أنه من الخطأ تناولها كلها على أنها تتخذ صورة مؤلفة من الموضوع والمحمول، وأن القواعد النحوية السطحية مضللة، كأن نفهم الأوصاف والأسماء العادية على أنها تعني تعبيرات. ولا بد أيضا من إجراء تحليل كاشف للأبنية للعالم الذي نتحدث عنه حين نؤكد هذه القضايا، وإجراء تحليل للقضايا نفسها.
وفي الفصل المعنون «المنطق باعتباره جوهر الفلسفة» يصف راسل هذين البناءين المتصلين بادئا بالبناء الأول . ويقول راسل إن العالم يتألف من أشياء جمة لها صفات وعلاقات جمة. ولن تضم أي قائمة تشمل الموجودات التي يشملها العالم الأشياء فقط، بل أيضا الأشياء التي تحمل هذه الصفات والعلاقات. بعبارة أخرى، من المفترض أن تكون قائمة من الوقائع؛ فالأشياء والصفات والعلاقات هي مكونات الوقائع، ومن الممكن تحليل الوقائع بدورها لتتحول إليها. ويرمز إلى الوقائع بما يطلق عليه راسل «القضايا»، وتعريفها أنها «أشكال من الكلمات يجزم بأنها صحيحة أو كاذبة.» والقضايا التي ترمز إلى الحقائق الأساسية - بمعنى التي تؤكد أن الشيء يحمل صفة معينة أو يحل محل شيء آخر في علاقة معينة - يطلق عليها راسل «القضايا الذرية». وعند الجمع بين هذه القضايا عن طريق كلمات منطقية مثل «و» و«أو» و«إذا ... إذن»، تأتي النتيجة كقضايا معقدة أو «جزيئية». ومثل هذه القضايا مهمة للغاية لأن كل احتمالات الاستدلال تتوقف عليها.
وأخيرا لدينا «القضايا الكلية» مثل «كل البشر فانون» (والعبارات التي تنفيها، وتتألف باستخدام الكلمة «بعض» كما في عبارة «بعض البشر ليسوا فانين»). تتوقف الحقائق التي ترمز إليها إلى حد ما على معرفة بديهية. وتنشأ هذه النقطة المهمة كنتيجة للتأمل في تحليل القضايا والوقائع. فمن الناحية النظرية، إذا عرفنا كل الوقائع الذرية، وأنها كلها هي الحقائق الذرية، لأمكننا استدلال كل الحقائق الأخرى منها. ولكن لا يمكن معرفة القضايا الكلية بالاستدلال من الحقائق الذرية وحدها. لنتأمل عبارة «كل البشر فانون»؛ إذا عرفنا كل إنسان وعرفنا عن فنائه، فلن يكون بإمكاننا مع ذلك الاستدلال أن كل البشر فانون إلا بعد أن نتحقق من أن هؤلاء هم كل البشر الموجودين؛ وهذه قضية كلية. كان راسل حريصا على أن يشدد على أهمية هذه النقطة. وما دام أنه لا يمكن استنتاج الحقائق الكلية من الحقائق الجزئية وحدها، وما دام أن كل الأدلة التجريبية تتألف من الوقائع الجزئية، يترتب على ذلك أنه لا بد من وجود شيء من المعرفة البديهية إذا أمكن وجود المعرفة أساسا. واعتمد راسل على هذا لدحض حجج أتباع المذهب التجريبي الأقدمين، الذين يرون أن المعرفة كلها تستند فقط إلى الخبرة الحسية.
ويظهر على الفور سؤال يتعلق بالموضع الذي يمكن أن نجد فيه مثل هذه المعرفة الكلية. وتظل إجابة راسل كما كانت في كتاب «مشكلات الفلسفة»؛ وهي أن مثل هذه المعرفة موجودة في المنطق، وتمنحنا قضايا بديهية كلية. لنتأمل القضية التالية: «كل البشر فانون، سقراط بشر، إذن سقراط فان.» تحتوي القضية على حدود تجريبية (سقراط، بشر، فان)؛ ومن ثم فهي ليست قضية قائمة على المنطق البحت. أما القضية القائمة على المنطق البحت فتأتي على الشكل التالي: «إذا كان أي شيء يحمل صفة معينة، وأيا كان ما يحمل هذه الصفة يحمل صفة معينة أخرى؛ إذن فهذا الشيء يحمل هذه الصفة الأخرى.» (والأكثر وضوحا: «كل أفراد
هي أفراد ، و
هو ، إذن
هو »). هي قضية كلية وبديهية تماما. ومثل هذه القضايا هو الذي يجعلنا نخرج من حدود الخصوصية التجريبية.
وتشرح سلسلة محاضرات «فلسفة مذهب الذرية المنطقية» تفاصيل هذا البرنامج التحليلي بمزيد من الاستفاضة. وتشير كلمة «منطقي» في العنوان إلى أننا نصل إلى الذرات باعتبارها «آخر بقية من التحليل» حيث يكون التحليل منطقيا أكثر منه ماديا (فلسفة مذهب الذرية المنطقية، ص178). فهي جزئيات مثل «بقع لونية صغيرة أو أصوات، وأشياء مؤقتة و... هي محمولات أو علاقات.» والهدف هو الانتقال من المعتقدات العادية عن العالم إلى فهم دقيق عن الكيفية التي يقوم بها العلم على الخبرة؛ بمعنى «الانتقال من تلك الأشياء البديهية المبهمة الغامضة التي نشعر بأننا على يقين منها، إلى شيء دقيق وواضح ومحدد نكتشف بالتأمل والتحليل أنه متضمن في الشيء المبهم الذي ننطلق منه، وأنه - إن جاز التعبير - الحقيقة الصحيحة التي يكون ذلك الشيء المبهم أشبه بظل لها» (المرجع السابق). والمنهج عبارة عن تحليل للرموز المعقدة - القضايا - وتحويلها إلى الرموز البسيطة التي تتألف منها؛ والمرحلة النهائية لهذا النوع من التحليل هي «الاطلاع المباشر على الأشياء التي هي معاني الرموز البسيطة» حيث «المعنى» هنا يقصد به «الدلالة» (فلسفة مذهب الذرية المنطقية، ص194). وفي «اللغة المثالية من الناحية المنطقية» - مثل تلك التي كان كتاب «أصول الرياضيات» يهدف إلى تقديمها - تتقابل مكونات قضية ما - أي الرموز البسيطة - في علاقة فردية مع مكونات واقعة ما، فيما عدا الرموز المنطقية «أو» و«و» وما شابه ذلك. وكل عنصر بسيط يشار إليه بواسطة رمزه البسيط المختلف. ويقول راسل إن مثل هذه اللغة توضح «في لمحة سريعة البنية المنطقية للوقائع المؤكدة أو المنفية» (فلسفة مذهب الذرية المنطقية، ص198).
ويقدم راسل على هذا الأساس «استطرادا لمناقشة الميتافيزيقا». فمذهب الذرية المنطقية هو الرأي القائل إن التحليل يوصلنا نظريا - إن لم يكن عمليا - إلى العناصر البسيطة الأولية التي يتألف منها العالم. وتعرف العناصر البسيطة على أنها أي عناصر غير مركبة - بمعنى أنها غير قابلة للتحليل إلى حد أبعد - وكل عنصر منها عبارة عن شيء مستقل ومستمر ذاتيا. وهي فضلا عن ذلك قصيرة الأمد للغاية؛ ولذلك فإن العناصر المعقدة المؤلفة منها عبارة عن «أوهام منطقية»، تؤلف لخدمة أغراضنا المعرفية والعملية.
وللعناصر البسيطة أنواع شتى؛ إذ يوجد الكثير من رتب الجزئيات والصفات والعلاقات، ولكن السمة المشتركة بينها أنها تمتلك واقعا لا تشترك فيه مع أي شيء آخر. والأشياء الأخرى الوحيدة في العالم هي الوقائع، وهي الأشياء التي تؤكدها أو تنفيها القضايا. والوقائع مكوناتها ليست لها الطبيعة نفسها، وتختلف معرفة الوقائع بعض الشيء عن معرفة العناصر البسيطة؛ فمعرفة الوقائع هي معرفة بالوصف، أما معرفة العناصر البسيطة فهي بالاطلاع.
يتضمن منهج التحليل الذي يستخدمه راسل مبدأ نصل أوكام؛ وهو المبدأ القائل بأننا ينبغي أن نعتمد على أكثر النظريات اقتصادا بخصوص كل ما هو موجود. ومن الممكن وصفه بأنه طرح سؤال ملح يقول: «ما هو أقل عدد من الأشياء البسيطة غير المحددة الموجودة في البداية، وأقل عدد من المقدمات غير المبرهن عليها، التي تستطيع من خلالها تعريف الأشياء التي بحاجة إلى تعريف وإثبات الأشياء التي بحاجة إلى إثبات؟» (مذهب الذرية المنطقية، ص271). وعند تطبيق مبدأ نصل أوكام، يكون وصف الشيء المادي العادي - مثل مكتب - على النحو التالي: نحن نفكر في المكتب باعتباره شيئا يستمر وجوده حتى أثناء عدم إدراكه. قد يقول أحد المتشككين إن هذا التصور يستند على مرات إدراك متقطعة للمكتب، وهي في حد ذاتها لا تطلعنا على شيء بخصوص ما إذا كان المكتب يستمر وجوده فيما بين مرات إدراكه. ومع ذلك فإننا نقول إن كل مرات الظهور المختلفة هذه للمكتب هي مرات ظهور للمكتب «نفسه». فما الذي يدفعنا لأن نقول هذا؟ وإجابة راسل هي أننا نعرف سلسلة من مرات الظهور على أنها شيء مفرد مستمر. «وبتلك الطريقة يختصر المكتب ليصبح وهما منطقيا؛ لأن وجود سلسلة من مرات الإدراك هو وهم منطقي. وبتلك الطريقة فإن كل الأشياء العادية في الحياة اليومية تطرد من عالم الموجودات، ويوجد بدلا منها عدد من الجزئيات العابرة من النوع الذي يدركه المرء على الفور بالحس»؛ أي البيانات الحسية (فلسفة مذهب الذرية المنطقية، ص273). إذن فالأشياء التي نسميها أشياء حقيقية «هي أنظمة، سلاسل من فئات الجزئيات، والجزئيات هي الأشياء الحقيقية، وتكون تلك الجزئيات بيانات حسية حين تدركها» (فلسفة مذهب الذرية المنطقية، ص274).
أوحى هذا المنحى الذي اتخذته الأمور لراسل بإجراء تحليل فيزيائي - تفهم الذرات الفيزيائية على أنها أوهام منطقية كذلك - وجعله يميل صوب وجهة نظر ذهنية تسمى «الأحادية المحايدة». ولم يطور أيا من وجهتي النظر باستفاضة في هذه المرحلة؛ ولكن فيما بعد، وعلى أساس بعض التغيرات المهمة التي طرأت على موقفه، وجه إليهما اهتماما واضحا. وظهر ذلك في كتاب «تحليل المادة» (1927) وكتاب «تحليل العقل» (1921) على التوالي. وسأناقشهما لاحقا بمزيد من التفصيل.
بعض المشكلات في مذهب الذرية المنطقية
من الصعب أن نجد مذهب الذرية المنطقية مقنعا؛ فمن ناحية، جاء عرض راسل له سريعا وسطحيا، ومع ذلك فهو يهدف إلى حل الكثير من المشكلات المختلفة في الوقت نفسه. إنها نظرية تجريبية عن المعنى، بما يعني أنها تتألف من نظريات أخرى عن المعرفة والإدراك والعقل، بالإضافة إلى وصف تجريبي - يقع في صميم تلك النظريات - عن كيفية عمل الكلمات، وكيفية تعلمنا إياها وفهمها. رأى راسل أن هذه المهمة الثانية معقدة ؛ لأن - من وجهة نظره - الأشكال السطحية للغة العادية مضللة؛ ومن ثم من شأنها أن تؤدي إلى فلسفة مغلوطة، في حالة تحليلها تحليلا غير صحيح، وعن هذا قال:
أعتقد أن أهمية القواعد النحوية الفلسفية تفوق ما يعتقد عنها عادة. وأعتقد أن معظم الأعمال التقليدية التي تبحث في الميتافيزيقا تعج بالأخطاء بسبب القواعد النحوية السيئة، وأن معظم المشكلات التقليدية في الميتافيزيقا والنتائج التقليدية - النتائج المفترضة - في الميتافيزيقا تعود إلى عجز عن وضع الحدود في ما قد نطلق عليه القواعد النحوية الفلسفية. (فلسفة مذهب الذرية المنطقية، ص269)
إذن يسير التحليل عن طريق الافتراض بوجود بنية لغوية ضمنية، ومن المهم أن تكون مختلفة عن بنيتها السطحية، وهذه البنية الضمنية هي الوحيدة التي تتوافق مع بنية العالم التي تكشفت بالتحليل؛ ولذلك فمن المشكلات الكبرى التي يطرحها هذا الطرح هو ما إذا كان المنطق الذي يقوم عليه كتاب «أصول الرياضيات» هو الطريقة الصحيحة الوحيدة لتمثيل الشكل المنطقي الضمني للغة الطبيعية.
تعمل نظرية راسل على الجمع بين الوصف المنطقي البحت للبنية مع المذهب التجريبي القائم على البيانات الحسية، وذلك عن طريق النظر إلى البيانات الحسية باعتبارها العناصر البسيطة التي تتألف منها بنية العالم. ولكنه يرى أنه من الضروري ألا يكون من بين العناصر البسيطة الأشياء فقط، بل وصفاتها وعلاقاتها - بمعنى الكليات - ويؤدي هذا مباشرة إلى ظهور صعوبة أخرى؛ إذ إنه من غير الواضح أن الكليات تتسم بالبساطة على النحو الذي يفترض أن تكون عليه الكليات؛ فمن سمات البساطة انعدام القابلية للتحليل والاستقلالية. هل الكليات تتسم بهذه السمات، حتى في ضوء أفضل مثال يسوقه راسل المتعلق ببقع لونية من درجة معينة؟ لا، إذ إن البقع اللونية ليست مستقلة بعضها عن بعض، والتعبيرات التي تشير إليها بإمكانها التسبب في حالات تعارض بين القضايا.
كان راسل يعتقد أنه يمكن التغلب على مثل تلك المشكلات عن طريق إجراء تحليل شامل تماما للخطاب الواقعي العادي. ولكنه لم يتمكن قط من إجراء تحليل من ذلك النوع، ونظر إليه على أنه شيء ينبغي أن تحققه الفلسفة العلمية في المستقبل أو تتناوله بطريقة مختلفة، إذا تمكنت من اكتشاف طريقة لذلك. وتسبب ذلك في إقدامه على الإفصاح عن بعض الاعترافات اللافتة:
حين أتحدث عن العناصر البسيطة، يجب أن أشرح أنني أتحدث عن شيء لا نمر بخبرة عنه في حد ذاته، بل نعرف بالاستنتاج فقط أنه نهاية التحليل؛ فمن الممكن تجنب الحاجة لافتراضها، وذلك بقدر أكبر من المهارة المنطقية. ولن تؤدي اللغة المنطقية إلى الخطأ إذا كانت رموزها البسيطة (أي الرموز التي ليست من بين أجزائها رموز، أو أي بنية ذات معنى) كلها ترمز إلى أشياء من نوع واحد، حتى لو كانت هذه الأشياء غير بسيطة. وموطن الضعف الوحيد لمثل هذه اللغة هو أنها تعجز عن التعامل مع أي شيء أبسط من الأشياء التي تمثلها برموز بسيطة. ولكنني أعترف أنه يبدو من الواضح لي (كما كان من الواضح للايبنتس) أن ما هو مركب يجب أن يكون مؤلفا من عناصر بسيطة، مع أن عدد المكونات قد يكون لا متناهيا. (المنطق والمعرفة، ص337)
في هذه الفقرة يعترف راسل فعليا بمشكلة ربط رؤيته للمذهب التجريبي برؤيته لمذهب الذرية المنطقية - فإذا كانت البيانات الحسية هي العناصر البسيطة، ومع ذلك فإن العناصر البسيطة تستنتج ولا تأتي نتيجة المرور بخبرة، إذن فالنظرية مفككة - ويدحض الربط، الذي كان يصر عليه في أماكن أخرى، بين الرموز البسيطة والكيانات البسيطة؛ لأنه يقول هنا إن الرموز البسيطة من الممكن أن ترمز إلى كيانات مركبة؛ والشرط الوحيد هو أن تكون من نوع واحد. علاوة على ذلك، إذا كانت العناصر البسيطة لا متناهية في العدد، فإن فرص وجود لغة «مثالية» من الناحية المنطقية تتضاءل بشدة؛ لأنه سيكون من الضروري أن تحتوي على عدد لا متناه من الأسماء، ولن يصبح من الممكن إجراء التحليل نفسه على الوجه الأكمل، باعتباره إجراء من المحتمل أن يكون غير متناه.
يرى بعض المعلقين أن مذهب الذرية المنطقية كان سيحقق نجاحا أفضل إذا روعي فصله عن المذهب التجريبي وتناوله باعتباره نظرية صورية بحتة، كما تناولها فيتجنشتاين في كتاب «رسالة منطقية فلسفية». وبالنظر إليه على هذا الأساس، فإن جوهره هو أن التعبيرات (فيما عدا التعبيرات المنطقية، مثل «و») من نوعين: التعبيرات التي تدل على أشياء موجودة (بسيطة) والتعبيرات التي يمكن تحليلها إلى تلك التعبيرات. وحين نتغاضى عن المذهب التجريبي الذي يقول بأن الأشياء البسيطة هي بيانات حسية ومن ثم تكون أشياء قائمة على الاطلاع، فإننا بهذا نتغاضى عن أي وصف يتناول كيفية تعلم الناس اللغة وفهمهم إياها، وهذا خلل جسيم؛ وقطعا كان من المهم لراسل أن يتوافر مثل ذلك الوصف، ويدل ذلك على أحد أهم أوجه الاختلاف بين رؤيته لمذهب الذرية المنطقية ورؤية فيتجنشتاين. ولكن ما دام أن محاولة إدماج المذهب التجريبي في مذهب الذرية المنطقية تتسبب في مثل تلك الصعوبات، فربما يجب تقبل هذا الخلل، مع أنه سيكون من المعتاد تماما أن يحاول المرء أن يبرهن على أن عدم قابلية توافق مذهب الذرية مع هذه الاعتبارات (ينظر إليها على أنها قيود على أي وصف مناسب للغة) ربما تؤخذ كمبرر للتخلي عن مذهب الذرية نفسه.
ولكن محاولة فصل المذهب التجريبي عن مذهب الذرية يتسبب - من بين أشياء أخرى - في بعض الصعوبات لنظرية الأسماء التي وضعها راسل. حسب هذه النظرية، فإن أسماء الأعلام تشبه إلى حد كبير أسماء الإشارة «هذا» و«ذلك»؛ فهي تخلو من المحتوى الوصفي، ومعانيها هي الجزئيات التي تدل عليها؛ ولذلك لا يمكن التعرف على هذه المعاني إلا في مرات الاطلاع على الجزئيات التي تدل عليها؛ ولكن فصل الاعتبارات التجريبية معناه أن هذا الجزء من النظرية لم يعد متاحا الآن. ويتسبب هذا في مشكلة؛ إذ إن من التطبيقات الأساسية لهذا الرأي تحليل عبارات اللغة العادية التي يبدو أنها تدل مؤقتا على أشياء مستمرة، مثل المكاتب وما شابه. وتقضي النظرية في صيغتها البحتة أن يكون لكل اسم علم شيء موجود يدل عليه ذلك الاسم. ومن وجهة نظر النظرية التجريبية، فإن مثل تلك المدلولات هي بيانات حسية مؤقتة؛ ومن ثم فإننا إضافة إلى معرفة ما تدل عليه الأسماء، نعرف أنها تشترك مع مدلولاتها في سمة ما؛ وهي أنها مؤقتة أيضا. ولكن على صعيد النظرية البحتة، فإنه من غير الواضح كيف نصف الأسماء؛ لأننا لا نعرف ماهية الموجودات الأولية - الصورية البحتة - غير المعروفة. ورفضنا لوضع نظرية عن ذلك معناه أننا ليست لدينا فكرة عن كيفية عمل علاقة التسمية؛ فمثلا، لا يحدث في مناسبة تعميد - على صعيد النظرية التجريبية - أن يسمي شخص ما معلومة حسية معينة اسم «ذلك» أو أي تسمية مشابهة. وهذا معناه كذلك أننا ليس لدينا ما نقوله فيما يتعلق بالسبب الذي يجعل «هذا» الاسم يسمي «ذلك» الشيء الجزئي، وما إذا كان من الممكن أن يسمي شيئا آخر؛ وهو ما قد يبدو على أي حال بمنزلة مشكلة بسيطة فور أن نسمح لأنفسنا بتذكر وجود أسماء دون أشخاص يسمونها أو دارسي لغة أو مدركين.
توحي هذه المجموعة من الاعتبارات بأن النتيجة المرجوة من فصل مذهب الذرية عن المذهب التجريبي محدودة للغاية. ويتصادف أن هذه الانتقادات لا تمثل في حد ذاتها خطرا على جوانب مذهب الذرية المنطقية التي تقدم وصفا للمعنى؛ إذ توجد طرق أخرى لتطويرها، إلى جانب صلاتها بفهم اللغة. ولكن ينبغي أن يأخذ أي تقييم كامل في الحسبان الأسباب التي دعت راسل لتعديل بعض السمات والتخلي عن سمات أخرى - مهمة بعض الشيء - من مذهب الذرية المنطقية في سياق رأيه اللاحق في العقل والمادة. وسأقدم وصفا سريعا لهذه النقاط على الفور.
العقل والمادة
قال راسل أثناء عرضه لآرائه المتعلقة بمذهب الذرية المنطقية في عام 1918 إن «الأحادية المحايدة» التي وضعها جيمس قد أغرته ولكنه لم يقتنع بها، و«الأحادية المحايدة» هي نظرية وضعت لحل المشكلات القائمة المتعلقة بالاختلافات والعلاقات بين العقل والمادة. وباختصار، فإن نظرية راسل مفادها أن العالم لا يتألف جوهريا من الأشياء العقلية - كما يعتقد أتباع المذهب المثالي - ولا من الأشياء المادية - كما يعتقد أتباع المذهب المادي - بل من «أشياء حيادية» يتكون منها مظهر العقل والمادة كليهما. ووفقا لما يقوله راسل، فإنه قد تحول إلى اعتناق هذه النظرية عقب الانتهاء من المحاضرات التي تتناول مذهب الذرية المنطقية. وقد كتب عن آراء جيمس في عام 1914، ثم رفضها؛ وفي المحاضرات التي ألقاها عام 1918 أصبح متعاطفا أكثر، ولكنه كان لا يزال مترددا؛ إلا أنه اعتنق النظرية أخيرا في بحث بعنوان «عن القضايا» (1919)، واستخدمها كأساس لكتابه «تحليل العقل» في عام 1921. ونقح راسل النظرية بعض الشيء فيما بعد، ولكنني سأعتمد أساسا على كتاب «تحليل العقل» في هذا العرض السريع.
تقول الفلسفة الشعبية إن العقل والمادة مختلفان اختلافا شديدا، وإن الاختلاف يكمن في حقيقة أن العقول واعية فيما أن الأشياء المادية - مثل الأحجار - ليست واعية. ومن ثم فإن السؤال الذي يطرحه راسل هو: هل الوعي جوهر كل ما هو عقلي؟ وللإجابة عن هذا السؤال، على المرء أولا أن يكون لديه فكرة ما عن طبيعة الوعي. ويوحي التأمل في الأمثلة المعتادة للظواهر الواعية - الإدراك والتذكر والتفكير والاعتقاد - بأن السمة الأساسية للوعي هي أنه «لتكون واعيا» بأي من هذه الطرق يعادل «أن تكون واعيا بشيء ما». ويطلق الفلاسفة اسم «القصدية» على هذه الخاصية، وقد تسمى كذلك بالحيثية أو «حالة التوجيه». وهكذا فإن مفهوم الوعي هو مفهوم ارتباطي أساسا؛ أي إنه فعل من أفعال العقل - فعل إدراك أو اعتقاد أو ما شابه - مرتبط ب «شيء»، وهو الشيء المدرك؛ أي القضية التي تصدق. وفي الواقع، وفق بعض رؤى هذه النظرية - على سبيل المثال رؤية مينونج - تشترك في ذلك ثلاثة عناصر: الفعل والمحتوى والشيء. فعلى سبيل المثال، لنفترض أننا نفكر في كاتدرائية القديس بول في لندن. لدينا فعل التفكير؛ ولدينا طبيعة الفكرة التي تتناول كاتدرائية القديس بول وليس أي كاتدرائية أخرى، وهذا هو المضمون؛ ثم لدينا الشيء، وهو كاتدرائية القديس بول نفسها.
يرفض راسل هذه الآراء؛ فيقول أولا إنه لا يوجد ما يسمى «الفعل»؛ فحدوث مضمون أي فكرة هو حدوث للفكرة، ولا يوجد دليل تجريبي ولا ضرورة نظرية لوجود «فعل» إضافة إلى ذلك. وتحليل راسل للسبب الذي قد يدفع شخصا للتفكير بخلاف ذلك هو أننا نقول: «أنا » أعتقد كذا، وهو ما يوحي بأن التفكير هو فعل يؤديه فاعل. ولكنه يرفض ذلك لأسباب مشابهة للغاية للأسباب التي قدمها هيوم؛ إذ كان يرى أن مفهوم الذات هو وهم، وأنه من غير المسموح لنا من الناحية التجريبية أن نقول إنه يوجد ما هو أكثر من حزم الأفكار التي نقسمها على سبيل التيسير إلى «أنا» و«أنت».
ثانيا: ينتقد راسل علاقة المضمون والشيء. كان مينونج يرى هو وآخرون أن العلاقة هي علاقة إحالة مباشرة، ولكنها في رأي راسل مركبة وثانوية بقدر أكبر، وتتألف في معظمها من معتقدات عن مجموعة متنوعة من الروابط غير المباشرة بعض الشيء فيما بين المضامين، وبين المضامين والأشياء، وفيما بين الأشياء. أضف إلى ذلك حقيقة أنه - في الخيال والخبرات غير العادية مثل الهذيان - قد تخطر لنا الأفكار دون أشياء ترتبط بها، ونرى أن علاقة المضمون-الشيء تتضمن الكثير من الصعوبات، يقول راسل إن أهمها يكمن في تعضيد الخلاف بين أتباع المذهب المثالي الذين يرون أن المضمون أهم من الأشياء، وأتباع مذهب الواقعية الذين يرون أن الأشياء أهم من المضمون. (استخدام راسل لهذه التسميات، مع أنها معممة، هو استخدام مضلل؛ إذ ينبغي علينا التماسا للدقة أن نستبدل التسمية «التابع للمذهب المثالي» ونستخدم بدلا منها «المناهض لمذهب الواقعية» هنا؛ ويعود ذلك لأنه مع أن مذهب الواقعية ومناهضة مذهب الواقعية هما أساسا أطروحتان مختلفتان حقا فيما يتعلق بعلاقة المضامين بالأشياء - ومن ثم فهما أطروحتان «معرفيتان» - فإن مذهب المثالية أطروحة «ميتافزيقية» عن طبيعة العالم؛ أي إنه أساسا يتسم بطابع عقلي. وكثيرا ما تخلو المناقشات الفلسفية من هذه النقطة؛ لذلك فلم يكن راسل هو وحده الذي جانبه الصواب في ذلك الرأي.) ويدعي راسل أن كل هذه الصعوبات يمكن تجنبها إذا اتبعنا رؤية ويليام جيمس لنظرية «الأحادية المحايدة».
الأحادية المحايدة
كان جيمس يؤكد أن النوع المنفرد من المادة الخام الأولية من الناحية الميتافيزيقية مرتب في أنماط مختلفة بناء على علاقاتها البينية، ونطلق على بعضها مواد عقلية وعلى بعضها الآخر مواد مادية. وقال جيمس إن رأيه كان مبعثه عدم رضاه عن النظريات المتعلقة بالوعي، الذي هو محض وريث مبهم للحديث العتيق عن «الأرواح». كان يقر بأن الأفكار موجودة؛ أما ما كان يرفضه فهو أنها عبارة عن كيانات؛ إذ كان يرى أنها - بدلا من ذلك - وظائف؛ فلا توجد «أي مادة أو خاصية كينونة أصلية - تتعارض مع المادة التي تتألف منها الأشياء المادية - تتألف منها أفكارنا عن هذه الأشياء؛ ولكن يوجد وظيفة في الخبرة تؤديها الأفكار، وتستخدم خاصية الكينونة هذه من أجل أدائها. وتلك الوظيفة هي «المعرفة».» (جيمس، مقالات عن المذهب التجريبي الراديكالي، ص3، 4).
ففي رأي جيمس، النوع الوحيد من «المادة الأولية» - كما سماها - هو «الخبرة البحتة». فالمعرفة هي علاقة يمكن أن تدخل فيها أجزاء مختلفة من المادة الأولية؛ والعلاقة نفسها هي جزء من التجربة البحتة، كما أن أطرافها جزء من التجربة البحتة.
لم يستطع راسل أن يتقبل كل هذا الرأي؛ فقد كان يرى أن استخدام جيمس لعبارة «التجربة البحتة» تعبر عن تأثر دائم بمذهب المثالية، ورفضه؛ إذ كان يفضل استخدام الآخرين لمصطلح «المادة المحايدة»، وهي خطوة مهمة تتعلق بالتسمية لأنه أيا كانت المادة الأولية، فلا بد أن تكون قادرة على أن تؤدي - في حالة ترتيبها ترتيبا مختلفا - إلى ما لا يمكن أن يطلق عليه على نحو ملائم «خبرة»، كأن تؤدي على سبيل المثال إلى منشأ النجوم والأحجار. ولكن راسل لم يوافق إلا موافقة جزئية على هذا الرأي المعدل. وقال إنه من الصحيح رفض فكرة الوعي باعتباره كيانا، وإنه من الصحيح جزئيا وليس كليا اعتبار العقل والمادة معا مؤلفين من مادة محايدة. أما في حالة انعزالهما فلا يتألف أي منهما من مادة محايدة؛ لا سيما بخصوص الأحاسيس، وهي نقطة مهمة عند راسل، بالنظر إلى هدفه الأساسي المتعلق بالجمع بين الفيزياء والإدراك. ولكنه أصر بدلا من ذلك على أن بعض الأشياء تنتمي فقط إلى العالم العقلي (الصور والمشاعر) وأن أشياء أخرى تنتمي فقط إلى العالم المادي (كل ما لا يمكن وصفه باعتباره خبرة). وما يفرق بينهما هو نوع السببية التي تحكمهما؛ ويوجد نوعان مختلفان من القوانين السببية؛ أحدهما ينطبق فقط على الظواهر النفسية، والآخر ينطبق فقط على الظواهر المادية. يأتي قانون تداعي المعاني الذي وضعه هيوم كمثال للنوع الأول، ويأتي قانون الجاذبية كمثال للنوع الثاني. والإحساس يطيع النوعين؛ ومن ثم فهو محايد فعلا.
تسبب الإقرار بهذه الرؤية من الأحادية المحايدة في إلزام راسل برفض بعض آرائه الأولى. وكان من التغيرات المهمة أنه تخلى عن مفهوم «البيانات الحسية»؛ وذلك لأن البيانات الحسية هي أشياء ناتجة عن أفعال عقلية، وهي التي أصبح يرفض وجودها الآن؛ ولذلك، ما دام لا يوجد احتمال لوجود علاقة بين الأفعال غير الموجودة والأشياء المفترضة الناتجة عن تلك الأفعال، فلا وجود لتلك الأشياء أيضا. وما دام لا يوجد فارق بين الإحساس والمعلومة الحسية - بمعنى أنه ما دمنا الآن نفهم أن الإحساس الذي نشعر به عند رؤية بقعة لون مثلا هو «فقط» بقعة اللون نفسها - فنحن نحتاج إلى مصطلح واحد فقط هنا، ويطلق عليه راسل اسم «المدرك الحسي».
قبل أن يعتنق راسل الأحادية المحايدة كان قد اعترض عليها لعدة أسباب، ومنها أنها كانت تعجز عن تفسير التصديق. وكما سبق، حتى حين أقر بالنظرية، كانت لديه تحفظات عليها؛ فالعقل والمادة يتداخلان على أساس سمات مشتركة، ولكن لكل منهما جوانب يتعذر رفضها. ومع ذلك كان ما أقنعه أخيرا هو حقيقة - أو هكذا كان يبدو له - أن علم النفس والفيزياء قد اقتربا اقترابا شديدا؛ فقد أسهمت الفيزياء الحديثة المتعلقة بالذرة والزمكان القائم على نظرية النسبية في استبعاد الطابع المادي عن المادة فعليا، وأسهم علم النفس - لا سيما في شكل المدرسة السلوكية - في إضفاء طابع مادي على العقل. ومن وجهة النظر الداخلية للاستبطان، يتألف الواقع العقلي من أحاسيس وصور. ومن وجهة النظر الخارجية للملاحظة، تتألف الأشياء المادية من أحاسيس وأشياء محسوسة؛ ومن ثم يصبح من الممكن ظهور نظرية موحدة بعض الشيء عن طريق تناول الاختلاف الأساسي باعتباره اختلافا من حيث التنظيم؛ فالعقل هو بنية مؤلفة من مواد منظمة بطريقة معينة ، والدماغ بنية مؤلفة من المواد نفسها تقريبا لكنها منظمة بطريقة أخرى.
ومن المدهش أن إحدى السمات اللافتة لوجهة النظر هذه هي مدى اتساقها مع مذهب المثالية. كما ورد آنفا، اتهم راسل جيمس بالتعلق بأسمال مذهب المثالية. ولكنه هنا يعكف على التأكيد على شيء يكاد يكون غير قابل للتفرقة؛ وهو أن العقول مؤلفة من مدركات محسوسة - أي الأحاسيس والصور - وأن المادة وهم منطقي مؤلف من انطباعات مدركة غير محسوسة. وفي هذه المرحلة كان راسل قد أصر (باستخدام مصطلحاته الأولى) كثيرا على أن البيانات الحسية والأشياء المحسوسة هي كيانات «مادية»، تقريبا بالمعنى الذي وفقه من الممكن أن تكون تلك المعلومة حاضرة كنبضات في عصب ما أو نشاط في دماغ، وذلك إذا كنا نتحدث عن معلومة من البيانات الحسية في جهاز عصبي. ولكن الأعصاب والأدمغة - باعتبارها أشياء قائمة على النظرية المادية - يجب أن تفهم في حد ذاتها على أنها أبنية مؤلفة من الأحاسيس والأشياء المحسوسة - وليس من «المواد المادية» حسب الفهم التقليدي - وهو مفهوم أثبتت الفيزياء أنه يتعذر الدفاع عنه. وفي نهاية كتاب «تحليل العقل» يقول راسل وفقا لذلك إن «أي وصف علمي نهائي لما يجري في العالم - إذا كان من الممكن التحقق منه - من الممكن أن يشبه علم النفس أكثر مما يشبه الفيزياء ... (لأن) علم النفس أقرب لكل ما هو موجود» (تحليل العقل، ص305، 308). ويفسر ذلك الادعاء المعروف الذي ينسب إلى راسل بأن «الأدمغة تتألف من أفكار» وأنه حين يتأمل عالم الفسيولوجيا دماغ شخص آخر، فإن ما «يراه» هو جزء من دماغه هو (شيلب، فلسفة برتراند راسل، ص705).
يصعب على أنصار الرؤى الأكثر تشددا للمذهب المادي تقبل هذا الجانب من رأي راسل. بيد أن هذه ليست الصعوبة الوحيدة التي تتسم بها رؤيته للأحادية المحايدة؛ فمن أهم الصعوبات الأخرى أنه فشل في هدفه الأساسي، وهو دحض وجهة النظر القائلة بأن الوعي ضروري للتفرقة بين الظواهر العقلية والمادية. لم يحاول راسل بالطبع تحليل الوعي بهدف التخلص منه، بل كان هدفه بالأحرى هو تقليص أهميته لمسألة العقل والمادة. ولكن الصور والمشاعر والأحاسيس - التي تؤدي دورا مهما في نظريته - تظل بكل صلابة ظواهر «واعية»، أما الأشياء المحسوسة (وهي غالبا ما تكون غير محسوسة) - وتكون القسم الأكبر من المادة - فليست واعية. تقبل راسل هذا الجانب، ولكنه حاول تحديد معيار للاختلاف لا يستغل هذه الوقائع، وهو معيار العضوية في مناطق سببية مختلفة. ولكن رغم أن ذلك الاختلاف مشكوك في أمره - وحتى إذا كان موجودا فربما يكون مستعصيا في الغالب على الملاحظة - فإن الاختلاف القائم على أساس الوعي واضح للغاية.
وفي سياق متصل، لا يمكن استبعاد القصدية التي يتسم بها الوعي من حسابات المعرفة؛ إذ يتعذر تفسير التذكر والإدراك من دونها. وأقر راسل لاحقا بهذه النقطة، وذكرها في كتاب «تطوري الفلسفي» باعتبارها مبررا لعودته إلى موضوع الإدراك والمعرفة في كتاباته اللاحقة.
انتهى المطاف براسل إلى رفض الفكرة - وهو موقف غير مرض على الإطلاق من وجهة نظر نظرية من المفترض أن تكون «محايدة» و«أحادية» في الوقت نفسه - القائلة بأن الصور والمشاعر هي عقلية بالأساس، بمعنى أنها ليست قابلة للاختزال كليا في المادة المحايدة؛ إذ يقول في مقالة كتبها في فترة متأخرة: «لا يصير الحدث عقليا أو ماديا بفعل أي صفة جوهرية، بل فقط بفعل علاقاته السببية؛ فمن الممكن أن يتسم حدث ما بالعلاقات السببية التي تميز الفيزياء والعلاقات السببية التي تميز علم النفس. وفي تلك الحالة، يصبح الحدث عقليا وماديا في آن واحد» (كتاب «صور من الذاكرة» (1958)، ص152). وهذا هو ما كان ينبغي أن يحاول أن يبرهن عليه - التماسا للاتساق - في كتاب «تحليل العقل» نفسه، حيث تتسم الأحاسيس فقط بهذا الطابع. ولكن وجهة النظر هذه تؤدي بدورها إلى مشكلة أخرى، وهي أنها تتعارض مع وجهة نظر عاد إليها راسل بعد كتاب «تحليل العقل»، ومفادها أن أسباب المدركات الحسية تستنتج من حدوث المدركات الحسية نفسها. وكما ورد آنفا، كان راسل مترددا بين تناول الأشياء المادية باعتبارها أبنية مؤلفة من الأشياء المحسوسة وبين تناولها باعتبارها كيانات تستنتج على أنها أسباب الإدراك ؛ واحتفظ بوجهة نظره الأخيرة هذه في كتاب «مشكلات الفلسفة» ثم عاد إليها بعد كتاب «تحليل العقل». ولكن ظاهريا سيحتاج المرء إلى علاقة دقيقة بين موقفه من الميتافيزيقا وموقفه من نظرية المعرفة لكي يؤمن بأن العقول والأشياء تتألف من مادة واحدة، وأن الأشياء هي المسببات المستنتجة الخارجية المجهولة لما يحدث في العقول؛ ومن ثم فإن تلك الجوانب من الإرث الذي تركه كتاب «تحليل العقل» في فكره تتسبب في معضلات كبيرة تواجهها آراؤه اللاحقة المتعلقة بالموضوع.
مذهب الواقعية والإدراك
كان من أهم الأسباب التي دفعت راسل ليعود إلى وجهة نظر قائمة على الواقعية والاستنتاج بخصوص الأشياء المادية؛ الصعوبة الكامنة في مفهوم البيانات الحسية غير المحسوسة أو - حسب المصطلحات اللاحقة - المدركات الحسية. وكما سبقت الإشارة آنفا، كانت الفكرة تقوم على استبدال الكيانات المستنتجة لتحل محلها الكيانات ذات البنية المنطقية، وذلك تطبيقا للأسلوب التحليلي. فإذا كان من الممكن بناء الأشياء المادية بطريقة منطقية من البيانات الحسية الفعلية والمحتمل حدوثها، يترتب على ذلك تحقيق مطلبين في الوقت نفسه: تصبح النظرية قائمة على أساس تجريبي، وتشذب الكيانات المستنتجة بفعل مبدأ نصل أوكام. ولكن من الواضح - وسبق مناقشة هذه النقطة - أن فكرة البيانات الحسية غير المحسوسة (أو المدركات الحسية غير المدركة) ملتبسة - إن لم تكن متناقضة فعلا - وذلك على أقل تقدير. فمن المنطقي - مع أنه من المشكوك فيه من الناحية الميتافيزيقية، دون وجود تفسير دقيق - أن نتحدث عن وجود «احتمالات» للإحساس؛ ولكن ليس من المنطقي أن نتحدث عن وجود «أحاسيس محتمل حدوثها» (راجع تعريف الأشياء المحسوسة الذي قدمه راسل باعتبارها كيانات لها «الحالة الميتافيزيقية والمادية نفسها كبيانات حسية دون أن تكون بالضرورة بيانات تدخل لأي عقل»). ولو كان الاختيار ينحصر بين الجزئيات المادية المستنتجة وبين الأفكار المدركة غير الفعلية الموجودة دون أن يدركها أحد، لأصبح من الأفضل فيما يبدو أن نختار الخيار الأول. وهذا هو فعليا ما بدأ يعتقده راسل في نهاية المطاف؛ وهكذا رفض الأحاسيس غير المحسوسة. ولكنه لم يعد إلى الشكل الأبسط من الواقعية القائمة على الاستنتاج التي كان يؤمن بها في كتاب «مشكلات الفلسفة»؛ وكان يدخر شيئا أكثر براعة - وإن كان لم يحقق نجاحا أكبر - سيرد الحديث عنه بعد قليل.
كان من أهم الأسباب التي دفعت راسل للعودة إلى الواقعية هو إقراره بأن مفهوم السببية مبهم من وجهة نظر مذهب الظواهر. تؤثر الأشياء الموجودة في العالم بعضها في بعض فيما يبدو تأثيرا سببيا بطرق يصعب تفسيرها تفسيرا مناسبا من خلال تقارير الخبرات الحسية. فضلا عن ذلك، حين تعتمد نظرية الإدراك على السببية تصبح طريقة طبيعية وقوية لشرح كيفية تنشأة الخبرة نفسها. في فلسفة العلوم الناضجة التي تحدث عنها راسل في كتابه «تحليل المادة» (1948)، لم يختر راسل وجهة نظر لوك التي تقول إن مدركاتنا الحسية تشبه أصولها السببية - ما يسمى نظرية «أصل الصورة» - لأنه يتعذر علينا الاطلاع مباشرة على الأشياء؛ ومن ثم يتعذر علينا أن نعرف صفاتها وعلاقاتها. وأخذ يؤكد في هذه المرحلة أن التغيرات التي تطرأ على العالم وعلى أفكارنا المدركة تترابط - أو تتغاير - على الأقل بخصوص رتب الأشياء الموجودة في العالم التي يستطيع جهازنا الإدراكي تسجيلها (فعلى سبيل المثال، نحن لا ندرك الإلكترونات التي تحتشد في الطاولة؛ لذلك لا يوجد تغاير بين العالم والإدراك في ذلك المستوى). إن التقابل بين المدركات الحسية والأشياء هو تقابل من حيث «البنية» على المستوى المناسب: «أيا كان ما نستنتجه من الأفكار المدركة، فإن البنية هي وحدها ما نستطيع أن نستنتجه استنتاجا صحيحا؛ والبنية هي ما يرمز إليها المنطق الرياضي» (تحليل المادة، ص254). وهذا معناه أنه يجب أن نتخذ موقفا «لاأدريا» حيال معظم الخواص الرياضية للعالم المادي، وهي الخواص التي تصفها الفيزياء (تحليل المادة، ص270).
أدرك راسل في آخر الأمر أن أكثر شيء أساسي في العالم من الناحية الميتافيزيقية هو على الأرجح «الحدث». تتكون الأشياء من الأحداث على النحو التالي: العالم عبارة عن مجموعة من الأحداث، معظمها يتجمع حول عدد وفير من «المراكز»، وبهذا تكون «الأشياء». وتتشعب كل مجموعة إلى «سلاسل» من الأحداث، فتتفاعل مع السلاسل التي تتشعب من المراكز الأخرى وتؤثر فيها، ومن بين تلك المراكز الأخرى الأشخاص المدركون. وحين تتفاعل سلسلة مع الأحداث التي تكون جهاز الإدراك لأحد الأشخاص المدركين، تصبح الحلقة الأخيرة من السلسلة عبارة عن مدرك حسي . وما دام كل شيء يتكون أساسا من الأحداث، فإنها تكون فعليا «المادة المحايدة» التي تتألف منها العقول والأشياء المادية. والعقول عبارة عن مجموعات من الأحداث تربطها علاقات «عقلية»، وأهمها التذكر؛ بخلاف ذلك لا يوجد أي اختلاف ميتافيزيقي بين العقل والمادة. وأخيرا فإن العلاقات البينية التي تجمع سلاسل الأحداث هي ما تصفه قوانين السببية العلمية.
ساعدت وجهة النظر هذه راسل على صياغة الحجة التي ظل طويلا يحاول عرضها بطريقة مقنعة، وهي أن المدركات الحسية أجزاء من الأشياء. وفق وجهة النظر هذه لا تتألف الأشياء من أحداث، وتكون الأحداث بدورها عبارة عن الأفكار المدركة لتلك الأشياء؛ بل يوجد فقط أحداث تكون الشيء، وبعض هذه الأحداث عبارة عن مدركات حسية؛ وهذه هي الأحداث النهائية للسلاسل المتشعبة من الشيء، وتتفاعل تلك المدركات الحسية مع الأحداث التي تكون الشخص المدرك.
لا تقوم هذه النظرية على الاستنتاج بالمعنى السابق الذي تخمن فيه أسباب المدركات الحسية - التي تقع فيما وراء نقاب من الإدراك على نحو يتعذر الوصول إليها - من طبيعة المدركات الحسية نفسها؛ بل يأتي الاستنتاج من أحداث نهائية معينة، تحديدا المدركات الحسية - والتي هي (للتعبير عن الأمر بطريقة استكشافية) عبارة عن تفاعلات بين الأحداث «العقلية» وذلك المستوى البنيوي الموجود في بقية عالم الأحداث الذي تستطيع الأحداث «العقلية» أن تتفاعل معه - وصولا إلى مجموعات وسلاسل الأحداث التي تكون العالم بأكمله.
في كتاب «تحليل المادة» يركز صميم النظرية على فكرة أن معرفة العالم معرفة بنيوية بحتة؛ فنحن نعرف صفات المدركات الحسية وعلاقاتها وكذلك بنيتها، ولكننا لا نعرف إلا بنية الأحداث الخارجية، وليس صفاتها. ويذكرنا هذا بعض الشيء - فيما يبدو - بالفارق بين الصفات الأولية والثانوية الذي تحدث عنه لوك، ولكن الأمر ليس كذلك؛ إذ يقول راسل إن كل ما نستطيع استنتاجه من مدركاتنا الحسية هو بنية صفات الأشياء وبنية علاقاتها، وليس الصفات والعلاقات نفسها؛ وإن ذلك هو الحد النهائي للمعرفة.
يعتري هذه النظرية خطأ فادح، سرعان ما تعرف عليه عالم الرياضيات إم إتش إيه نيومان وعرضه في مقال نشره عقب ظهور كتاب «تحليل المادة». ويكمن الخطأ في أنه ما دامت معرفتنا عن بنية الأحداث ليست محض نتيجة لافتراضنا لوجودها، بل هي أساسية بكل وضوح، يترتب على ذلك أنه لا يمكن أن تقتصر معرفتنا القائمة على الاستنتاج على أسئلة البنية فقط؛ وذلك لأنه - كتشبيه تقريبي - من الممكن أن يصبح عدد من العوالم المختلفة قابلا للتعريف على نحو تجريدي باعتبارها تتسم بالبنية نفسها، ولو كانت فعلا هكذا، لعجزت معرفة بنيتها فقط عن الفصل بينها، ولعجزت تحديدا عن تمييز العالم «الحقيقي» من بينها. فإذا كان العلم حقا يتألف من اكتشافات عن العالم تتحقق من خلال الملاحظة والتجربة، فمن ثم لا يمكن تقليص الفارق بين ما نلاحظه وبين ما نستنتجه إلى فارق بين البنية البحتة والصفات.
كتب راسل خطابا يتسم بتسامحه المعهود ووجهه إلى نيومان يقر فيه بهذه النقطة قائلا: «إنك توضح تماما أن عباراتي التي تفيد بأنه لا شيء يعرف عن العالم المادي فيما عدا بنيته هي إما خاطئة أو سطحية، وأشعر بالخجل بعض الشيء لأنني لم ألحظ ذلك بنفسي.»
في هذه المرحلة أصبح من المألوف أن الخيط المشترك الذي يربط بين وجهات نظر راسل الأولى واللاحقة هو رغبته في التوفيق بين العلم والإدراك؛ بهدف تأسيس العلم على اليقين النسبي الذي يتسم به الإدراك؛ ومن ثم إمداده بالمبررات. وقد رأى راسل أن المشكلة الأساسية في أي مسعى من هذا النوع هي تأمين الانتقال من الإدراك إلى الأشياء الموجودة في النظرية المادية. وحسب وجهة نظره، يجب أن يكون هذا الانتقال إما قائما على الاستنتاج - وفيه يأخذنا من البيانات الحسية الراسخة إلى شيء آخر - وإما أن يكون انتقالا تحليليا، بمعنى أنه عبارة عن عملية تكوين للكيانات المادية من المدركات. وحسب وجهة النظر اللاحقة التي سبقت الإشارة إليها، يتمتع الاستنتاج بمزية خاصة تتفوق على النظريات المألوفة القائمة على الاستنتاج، وهو أنه خلال عملية الاستنتاج لا يتم الانتقال من نوع من الأشياء إلى نوع آخر، بل من جزء داخل الشيء إلى أجزاء أخرى.
في آراء راسل الأولى، وفق بين الواقع الأولي والبيانات الحسية وكون كل الأشياء الأخرى من هذه العناصر. وحسب وجهة النظر اللاحقة، ينتمي الواقع إلى الأحداث باعتبارها الكيانات النهائية، ويظهر تغير مهم في محور التركيز هنا؛ وهو أن المدركات الحسية تظل مباشرة ويقينية مثل أي شيء، ولكنها لا تفسر على أنها يجب أن تمثل العالم المادي بدقة، وهو العالم - في الصورة التي يقدمها العلم باعتبارها أقوى طريقة لفهمه - الذي يختلف على أي حال اختلافا شديدا عن النحو الذي يظهر عليه.
الاستنتاج والعلم
ومع ذلك، وعلى نحو ذي مغزى، تظل لدينا مشكلة مألوفة وكبيرة فيما يتعلق بما إذا كانت الاستنتاجات التي تنتقل من الإدراك إلى العالم آمنة. كان قسم كبير من هدف راسل في كتاب «المعرفة البشرية» هو عرض المبررات التي تكون على أساسها هذه الاستنتاجات آمنة. وطوال تفكيره في العلاقة بين الإدراك والعلم، كان مقتنعا بأن المعرفة العلمية تتطلب معرفة شيء ما معرفة بديهية مسبقة. وكان يعتقد في البداية، كما ذكر فيما سبق، أن المبادئ المنطقية البحتة توفر مثل تلك المعرفة. ولكنه لاحظ في هذه المرحلة أن المنطق وحده غير كاف؛ إذ يجب أن نعرف شيئا أكثر مادية. وكان الحل الذي قدمه هو أن نقول إن الاستنتاج انتقالا من الإدراك إلى الأحداث مبرر في ضوء «مسلمات» بديهية مسبقة معينة تعرض وقائع مشروطة الحدوث بخصوص العالم. وتذكرنا وجهة نظر راسل فورا بأطروحة كانط القائلة بأن امتلاك «معرفة مسبقة بديهية تركيبية» هو شرط لإمكانية المعرفة عموما، وهي وجهة نظر يرفضها راسل بقوة في مقدمة كتابه «المعرفة البشرية». ويأتي شرح الاختلاف في العرض المقتضب القائم على الاحتمالات الذي رأى راسل - في آخر محاولاته الكبرى لوضع نظرية من نظريات المعرفة - أنه كل ما يمكن أن يأمل في تحقيقه.
يفسر ملمحان للنهج الذي اتبعه راسل في كتاب «المعرفة البشرية» هذه النتيجة: أحدهما هو أنه أصبح يعتقد في هذه المرحلة أنه ينبغي فهم المعرفة في سياق «طبيعي»، بمعنى اعتبارها من مقومات ظروفنا البيولوجية، وأن يجمع بينها وبين طريقة بناء العالم . والآخر هو أنه اضطر إلى استغلال فكرة أن البيانات الأساسية للمعرفة غير مؤكدة على الإطلاق، بل فقط موثوقة إلى درجة ما على أقصى تقدير. وتدخل هذه النقطة الثانية في التطوير التفصيلي لوجهات النظر الواردة في كتاب «المعرفة البشرية». وتظهر النقطة الثانية كلما احتاج راسل إلى تبرير المبررات التي يحاول كتاب «المعرفة البشرية» أن يؤسس عليها المعرفة العلمية.
حين تكون للبيانات مصداقية معينة بمعزل عن علاقاتها بالبيانات الأخرى، يصفها راسل بأنها تتسم بدرجة من المصداقية «الجوهرية». وتقدم القضايا التي تتسم بشيء من المصداقية الجوهرية الدعم للقضايا التي تستنتج منها؛ وعندئذ يصبح السؤال الأساسي هو: كيف تنقل القضايا التي تتسم بدرجة ما من المصداقية تلك المصداقية إلى الفرضيات العلمية؟ ومن الممكن صياغة السؤال بطريقة أخرى؛ وذلك بأن نسأل: إلى أي مدى من الممكن أن تقوم إفادات الملاحظة والتجربة مقام الدليل؟ وهذه هي المرحلة التي تدخل فيها المسلمات التي تحدث عنها راسل.
توجد خمس مسلمات؛ المسلمة الأولى - وهي «مسلمة شبه الدوام» - تهدف إلى أن تحل محل الفكرة العادية القائلة بوجود شيء دائم: «إذا فرضنا أن أي حدث هو أ، يحدث كثيرا جدا - في أي وقت قريب - أن يوجد حدث مشابه جدا ل «أ» في مكان قريب.» وبهذا تحلل الأشياء التي تتسم بالمنطق السليم إلى سياقات من الأحداث المشابهة. ويعود أصل هذه الفكرة إلى التحليل الذي أجراه هيوم ل «هوية» الأشياء من حيث ميلنا لاعتبار أي تتابع من الأفكار المدركة المتشابهة أنه دليل على كونها شيئا مفردا، ومثال ذلك حينما تنتابك أفكار مدركة عن شجيرة ورد كلما دخلت إلى الحديقة؛ ومن ثم تحسب أنه توجد شجيرة ورد واحدة دائمة، حتى في حالة عدم حضور أشخاص مدركين.
المسلمة الثانية - وهي «مسلمة الخطوط السببية القابلة للتفرقة» - تقول إنه «كثيرا ما يكون من الممكن تكوين سلسلة من الأحداث - من عضو أو عضوين من السلسلة - حتى يتسنى استنتاج شيء ينطبق على كل الأعضاء الآخرين.» على سبيل المثال، يمكننا أن نتابع كرة بلياردو طوال مباراة بلياردو؛ ويرى المنطق السليم الكرة باعتبارها شيئا مفردا يغير مكانه، ويمكن تفسير ذلك وفقا لهذه المسلمة بتناول الكرة وحركاتها باعتبارها سلسلة من الأحداث يمكن عن طريق بعضها استنتاج معلومات عن الأحداث الأخرى.
المسلمة الثالثة هي «مسلمة التتابع المكاني الزماني»، وتهدف إلى نفي وجود «نشاط عن بعد»؛ إذ تقضي المسلمة أنه إذا كانت هناك علاقة سببية بين حدثين ليسا متجاورين، فلا بد من وجود سلسلة من الحلقات الوسيطة بينهما. ويعتمد الكثير من استنتاجاتنا التي تأخذنا إلى أحداث خفية عن الملاحظة على هذه المسلمة.
المسلمة الرابعة هي «المسلمة البنيوية»، وتقول بأنه «عند وجود عدد من العناصر المركبة المتشابهة البنية المصطفة حول مركز في مناطق غير متباعدة، فعادة تنتمي كلها إلى خطوط سببية تنشأ من حدث له البنية نفسها في المركز.» وتهدف هذه المسلمة لفهم فكرة وجود عالم من الأشياء المادية المشتركة لدى كل المدركين. فإذا استمع ستة ملايين نسمة إلى خطبة رئيس الوزراء المنقولة عبر المذياع، وعند مقارنة ملاحظاتهم اكتشفوا أنهم سمعوا أشياء متشابهة للغاية، يحق لهم أن يؤمنوا بأن سبب هذا أمر منطقي؛ وهو أنهم جميعا سمعوا الشخص نفسه يتكلم عبر موجات الأثير.
المسلمة الخامسة والأخيرة هي «مسلمة قياس التشبيه»، وتقول بأنه «بفرض وجود فئتين من الأحداث هي «أ» و«ب»، وبفرض أنه كلما لاحظنا «أ» و«ب» كلتيهما يوجد سبب يدفعنا إلى الاعتقاد بأن «أ» تسبب «ب»، إذن عند ملاحظة «أ» في أي حالة معينة - لكن دون أن يكون هناك سبيل لملاحظة ما إذا كانت «ب» تحدث أم لا - فمن المرجح الاعتقاد بأن «ب» تحدث، والأمر عينه يحدث عند ملاحظة «ب» دون أن يكون هناك سبيل لملاحظة حضور أو غياب «أ».» وهذه المسلمة واضحة بذاتها (المعرفة البشرية، ص506-512).
يقول راسل إن الغرض من المسلمات هو تبرير الخطوات الأولى التي نتخذها نحو العلم؛ فهي تعرض ما يجب أن نعرفه - فضلا عن الوقائع التي نلاحظها - لكي تصبح الاستنتاجات العلمية صحيحة؛ وبهذا نحن لا نبرر العلم الحديث نفسه، بل مكوناته الأولية، وهي نفسها تستند إلى التجربة المبنية على المنطق السليم.
ولكن ما هو معنى «نعرف» هنا؟ حسب وجهة نظر راسل، فإن المعرفة المتضمنة في عبارة «معرفة المسلمات» هي نوع من «المعرفة الحيوانية»، التي تنشأ بوصفها معتقدات معتادة ناجمة عن خبرة تفاعلنا مع العالم. وهي أبعد ما تكون عن كونها معرفة يقينية. ونظرا لحالة العالم هذه، يقول راسل:
بعض الوقائع تكون أحيانا في الواقع دليلا على وقائع معينة أخرى؛ ونظرا لأن الحيوانات تتأقلم مع بيئتها، نجد أن الوقائع التي هي في الواقع دليل على وقائع أخرى تثير توقع حدوث تلك الوقائع الأخرى. وعند تأمل هذه العملية وتنقيحها، نصل إلى قوانين الاستنتاج الاستقرائي. وتكون هذه القوانين صالحة إذا كان للعالم خصائص معينة نؤمن جميعا بأنه يتسم بها. (المعرفة البشرية، ص514-515)
هذه الخصائص هي الوقائع القائمة على المنطق السليم التي تجسدها المسلمات فعليا، ويتسنى لنا أن «نعرفها» في هذا السياق؛ فهي متضمنة في الاستنتاجات التي نصوغها، وعادة ما تنجح استنتاجاتنا؛ ومن ثم يمكن اعتبار أن المسلمات تثبت نفسها على نحو ما.
ومع أن راسل يرى المسلمات باعتبارها شيئا نعرفه معرفة بديهية مسبقة، فمن الواضح أن وضعها شاذ؛ فهي في حقيقتها تجريبية من أحد النواحي؛ لأنها إما تسجل الخبرة أو توحي بها الخبرة. وما يمنحها وضعها البديهي المسبق هو أنها «تعامل بوصفها أمورا معروفة» بمعزل عن الإثبات التجريبي (إلا على نحو عملي غير مباشر)، بدلا من أن تعتبر مبادئ عامة بحاجة إلى مبرر من ذلك النوع. وقد اختار راسل فعليا بعض المعتقدات العامة المشروطة التي تفيد خصوصا في أن تكون مقدمات فيما يخص التفكير في العالم، ورفعها إلى منزلة المسلمات. وتبريرها غير المباشر بدوره هو أنها - عموما أو بناء على نتائج تطبيقها - تفلح. وإذا أضفنا ذلك إلى الطموح المتواضع للغاية الذي يكنه راسل لنظرية المعرفة في كتاب «المعرفة البشرية» - لم يعد غرض الكتاب هو البحث عن أساس يقيني للمعرفة بقدر الإمكان، بل يقتصر فحسب على كونه عرضا لأحكام الخبرة التي يضمن اتباعها أن يصبح التفكير العلمي مقبولا - فربما يكون هذا كافيا. كما أن هذه المسلمات لا تدعي أنها رد فعل على الرؤية المتشككة، أو عرض دقيق للاستنتاج غير البرهاني.
هذه الجمل الأخيرة توحي بالسبب في أن حجج راسل في كتاب «المعرفة البشرية» لاقت استجابة فاترة؛ مما خيب أمله كثيرا. كان يدرك جيدا أن قوانين الأدلة والاستنتاج العلمي لا تستحق الاستقصاء إلا إذا كنا واثقين - إذا فهمنا تلك القوانين فهما صحيحا - من أنها ستأتي بمعرفة مشروطة جوهرية عن العالم. ولكن أهم ما تثبته حجة راسل هو أن المبادئ العامة التي يعتمد عليها تفكيرنا التجريبي نجحت - حتى الآن - إلى حد كبير. ولكن هذا يبدو تماما مثل ذلك النوع غير المدعم من الاستنتاج الاستقرائي الذي كان راسل حريصا على التحذير منه، مستشهدا بمثال الدجاجة التي أخذ يزداد رضاها عن العالم لأنها تجد من يطعمها يوميا حتى جاء يوم وقوعها في يد الجزار. يوجد حدود للتبرير العملي؛ تخيل أن هناك شخصا يساعد على نمو الطماطم في حقله بالدعاء فقط، فيحصل على بعض الطماطم كل عام، وأن شخصا آخر يروي الطماطم في حقله ويسمدها، فيحصل على محصول طماطم أوفر كل عام؛ ومع ذلك، ربما يرى المزارع الأول أن حصوله على بعض الطماطم مبرر عملي للدعاء. وعليه، فإن نجاح مبادئنا حتى الآن ليس سببا كافيا للقول بأنها تفي بالمعايير العلمية.
وتحديدا، ليس هناك ما يضمن ألا يؤدي استخدام المسلمات إلى القول الباطل، إما أحيانا أو بطريقة ما منتظمة تتخفى خلف مواقف من نوعية موقف المزارع الذي يدعو. وهذه الاحتمالية هي التي دعت راسل لئلا يتوقع إلا أقل القليل من نظرية المعرفة. إذن يجب أن تكون الشكوى هي أن الحجة الواردة في كتاب «المعرفة البشرية» هي عبارة عن اعتراف بالفشل، وذلك في ضوء تراث نظرية المعرفة. لقد طرح ديكارت ومن جاءوا بعده في الفلسفة الحديثة أسئلة عن طبيعة المعرفة وكيف نحصل عليها بدقة، وذلك حتى يتمكنوا من التمييز بين بعض المساعي - الخيمياء والتنجيم والسحر، مثلا - ومساع أخرى - الكيمياء وعلم الفلك والطب، مثلا - والتي لم تختلف فقط من حيث عدد التطبيقات المفيدة حقا التي تقدمها، بل من حيث إطلاعنا على شيء صحيح عن العالم؛ فضلا عن ذلك، تفسر الفكرة الثانية الأولى، وتفسح المجال أمام المزيد من التعمق في كلتا الفكرتين. علاوة على ذلك، ربما تتعرض آراؤنا السابقة المتحيزة ومعتقداتنا الحيوانية للتفنيد في أثناء ذلك، وهو ما يحدث فعلا؛ لأن العالم الذي يصوره العلم يختلف اختلافا ملحوظا عن العالم القائم على المنطق السليم. ولكن راسل يقول في كتاب «المعرفة البشرية» إن منفعة التطبيقات وتلك المعتقدات الحيوانية نفسها هي عوامل التبرير النهائية الوحيدة التي يمكن أن نأمل في تحقيقها في نظرية المعرفة. وهذا يقل كثيرا عما يهدف مشروع نظرية المعرفة إلى تحقيقه عادة، وهو يقل كثيرا عما كان راسل نفسه يأمل في تحقيقه حين بدأ يتولى مهمة وضع نظرية المعرفة قبل ذلك بعقود طويلة.
الفصل الرابع
السياسة والمجتمع
مقدمة
أسهم راسل إسهاما كبيرا في المناقشات التي دارت حول الأخلاق والسياسة والدين والتعليم وقضايا الحرب والسلام. ولم ير هذه الإسهامات باعتبارها إسهامات فلسفية بالمعنى الضيق للكلمة. فكما يوضح الفصل السابق، كان يرى الفلسفة باعتبارها فرعا فنيا من فروع المعرفة يتناول الأسئلة المجردة التي تعنى بالمنطق والمعرفة والميتافيزيقا. وهذه المناقشات الأخرى في المقابل - في رأيه - عبارة عن قضايا تتعلق بالعاطفة والرأي، وترتبط بالنواحي العملية للحياة. وقد أقر راسل بإمكانية وجود تحليل للخطاب الأخلاقي والسياسي في إطار صوري؛ أي كدراسة منهجية تتناول منطق الخطابات الأخلاقية والسياسية بدلا من جوهرها؛ ولكن ما كان يهمه هو القضايا العملية والمشكلات الواقعية، خاصة بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى.
ومع ذلك تصدى راسل في بعض كتاباته لعرض أساس الأخلاق. لم يكن يحاول صياغة نظرية جديدة، بل اكتفى بوجهات النظر الثانوية التي (بعد أن أصبح اهتمامه بالقضايا العملية اهتماما جديا) كانت تتسم بطابع «نظرية العواقبية»؛ أي إنها كانت ترى أنه يجب الحكم على القيمة الأخلاقية لأفعال الناس والحكومات بالنتائج. وفي الوقت نفسه - وليس على نحو متسق مطلقا - كان يكتب وكأنه كان يؤمن بالقيمة الأخلاقية الجوهرية لأشياء معينة، مثل الخصال الشخصية كالشجاعة والشهامة والأمانة. وقدم كذلك - في بعض كتاباته الأولى - وجهة نظر غير متسقة كذلك مع هذه الآراء، مفادها أن الأحكام الأخلاقية عبارة عن أقوال مضمرة معبرة عن الموقف الذاتي. والمشكلة الأساسية التي واجهت راسل هي كيفية التوفيق بين جانبين متعارضين: من ناحية، الإخلاص لمعتقدات أخلاقية يؤمن بها بثبات وحماس، ومن ناحية أخرى، ما يبدو من انعدام وجود مبررات للحكم الأخلاقي. وازدادت الصعوبة التي تواجهه في تحقيق هذا التوفيق بفعل موقفه المتشكك حول ما إذا كانت المعرفة الأخلاقية موجودة أساسا.
لعل أفضل طريقة لوصف إسهام راسل في المجال الأخلاقي هو القول بأنه كان معلما أخلاقيا معنيا برفع مستوى الأخلاق عند الناس أكثر مما كان فيلسوفا أخلاقيا. وكان شأنه شأن أرسطو من قبله يرى الأخلاق والسياسة مستمرين؛ فلا فارق في النوع بين الحكم الأخلاقي أن الحرب شر والمطلب السياسي لتحقيق السلام؛ من ثم نجد أن فكر راسل عن الأخلاق والسياسة والمجتمع يتسم بالسلاسة والاتساق؛ مما يفسر سبب تناولها معا في أشمل كتبه عن هذه المسائل، وهو كتاب «المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة».
وفي السياسة كان راسل طيلة حياته راديكاليا وليبراليا من دون مغالاة. وبعد الحرب العالمية الأولى أصبح عضوا في حزب العمال وترشح في سباقين انتخابيين كمرشح للحزب. وقد مزق بطاقة العضوية في ستينيات القرن العشرين في استياء من دعم هارولد ويلسون للحرب التي شنتها أمريكا في فيتنام. ولكنه لم يكن اشتراكيا بالمعنى العتيق للكلمة؛ إذ لم تقنعه الماركسية حين درسها في ألمانيا في تسعينيات القرن التاسع عشر أثناء الإعداد لكتابه الأول: «الديمقراطية الاجتماعية الألمانية» (كانت «الديمقراطية الاجتماعية» تعني الماركسية آنذاك). وكان معارضا بالفطرة للاتجاه للمركزية الذي تنادي به الاشتراكية حسب مفهومها آنذاك - وكانت تلك هي السمة الوحيدة تقريبا للاشتراكية التي طبقت بالكامل في الدول السوفييتية - ولذلك جذبته أكثر الاشتراكية النقابية، وهي شكل لا مركزي من الملكية والسيطرة التعاونية يحكم الناس أنفسهم بموجبه في ظروف - على المستوى المثالي - تدمج حياتهم الاجتماعية والترفيهية والعملية.
شكل 4-1: خاض راسل الانتخابات البرلمانية متبنيا قضية منح حق التصويت للنساء في الانتخابات الفرعية في ويمبلدون عام 1907.
1
كان راسل في أفضل حالاته حين انتقد الأحوال الأخلاقية والسياسية المعاصرة. وكانت البدائل الإيجابية التي طرحها تبدو عادة غير مقنعة؛ إذ كانت عادة إما مثالية إلى حد خيالي أو على أقل تقدير - إذا أخذنا بعين الاعتبار الظروف التي قدمها فيها - غير عملية إلى حد ما. ولكن كناقد شديد القسوة لاذع الكلمات، كان في مكانة سقراط وفولتير نفسها.
لا أحد يحتاج إلى عذر أو رخصة للإسهام في المناقشات التي تتناول القضايا المهمة في المجتمع، وهي قضايا السياسة والأخلاق والتعليم. إنه واجب كل مواطن أن يشارك عن معرفة وفهم. إذن فأنشطة راسل في هذه المجالات لا تتطلب أي تبرير. ولكن يوجد سبب وجيه يفسر لماذا تتسم إسهاماته بقوة إقناع معينة. ولم يكن سبب ذلك أنه كان وريثا لتراث جليل تميز به حزب الأحرار البريطاني في المشاركة في الشئون العامة، مع أن هذا بلا شك حفز اهتمامه بالشئون العامة وإحساسه بواجب المشاركة؛ بل كان السبب هو أن اهتمامه وإحساسه بالواجب كان يدعمهما أربع مميزات قيمة: ذكاء نادر، وفصاحة واضحة الأسلوب، ومعرفة واسعة بالتاريخ، وجرأة كبيرة في وجه المعارضة؛ مما جعله مناقشا مهيبا. ولم يبد أسلوبه مفرطا في التذمر وغير ملائم إلا عند نهاية حياته، حين كان الآخرون من حوله يتحدثون ويكتبون باسمه.
لم تجد بعض أفكاره - مثل الإيمان بالحكومة العالمية - حتى الآن أي دعم يذكر. وساعدت بعض الأفكار الأخرى في تغيير وجه المشهد الاجتماعي في العالم الغربي، كما في مواقفه تجاه الزواج والأخلاق الجنسية، على سبيل المثال. وفي مجالات أخرى أيضا - تتعلق بالدين بالأخص - ساعد راسل على تحرير عقول كثيرة، ولكنه لم يكن ليندهش - عند الأخذ في عين الاعتبار فهمه للطبيعة البشرية - إذا اكتشف أن التفكير الخرافي يزدهر حاليا أكثر مما كان في عصره، وأن المعتقدات الدوجمائية - «الإيمان هو ما أموت من أجله، أما معتقداتي الدوجمائية فهي ما أقتل من أجلها.» - قد عادت بقوة.
الأخلاق النظرية
يتضح من الفكر المبكر لراسل عن الأخلاق أنه كان يؤمن بوجهة النظر الرومانتيكية الهيجلية القائلة بأن الكون خير في حد ذاته وأنه هدف مناسب «للمحبة الفكرية». وكان ماك تاجارت هو من أوحى له بقبول وجهة النظر هذه، ولكنها لم تسيطر عليه لمدة طويلة. وتوضح أول مناقشة جادة للقضايا الأخلاقية يتصدى لها راسل - وعرضها في بحثه المعنون «عناصر الأخلاق» ونشره في عام 1910 - أنه يتبع التعاليم الواردة في كتاب «المبادئ الأخلاقية» من تأليف جي إي مور، ويؤكد فيه مور أن الصلاح خاصية غير قابلة للتعريف وغير قابلة للتحليل ولكنها خاصية موضوعية لوصف الأشياء والأفعال والبشر، وأننا ندرك الصلاح عن طريق فعل قائم على حدس أخلاقي مباشر. كان مور يؤمن بشكل من أشكال مذهب النفعية، ويمكن إيجازه بأنه وجهة النظر القائلة بأن الصواب الذي نفعله في أي حالة معينة هو أي فعل من شأنه أن يؤدي إلى زيادة نسبة الخير على الشر في تلك الحالة. وأثرت آراء مور في أعضاء جماعة بلومزبري، وخصوصا في تعزيز الفكرة الجذابة القائلة بأن الصداقة والاستمتاع بالجمال هما أسمى القيم الأخلاقية. (ادعى الخبثاء ممن انتقدوا الفكرة أن أعضاء جماعة بلومزبري أعجبتهم وجهة النظر هذه لأنها أتاحت لهم فرصة التوفير - إذا جاز التعبير - بأن يكون لديهم أصدقاء يتميزون بالجمال.)
تطرح الصعوبات نفسها على الفور فيما يتصل بوجهة النظر النفعية. ومن بين هذه الصعوبات أنه يتعذر علينا معرفة العواقب المترتبة على التصرف بطريقة معينة بدلا من طريقة أخرى؛ ومن ثم قد نتسبب دون قصد في عواقب سيئة كنتيجة للتفكير المضطرب أو الأفكار الحدسية الكاذبة. ويقر راسل بهذا في رؤيته لوجهة نظر مور، ولكنه يؤكد أننا نكون قد تصرفنا تصرفا صحيحا حين نشعر بالرضا؛ لأننا أمعنا التفكير في الأمور بعناية، وبذلنا كل ما في وسعنا باستخدام المعلومات المتاحة. ومع ذلك، الادعاء بأن الصلاح أمر موضوعي هو أمر مختلف، ولم يستطع راسل أن يشعر بالرضا عن وجهة النظر هذه لمدة طويلة، فمع أنها - إن شئنا الدقة - ربما يتعذر دحضها، فلا يمكن إثبات صحتها كذلك، وخصوصا في مواجهة شخص يختلف بلا مواربة مع الفكرة الحدسية التي أعلنها غيره، والقائلة بأن الصلاح موجود في فعل بعينه أو موقف بعينه.
دفعت هذه الصعوبة راسل إلى اتخاذ وجهة النظر - التي عبر عنها في كتاب «موجز للفلسفة» (1927) - القائلة بأن الأحكام الأخلاقية ليست موضوعية - بمعنى أنها ليست صحيحة ولا كاذبة - بل إنها جمل دالة على أمر أو جمل دالة على التمني أو جمل دالة على الموقف. والجملة الدالة على الأمر هي أمر، مثل «لا تكذب.» والجملة الدالة على التمني عبارة عن خيار أو أمنية - كما يختار المرء شيئا بدلا من شيء آخر - في الحالة الأخلاقية ترمز إليها جملة «ليت لا أحد يكذب.» أما جملة «أرفض الكذب» فهي قول معبر عن موقف قائلها من الكذب. ومن الواضح أن الجمل الدالة على الأمر والجمل الدالة على التمني تفتقر إلى قيمة الصواب. ومع أن الأمر يكون بخلاف ذلك فيما يتعلق بالأقوال المعبرة عن الموقف، فهذا فقط لأنها عبارة عن أوصاف للحقيقة النفسية ذات الصلة الخاصة بقائليها؛ فلا يقال شيء صادق أو كاذب عن القيمة الأخلاقية للكذب، فما يقال يتعلق فقط برأي القائل في الكذب.
ربما يطلق على هذا الرأي - في مقابل «الموضوعية» التي كان يؤمن بها مور - «الذاتانية». وهذا المذهب يتسم بمشكلات جسيمة هو الآخر، وأهمها أنه منفر بدرجة كبيرة. فلنتأمل مثلا جريمة المحرقة النازية. فمن غير المقبول القول بأن مبرر المرء للحكم أن المحرقة النازية شر هو أنه يستنكرها فقط. شعر راسل بهذه الصعوبة بشدة؛ ولذلك حاول في مناقشته الأخيرة والمستفيضة لهذه القضايا (في كتاب «المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة») أن يصل إلى موقف يمثل حلا وسطا بين الموضوعية والذاتانية يحتفظ بالمميزات ولكن يتجنب الصعوبات الموجودة في وجهتي النظر كلتيهما.
ويؤكد راسل في كتاب «المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة» أن الأحكام الأخلاقية هي في الواقع تتعلق بخير المجتمع وأفراده. وهذه الأحكام تشمل أو تعبر عن الشعور السائد إلى حد ما في مجتمع معين حيال ما يصب عموما في مصلحة الجميع. وهذا موضوع من الممكن أن تدور حوله مناقشة عاقلة بناء على فهم علمي أو على الأقل منطقي للعالم. وكثيرا ما كاد راسل يفقد هذا الإيمان بإمكانية الحلول المنطقية للمعضلات الأخلاقية حين كان يتأمل حماقة الإنسان، ولكنه مع ذلك ظل يتمسك به.
يقول راسل إن البيانات الأساسية للأخلاق هي المشاعر والانفعالات. ووفقا لذلك فإن الأحكام الأخلاقية هي عبارة عن مشاعر متخفية تعبر عن آمالنا أو مخاوفنا أو رغباتنا أو الأشياء التي نكرهها؛ فنحن نحكم على الأشياء بأنها صالحة حين تلبي رغباتنا؛ ومن ثم فإن الخير العام - أي خير المجتمع ككل - يكمن في تلبية الرغبة تلبية كاملة، بصرف النظر عمن يتمتع بها. وعلى المنوال نفسه يكمن خير أي قسم من المجتمع في تلبية رغبات أفراده تلبية كاملة، ويكمن خير الفرد في تلبية رغباته الشخصية. وعلى هذا الأساس يمكن تعريف التصرف الصائب بالقول إنه أي شيء - في أي مناسبة معينة - من المرجح أن يؤدي إلى الخير العام (أو إذا كان يتعلق بفرد واحد فحسب، خير الفرد)؛ وهذا بدوره يمنحنا تفسيرا للواجب الأخلاقي، فكرة أنه يوجد أشياء «يجب» أن يفعلها المرء؛ وهو أنه يجب على المرء أن يفعل التصرف الصائب حسب هذا الفهم (المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة، ص25، 51، 60، 72).
يقر راسل بالطبع بوجود مشكلات في هذا الوصف، ويناقش عددا منها. فعلى سبيل المثال: يتسبب تعريف «الخير» بأنه «تلبية للرغبة» في توجيه انتقاد منطقي بأن بعض الرغبات شر، وأن تلبيتها شر أسوأ. ويتأمل راسل مثال القسوة. هل من الممكن أن يكون من الخير أن يتمنى شخص ما أن يتسبب في معاناة شخص آخر؟ وأليس من الأسوأ أن ينجح في تنفيذ أمنيته؟ يقول راسل إن تعريفه لا يقتضي ضمنا أن مثل هذه المواقف من قبيل الخير؛ أولا: لأن ذلك يتضمن إحباط رغبات الضحية؛ لأن الضحية بالطبع ترغب في تجنب المعاناة على أيدي المتسبب فيها، وثانيا: لأن المجتمع ككل لا يريد عموما أن يقع أفراده ضحايا للقسوة، وسيؤدي ذلك إلى إحباط رغباته أيضا في هذا الصدد؛ ومن ثم سيؤدي ذلك إلى زيادة هائلة في الرغبات غير المحققة عند ارتكاب فعل يتسم بالقسوة؛ مما يجعل ذلك الفعل سيئا.
ومن الصعوبات الأخرى التي يتسم بها الوصف الذي يقدمه راسل أن الرغبات قد تتعارض. ويجيب راسل عن ذلك بقوله إن هذا يتطلب منا أن نختار الرغبات التي يقل احتمال تنافسها بعضها مع بعض. ويستعير راسل مصطلحا فنيا من لايبنتس، فيطلق على الاتساق بين الرغبات أنه «التوافق» بينها. إذن يمكن تعريف الرغبات الصالحة والسيئة على أنها الرغبات المتوافقة - بالترتيب - مع أكبر عدد وأقل عدد ممكن من الرغبات الأخرى.
يخصص راسل فصلا يناقش فيه السؤال المتعلق بما إذا كانت الأحكام مثل «القسوة خاطئة» ليست إلا تعبيرات متخفية تعبر عن موقف ذاتي. وكما سبق وذكرنا، هذا السؤال مهم، وقد أزعج راسل بشدة. وتوصل راسل إلى ما قد يطلق عليه إجابته المبنية على علم الاجتماع - أن القيمة الأخلاقية هي نتاج نوع من الإجماع الاجتماعي - بعد دراسة في الاحتمالات البديلة التي تقدمها المناقشة الأخلاقية.
من الممكن عرض المشكلة بأن نذكر أن الاختلاف الأساسي بين الخطاب الواقعي العادي والخطاب الأخلاقي يكمن في وجود مصطلحات مثل «يجب» و«الخير» ومرادفاتها في الخطاب الأخلاقي. هل هذه المصطلحات جزء من «المفردات الأساسية» للأخلاق، بمعنى أنها غير قابلة للتعريف وأساسية لأي فهم للمفاهيم الأخلاقية؟ أم هل يمكن تعريفها في إطار شيء آخر، كالمشاعر والانفعالات مثلا؟ وإذا كانت الإجابة بالإيجاب عن السؤال الأخير، فهل العواطف التي نحن بصددها هي عواطف الفرد الذي يصدر حكما أخلاقيا؟ أم لها مرجعية أشمل، تعود إلى الرغبات والمشاعر البشرية؟ (المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة، ص110-111).
يذكر راسل أثناء مناقشة هذه الأسئلة أنه عند دراسة الخلافات الأخلاقية المتعلقة بما يجب فعله في حالة معينة، نجد أن الكثير من تلك الخلافات ينشأ من النزاع حول النتيجة التي ستنشأ من هذا الخيار أو ذاك. ويثبت هذا أن التقييمات الأخلاقية تعتمد على تقديرات النتائج، وأنه لذلك يمكننا تعريف «يجب» بالقول إنه يجب تنفيذ فعل ما - من بين كل الأفعال الممكنة في تلك الحالة - إذا كان هو الفعل الذي من المرجح أن يؤدي إلى أكبر قدر من «القيمة الجوهرية» (وهو تعبير يستخدمه راسل كبديل أدق عن كلمة «الخير»).
هل «القيمة الجوهرية» قابلة للتعريف؟ يعتقد راسل أنها كذلك؛ إذ يقول: «حين ندرس الأشياء التي نميل لأن نرى فيها قيمة جوهرية نجد أنها هي كل الأشياء التي نرغب فيها أو نستمتع بها؛ فمن الصعب أن نصدق أن أي شيء من الممكن أن يحمل قيمة جوهرية في كون مجرد من الوعي الأولي. ويوحي ذلك بأن «القيمة الجوهرية» قد تكون قابلة للتعريف في إطار الرغبة أو المتعة أو كلتيهما» (المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة، ص113). وما دام يتعذر أن تكون كل الرغبات ذات قيمة جوهرية لأن الرغبات تتعارض، ينقح راسل المفهوم بحيث تفهم القيمة الجوهرية باعتبارها سمة ل «حالات مزاجية» يرغب فيها من يتعرضون لها.
وبهذا التعديل يقدم راسل الموجز الآتي لوجهة نظره. إن استحساننا أو استقباحنا لأفعال معينة عادة ما يتوقف على العواقب التي نعتقد أنه من المرجح أن تنتج عنها. ونسمي عواقب الأفعال التي نوافق عليها «صالحة»، ونسمي العواقب التي نرفضها «سيئة». ونسمي الأفعال نفسها «صائبة» و«خاطئة» بالترتيب. وما «يجب» أن نفعله هو كل فعل صحيح في هذه الحالة، بمعنى كل ما من شأنه أن يؤدي إلى زيادة نسبة الخير.
ومن بين هذه النقاط تحمل النقطة الأولى القدر الأكبر من الأهمية. إذا كان التقييم الأخلاقي مسألة تعتمد على ما يوافق عليه الناس وما يرفضونه، أفلسنا عالقين في المعضلة الذاتانية، دون أسس منطقية لتوريط أنفسنا في خطأ العنصرية والتعصب والقسوة وغيرها؟ وإجابة راسل هي أنه في واقع الأمر يوافق الناس موافقة واسعة الانتشار على كل ما هو مرغوب. ويتفق مع هنري سيدجويك في أن الأفعال التي عادة ما يوافق عليها الناس هي الأفعال التي تؤدي إلى أكبر قدر من السعادة أو المتع. وإذا كان هذا يشمل تلبية الاهتمامات الفكرية والجمالية («إذا اقتنعنا فعلا بأن الخنازير أسعد من البشر، فلا ينبغي لذلك السبب أن نرحب بالخدمات التي قدمتها الساحرة سيرسي التي جاء ذكرها في الأساطير الإغريقية.» فبعض المتع مفضلة «فطريا» عن غيرها)، يصبح لدينا وسيلة للإفلات من الذاتانية؛ إذ إن وجهة النظر هذه تمنحنا إفادات عما يجب فعله، وهي ليست جملا دالة على التمني أو أوامر متخفية؛ ومن ثم تحمل قيمة صواب؛ ولكنها تستند إلى وقائع تتعلق بمشاعرنا وبتلبية رغباتنا؛ فالوقائع المتعلقة بمشاعرنا هي أساس تعريف «الصواب» و«الخطأ»، والوقائع المتعلقة بتلبية رغباتنا هي أساس تعريف «القيمة الجوهرية». وهكذا يحقق راسل نجاحا في صياغة موقف وسيط يقع بين الموضوعية والذاتانية، ويحمل نجاحه - في الوقت نفسه - شهادة معتمدة عملية على نحو دقيق إلى حد ما؛ إذ يوفر سبيلا ليس فقط لتقييم الأفعال من النوع الذي يكون عادة محل خلاف في المناقشات الأخلاقية، بل كذلك العادات الاجتماعية والقوانين والسياسات الحكومية.
بالرغم من تفاؤل راسل حيال وجهة النظر هذه، فهي تتضمن عددا من الصعوبات؛ إذ تقول في الواقع إن أساس التقييم هو إجماع الرغبات. ولكن هذا معناه أنه إذا كانت الأكثرية في مجتمع معين مستاءة من المثلية الجنسية - مثلا - فإن المثلية الجنسية إذن تعد سيئة، فيما إذا كانت الأكثرية في مجتمع أكثر تسامحا يسري فيه إجماع مختلف، فلن تكون المثلية الجنسية سيئة. هل النسبية الأخلاقية من هذه الدرجة جديرة بالتصديق؟ وتتصل هذه الصعوبة بصعوبة أخرى، وهي أنه ما دامت قيمة العواقب تقاس بقدر الرغبات التي تلبيها، فإن درجة الشر التي تتسم بها المحرقة النازية تصبح نتيجة متوقفة على درجة تفوق نسبة إحباط رغبات ضحايا النازيين ورغبات السواد الأعظم من سكان العالم - ممن قد لا يريدون أن يشيع القتل الجماعي (ربما تحسبا لاحتمال أن يقعوا هم ضحايا له) - على نسبة تلبية رغبات النازيين. وكان راسل نفسه يشعر بوجود شيء أكثر إقناعا يكمن خلف الهلع الأخلاقي الذي نشعر به حيال المحرقة النازية، ولكن مبادئه لا تشرحه.
إن أي قدر من الإلمام بالمناقشات المتعلقة بالأخلاق يوضح أن جهود راسل في هذا المجال سطحية؛ فحتى في كتاب «المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة» تتسم المناقشة بطابع نصحي أكثر منه فلسفيا. ويقوم كتاب «المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة» على عموميات سيكولوجية شاملة، ولا يحتوي إلا على إشارة واحدة عن الدقة، وهدف الكتاب هو إقناعنا بقبول منهج عملي للتقييم الأخلاقي بدلا من تقديم الأخلاق مدعمة بأساس نظري. ويعود جزء من سبب ذلك - كما ذكر فيما سبق - إلى أن راسل لم يكن يعتقد أنه يمكن تطبيق الدقة على مناقشة الأخلاق؛ فكان من المقرر في البداية أن تكون الفصول التي تتناول الأخلاق في كتاب «المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة» عبارة عن تكملة لكتاب «المعرفة البشرية»، ولكنه لم يدرجها في الكتاب، لعدم رضاه عنها، ولم ينشرها - مدعمة بفصول عن المسائل السياسية - إلا بعد أن قرر أخيرا أنه لم يستطع عرض الحجج التي تحتويها عرضا منهجيا أكثر. ولكنه لم يشك من ذلك؛ فهدفه الأساسي من الأخلاق - كما هي الحال بخصوص كل المسائل الاجتماعية التي تصدى لها - كان على كل هو الجدل. كان يتمنى أن يكون مؤثرا في طريقة حياة الناس، وكان راضيا لتوريط نفسه في مجال الدفاع عن قضايا معينة والإقناع لبلوغ تلك الغاية.
المثل الأخلاقية العملية
نال راسل جائزة نوبل في فرع الآداب، وكان الكتاب الذي ورد في حيثيات نيل الجائزة هو كتاب «الزواج والأخلاق». ألف راسل الكثير عن المسائل المتعلقة بالمثل الأخلاقية العملية، ونجد بعض أفضل ما ألفه في هذا المجال في عشرات المقالات القصيرة التي كان يكتبها للصحف، وأهمها المقالات التي نشرتها دار نشر هيرست بريس في أمريكا إبان أوائل الثلاثينيات من القرن العشرين. وفي هذه المقالات (دائما ما كانت لا تزيد عن 750 كلمة، حسبما يتطلب حجم العمود المخصص لها في صفحة الجريدة) يمنحنا راسل انطباعا بأنه سريع الملاحظة ومتسامح وعطوف ومتعقل، ولم يكن يسبق عصره فقط، بل وعصرنا نحن أيضا في الكثير من المسائل.
فلنأخذ مثلا مقاله «عن اللباقة». يقول في هذا المقال إننا نخصص للباقة والصدق مكانين منفصلين تماما، ولكن يأتي هذا على حساب أمر آخر:
كنت أمر أحيانا بجوار أطفال يلعبون في الحديقة العامة، فأسمعهم يقولون بصوت عال واضح: «ماما، من ذلك العجوز المضحك؟» فأسمع من يرد بصوت هامس مرتاع: «اسكت! اسكت!» فيدرك الأطفال إدراكا مبهما أنهم ارتكبوا شيئا خاطئا، ولكنهم يعجزون تماما عن تصور كنه ذلك الخطأ. يتلقى كل الأطفال من آن إلى آخر هدايا لا تعجبهم ويلقنهم آباؤهم أنه يجب أن يبدو عليهم وكأنهم فرحوا بالهدايا. وحين يأمرونهم كذلك بأنه يجب عليهم ألا يكذبوا، يؤدي ذلك إلى تشوش أخلاقي. («عن اللباقة»، في كتاب «البشر وغيرهم» (ألين وأنوين، 1975) ص158)
تتحدث هذه الفقرة عن التربية القائمة على اللباقة. ويقول راسل إن اللباقة من الفضائل يقينا، ولكن لا يفصلها عن النفاق إلا خيط رفيع للغاية. ويتوقف الفارق بينهما على الدافع. فإذا كان العطف يدفعنا لإرضاء شخص ما في ظروف قد تؤدي الفظاظة فيها إلى إزعاجه، تصبح اللباقة ملائمة؛ ولكنها تصبح أقل لطفا حين يكون الدافع هو الخوف من الإساءة، أو الرغبة في الحصول على ميزة بالتملق. ولا تعجب اللباقة من يتسمون بالجدية الشديدة؛ فحين زار بيتهوفن جوته في مدينة فايمار صعق حين رآه يتصرف بأدب مع مجموعة من المتملقين الحمقى. إن من يواظبون على الصدق ولا يكذبون قط بدافع التهذيب عادة ما يحظون بالتقدير، ولكن يقول راسل إن هذا سببه أن الصادقين الحقيقيين مجردون من الحسد والحقد والتفاهة. «معظمنا يدخل في تكوينه شيء من هذه الرذائل؛ ولذلك علينا أن نستخدم اللباقة لتجنب الإساءة للغير. وليس من الممكن أن نصبح جميعا من القديسين، وإذا كان بلوغ مرتبة القديسين أمرا مستحيلا، فلنا أن نحاول على الأقل أن نتجنب أن نكون سيئي الطبع.»
شكل 4-2: فاز راسل بجائزة نوبل في عام 1950، ويظهر هنا وهو يتسلمها من ملك السويد.
2
ربما تبدو هذه مادة سطحية واهية، ولكنها تتسم بالأثر العميق، وتطرح نقاطا جديرة بالدراسة والتأمل؛ فكتابات راسل الصحفية عن المسائل الاجتماعية ذات طابع ممتع ومسل ومثقف، وهو ما تميز به.
ويتناول كتاب «الزواج والأخلاق» مسائل أكبر وأكثر إلحاحا؛ فهو يركز على الجنس والحياة الأسرية. ومن وجهة نظر راسل، للمثل الأخلاقية الجنسية مصدران أساسيان: رغبة الرجال في التيقن من أنهم حقا آباء الأطفال الذين تلدهم زوجاتهم، والاعتقاد الديني بأن الجنس آثم. كان راسل مستعدا دائما لتلقي الإرشاد من العلم في عصره، وفي هذه الحالة لجأ إلى علم البيولوجيا (الأحياء) للبحث عن تفسير لأصول تلك العادة. وقد دفعه علم الأحياء إلى الاعتقاد بأن المثل الأخلاقية الجنسية في العصور القديمة كان الغرض البيولوجي منها هو توفير حماية الأبوين لكل طفل، وهو دافع يحرص راسل على الموافقة على أنه دافع وجيه. ويقول إن الكثير من الضغوط تهدد الحياة الأسرية في العصر الحديث ويجب التصدي لها؛ فالأطفال بحاجة إلى عاطفة كلا الأبوين؛ أما البديل المتمثل في ترك تنشئة الأطفال جزئيا أو حتى كليا للدولة - كما تمنى أفلاطون - فليس مستحسنا؛ فإذا تولت الدولة تنشئة الأطفال، فسينتج عن ذلك قدر مفرط من التماثل، وربما قدر مفرط من القسوة؛ ومن الممكن استغلال الأطفال الذين يربون بهذه الطريقة ليصيروا أتباعا مخلصين لمروجي الدعاية السياسية ومثيري الفتنة والاضطرابات.
ولكن فيما يتصل بالمثل الأخلاقية الجنسية - من وجهة نظر راسل - فالاتجاه الحديث نحو زيادة حرية التعبير والسلوك أمر طيب؛ فالآراء الأكثر تحررا تنشأ من تراخي قبضة المثل الأخلاقية التقليدية، ولا سيما المثل الأخلاقية الدينية؛ ويصبح السلوك الأكثر تحررا ممكنا بفعل التطورات التي حدثت بخصوص منع الحمل؛ مما وضع النساء على قدم المساواة مع الرجال من حيث التحكم في حياتهن الجنسية.
في رأي راسل، تسببت العقيدة القائلة بأن الجنس آثم في ضرر فادح، ويبدأ الضرر في الطفولة ويستمر حتى النضج في صورة النواهي وما تسببه من ضغوط. يؤدي كبت الدوافع الجنسية إلى تسبب المثل الأخلاقية التقليدية في إفساد أنواع الشعور الودي الأخرى أيضا؛ مما يجعل الناس أقل تسامحا وعطفا، وأكثر ميلا إلى القسوة والأنانية. لا بد بالطبع من أن يحكم الجنس مبدأ أخلاقي، كما هي الحال مع التجارة أو الرياضة، ولكن لا ينبغي أن يقوم «على محظورات عتيقة يعرضها غير المتعلمين في مجتمع يختلف تماما عن مجتمعنا»، ويقصد راسل بهذا تعاليم آباء الكنيسة القدماء. «ففي الجنس، كما هي الحال في الاقتصاد والسياسة، ما زال مبدؤنا الأخلاقي تهيمن عليه المخاوف التي جعلتها الاكتشافات الحديثة غير منطقية» (الزواج والأخلاق، ص196-197).
لا بد من مثل أخلاقية جديدة قوامها رفض المذهب البيوريتاني المتزمت، على أن تبنى على الاعتقاد بضرورة تدريب الغريزة وليس التصدي لها. ولا ينطوي الموقف الأكثر تحررا تجاه الحياة الجنسية على أنه من المسموح لنا أن نطيع دوافعنا ونتصرف كما نشاء؛ وذلك لأنه لا بد من وجود اتساق في الحياة، ومن بين أهم جهودنا المفيدة الجهود الموجهة نحو الأهداف الطويلة المدى؛ مما يقتضي تأجيل المتع القصيرة المدى. أيضا، لا بد من مراعاة الآخرين و«قواعد الاستقامة». ولكن ضبط النفس - كما يؤكد راسل - ليس غاية في حد ذاته، وينبغي أن تضمن الأعراف الأخلاقية أن تكون ضرورة اللجوء إليه في حدها الأدنى لا الأقصى. ومن الممكن اللجوء إلى ضبط النفس إلى الحد الأدنى في حالة حسن توجيه الغرائز بدءا من الطفولة وإلى المراحل التي تليها. ولأن الغرائز الجنسية قوية للغاية، فإن دعاة علم الأخلاق التقليديين يرون أنه لا بد من كبحها بشدة في الطفولة، خوفا من أن تصير فوضوية وبذيئة. ولكن لا يمكن أن تبنى حياة رغدة على المخاوف والمحظورات.
ومن ثم، فإن المبادئ العامة التي يعتقد راسل بأن المثل الأخلاقية الجنسية يجب أن تقوم عليها بسيطة وقليلة. أولا: ينبغي أن تقوم العلاقات الجنسية «بقدر الإمكان على تلك المحبة العميقة الجادة بين الرجل والمرأة التي تشمل الشخصية الكاملة لكل منهما، وتؤدي إلى اندماج يثري كلا منهما». وثانيا: إذا نتج أطفال عن تلك العلاقات، ينبغي رعايتهم بدنيا ونفسيا على نحو مناسب. ويعلق راسل متهكما بأن أيا من هذين المبدأين ليس شديد الفظاعة؛ إذ يدرك الخزي الذي لحق به لما عرف عنه من زنا وطلاق ومساكنة دون زواج وبسبب لا مبالاته بإخفاء كل ذلك عن العيون، وكانت كلها سلوكيات فاضحة إلى حد فادح آنذاك. ولكن المبدأين معا يعنيان ضمنا أن مجموعة القوانين الأخلاقية التقليدية قد طرأت عليها تعديلات مهمة معينة.
أحد هذه التعديلات هو أنها تسمح بدرجة مما يطلق عليه عادة «الخيانة». فإذا لم ينشأ الناس وهم يرون أن الجنس تقيده المحرمات، وإذا لم تكن الغيرة تحمل موافقة المعلمين المعنيين بعلم الأخلاق، لاستطاع الناس أن يتعاملوا بعضهم مع بعض بمزيد من الإخلاص والتسامح؛ فالغيرة تدفع الحبيبين إلى حبس كل منهما للآخر في سجن مشترك، وكأنها منحت كلا منهما حقا في السيطرة على كيان الآخر واحتياجاته. كتب راسل يقول: «لا ينبغي تناول الخيانة على أنها أمر فظيع.» إذ إن وجود «ثقة في القوة المطلقة لعاطفة عميقة ودائمة» هو رابطة أفضل بكثير من الغيرة (الزواج والأخلاق، ص200-201). ويؤكد راسل في مواضع أخرى أنه لا يوجد مبرر للاعتراض على الزواج المفتوح - كما يطلق أحيانا على ذلك النظام - بشرط ألا تنجب المرأة أطفالا من عشيق وتتوقع أن يربيهم زوجها. وقد انتهى زواجه هو ودورا جزئيا بسبب هذه المشكلة.
ويختتم راسل كتاب «الزواج والأخلاق» بالقول إن المبدأ الذي يقدمه - رغم هذه التعليقات التي تتناول الخيانة - ليس مبدأ يقوم على الفسق؛ فهو يشمل حقا قدر ضبط النفس عينه تقريبا الذي تطالب به المثل الأخلاقية التقليدية، والفارق الملحوظ هو أن ممارسة ضبط النفس تكون بالامتناع عن التدخل في حرية الآخرين بدلا من كبت حريتنا نحن. وكتب راسل يقول: «من المأمول - في رأيي - أنه عن طريق التعليم المناسب من البداية يصبح هذا الاحترام للهوية الشخصية وحرية الآخرين سهلا بعض الشيء؛ ولكن من وجهة نظر من نشأ منا وهو يرى أنه يحق لنا أن نعترض على تصرفات الآخرين باسم الفضيلة، فلا شك أنه من الصعب الامتناع عن ممارسة هذا النوع المحبب من الاضطهاد.» إن جوهر الزواج الناجح هو الاحترام المتبادل والألفة العميقة؛ فعند وجود هذه العناصر، يصبح الحب الحقيقي بين الرجل والمرأة هو «أكثر تجربة مثمرة من بين كل التجارب الإنسانية»؛ وهذا هو الهدف الذي ينبغي أن يشجعه كل من يتأملون في الزواج والأخلاق (الزواج والأخلاق، ص202-203).
وقد شعر الكثيرون آنذاك بأن آراء راسل شائنة إلى حد مروع. وتسبب كتاب «الزواج والأخلاق» في فقدانه وظيفته في نيويورك في عام 1940 (مع أنه أدى إلى فوزه بجائزة نوبل بعد ذلك بعشر سنوات - كما ذكر آنفا - وهو ما يوضح كيف من الممكن أن تكون الحياة متقلبة وغير متوقعة)، وأوحى الكتاب - وكذلك سمعته بحب صحبة النساء - إلى الكثيرين للربط بينه وبين شخصية الرجل الشهواني. ولكن ربما يمكن أن نذكر نقطتين عن هذه الآراء؛ أولاهما هي ما تتسم به من عقلانية هادئة ومتسامحة، والأخرى هي أن آراءه لم تنشأ من فراغ؛ فهي في الواقع تعبر عن موقف يشاركه فيه طليعة المثقفين اليساريين إبان عشرينيات القرن العشرين وثلاثينياته؛ إذ كانوا يرون أن حرية العلاقات الجنسية ورفض الغيرة الجنسية بمنزلة مبادئ غير مكتوبة. كان راسل يمتلك الشجاعة والفصاحة المنطقية الجازمة، وهو ما يلزم للدفاع عن هذه الأفكار أملا في تغيير وجه مجال من مجالات الحياة في أمس الحاجة إلى ذلك. ومع التغير الجذري الذي طرأ على الاتجاهات والعادات بعد ذلك بجيل - الذي أسهم فيه جزئيا نشاط راسل - فإن حججه ما زالت تستحق القراءة كعلاج فعال ضد الرجعية.
كثيرا ما تتكرر في آراء راسل عن العلاقات الإنسانية ثلاثة موضوعات؛ أولها: هو ضرر الدين، والثاني: هو ضرورة التعليم الجيد، والثالث: هو الحرية الفردية. وكل منها عبارة عن فكرة رئيسة ثابتة في فكر راسل الاجتماعي، وقد أولى راسل كلا منها اهتماما كبيرا. وسأعرض لهذه الموضوعات بالترتيب.
الدين
يفاجأ الناس حين يعلمون أن راسل لم يكن ملحدا؛ إذ كان بالأحرى لاأدريا. وقد دفعه الثبات على المبدأ إلى قبول «الاحتمال» القائل بأنه ربما يكون للكون إله، ولكنه كان يعتقد أن وجود شيء من هذا القبيل مستبعد للغاية، وأنه لو كان يوجد شيء من هذا القبيل - خاصة إذا كان أقرب إلى فكرة الله في المعتقد التقليدي للمسيحية - لكان النفور الأخلاقي للكون أكبر مما هو عليه؛ لأنه في تلك الحالة سنضطر إلى قبول فكرة أن كيانا قادرا على كل شيء يسمح - أو يشاء - بوجود الشر الطبيعي والأخلاقي في العالم («الشر الطبيعي» يعني المرض والكوارث مثل الزلازل والبراكين، وما شابه). ومن وجهة نظر راسل، ينبغي أن تكفي زيارة واحدة إلى عنابر أي مستشفى للأطفال لتجعلنا نشعر إما بأنه من غير المحتمل وجود إله، أو أنه إذا كان يوجد إله فعلا، فإنه قاس.
سئل راسل ذات مرة في واقعة شهيرة عما عساه أن يفعل إذا اكتشف عند موته أن الله موجود على كل؛ فرد أنه سيلوم الله لأنه لم يقدم أدلة كافية على وجوده. وسئل كذلك عن رأيه في «رهان باسكال»، وهو الرأي القائل بأننا ينبغي أن نؤمن بالله حتى لو كانت أدلة وجوده واهية للغاية، لأن فائدة الإيمان بالله - في حالة وجود الله - تفوق بكثير الخسارة في حالة عدم وجوده. ورد راسل بأنه إذا كان الله موجودا لاستحسن موقف غير المؤمنين لأنهم استخدموا عقولهم ووجدوا أن الأدلة التي تدعم الإيمان غير كافية.
وكان من الأساليب التي درج راسل على استخدامها رفض قبول أي قضية إلا في حالة وجود سبب وجيه يقنعه بذلك. ومن أهم أركان الحجة المستخدمة في اللاهوت الطبيعي لدعم قضية وجود الله («اللاهوت الطبيعي» معناه مناقشة مفهوم الإله بمعزل عن أي وحي معين ورد في كتب مقدسة أو تجربة صوفية) مجموعة معروفة من «البراهين على وجود الله». وقد ناقش راسل هذه البراهين في كتابه «لماذا لست مسيحيا؟» (نشر في عام 1957، وكان عبارة عن مجموعة محاضرات ألقاها للمرة الأولى في عام 1927).
أحد هذه البراهين هو حجة السبب الأول، وتقول بأن لكل شيء سببا؛ إذن لا بد من وجود سبب أول. ولكن هذه الحجة - كما يقول راسل - متناقضة مع نفسها؛ لأنه إذا كان لكل شيء سبب فكيف يمكن أن يكون السبب الأول بلا مسبب؟ حسب بعض وجهات النظر، فإن الله هو السبب المسبب بذاته (حسب أرسطو، المحرك بذاته)، ولكن هذا المفهوم غير مترابط، وإذا دل على شيء ممكن ، إذن فإما يكون مبدأ السببية الكلية الذي تستند إليه الحجة بأكملها مبدأ باطلا إذا اتضح أنه لا بد أن تكون الأسباب غير نتائجها (كما يوحي المبدأ فعلا فيما يبدو)، أو إذا كان من المحتمل أن تكون الأسباب هي مسبباتها نفسها، فلماذا يكون من المحتمل وجود سبب واحد فقط؟
وتوجد حجة ثانية تستنتج من مظاهر التدبير في الكون نتيجة مفادها أنه لا بد من وجود مدبر. ولكن من ناحية، مظاهر الخلق في الأشياء تعللها على نحو أفضل نظرية التطور، وهي نظرية لا تتضمن كيانات إضافية في الكون، وتتفق مع البيانات التجريبية؛ ومن ناحية أخرى، لا يوجد على أي حال أي أدلة على وجود تدبير «كلي» في العالم؛ حيث توحي الوقائع - باتساق مع القانون الثاني للديناميكا الحرارية، الذي يخبرنا بأن العالم يتحلل في حقيقة الأمر - بعكس ذلك تماما.
لدينا أيضا حجة ثالثة تقول إنه لا بد من وجود إله كي يوجد مبرر للمثل الأخلاقية. ومع ذلك، فهذه الحجة لا تفيد؛ لأنه كما يؤكد راسل في مكان آخر بإيجاز، قائلا: «لطالما لقننا علماء اللاهوت أن الأحكام التي يقدرها الله خير، وأنه لا سبيل لإنكار صحة هذه الحقيقة؛ إذ يترتب على ذلك أن الخير مستقل منطقيا عن أحكام الله» (المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة، ص48). وربما نضيف أنه إذا اعتبرنا أن مشيئة الإله مبرر للمثل الأخلاقية، إذن يصبح السبب الذي يدفعنا إلى التحلي بالأخلاق هو الحذر من عواقب أفعالنا؛ إذ يكمن في الرغبة في الإفلات من العقاب. ولكن هذا المبرر ليس أبدا أساسا مقنعا لتقوم عليه الحياة الأخلاقية، والتهديدات ليست على أي حال مقدمات مقنعة «من الناحية المنطقية» لأي حجة.
وتقول حجة ذات صلة - استخدمها كانط - إنه لا بد من وجود إله لإثابة الفضيلة وعقاب الشر؛ لأنه يتضح لنا من التجربة أن الفضيلة في هذه الحياة لا تقابل دائما أو حتى كثيرا بالثواب. ولكن هذا - كما يقول راسل - أشبه بالقول إنه ما دام كل البرتقال الموجود أعلى صندوق الفاكهة فاسدا، فلا بد أن البرتقال الموجود تحته في الصندوق طيب؛ وهو استنتاج مناف للعقل.
يهاجم الكثيرون من مناهضي الدين الأثر المضر للدين في العالم باعتباره يتسبب في الاضطهاد والشقاق، ومع ذلك يرون أن المسيح شخصية جذابة، ولكن موقف راسل كان مختلفا؛ إذ كان يعتبره أقل لطفا ورأفة من بوذا وأدنى منزلة بكثير من سقراط فكرا وخلقا. ويرى راسل أن بعض تصرفاته غير لطيفة؛ فمثلا حين أذبل شجرة التين - ولم يكن ليفيد أن تصير الشجرة غير مثمرة، ما دامت في غير أوان التين - وهدد بإصابة من رفضوا أن يؤمنوا به بالكرب الأبدي. ولفت راسل إلى أنه على مدى قرون طويلة ظل الناس يلقنون أن يؤمنوا حرفيا بصحة هذه التحذيرات الوحشية، ما دام ذلك كان يخدم مصالح الكنيسة. ولكن حين أشار المنتقدون في عصر أكثر إنسانية إلى مدى قبحها، بدأت الكنيسة في تغيير موقفها بالقول إنه ينبغي فهم التحذيرات فهما مجازيا.
ولكن راسل كان يوجه معظم انتقاداته ضد المسيحية نفسها كظاهرة «منظمة». وكان يكره الإيمان بالمعتقدات الخرافية - «تعتقد الكنيسة الكاثوليكية أن القس يمكنه تحويل كسرة خبز إلى جسد المسيح ودمه بالتحدث إليها باللاتينية» - وسخفه المطبق؛ فمثلا «هم يأمروننا بألا نعمل في أيام السبت، ويفهم البروتستانت هذا على أن معناه أنه ليس لنا أن نلهو في أيام الآحاد.» يرى راسل أن المسيحية تتميز على الأديان الأخرى بميلها إلى الاضطهاد؛ فالمسيحيون ضايقوا وقتلوا المنشقين واليهود والملحدين وبعضهم بعضا؛ وأغرقوا آلاف البريئات وأحرقوهن وقتلوهن بطرق أخرى بتهمة «السحر»؛ وأزهقوا حياة مئات الملايين من البشر بناء على عقائدهم المنافية للعقل المتعلقة بالخطيئة والسلوك الجنسي.
استخدم راسل في حربه على الدين أسلحة تتألف غالبا من التهكم والازدراء. كان ملما بالكتاب المقدس على نحو يفوق الكثيرين من خصومه، وكان باستطاعته أن يفحمهم باقتباس مناسب؛ ومثال ذلك حين يقول - وهو يناقش المزايا المقارنة بين الدين والعلم - إن «الكتاب المقدس يخبرنا أن الأرنب الوحشي يمضغ الطعام المجتر»؛ مما يسبب صعوبات للأصوليين عند مواجهتهم بعلم الحيوان. وفعلا لم يكن التباين بين العلم والدين ليكون على نحو أشد وضوحا. يتناول الدين حقائق مطلقة ولا تقبل الجدل تظل سارية إلى الأبد؛ أما العلم فهو أشد حذرا وترددا. يفرض الدين قيودا على الفكر، ويحرم الاستقصاء حين يتعارض مع ما تسنه الكنيسة؛ أما العلم فيتسم بسعة الأفق (الدين والعلم، ص14-16). وهذه اختلافات لافتة؛ ففي مواجهة المنطق العلمي أفضل ما يستطيع الدين أن يفعله - حين لا يحاول أن يظل أصوليا على نحو متعنت - هو إعادة تفسير النصوص المقدسة بأسلوب مجازي، والتخفي خلف الادعاء بأن الحقائق الدينية تتخطى الفهم البشري.
ولكن مع أن راسل كان معاديا للدين، فقد كان رجلا متدينا، وهذا تناقض ظاهري فحسب؛ فمن الجائز أن يكون للمرء موقف متدين للحياة دون الإيمان بوجود كائنات وأحداث خارقة للطبيعة. وفي هذا الموقف يؤدي تذوق الفن والحب والمعرفة إلى تعضيد الروح الإنسانية، وينطوي على شعور بالإجلال حيال العالم وأحبائنا، وينطوي كذلك على شعور مصاحب من الرحابة التي يكون المرء جزءا منها. وفي مقال شهير وإن كان يتسم بأسلوب متكلف - بعنوان «عبادة الإنسان الحر» - كتبه راسل تحت تأثير فشل زواجه الأول وما صاحب ذلك من تغيرات في نظرته للأمور، يعرض هذه الرؤية بعينها. ولكن كلماته تحمل بعض التحفظات المبهمة إذ يقول:
حين يتضح في البداية تعارض الوقائع والمثل العليا، يصبح من الحتمي التحلي بروح يفيض بالتمرد الناري وبكراهية جارفة للآلهة للدفاع عن الحرية. فأن نتحدى عالما معاديا بإخلاص كإخلاص بروميثيوس وأن نراقب شروره دوما، ونظل نكرهه دوما، وأن نرفض الألم الذي قد ينزله أذى السلطة المتعمد؛ هو فيما يبدو واجب كل من يرفضون الاستسلام للمحتوم. ولكن السخط ما زال قيدا، إذ يجبر أفكارنا على الانشغال بعالم خبيث؛ وفي خضم ضراوة الرغبة التي ينبع منها التمرد يوجد نوع من توكيد الذات الذي يجب على الحكماء التغلب عليه؛ فالسخط هو خضوع أفكارنا ولكن ليس رغباتنا؛ والحرية المنزهة عن الانفعال بالفرح أو الترح التي تكمن فيها الحكمة نجدها في خضوع رغباتنا، وليس أفكارنا. وتنشأ من خضوع رغباتنا فضيلة التسليم بالقضاء؛ وينشأ من حرية أفكارنا عالم الفن والفلسفة بأكمله، والقدرة على رؤية الجمال الذي من خلاله نتمكن من استعادة العالم النافر. (مقال «عبادة الإنسان الحر»، 1903، أعيد طبعه في كتاب «التصوف والمنطق»)
وكما يتضح، كان راسل يرى دائما أن التوق إلى السمو - لحلم الفيلسوف سبينوزا بفهم واضح ونزيه وشامل تماما لكل الأشياء التي من شأنها أن تحرر المرء - تلطفه الوقائع القاسية للمعاناة في العالم. وفي ديباجة سيرته الذاتية يكتب قائلا: كان الحب والمعرفة - بقدر توافرهما - يرفعانني إلى سماء الفردوس. ولكن الشفقة دائما ما كانت تعيدني إلى الأرض. ومن ثم، كان راسل يتوق بأسلوبه اللاأدري إلى الفردوس، وسعى إلى اكتشاف السبل التي من شأنها أن تقود البشر إلى هناك.
التعليم
كان راسل يأمل أن يكون أهم تلك السبل هو التعليم، الذي كان يرى أنه يتناول السؤال المتعلق بالكيفية التي ينبغي بها إعداد البشر للحياة. ولم يتناول راسل التفاصيل الإدارية المتعلقة بإعداد المدارس والجامعات وتدريب المعلمين - مثلما كان من الممكن أن يفعل سيدني وبياتريس ويب - ولكنه تحدث بدلا من ذلك عما قد نسميه الأهداف الروحية (بمعنى علماني) للتعليم. وكتب راسل أن ما يهدف إليه التعليم هو بناء الخلق؛ وأن أفضل خلق هو الحيوية والشجاعة ورهافة الحس والذكاء، على أن تكون كلها «بأعلى مرتبة». وهكذا يعبر عن الموضوع في كتاب «عن التعليم»، الذي نشر في عام 1926، وذلك قبل أن يؤسس هو ودورا مدرسة بيكون هيل بعام واحد. ويتناول هذا الكتاب أساسا سنوات الطفولة المبكرة، ويقر راسل في سيرته الذاتية أنه كان «مفرطا في التفاؤل حيال علم النفس»، وأنه كان أيضا في بعض النواحي «مفرطا في القسوة» في المناهج التي اقترحها. ومن أمثلة ذلك وجهة النظر - التي اتخذها من مبادئ مونتيسوري - القائلة بأنه إذا كان أحد الأطفال سيئ السلوك فينبغي فصله عن غيره من الأطفال حتى يتعلم أن يصبح صالحا. وبات راسل يرى لاحقا أن هذا نمط قاس من قواعد ضبط السلوك.
ومع ذلك يحتوي الكتاب على بعض النصائح الوجيهة. ويبدأ راسل بالأطفال الصغار في سن مبكرة جدا، فيؤكد بأنه ينبغي وضع روتين منتظم للأطفال الرضع وإمدادهم بأكبر عدد ممكن من فرص التعلم، وأنه ينبغي إخفاء أي قلق يبديه الأبوان حتى لا «ينتقل القلق إلى الطفل بالإيحاء». وتعكس هذه العقيدة إيمان راسل بأنه ما دام القلق ليس فطريا بين الثدييات العليا الأخرى، فلا بد أن ظهوره على الأطفال يأتي نتيجة لتأثرهم بالبالغين. وذكر قراءه في الوقت نفسه بأنه لا داعي لتعذيب أنفسهم في سبيل أداء واجبهم كآباء، بل أن يحرصوا على الموازنة بين مصالحهم ومصالح أطفالهم.
كان راسل يرى أن المعرفة في حد ذاتها تعمل كأداة للتحرير ووسيلة للوقاية من الخوف. والاهتمام بالأشياء الظاهرية - وهو من أهم الأفكار الرئيسة كذلك في كتابه «الفوز بالسعادة» - وسيلة قوية لضمان معيشة تقوم على الشجاعة والسعادة. ويتحدث راسل أيضا عن كيفية تشجيع الصدق والكرم: وذلك ليس بالاعتماد على عقاب أضدادها - ما دام أن ما قد يبدو ظاهريا أنه كذب مثلا ربما يكون في الواقع ممارسة للخيال - بل بتشجيع الخصال الإيجابية عند ظهورها. من هذه الناحية، ربما كان مسرفا في التفاؤل حيال علم نفس الصغار، كما أقر لاحقا. وسرعان ما علمته تجربته كمعلم أن الأطفال قادرون على الأذى، وأن الأذى قد يزداد فظاعة في حالة تركه دون عقاب، كما في رواية «أمير الذباب».
ولكن حتى في هذه الآراء المبكرة لم يكن راسل يؤيد مبادئ «سياسة عدم التدخل»، خاصة فيما لا يتعلق بالدراسة. وكان يرى أن اكتساب عادات الانضباط الذاتي والتركيز سيثبت أنها تدعم تحرير المرء على المدى الطويل، ومع أنه كان يؤكد أنه ينبغي إشراك الأطفال بجذبهم لأداء المهام المدرسية المطلوبة منهم بدلا من إجبارهم عليها، فلم يكن معارضا لدفعهم لبذل الجهد الشاق عند الضرورة. وقد قال إنه ينبغي أن يصبح الأطفال قادرين على القراءة وهم في سن الخامسة، وينبغي أن يبدءوا في تعلم لغتين مبكرا، وقال إن أساسيات الرياضيات تتطلب التدريب، وإنه ينبغي توفير هذا التمرين على أساسيات الرياضيات للأطفال. وقال إنه من الممكن الاستمتاع بالشعر والمسرحيات في سن المدرسة الابتدائية، ولكن التذوق الحقيقي للأدب لا يأتي إلا في مرحلة لاحقة، وإن تذوق الآداب الكلاسيكية والتاريخ والعلوم يأتي في مرحلة لاحقة أيضا؛ وبحلول هذه المرحلة ينبغي أن يختار التلميذ - بعد تجربة هذه المواد الدراسية - المادة التي تثير اهتمامه أكثر، ويتابع دراستها بنفسه (عن التعليم، ص18، 162).
شكل 4-3: صدم راسل من مدى حدة التنمر الذي تشهده مدرسة بيكون هيل. وكان يرى ذلك كصورة مصغرة من السلوك الوحشي الذي ينتهجه الكبار، وكدلالة على أن الغلو في الوطنية والحرب من الحقائق المحتومة في الحالة البشرية.
3
تتسم هذه الآراء المتعلقة بالمقرر الدراسي بطابع تقليدي بما يكفي. أما ما لم يكن تقليديا، وتسبب في فضيحة في ذلك الوقت، فهو ما قاله راسل عن تعليم الجنس. وانطلقت شائعات فورية عن مدرسة بيكون هيل؛ وتقول إحدى تلك الشائعات إن أسقفا وصل عند باب المدرسة فلما رأى طفلا عاريا صاح قائلا: «يا إلهي!» فرد عليه الطفل العاري قائلا: «لا يوجد إله.» ولكن في الواقع كل ما كان يؤكده راسل هو أنه لا ينبغي أن ندفع الأطفال إلى القلق بشأن أجسادهم؛ ومن ثم ينبغي إطلاعهم بهدوء على التفاصيل الأساسية للجنس قبل وصولهم إلى سن البلوغ، وأن أحد الأسباب الوجيهة التي تبرر البداية المبكرة هو منعهم من التعرف على الجنس بطرق غير لائقة ومحمومة. وكان راسل مترددا حول ما إذا كان الاستمناء سلوكا مفيدا أم لا، وذلك في موقف تقليدي إلى حد يدعو إلى الدهشة، وهو موقف يتماشى مع الرأي الطبي السائد في ذلك العصر؛ لذلك لا يمكن اتهامه بالإدلاء بآراء خطيرة في هذا الموضوع على الأقل.
بعد خمس سنوات، ألف راسل كتاب «التعليم والنظام الاجتماعي» (1931)، وذلك بعد تجربته المباشرة في المدرسة التي أنشأها. وقد حافظ في هذا الكتاب على معظم آرائه الواردة في كتاب «عن التعليم»، ولكنه أصبح يصفها في هذه المرحلة ب «النظرية السلبية» وأقر بأنها بحاجة إلى إضافات. وتقول النظرية السلبية إن مهمة التعليم هي توفير الفرص والقضاء على العقبات حتى يتمكن الأطفال من التطور على طريقتهم هم. وأصبح راسل يرى في هذه المرحلة أن ما هو مطلوب أكثر هو أن يتلقى الأطفال تدريسا إيجابيا من حيث الانسجام مع الآخرين. وقد روعته حوادث التنمر التي شهدتها مدرسة بيكون هيل، واعتبر ذلك كصورة مصغرة من السلوك القاسي الذي ينتهجه البالغون، بل الذي تنتهجه دول بأكملها. وقد زادت التجربة من قلقه بشأن حقيقة أن انعدام التعقل والعدوانية من الصفات الفطرية، وجعلته ييأس من العالم؛ لأنها أوحت له بأن الغلو في الوطنية والحرب من الحقائق المحتومة في الحالة البشرية.
لم يبالغ راسل قط في توقعاته للتعليم. ولكن بالرغم من خيبة أمله بسبب تجربته العملية في التدريس، ظل يحتفظ بإيمانه الليبرالي الذي تميز به بأنه يجب أن تنعقد الآمال على التعليم أساسا من أجل عالم أفضل. كان راسل في كتاباته الموجهة إلى القراء العاديين التي تتناول المسائل الاجتماعية والسياسية يحاول بلا كلل أن يؤدي مهمة واحدة: وهي التعليم، وكان العالم بأكمله هو الفصل الدراسي. وبصرف النظر عن كل شيء، لم يفقد راسل الأمل قط في إمكانية تنشئة أشخاص مفعمين بالحيوية وشجعان ومرهفي الحس وأذكياء، فقط إذا حصلوا على الإرشاد المناسب في الطفولة.
السياسة
كان راسل يرى أننا إذا أردنا أن نفهم السياسة، فلا بد من أن نفهم السلطة؛ فكل المؤسسات السياسية يعود أصلها منذ زمن طويل إلى السلطة؛ في البداية، سلطة زعيم القبيلة أو الملك الذي كان يخضع له الناس بدافع الخوف؛ وفيما بعد، إلى النظام الملكي الذي دان الناس له بالولاء على سبيل العادة. وكان راسل يختلف مع من يرون أن المجتمع المدني نشأ من «عقد اجتماعي» أصلي تخلى الأفراد بموجبه عن جزء من حريتهم في مقابل فوائد - أهمها الأمن - تمنحها الحياة الاجتماعية. وقال إنه إذا كان يوجد عقد أصلي فهو عقد بين أفراد الصفوة الحاكمة - فهو «عقد بين الفاتحين» قبلوا به بهدف تعزيز وضعهم وامتيازاتهم (السلطة، ص190).
ومن وجهة نظر راسل، يشير التاريخ إلى أن الملكية تشكل أول نمط من النظام السياسي المتقدم. وأخذت السلطة تتسرب تدريجيا خلال النظام التراتبي الاجتماعي من الملك - الذي كان يدعي أنه يتلقاها من الله، وذلك في الكثير من الأنظمة السياسية - إلى طبقة النبلاء والطبقة العليا الأرستقراطية، انتهاء بأقل رجل في كوخه كرب لأسرته. وكانت مزايا النظام - حين فرض ولاء المشاركين فيه - هو الترابط الاجتماعي، وضرره هو أن الحاكم المطلق ليس لديه ما يحفزه للحكم بدافع تحقيق النفع العام؛ ويوجد الكثير من الحالات التي أصبحت فيها تلك الأنظمة أنظمة مستبدة وقاسية (السلطة، ص189).
ويقول راسل إن النظام الذي يخلف الحكم الملكي هو حكم الأقلية؛ ويضم هذا النظام مجموعة متنوعة من الأنماط: الطبقة العليا الأرستقراطية أو طبقة الأثرياء أو جماعات الكهنة أو الأحزاب السياسية. وكان من وجهة نظر راسل أن حكم الأثرياء - ومن أمثلة ذلك المدن ذات الحكم المستقل في العصور الوسطى ومدينة البندقية (فينيسيا) إلى أن استولى عليها نابليون - قد نجح إلى حد ما، لكنه لم يعتقد أن رجال الصناعة في العصر الحديث حققوا النجاح نفسه (السلطة، ص193). وكما هي الحال مع الحكم الملكي حين يفرض الولاء، فإن كلا من الكنيسة وجماعات حكم القلة السياسية الحزبية يمكنها أن تؤدي إلى الترابط الاجتماعي عن طريق تبادل المعتقدات أو الأيدولوجية، ولكن يكمن خطرهما الجسيم في أنهما تهددان الحرية. وجماعات حكم القلة هذه لا يمكنها التسامح مع من يختلفون مع وجهات نظرها، ولا يمكنها السماح بوجود مؤسسات قد تتحدى احتكارها للسلطة (السلطة، ص195-196).
ومع ذلك - كما ذكر راسل - فإنه ثمة فائدة يمكننا أن نحصل عليها من حكم القلة - بشرط إمكانية ضمان الحصول على الحرية في ظلها - وهي أنه يسمح بوجود طبقة مترفة تنعم بقدر وافر من وقت الفراغ. والسبب في ذلك هو أن التنعم بوقت الفراغ هو حالة تتيح فرصة ازدهار الحياة الذهنية اللازمة للأدب والتعلم والفن. كان هذا في الماضي يتطلب تضحية السواد الأعظم من الناس ممن كانوا مضطرين إلى الكدح لساعات طويلة حتى يتسنى للقلة الاستمتاع بالحريات الضرورية. ولكن من رأي راسل أنه إذا استغلت التكنولوجيا الحديثة، «لأمكننا - في غضون عشرين عاما - القضاء على كل أشكال الفقر المدقع وعلى نصف الأمراض في العالم والرق الاقتصادي بأكمله الذي يكبل تسعة أعشار سكان بلادنا، ولأمكننا أن نملأ العالم بالجمال والسعادة ونضمن أن يسود السلام العالمي» (المثل العليا السياسية، ص27). وأدلى راسل بهذه التصريحات المثالية في عام 1917 - وذلك على سبيل إضاءة شمعة في ظلام الحرب - ولكنها لا تخلو تماما من الصواب؛ فعند الأخذ في الحسبان نجاح العلم واستخدامه بذكاء للأغراض السلمية، لا يوجد مبرر يمنع إتاحة المزيد من وقت الفراغ - ومن ثم المزيد من الظروف اللازمة لحياة من الإبداع والنجاح - للمزيد من البشر. وتؤدي هذه الإمكانية إلى إضعاف الحجة المؤيدة للأبنية الاجتماعية التي تدعم طبقة تتمتع بقدر وافر من وقت الفراغ، ويفسح المجال بدلا من ذلك لدعم حجة قوية مؤيدة للديمقراطية.
ومع ذلك، لا تختلف الديمقراطية عن حكم القلة إلا من حيث الدرجة - حسبما يلاحظ راسل - لأنه حتى في ظل الديمقراطية لا يستطيع الإمساك بزمام السلطة الحقيقية إلا حفنة من الناس؛ مما جعل راسل متشائما حتى بشأن النموذج البرلماني البريطاني العتيد، الذي يكون فيه عضو البرلمان العادي في الواقع ليس إلا أداة للتصويت لحزبه. ولكن الصورة ليست كئيبة تماما فيما يتعلق بالديمقراطية، فمع أنها لا تستطيع ضمان الحكم الرشيد، فإنها تستطيع منع بعض أوجه الفساد، وذلك عن طريق ضمان عدم استمرار أي حكومة سيئة في السلطة بصفة دائمة (السلطة، ص286).
وأفضل ما يميز الديمقراطية في رأي راسل هو ارتباطها ب «مذهب الحرية الشخصية»، الذي كان يقدره تقديرا شديدا. ويتألف المذهب من سمتين؛ السمة الأولى هي أن الحرية تحميها متطلبات مراعاة الأصول القانونية، وهي التي تحمي المرء من التوقيف والعقاب التعسفي. والسمة الثانية هي أنه توجد مناطق من التصرفات الفردية لا تكون خاضعة لسيطرة السلطات، بما في ذلك حرية التعبير والاعتقاد الديني. وهذه الحريات ليست بلا قيود؛ ففي زمن الحرب - مثلا - قد يكون من الضروري تقييد حرية التعبير لصالح الأمن القومي. وأقر راسل بأنه من الجائز فعلا وجود قدر كبير من التضارب بين مصالح المجتمع ككل ومصالح الفرد الذي يرغب في الحصول على أقصى قدر من الحرية. وقال: «ليس من الصعب على حكومة معينة أن تقر بحرية الفكر حين تستطيع الاعتماد على ولاء الفعل، ولكن حين لا تستطيع ذلك، يصبح الأمر أصعب» (السلطة، ص155).
إن مسائل التنظيم السياسي - في رأي راسل - هي مسائل تتعلق بالتنظيم الاقتصادي بدرجة مهمة. كان راسل في البداية قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى يناصر حرية التجارة، وظل مؤيدا لنظام الاقتصاد الحر لسبب وجيه هو أنه كان معارضا للتراكم المفرط للقوة الاقتصادية تحت سيطرة أي جهة واحدة بعينها، سواء أكانت الرأسماليين أو الحكومات. لم يكن راسل يمانع في أن يصبح الناس أغنياء إذا كانوا قد كسبوا المال بكدهم، ولكنه كان يعارض فكرة الثروة التي تئول إلى المرء بالوراثة. ومع أنه كان مؤيدا للاشتراكية طوال معظم حياته، فقد كان ذلك على نحو متحفظ للغاية. وقال إن دور الحكومة في الشئون الاقتصادية هو الحماية من المظالم الاقتصادية. ولكن هذا لا يتحقق على أفضل وجه بأن نعهد بملكية وسائل الإنتاج أو التحكم فيها للسيطرة الحكومية، كما في التجربة الشيوعية في البلدان التي طبقت النموذج السوفييتي. بدلا من ذلك، جذبت راسل ما يطلق عليه في فرنسا مذهب النقابية وفي إنجلترا الاشتراكية النقابية، وهو الرأي القائل بأنه ينبغي أن يتولى إدارة المصانع العمال العاملون فيها، وينبغي تنظيم الصناعات إلى نقابات. ومن المفترض أن تدفع هذه النقابات ضريبة للدولة في مقابل المواد الخام التي تستخدمها، على أن تتمتع من ناحية أخرى بحرية إعداد الأجور وظروف العمل وبيع منتجاتها. علاوة على ذلك، من المفترض أن تنتخب النقابات فيما بينها هيئة تشريعية، وأن ينتخب مستهلكو منتجات هذه النقابات مجلسا نيابيا، على أن تصبح الهيئتان معا هما الهيئة الوطنية التي تتمتع بسلطة عليا، وهي التي تحدد الضرائب وتقوم مقام أعلى محكمة في البلاد مهمتها الفصل في مصالح العمال والمستهلكين على حد سواء (الطريق إلى الحرية، ص91-92). ولضمان ألا يخل وجود النقابات بالحرية، ولا سيما حرية التعبير، اقترح راسل دفع أجر زهيد كحد أدنى للجميع بصرف النظر عما إذا كان الفرد يعمل أم لا، وذلك حتى يتمكن كل فرد من الاعتماد على نفسه إذا اختار ذلك. أما من يريدون الحصول على أجر يزيد عن أجر الحد الأدنى فمن المفترض أن يعملوا، وكلما زاد عملهم ازداد دخلهم. واستبعد راسل الانتقاد البديهي القائل بأنه سيصعب تنفيذ الخطة إذا اختار الناس ألا يعملوا - ومن ثم لن ينتجوا أي إيرادات ضريبية ومع ذلك سيطلبون الحصول على أجر الحد الأدنى المقرر لهم - وذلك بقوله إن معظمهم سينجذب إلى العمل بفعل حافز الثراء؛ ومن المفترض على أي حال أن تصبح ظروف العمل والحياة عموما أفضل في ظل الاشتراكية النقابية؛ لذلك لن يمانعوا في تقبل ذلك (المرجع السابق، ص119-120).
إن المبدأ الذي يقع في صلب موضوع الاشتراكية النقابية هو تفويض تلك السلعة السياسية الأساسية، ألا وهي «السلطة»؛ ففي رأي راسل، يؤدي تركيز السلطة - وخاصة تحت سيطرة الحكومة - إلى زيادة احتمال الحرب؛ ومن ثم فمن المستحسن نشرها بين الكثير من الجماعات والأفراد. «يجب أن تكون الجهة التي تتولى تنفيذ الأغراض الإيجابية المتطورة للدولة - بالإضافة إلى الحفاظ على النظام - ليست الدولة نفسها، بل بقدر الإمكان المنظمات المستقلة التي ينبغي تركها حرة تماما ما دامت ترضي الدولة من حيث عدم تقصيرها عن الوفاء بحد أدنى ضروري معين» (مبادئ إعادة البناء الاجتماعي، ص75). واستنبط راسل وجهة النظر هذه في وقت مبكر نسبيا في فكره السياسي، وظل مؤمنا بها من ذلك الحين فصاعدا. وفي كتاب «السلطة» أخذ يؤكد أنه ثمة ضرورة أكثر من أي وقت مضى تحتم اتخاذ إجراءات وقائية للحماية من الاستبداد الرسمي والدعاية السياسية الموجهة والشرطة، وهي العناصر التي قدم بشأنها الاقتراح الأصلي بوضع أمناء على الأمناء فعليا؛ ومفاده أن تتولى قوة شرطية تنفيذ المهام الاعتيادية مثل جمع الأدلة اللازمة لتوقيف من يفترض أنهم مجرمون ومحاكمتهم، فيما تتخصص الأخرى في جمع الأدلة التي تثبت براءة هؤلاء الأشخاص أنفسهم.
ومن الأفكار الملازمة لفكرة إلغاء المركزية في آراء راسل السياسية عداؤه للغلو في القومية؛ فقد هاجم القومية قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية باعتبارها «فكرة سخيفة » و«أخطر نقيصة في عصرنا»، واعتبرها تهدد بالقضاء على أوروبا. وبعد الحرب العالمية الثانية رأى أنها تكرر نفسها في الاتحاد السوفييتي وأمريكا، فيما عدا أنها في هذه المرة - نظرا لأن كلتا الدولتين تمتلك أسلحة دمار شامل - كانت أخطر بكثير. وكان يؤكد أن العلاج الوحيد الموثوق للغلو في القومية والتهديد الذي تمثله هو الحكومة العالمية.
لا يبدو هذا الرأي في ظاهره متسقا مع آراء راسل المتعلقة بإلغاء المركزية، وكان يقر بخطر وضع القوة العسكرية تحت سيطرة سلطة عالمية واحدة. ولكنه كان يرى أن ذلك أفضل بكثير من اندلاع المزيد من الحروب العالمية التي من المحتمل أن تستخدم فيها أسلحة ذات قدرة تدميرية تزداد فتكا، مع احتمال تدمير الحياة على الأرض. كان هذا التصور يبدو لراسل شرا مريعا إلى حد جعله يرى أن أي شيء تقريبا أفضل منه. ولكن ليس من الضروري أن تكون الحكومة العالمية هي فقط أهون الشرور؛ فمن المفترض أن يكون من الوسائل الناجحة للحفاظ على درجة من السيطرة عليها تفويض مقدار السلطة نفسه - في كل الشئون فيما عدا الشئون العسكرية - إلى أصغر الوحدات المحلية. ومع ذلك، ففي النهاية، كما قال راسل:
سيكون لزاما على الدولة العالمية أو اتحاد الدول - إذا أردنا لها أن تنجح - أن تفصل في النزاعات، ليس بالأحكام القانونية التي من المفترض أن تطبقها محكمة جرائم الحرب في لاهاي، بل بقدر الإمكان على النحو نفسه الذي من المفترض أن تحسمه الحرب. وينبغي أن تكون وظيفة السلطة هي جعل الاحتكام للقوة أمرا غير ضروري، وعدم إصدار أي أحكام تناقض الأحكام التي من المحتمل التوصل إليها بالقوة. (مبادئ إعادة البناء الاجتماعي، ص66)
كيف يمكن إنشاء حكومة عالمية؟ من غير المحتمل أن ترغب الحكومات القومية في التخلي عن سيادتها في سبيل تصور مثالي من هذا القبيل. ومن وجهة نظر راسل، فإن الطريقة الأوفر حظا هي أن قوة واحدة - أو تكتلا من القوى - ستتمكن من السيطرة على العالم في نهاية المطاف، وستتألف منها الحكومة العالمية بحكم الواقع. وفي سياق الحرب الباردة، من الممكن اعتبار منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) وحلف وارسو - أو على نحو أدق، المسئولين الأساسيين على رأس كل منهما - يتنافسان على تحقيق هذه النتيجة. وشبه راسل هذا الأمر بظهور الحكومة المنظمة في العصور الوسطى؛ إذ يستولي ملك ما على السلطة، ثم يبدأ الحكم الملكي - بحكم عملية التطور - في الخضوع تدريجيا للسيطرة الديمقراطية. ورأى راسل أن مثل هذه العملية قد تحدث في حالة الحكومة العالمية. وقال: «سيتحقق إحلال النظام محل الفوضى في العلاقات الدولية - في حالة حدوثها - عن طريق دولة ما أو مجموعة من الدول تتمتع بقوة عظمى. ولن يتسنى أن تبدأ عملية التطور صوب الشكل الديمقراطي من الحكومة العالمية إلا بعد تأليف هذه الحكومة الموحدة.» كان يرى أن هذه الفكرة قد تستغرق مائة عام، وفي أثناء ذلك ستكون الحكومة العالمية قد بدأت في اكتساب «درجة من الاحترام تمكنها من إرساء سلطتها على القانون والرأي بدلا من القوة» (آمال جديدة لعالم متغير، ص77-78).
من الموضوعات الرئيسة في فكر راسل الذي يتناول السياسة والحكم مشكلة الموازنة بين الحرية الفردية والحاجة إلى تحقيق السلام العالمي. ولكن المنافسة بينهما ظالمة في النهاية. فلا سبيل إلى هذه الحرية، بل إنه حتى إمكانية هذه الحرية تنتفي، في حالة القضاء على البشرية بفعل الحرب. وهكذا كان راسل مستعدا لتقبل الإخلال بالحرية أو إعاقتها لصالح إنقاذ البشرية. كان بالطبع يرجو إمكانية نيل السلام والحرية معا؛ ولكن تجربته مع البشر أجبرته على أن يتقبل أن الجشع والقسوة وانعدام التعقل وغيرها من الخصال البشرية الشائعة تجعل ذلك أمرا غير مرجح. وكتب راسل أن هذه الفكرة كثيرا ما ألقت به في غياهب اليأس. وهو الإحساس نفسه الذي انتابه إبان الحرب العالمية الأولى، حين سيق مئات الآلاف من الرجال إلى مذبحة مشتركة بلا طائل في أوحال أوروبا. وكم انتابه الإحساس نفسه على نحو أشد بعد الحرب العالمية الثانية، حين لم يعد الضحايا الذين من الممكن أن يلقوا مصرعهم بفعل الأسلحة النووية فقط من الجيوش، أو حتى الدول، بل - على أسوأ الفروض الممكنة - سكان العالم بأكمله. ومن ناحية ما، من المذهل كيف أن قلة قليلة فقط هي التي كانت تملك من الصفاء ما يتيح لها رؤية هذه الحقيقة ومن القدرة على التخيل ما يتيح لها الإحساس بفظاعتها. ويستحق راسل الثناء لأنه كان من بين تلك القلة التي امتلكت الأمرين.
الحرب والسلام
عارض راسل حرب البوير والحرب العالمية الأولى ، وأيد الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وبذل جهودا مضنية في مناهضة إمكانية اندلاع حرب عالمية ثالثة وشيكة وفي مناهضة حرب فيتنام القائمة فعلا. وقد شن حربا على الحرب حتى وفاته وهو يناهز 97 عاما. وقوبلت أنشطته المناهضة للحرب في الفترة المبكرة واللاحقة من حياته بالخصومة، وتسببت في دخوله السجن. ومع ذلك لا أحد يستطيع الآن أن يقول إنه كان مخطئا في اتخاذ المواقف التي اتخذها؛ فحين تتوقف مشاعر الغلو في القومية والشوفينية، ويبدأ إحصاء التكاليف الباهظة ومقارنتها بتقييم أكثر واقعية للأسباب التي أدت إلى تكبدها أساسا، يبدأ الناس في إدراك الحرب بأثر رجعي كما أتيح لراسل إدراكها آنذاك بفضل عبقريته.
شكل 4-4: هذا الرسم الكاريكاتوري من صحيفة إيفنينج ستاندرد يشير إلى حكم السجن لمدة أسبوع الذي صدر ضد راسل في سبتمبر من عام 1961، بعد إدانته بتهم تتعلق بالنظام العام وجهت إليه بعد خروج مظاهرة كبيرة لمؤيدي السلام في وسط لندن إحياء لذكرى هيروشيما.
1
لم يغير راسل رأيه قط في أن الحرب العالمية الأولى كانت غير ضرورية؛ فلم يكن ثمة خلاف فعلا بين ألمانيا وبريطانيا في عام 1914 فيما عدا الكرامة الوطنية وبعض مشاعر الغضب القابلة للحل بشأن خلافات استعمارية. ورأى راسل أنه كان يمكن تجنب القتال بالتفاوض؛ مما كان سيهدئ من انزعاج ألمانيا المبرر بشأن عدم نجاحها في السباق الاستعماري كما كانت ترجو. ولكن كان القائمون على وزارات الخارجية الأوروبية من الأرستقراطيين الذين تحركهم اعتبارات الكرامة الوطنية أكثر من اعتبارات المنطق السليم.
أخذ معارضو رأي راسل بشأن الحرب العالمية الأولى يؤكدون أن ألمانيا كانت مذنبة بالعدوان والنزعة التوسعية، وأنها كانت تسعى إلى الهيمنة على أوروبا؛ مما كان يهدد حرية بريطانيا؛ لأن ألمانيا - إذا انتصرت - كانت ستصبغ كل شيء بطابعها الاستبدادي والبيروقراطي؛ ومن ثم كان لدى بريطانيا دافع شرعي لدخول الحرب. لم يقبل راسل الدافع المتعلق بالتهمة الملصقة بألمانيا ولا النتيجة المرجحة التي كانت ستنشأ عن رفض بريطانيا دخول الحرب؛ وكان يرى أن النتيجة كانت ستصير على الأرجح أشبه بالصراع بين فرنسا وبروسيا الذي نشأ في عام 1871، والذي كان قصير الأمد وحاسما. ولكن حتى لو انتصر القيصر - وهو ما كان سيصير حدثا سيئا، ولكن ليس بدرجة السوء التي تتسم بها الحرب نفسها - لكانت النقطة الأساسية في رأيه هي أن دخول الحرب يتطلب وجود مبرر وجيه جدا، وأن ذلك المبرر لم يكن موجودا في عام 1914.
وفي عام 1939، اختلفت الأمور اختلافا كبيرا. فإبان ثلاثينيات القرن العشرين، أصبح راسل في الواقع ممن يسترضون العدو اجتنابا للعدوان، وذلك كما يشهد كتابه «أين الطريق إلى السلام؟» الذي نشر في عام 1936. وقد رفض راسل السماح بإعادة نشر الكتاب لأنه بحلول الوقت الذي انتهى فيه من الكتاب أصبح يشعر بأنه يتسم بالنفاق، وأن ظروف ثلاثينيات القرن العشرين تختلف اختلافا كبيرا عن ظروف عام 1914:
تقبلت على مضض إمكانية تفوق ألمانيا تحت حكم القيصر. ورأيت أن هذا - مع أنه كان سيصير حدثا سيئا - ما كان سيصبح بدرجة السوء نفسها التي يتصف بها اندلاع حرب عالمية والآثار المدمرة المترتبة عليها. ولكن ألمانيا تحت حكم هتلر كانت موضوعا مختلفا؛ إذ أدركت أن النازيين كريهون للغاية؛ فهم قساة ومتعصبون وأغبياء. وشعرت بأنهم يتسمون بالشناعة أخلاقيا وفكريا من وجهة نظري. (السيرة الذاتية لبرتراند راسل، ص430)
وذكر راسل أن فكرة الهزيمة على أيدي هؤلاء «غير محتملة»، وقال: «قررت أخيرا عن وعي وبلا ريب أنني يجب أن أؤيد ما هو ضروري لتحقيق الانتصار في الحرب العالمية الثانية، مهما كان تحقيق الانتصار صعبا، ومهما كانت عواقبه مؤلمة» (المرجع السابق).
وأدت النهاية المرعبة للحرب في المحيط الهادي - وذلك بإلقاء قنبلتين ذريتين على مدينتين يابانيتين - إلى تنبيه راسل على الفور أن شيئا جديدا تماما قد دخل إلى المعادلة. وألقى خطبة وجهها إلى مجلس اللوردات في نوفمبر من عام 1945 حذر فيها أقرانه من الأخطار؛ ففي البداية كان يرى أن أمريكا ينبغي أن تستخدم تفوقها في الأسلحة النووية لإجبار الروس على عدم تطويرها. وقد فسر الناس ما قاله على أنه طلب من راسل بأن تشن الولايات المتحدة هجوما وقائيا بالقنابل الذرية على روسيا، ولكنه لم يقصد ذلك؛ إذ كان يرى وجود فرصة أمام الولايات المتحدة لتأسيس حكومة عالمية عن طريق تفوقها العسكري، وحثها على القيام بذلك. ومع أنه كان يرى أن أمريكا قد أخطأت في الكثير من الأمور، فقد كان يفضل موقفها الليبرالي والديمقراطي عموما على استبداد الاتحاد السوفييتي. وفي السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية ازداد عداء راسل للاتحاد السوفييتي، والذي كان كبيرا من قبل كنتيجة لزيارته إلى هناك في أوائل العشرينيات من القرن العشرين. ومن دلائل استيائه من حرب فيتنام بعد ذلك بخمسة عشر عاما فحسب أنه أصبح يشجب الأمريكيين بالعبارات العنيفة نفسها التي شجب بها السوفييت. ومع ذلك لم يكن ذلك التغير في موقفه مفاجئا؛ إذ تسببت المكارثية في الولايات المتحدة، والسياسة الخارجية الأمريكية العدوانية المعادية للشيوعية والمتأثرة بالمكارثية، في إقناعه بأن الأمريكيين يمثلون تهديدا أكبر على السلام من الاتحاد السوفييتي. وأسهمت أزمة الصواريخ الكوبية في عام 1961 في تأكيد رأيه. وأصبح منذ ذلك الحين فصاعدا معاديا لأمريكا بكل تصميم.
أدى حدثان إلى تغيير نظرة راسل حيال موضوع الأسلحة الذرية؛ الأول: اقتناء السوفييت للقنبلة الذرية في عام 1949، ثم التفجير الذري التجريبي الذي أجرته بريطانيا في جزيرة بيكيني المرجانية الاستوائية في عام 1954. وقدم راسل كرد فعل للحدث الثاني برنامجا إذاعيا شهيرا أذيع في عيد الميلاد، عنوانه «خطر الإنسان»، حذر فيه بريطانيا والعالم من الأخطار الرهيبة التي أصبح الجميع معرضا لها في هذه المرحلة. كان هذا البرنامج الإذاعي نقطة تحول؛ إذ أرخ للبداية الحقيقية للحملات المناهضة لأسلحة الدمار الشامل. وصل راسل سيل من الرسائل. واستخدم راسل قوة الدفع التي نتجت عن برنامجه، فنظم عريضة دولية وقع عليها علماء مرموقون. ولم يكف قط عن مطالبة بريطانيا بأن تتخلص من أسلحتها النووية، وأكد أن من أسباب القيام بذلك تقديم مبادرة أخلاقية للدول الأخرى لتحذو حذوها.
في خمسينيات القرن العشرين تغيرت آراؤه المتعلقة بكيفية إدارة الخطر الذي أصبح العالم يواجهه في هذه المرحلة، وذلك حين زاد الموقف الدولي سوءا وباءت مساعيه بالفشل. أخذ راسل يكتب ويقدم برامج إذاعية ، فضلا عن العريضة التي قدمها نظم مؤتمرا جمع فيه علماء من كلا جانبي الستار الحديدي، وشارك في تأسيس «الحملة المؤيدة لنزع السلاح النووي» وأصبح أول رئيس لها. وحين تحطمت هذه الوسائل السلمية والمنطقية أكثر من مرة على صخرة التعنت الحكومي، اشتد يأسه؛ ومن ثم استقال من الحملة المؤيدة لنزع السلاح النووي، وانضم إلى «لجنة المائة» التي تتسم بقدر أكبر من العنف، التي شنت حملة عصيان مدني. وتسببت الحملة في صدور حكم بالسجن عليه للمرة الثانية، بعد الحكم الأول ب 42 عاما. وخلال كل ذلك لم يكن هناك مجال كاف للتنظير؛ لأن راسل شعر أنه لم يكن لديه وقت لذلك؛ بل ما كان ضروريا هو اتخاذ إجراءات فعلية.
في سنوات راسل الأخيرة انصب اهتمامه على حرب فيتنام. وكان في ذلك الوقت يحيط به آخرون استغلوا اسمه ووضعوه على مطبوعات وبيانات صحفية من الواضح - من أسلوبها اللغوي ومن لهجتها - أنها من المستحيل أن تصدر عنه شخصيا، وأخذ يهاجم الولايات المتحدة وتحديدا المنظومة العسكرية الصناعية والمخابرات المركزية الأمريكية، واتهمهما بالعدوان في فيتنام وبارتكاب جرائم حرب. واشترك راسل مع جان بول سارتر وآخرين في إنشاء محكمة جرائم الحرب الدولية، بهدف محاكمة أمريكا على أنشطتها في فيتنام. رأى الناس آنذاك أن التهم التي وجهتها المحكمة إلى الولايات المتحدة كانت مبالغا فيها. وعند الكشف عن الملفات الحكومية الأمريكية لاحقا، اتضح أن الكثير من التهم صحيح.
يجمع بين معارضة راسل للحرب العالمية الأولى ومعارضته لحرب فيتنام اتساق ملحوظ من ناحية واحدة على الأقل. كان راسل يرى أن أيا من الحربين لم تكن تنطوي على خطر يهدد الخير، وأن الحربين كانتا تدفعهما أحط غرائز في البشر؛ وهي غرائز القسوة والحماقة والعدوانية، التي ما إن تتحكم في البشر حتى تبيح أي شيء: قصف النساء والأطفال بالقنابل، واستخدام المواد الكيماوية السامة، وإطلاق الدعاية السياسية والأكاذيب الموجهة للاستهلاك المحلي. ولا بد أن راسل قد اكتشف في نهاية حياته المديدة كم من المروع أنه فيما بين عام 1914 و1970 ازدادت أسلحة الحرب فتكا وتدميرا أكثر من أي وقت مضى، بينما لم يتبدل البشر مثقال ذرة.
هوامش
الفصل الخامس
تأثير راسل
إذا كنت ترغب في رؤية أثر راسل، فتلفت حولك وتأمل الفلسفة الموجهة إلى عامة الناس الصادرة باللغة الإنجليزية منذ السنوات التي تفصل الحربين العالميتين. وتأمل كذلك المنطق وفلسفة الرياضيات والمناخ الأخلاقي المختلف في العالم الغربي في القرن العشرين، والمحاولات الرامية إلى إعاقة انتشار الأسلحة النووية. يجب أن يشير التاريخ الكامل لأي من هذه الموضوعات إلى راسل.
في بعض هذه المجالات يكون راسل مشاركا من بين مشاركين آخرين؛ فعلى سبيل المثال، لم يكن وحده هو المسئول عن إحداث تغيير جذري في الأخلاق في القرن العشرين. لكنه كان أقرب إلى دائرة الأضواء في حملة نزع السلاح النووي؛ إذ كان من المشاركين في حركة مناهضة الحرب التي نشأت إبان الحرب العالمية الأولى.
ولكن مكانته في الفلسفة محورية، حتى إنه - كما ذكرت في الفصل
الأول - أصبح تقريبا السمة المشتركة في تاريخ الفلسفة. ويواصل خلفاؤه من الفلاسفة عملهم الفلسفي بأسلوبه؛ إذ يتصدون للمشكلات التي حددها أو التي منحها شكلا معاصرا باستخدام الأدوات والأساليب التي ابتكرها، وكلها تنسجم مع الأهداف والافتراضات التي أقرها. ومن دلائل التغلغل غير العادي لتأثيره أن الكثيرين من بين الأجيال الشابة من فلاسفة القرن العشرين نادرا ما يدركون أن الفضل في كل هذا يعود إليه.
قال الفيلسوف جول فييمان إن الفلسفة المعاصرة بدأت بكتاب «مبادئ الرياضيات» من تأليف راسل. والفيلسوف الأمريكي المعروف دبليو في كواين يقتبس هذا القول، ويصوغه في استعارة: فهذا العمل من وجهة نظره هو «جنين فلسفة القرن العشرين» (دبليو في كواين، «تعليقات لندوة تذكارية»، في كتاب «برتراند راسل»، من تأليف بيرز، ص5). وكان كواين نفسه قد انجذب إلى الفلسفة حين قرأ أعمال راسل؛ ففي شبابه تعلم المنطق والعلم والفلسفة لأول مرة من كتب راسل؛ وشعر مثل الكثيرين بقوة الجذب التي تتمتع بها، وأغرته كتبه بدراسة المنطق وفلسفة الرياضيات، ثم بدراسة نظرية المعرفة وفلسفة العلم. كتب كواين: «تردد صدى النبرة العلمية الحقيقية لمنطق راسل في تناوله لنظرية المعرفة فيما يتعلق بالمعرفة الطبيعية. وكان الصدى واضحا لا سيما في عام 1914، في كتاب «معرفتنا بالعالم الخارجي». وأسهم ذلك الكتاب في إشعال حماس بعضنا - وخصوصا رودولف كارناب - بآمال جديدة صوب مذهب الظواهر» (المرجع السابق ص2-3). ويضيف كواين إلى ذلك الكتاب المحاضرات التي تتناول مذهب الذرية المنطقية وكتابي «تحليل العقل» و«تحليل المادة» باعتبارها من الأعمال المشتملة على بذور التطور؛ إنها وثيقة الصلة بالفلسفة العلمية الغربية للقرن العشرين (المرجع السابق). وفلسفة راسل وثيقة الصلة أيضا بالمنطق الذي قدمه - «فاسم راسل ملازم للمنطق الرياضي، الذي يدين له بالكثير» - لا سيما نظرية الأوصاف ونظرية الأنماط.
ابتكر راسل نظرية الأنماط للتغلب على التناقضات الظاهرية التي اكتشفها وهو يحاول إرساء الرياضيات على أسس منطقية. وأثناء جهوده لحل هذه المشكلة ناقش عددا من البدائل، بما فيها بديل كان من قبيل المفارقة له الفضل في تأسيس نظرية المجموعات - في رؤية استنبطها إرنست زيرميلو - التي حلت محل النظرية التي ابتكرها راسل في نهاية الأمر. ولكن نظرية الأنماط التي وضعها كان لها تأثير هائل في الفلسفة. وفكرتها المحفزة استعان بها أتباع الوضعية المنطقية إبان العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين في شن هجومهم على الميتافيزيقا، وطبق جيلبرت رايل رؤية مختلفة منها للتخلص من «أخطاء الفئات»، ومنها الخطأ الذي يمكن أن يقع فيه الشخص بظنه أن جامعة أكسفورد عبارة عن كيان إضافي لكل الكليات والمؤسسات التي تتألف منها الجامعة. وحسب وجهة نظر كواين، أثرت نظرية الأنماط أيضا في إدموند هوسرل، وفي عالمي المنطق البولنديين العظيمين ستانيسلاف ليشنييفسكي وكازيمييش آيدوكيفيتش (كتاب «راسل»، من تأليف بيرز، ص4)، إضافة إلى جوانب أخرى من منطق راسل.
ولا بد من إضافة أهمية نظرية الأوصاف إلى ذلك. يقول كواين:
كانت نظرية الأوصاف المنطقية التي وضعها راسل مهمة من الناحية الفلسفية بفضل علاقتها المباشرة بالمشكلات الفلسفية المتعلقة بالمعنى والإحالة، وبفضل قيمتها التوضيحية كنموذج للتحليل الفلسفي. أنشأت نظرية راسل عن الأنماط المنطقية اتجاهات جديدة في آن واحد في ميتافيزيقا الفئات الوجودية، وفي الوضعية المنطقية المناهضة للميتافيزيقا علاوة على اللغويات البنيوية ، وذلك في نموذج لتطبيق الفلسفة على مجال بعيد. فهل من عجب أن يرى فييمان أعمال راسل في مجال المنطق باعتبارها تبشر بالفلسفة المعاصرة؟ (كتاب «راسل»، من تأليف بيرز، ص4-5)
حين توفي راسل وجه جيلبرت رايل خطاب تأبين إلى الجمعية الأرسطية - وهي أهم ناد فلسفي بريطاني - التي كثيرا ما قرأ فيها راسل أوراقه البحثية بداية من عام 1896. وأشار رايل فيه إلى النواحي التي منحت أعمال راسل - في رأيه - فلسفة القرن العشرين «مسارها بأكمله» (خطبة «برتراند راسل: 1872-1970»، أعيد طبعها في «مجلد برتراند راسل التذكاري»، من تأليف روبرتس). وكان من تلك النواحي «أسلوب جديد من الأعمال الفلسفية أدخله راسل - أعتقد على نحو فردي - إلى سبل الفكر الفلسفي» (المرجع السابق ص16). كان هذا الأسلوب يقوم على استخدام الحالات الصعبة لاختبار الفرضيات الفلسفية، وهو شكل من التجريب المتعلق بالمفاهيم يهدف إلى إخضاع الادعاءات ومفاهيم الفلسفة للفحص الدقيق. فعلى سبيل المثال، يعرض راسل في بحثه المعنون «المنطق الرياضي على أساس نظرية الأنماط» سبعة تناقضات تتطلب حلا تقدمه نظرية كفء، ويقدم الحل كاختبار لكفاءة نظرية الأنماط التي وضعها، وينجح ذلك الحل مع المتناقضات كلها. وأصبح هذا الأسلوب الآن منهجا فلسفيا مألوفا. إن الغرض من ابتكار التجارب الفكرية هو اختبار وجهة نظر ما، كما في الأخلاق، مثلا، حيث يطبق مبدأ ما على مجموعة متنوعة من الحالات التي تزداد صعوبتها لمعرفة ما إذا كان المبدأ يلائمها؛ أو في مناقشات المفهوم الجدلي والميتافيزيقي المهم للهوية الشخصية، حيث تبتكر «اختبارات صمود» لمعرفة ما إذا كان علينا أن نعتبر الأشخاص الذين يدخلونها ويخرجون منها هم «الأشخاص أنفسهم».
شكل 5-1: لودفيج فيتجنشتاين (1889-1951)، تلميذ راسل أثناء دراسته في كامبريدج قبل الحرب.
1
ولكن - حسب وجهة نظر رايل - الأهم من ذلك هو الطريقة التي أدخل بها راسل فرع المنطق الصوري إلى الفلسفة. «كان الفضل يعود إليه - كما يعود إلى فريجه ووايتهيد بدرجة أقل - في أنه سرعان ما أصبح يعتبر الحصول على قدر من التمرين على المنطق الصوري في فلسفة ما بعد أرسطو من الشروط الضرورية لمن سيصبح فيلسوفا» (المرجع السابق، ص19). وكان وضع رايل يتيح له أن يعرف ذلك؛ إذ كان له دور أساسي في ضمان إتاحة ذلك في المقرر الدراسي في جامعة أكسفورد. ومبرر ضرورة التمرين على المنطق هو أنه يرسي الدقة ويبشر بفرص للفهم من النوع الذي على غرار نظريات راسل عن الأوصاف والأنماط. ومثل كواين، يشيد رايل بالسبب الثاني باعتباره مهما أهمية خاصة في توضيح كيف يمكن التفرقة بين المنطق السليم والهراء، وبهذه الطريقة - حسب وجهة نظره - أثر تأثيرا منفصلا في فيتجنشتاين في بداياته وفي أتباع الوضعية المنطقية.
رشح فييمان أول محاولة مهمة لراسل تهدف إلى إمداد الرياضيات بأسس منطقية لتكون بوتقة الفلسفة التحليلية. ولا شك أن هذا صحيح، بمعنى أن راسل حدد فيها - في شكل مبدئي وأحيانا غير مكتمل - المناهج والمشكلات الأساسية. ولكن كواين على حق أيضا في أن يقول إن الفلسفة التحليلية تعتمد تماما على كل أعمال راسل - كتبه وأوراقه البحثية - في الفترة ما بين عام 1900 وعام 1930 تقريبا. ومع ذلك، تظهر اللبنات الأولى لأعمال لاحقة في بعض هذه المواضع على نحو أوضح؛ فلدينا مثلا الفصل الثاني من كتاب «معرفتنا بالعالم الخارجي»، بعنوان «المنطق باعتباره جوهر الفلسفة». وهذا الفصل بمثابة وثيقة توضيحية بطريقتين؛ أولا: أنه يوضح أشد توضيح أهداف ودوافع ومناهج أسلوب التحليل عند راسل. وثانيا: أنه يحتوي على وصف مختصر للمشروع الفلسفي الذي اتخذه فيتجنشتاين في كتابه «رسالة منطقية فلسفية»، ويشرح كيف تنشأ الأفكار وتتطور.
يبدأ راسل الفصل الثاني من كتاب «معرفتنا بالعالم الخارجي» بالتأكيد على أن مشكلات الفلسفة كلها تختزل - ما دامت فلسفية بحق - في مشكلات المنطق (معرفتنا بالعالم الخارجي، ص42). ويقصد بهذا أنه يمكن توضيح المشكلات الفلسفية وحلها بتطبيق أساليب المنطق الرياضي الأولي؛ مما «يساعدنا على التعامل بسهولة مع المزيد من المفاهيم المجردة بما يفوق قدرة الاستدلال اللفظي على إحصائها؛ وهي تقترح افتراضات مثمرة ما كان لها أن تخطر على بالنا في ظروف أخرى؛ وهي تساعدنا على أن ندرك بسرعة أصغر مقدار من المواد يمكن به بناء صرح منطقي أو علمي» (معرفتنا بالعالم الخارجي ، ص51). وبصفة خاصة، فإن نظريات الإدراك والمعرفة التي يواصل تقديمها في الفصول التالية من كتاب «معرفتنا بالعالم الخارجي» «ألهمها المنطق الرياضي ولم يكن من الممكن تصورها من دونه قط» (المرجع السابق). والعامل المهم هو الفكرة القائلة بأن المنطق يساعدنا على تحديد «صور» الوقائع والقضايا التي تعبر عنها. إن نموذج التحليل الذي يحل مشكلة كبيرة عن طريق الكشف عن صورة القضية هو - بطبيعته - نظرية الأوصاف. وحتى قبل ذلك استخدم راسل التحليل الصوري لإثبات أن ليس كل القضايا تتخذ صورة الموضوع والمحمول، بل إنها تكون ارتباطية؛ وتمكن هذا التحليل وحده - من وجهة نظره - من دحض مذهب المثالية وتبرير الافتراض المتعلق بالتعددية.
وفي سياق مناقشة العلاقات في الفصل الثاني من كتاب «معرفتنا بالعالم الخارجي»، يقول راسل إنه لا يمكن فهم العلاقات جيدا إلا في وجود تصنيف للصور المنطقية للوقائع. وفي هذا الموضع يأتي الوصف المختصر للموضوع الذي تناوله كتاب فيتجنشتاين «رسالة منطقية فلسفية». وهذا ليس إيحاء بأن راسل استقى الفكرة من فيتجنشتاين، وكان تلميذا لراسل في جامعة كامبريدج لمدة سنتين قبل أن يكتب راسل هذا الفصل؛ بل هو إيحاء بالعكس؛ إذ استقى فيتجنشتاين هذه الأفكار من راسل. ويأتي مبرر هذا الادعاء بعد برهة. أولا: من الضروري أن نذكر أنفسنا بالحجة التي يقوم عليها كتاب فيتجنشتاين «رسالة منطقية فلسفية». باستخدام كلمات فيتجنشتاين نفسه ونظام الترقيم بعد إعادة ترتيبه هنا (لتوضيح بنية الحجة)، فإن الفرضيات الأساسية الواردة في كتاب «رسالة منطقية فلسفية» هي: (1) العالم هو كل الحقيقة الواقعة. (1-1) العالم هو مجموع الوقائع، وليس الأشياء. (2) الحقيقة الواقعة - بمعنى الوقائع - هي وجود حالات. (2-1) أي حالة هي عبارة عن مجموعة من العناصر (الأشياء). (2-2) العناصر بسيطة.
ويوازي هذا الوصف المتقشف لبنية العالم وصف للبنية الفكرية المقابلة كما ترمز إليها القضايا، وهي علاقة يصفها فيتجنشتاين بمصطلح التصور. (4) أي صورة منطقية للوقائع هي عبارة عن فكرة. (3-1) في أي قضية تجد الفكرة رمزا يمكن أن تدركه الحواس. (3-201) في أي قضية يمكن التعبير عن فكرة ما بطريقة تماثل فيها عناصر رمز القضية عناصر الفكرة . (5) أي قضية هي دالة صدق للقضايا الأولية. (4-21) أبسط نوع من القضايا - وهي القضية الأولية - تؤكد وجود حالة ما.
وتسير الحجة على هذا النحو، بمزيد من التفصيل. ومن نافلة القول أن الأفكار المنطقية التي تكمن وراء هذه الفرضيات هي بالطبع مألوفة من الأعمال السابقة لراسل؛ ولكنها تتصل أساسا بفكرة البنية ووسيلة تحليلها، ومثال ذلك نظرية الأوصاف. والمدهش أكثر هو المضمون الفعلي لوجهات النظر التي يعبر عنها بالترتيب كل من فيتجنشتاين في كتاب «رسالة منطقية فلسفية» وراسل في الفصل الثاني من كتاب «معرفتنا بالعالم الخارجي». وفي هذا الفصل يكتب راسل:
يتألف العالم الحالي من الكثير من الأشياء والكثير من الصفات والعلاقات. ومن المفترض ألا يتطلب وصف كامل للعالم الحالي قائمة بالأشياء فحسب، بل أيضا ذكرا لكل صفاتها وعلاقاتها ... فحين أتحدث عن «واقعة» ما، فإني لا أقصد واقعة من الأشياء البسيطة في العالم، بل أقصد أن شيئا معينا يحمل صفة معينة، أو أن أشياء معينة تحمل علاقة معينة ... وأي واقعة بهذا المعنى ليست بسيطة مطلقا، ولكنها دائما تتألف من مكونين أو أكثر ... وعند وجود أي واقعة، توجد قضية تعبر عن الواقعة، (وهذه القضية) سيطلق عليها قضية ذرية؛ لأنه كما سنلاحظ حالا يوجد قضايا أخرى تدخل فيها القضايا الذرية في قضايا ذرية أخرى بطريقة مشابهة للطريقة التي تدخل بها الذرات في الجزيئات ... ولكي نحافظ على التوازي في اللغة فيما يتعلق بالوقائع والقضايا، سنطلق اسم «الوقائع الذرية» على الوقائع التي ندرسها حتى الآن. (معرفتنا بالعالم الخارجي، ص60-62)
وتستمر الحجة على هذا النحو.
يأتي وصف راسل هنا كوصف مختصر ، ويحضر على نحو غير رسمي؛ ففي كتاب «رسالة منطقية فلسفية» يعرض فيتجنشتاين فرضياته بمزيد من التفصيل، في شكلها المرقم ترقيما منظما؛ مما يمنحها مظهر الدقة، مع أنها في الواقع عبارة عن حجة جزئية فقط. ويحرص فيتجنشتاين على فصل وصفه لأبنية اللغة العالمية الموازية عن أي اعتبارات إبستمولوجية، فيما يقدم راسل أمثلة واقعية للوقائع والصفات والعلاقات: مثال على الحقيقة الذرية عبارة «هذا أحمر»، ومثال على الحقيقة الجزيئية عبارة «اليوم هو الاثنين وهي تمطر الآن».
من الممكن إثبات أن الأساس الذي يستند إليه كتاب فيتجنشتاين «رسالة منطقية فلسفية» مستمد من أفكار راسل هذه؛ وذلك لأن الوصف المختصر الوارد في فصل كتاب راسل يلخص وصفا أطول كان يسعى إلى تقديمه في مخطوطة أصبحت تعرف الآن باسم «نظرية المعرفة». (أصبحت المخطوطة تحمل هذا العنوان عند إعادة بنائها ونشرها بعد وفاة راسل.) كان راسل مشغولا في العمل في هذه المخطوطة في عام 1913 حين كان فيتجنشتاين تلميذه. وعرضها على فيتجنشتاين، فانتقد ما بها من مناقشات تتناول الاطلاع والحكم. ف «الاطلاع» - كما سبق وصفه - هو الاسم الذي أطلقه راسل على العلاقات المعرفية الأساسية بين موضوع ما وعناصر من أنواع مختلفة؛ و«الحكم» هو علاقة معقدة يمكن وصفها تقريبيا بأنها تقبل قضية ما باعتبارها صادقة بسبب الاطلاع على مكوناتها. نحن لا نعلم تفاصيل انتقادات فيتجنشتاين؛ وحين تحدث راسل عنها في رسالة قال: «كان كل منا يشعر بضيق الخلق بسبب ارتفاع حرارة الطقس، وعرضت عليه جزءا مهما مما كنت أعكف على كتابته؛ فقال دون أن يدرك الصعوبات إنه كله كان خاطئا، وإنه كان قد جرب وجهة نظري وتأكد من أنها لن تنجح. لم أستطع أن أفهم وجه اعتراضه - في الواقع كان عاجزا عن التعبير تماما - ولكني ينتابني شعور غامض ينبئني أنه كان محقا بالتأكيد.» ولهذا السبب في المقام الأول لم ينشر راسل إلا جزءا من المخطوطة، وبعد عدة سنوات تخلى عن مفهوم الاطلاع الذي كان في صلب موضوعها. ولكن الخطة الأساسية - التي تتناول القضايا الجزيئية القابلة للتحليل إلى مكونات ذرية، والتي ترمز إلى وقائع توازيها في البنية، على أن تكون العلاقات التي بين الوقائع والقضايا هي أساس فهمنا للقضايا - تظل موجودة في الوصف المختصر الوارد في الفصل الثاني من كتاب «معرفتنا بالعالم الخارجي»؛ وهو الهيكل الذي يكسوه فيتجنشتاين بلحم مختلف بعض الشيء في كتابه «رسالة منطقية فلسفية».
وليس من قبيل المفاجأة أن تكون وجهات نظر فيتجنشتاين مستمدة من راسل على هذا النحو؛ إذ كان راسل فعليا هو معلم الفلسفة الوحيد الذي تعلم منه فيتجنشتاين، كما كانت أعمال راسل - باستثناءات مميزة قليلة - هي قراءاته الفلسفية الأساسية. وقد كتب صديقه ديفيد بينسنت في مذكراته: «من الواضح أن فيتجنشتاين من مريدي راسل ويدين له بالكثير.» إذن من الواضح أن كتاب فيتجنشتاين «رسالة منطقية فلسفية» كان من بين النتائج الفلسفية الأولى التي نشأت من أعمال راسل. ومن الممكن أن يقال إن راسل من بين المؤثرات الأساسية التي أثرت في فلسفة فيتجنشتاين في فترة لاحقة أيضا، لكن على نحو معقد، وسلبي هذه المرة.
إذا لم يزد عدد من تأثروا براسل عن الأسماء التي ذكرتها فعلا - كواين وكارناب وأتباع الوضعية المنطقية وفيتجنشتاين ورايل؛ ومن الممكن أن يضاف إلى القائمة إيه جيه آير، وذلك بإقراره هو شأنه في ذلك شأن كواين - فمن المفترض أن يكون ذلك دليلا يؤكد صحة ادعاء فييمان بأن راسل هو مؤسس الفلسفة التحليلية في القرن العشرين وزعيمها. ولكن لدينا المزيد مما لا بد أن يقال في ذلك الصدد، ولدينا كذلك فكرة أنه يوجد من ينسبون هذه المكانة إلى غيره. وتستحق النقطتان المناقشة.
للأسف لا يوجد فهرس لمجموعة أوراق راسل البحثية التي حررها آر سي مارش بعنوان «المنطق والمعرفة». والمجموعة تجمع بين بعض من أهم مقالات راسل وأكثرها ترابطا، ومعظمها - بدورها - من المواد المطلوب أن يقرأها الفلاسفة المتخصصون في الفلسفة التحليلية. وتشمل «منطق العلاقات»، و«عن التدليل»، و«المنطق الرياضي بناء على نظرية الأنماط»، و«عن طبيعة الاطلاع»، و«فلسفة مذهب الذرية المنطقية»، و«عن القضايا: ماهيتها ومعناها»، وغيرها. وفي ظل غياب فهرس من المرجح أن يخط الدارس المتأني لهذه الأوراق البحثية فهرسه الخاص بالقلم الرصاص على الصفحات الخالية في مقدمة أو نهاية نسخته من الكتاب. وحين أتصفح نسخي من هذه الكتب أجد إحالات ليس فقط إلى الموضوعات التي من المفترض أن يتوقع المرء وجودها في مجموعة من أعمال راسل - الأوصاف، والتدليل، والأنماط، والأوهام المنطقية، والتحليل، والاطلاع، والبيانات الحسية، والعلاقات، والكليات، والجزئيات، والوقائع، والقضايا، وما إلى ذلك - بل أيضا قائمة بما يبدو أنه بعض الأفكار الملحة في الفلسفة التحليلية: مواقف القضايا والجهة، والعوالم الممكنة، والإبهام، ومذهب الطبيعية، ودالة الصدق، وطبيعة العقل، والتحقق والصدق، والوجود والمعنى، وغير ذلك الكثير. وينشأ قدر كبير من هذا من راسل نفسه؛ ومن ثم تشكل أعماله من حيث الموضوعات محل الاهتمام والمجال تغييرا ملحوظا في مسار تاريخ الفلسفة. وحتى الفلاسفة الخمسة المعاصرون الذين كثيرا ما يشيد بهم راسل في صفحات الشكر في كتبه - وكان كريما إلى حد فريد، بل مفرطا في الكرم، في نسب مصدر إلهامه إلى الآخرين - وهم بالتحديد بيانو وفريجه ووايتهيد ومور وويليام جيمس، يوجد واحد فقط من بينهم يضارعه في مناقشة هذا النوع والمجال (بدرجة أقل) من الموضوعات، وهو فريجه.
ولكن مع أن فريجه أثر في راسل، وأنجز أعمالا بارعة في فلسفة الرياضيات واللغة، فإن تأثيره على راسل كان أقل مما قد يفترض المرء؛ لأن راسل لم يفهم فريجه حين قرأ أعماله في بادئ الأمر، واضطر إلى إعادة اكتشاف بعض آراء فريجه بنفسه إلى أن فهم معناها؛ وحتى حينئذ - في بعض النقاط المهمة مثل الفارق الذي وضعه فريجه بين الحس والإحالة - لم يتخذ موقف فريجه ووضع فارقا مختلفا وأقل توفيقا. وعلاوة على ذلك كانت الموضوعات محل الاهتمام - مع أنها أشد عمقا - حدودها أضيق من حدود موضوعات راسل؛ لذلك كان تطبيق راسل للأفكار الجديدة في المنطق الرياضي على شئون فلسفية أوسع أمرا غير مسبوق فعليا؛ ولذلك فإن أصالة إسهامات راسل عظيمة.
كان لتأثير راسل صور أخرى أيضا؛ ففي الفصل الثالث من كتاب «معرفتنا بالعالم الخارجي» تناول راسل مشكلة تفسير الإدراك المكاني عن طريق بناء «افتراض نموذجي» كتفسير جائز يعلل كيف أن الأمكنة الخاصة القائمة على المنظور، التي يتعرض لها الأفراد بالرؤية واللمس، يتضح أنها متناسبة مع الأمكنة الخاصة للآخرين في المكان العام. وقد تمكن من تنفيذ ذلك من خلال إنشاء نموذج ثم «التخلص من كل ما هو زائد في الافتراض الذي وضعناه ونترك بقية قد نعتبرها الجواب المجرد على مشكلتنا» (معرفتنا بالعالم الخارجي، ص94). ويأخذنا راسل خطوة بخطوة صوب بنية تثبت كيف يمكن التغلب على تناقض ظاهري مهم بين عالم الحس وعالم الفيزياء. واستخدم بي إف ستروسون لاحقا أسلوبا مشابها في كتابه «الأفراد»؛ حيث استخدمه في بناء عالم يعتمد على حاسة السمع فحسب لاستكشاف مفاهيم الجزئيات الأساسية ومفاهيم إعادة التعرف. واستخدمه إيه جيه آير في كتابه «أسئلة فلسفية مهمة» لتحديد قدر الإمكانيات الإدراكية والمفاهيمية التي يجب أن نسلم بوجودها لدى مدرك ما كأساس يقوم عليه تعرضه لتجربة إدراكية. وتوجد أمثلة أخرى بالإضافة إلى ذلك.
من السمات اللافتة في إرث راسل أنه فلسفي بالكامل تقريبا بدلا من كونه منطقيا أو رياضيا. وتتطلب هذه الفكرة تفسيرا. وقد قال جي تي نيبون: «بفضل الإلهام الذي منحه كتاب «أصول الرياضيات» لعلماء المنطق والفلاسفة في القرن العشرين، وبفضل ما يتسم به من ثراء كمصدر للمفاهيم والوسائل الرمزية، يظل هذا العمل العظيم في أدبيات أصول الرياضيات أثرا متفردا من الطراز الأول بلا نظير.» هذا التقييم ليس صحيحا في المطلق؛ إذ أدت مجموعة الرموز المنطقية التي أدخلها كتاب «أصول الرياضيات» إلى تشكيل أساس ما أصبح اليوم هو المتعارف عليه، وقد ظهرت رؤى مختلفة لبعض التفاصيل الفنية الواردة في كتاب «أصول الرياضيات»، مثلا رؤية كواين لنظرية الأنماط؛ ولكنه صحيح في العموم، وهذا هو ما يستدعي التعليق. باختصار، شهدت فترة تأليف كتاب «أصول الرياضيات» والفترة التي أعقبت تأليف الكتاب حدوث زيادة مفاجئة في البحث الرياضي والمنطقي. من العدل أن يقال إنه سرعان ما جعل كتاب «أصول الرياضيات» قديما. صيغت مجموعة متنوعة من أنواع المنطق واكتشفت أنظمة صورية للحساب لا تقوم على المنطق، واتضح أن كلا من المنطق ونظرية المجموعات نسبيان (بمعنى أن التطورات التي حدثت في المناهج المختلفة أثبتت عدم وجود منطق فريد «مطلق» أو نظرية للمجموعات مطلقة)، وحلت نظرية المجموعات التي وضعها زيرميلو فرانكل محل نظرية المجموعات القائمة على نظرية الأنماط، وعرقلت النظرية الرياضية التي تتناول عدم الكمال - التي وضعها كيرت جوديل، وتقول في جوهرها إنه لا يمكن اختزال الرياضيات أو المنطق إلى نظام من المسلمات - الأمل القائم على النزعة المنطقية الذي كان يراود راسل لتفسير مصدر ومبررات المعرفة الرياضية بالحدود المنطقية.
ومن ثم، تعود قيمة كل من مشروع كتاب «أصول الرياضيات» ومساعي راسل للتغلب على الصعوبات الفنية وهو ينفذ ذلك المشروع أساسا إلى النتائج التي ترتبت عنه في مجال الفلسفة بدلا من مكانتها في تاريخ الرياضيات. والشيء نفسه ينطبق على أعمال فريجه، فيما عدا أن بعض ابتكاراته الفنية في شكليات المنطق كانت ذات أهمية بالغة لتطوره فيما بعد.
فريجه هو المفكر العظيم الآخر في بداية القرن العشرين الذي يعود إليه الفضل في تأسيس الفلسفة التحليلية. والباحث الذي يضع فريجه في صدارة الخريطة الفلسفية للقرن العشرين - وهو مايكل داميت - يؤكد أن جوهر الفلسفة التحليلية هو الادعاء بأنه لكي نفهم كيف نرى العالم، لا بد أن نفحص اللغة؛ لأن اللغة هي سبيلنا الوحيد نحو الفكر. ويؤدي هذا إلى جعل فلسفة اللغة محورية، لتحل محل نظرية المعرفة التي - منذ عصر ديكارت على أقل تقدير - كانت تتخذ هذا الموقف. ويقول داميت إن الفضل في إحلال فلسفة اللغة محل نظرية المعرفة يعود إلى فريجه. وكان فريجه قد شرع في المشروع نفسه الذي شرع فيه راسل - وبدأ قبله بعقدين - وهو مشروع بناء الرياضيات على أسس من المنطق. واكتشف أن الأدوات المنطقية المتاحة لديه غير كافية على الإطلاق لتنفيذ المهمة؛ ولذلك بدأ في ابتكار أدوات جديدة ونجح في ذلك. وساعدت ابتكاراته على تبسيط المنطق، وفي الوقت نفسه على توسيع تأثيره إلى حد كبير. ولكنه اكتشف أيضا أنه سيكون مضطرا إلى ضرب أمثلة على مفاهيم الإحالة والصدق والمعنى لتنفيذ مشروعه، وهذه هي المرحلة - كما يقول داميت - التي شهدت بدء الاتجاه إلى فلسفة اللغة.
مما لا شك فيه أن أعمال فريجه ذات أهمية بالغة في الفلسفة. ومما لا شك فيه أيضا أن فريجه قد أثر في راسل، مع أن ذلك كان على النحو المبهم الذي ورد وصف مختصر له فيما سبق قبل بضع فقرات. ولكن من الصعب أن نتفق مع ادعاء داميت الذي ينسب الأولوية التاريخية إلى فريجه، وليس سبب هذا فقط أن مفهوم داميت عن الفلسفة التحليلية مقيد على نحو غير واقعي؛ فالواقع أن أعمال فريجه كانت غير معروفة إلا فيما ندر في حياته (توفي في عام 1925)، وكاد راسل يكون الوحيد الذي حاول جذب الانتباه إليها. وحتى آنذاك، لم يدرك الناس المضمون الكامل لأعمال فريجه إلا في خمسينيات القرن العشرين، وفي الواقع لم يحدث ذلك إلا بعد ظهور الدراسات المهمة الأولى التي أصدرها داميت عن فريجه في ستينيات القرن العشرين. وبخصوص الجانب التاريخي البحت، من المفترض أن يكون من الأصح أن نقول إن القيمة البارزة لأفكار فريجه هي عبارة عن نتيجة متوقفة على أهميتها النظرية وليس التاريخية. أما بخصوص قدر كبير من أعمال راسل - نظريات الإدراك والمعرفة التي وضعها وفلسفات العقل والعلم التي ابتكرها - فمن الإنصاف أن نقول إن العكس صحيح؛ فالأهمية ذات طابع تاريخي أكثر منه نظريا. ولكن بعض أعمال راسل كما رأينا تجمع بين القيمة النظرية والتاريخية، وهذا يفسر كيف أنها أسهمت في تطور الفلسفة التحليلية.
أحيانا ما تقترح آراء ترى أحقية جي إي مور بلقب مؤسس الفلسفة التحليلية، وذلك ليس من فراغ. نسب راسل - بأسلوبه الكريم - خروجه من مذهب المثالية إلى تأثير مور، ومما لا شك فيه أن مزاج مور الفلسفي ومناهجه الفلسفية كان لها تأثير عليه. وادعى مور أنه فيما أن معظم الفلاسفة بدءوا يعبرون عن آرائهم الفلسفية بدافع الدهشة، كان مبرره في ذلك هو أنه اكتشف أن ما قاله الفلاسفة الآخرون مدهش. وكان الأسلوب الذي اتبعه يقوم على البحث عن تعريفات للمصطلحات أو المفاهيم الأساسية محل النقاش في حقل ما من حقول الاستقصاء الفلسفي. وكان يشترط في أي تعريف أن تكون الجملة أو الكلمات التي يتألف منها التعريف مرادفة للتعبير أو المفهوم المطلوب تعريفه على ألا تحتوي على مصطلحات مشتركة معه. ويكمن خلل هذا المطلب في أنه حتى إذا كانت مثل هذه التعريفات ممكنة - من المشكوك فيه وجود مثل هذه التعريفات، حتى في حالة التعريفات المعجمية مثل التعريفات المألوفة الواردة في القواميس - فهي لا تشكل إلا نوعا واحدا من التعريفات، أما الأنواع الأخرى - مثل التعريفات التحليلية (التي تعرف شيئا بوصف بنيته أو وظيفته) والتعريفات العملية (التي تسمح بأن يشرح شيء ما نفسه عن طريق عرضه وهو قيد الاستعمال) - فغالبا لا تكون فقط عملية أكثر، بل وكاشفة أكثر؛ ومن ثم تكون ذات قيمة فلسفية أكبر. وكان مور يقر بالطبع بوجود ونفع أنواع أخرى من التعريفات، ولكنه اعتبر النوع المفضل إليه هو النوع المثالي؛ وكان يرى أيضا أنه توجد مفاهيم فلسفية أساسية معينة - مثل مفهوم «الصلاح» في علم الأخلاق - ليس من الممكن توفير تعريف لها؛ وهذه الأشياء غير قابلة للتعريف وبدائية، ويجب أن تبدأ النظرية بها بدلا من أن تحاول تفسيرها.
مما لا شك فيه أيضا أن أسلوب مور وشخصيته كانا من العوامل المهمة في السنوات الأولى من الفلسفة التحليلية. وفي مقدمة كتاب «معرفتنا بالعالم الخارجي»، كتب راسل أن التحليل أدخل إلى الفلسفة ما أدخله جاليليو إلى الفيزياء: «إحلال نتائج تدريجية ومستفيضة وممكن إثباتها محل مبادئ عامة غير مجربة لا يزكيها إلا مخاطبة القدرة على التخيل.» وقد يصلح هذا المقطع أيضا ليكون وصفا لأسلوب مور الدقيق في الفلسفة؛ ففيه يأخذ ادعاء أو فكرة ما ويظل يفكر فيها طويلا بلا كلل حتى يحللها إلى مكوناتها في صياغة منظمة. وهو ليس أسلوبا خلابا، لكنه فعال بطريقته المحدودة. كان لمور عدد كبير من المقلدين، ولكن أهدافه ومناهجه كانت تنزع إلى الانتقاد في المقام الأول؛ فلم يقدم أي اكتشافات فلسفية. ويكمن إرثه الأساسي في أنه منح انتشارا لمفهوم «المغالطة الطبيعية» في علم الأخلاق، وهي تعريف صفة أخلاقية مثل الصلاح من حيث صفة ما طبيعية مثل المتعة. إن مقياس تأثير أي فيلسوف هو مدى الاستفادة من مناهجه وأفكاره بعد أن يقدمها؛ وبهذا المقياس فإن مكانة مور في فلسفة أوائل القرن العشرين لا تضاهي مكانة راسل. ومع ذلك ساعد مور فعلا في تشكيل الجو التحليلي، وقد ساعدت حركته المميزة الشهيرة - شهقة الارتياع التي كان يرد بها على الأقوال الفلسفية التي كانت تبدو له شاذة - في دفع أجيال من التلاميذ والزملاء للتفكير بمزيد من الحرص قبل أن يتكلموا أو يكتبوا.
قد توحي المناقشة السابقة بأن الفلسفة التحليلية ظاهرة حديثة العهد. وهذا صحيح، على صعيد أن الكثير من مصادر إلهام الفلسفة التحليلية وأساليبها مستمد من أسس المنطق الجديد. ولكن على صعيد آخر وعلى القدر نفسه من الأهمية، فإنها تمثل تطورا مباشرا لتراث هيوم وبيركلي ولوك وأرسطو. وقد أسهم أول مفكرين من هؤلاء المفكرين - ولا سيما الثاني - فضلا عن لايبنتس، في تشكيل قدر كبير من توجه راسل الفلسفي. وليس من الصعب أن نلاحظ التشابه بين راسل وأرسطو؛ إذ إن أرسطو أقام تصوره للميتافيزيقا على تصوره للمنطق، وطور تصوره للمنطق لهذا الغرض، تماما مثلما فعل راسل.
لا يمكن أن يغفل أي تقييم لراسل كفيلسوف فكرة أن أعماله كثيرا ما تكون أقل دقة وحرصا مما كان من الممكن أن تكون عليه إذا كان قد اتبع نصائحه المنهجية. وتتخلل أعماله فعلا مساحات معروفة من الإهمال والسطحية، ومن العجائب الباقية في مجال الفلسفة أن أكثر كتبه نجاحا وانتشارا، وهو كتاب «تاريخ الفلسفة الغربية»، والذي يعد مصدرا لمعظم الناس لمعرفة الفلسفة - مع كل مزاياه الجمة الأخرى - يتسم بنقص فادح كمناقشة فلسفية في عدة مواضع. كانت له أخطاء أصبح الطلاب حاليا يحترسون منها في محاولاتهم الأولى؛ ومن أمثلة ذلك استخدام الفارق بين «الاستخدام والذكر»، والذي يتناول الاختلاف الشاسع بين استعمال تعبير ما فعلا وبين التحدث عنه؛ ففي الجملة السابقة استخدمت كلمة «تعبير»؛ وأنا الآن أذكرها، وأميز هذه الحقيقة من خلال وضع الكلمة بين علامتي تنصيص. وتحفل المناقشات الفلسفية بالمناسبات التي تتضح فيها أهمية الفارق، وهو أمر من الممكن إثباته بأن نذكر أن لكل من جملتي «شيشرون لديه ستة رسائل» و«كلمة «شيشرون» تتألف من ستة أحرف» معاني مختلفة تماما.
غضب البعض من لامبالاة راسل أحيانا بخصوص ضرورة الحرص على الدقة (وهو واجب محتوم في الفلسفة، إذا كان المرء يسعى إلى الدقة والوضوح. وتتطلب الفلسفة أيضا القدرة على التخيل والإبداع، ولكن إذا لم تتحد القدرة على التخيل مع الدقة، فإنها لا تفيد المرء كثيرا). وقد وصف نورمان مالكوم - في سياق العرض النقدي الذي قدمه عن كتاب «معرفتنا بالعالم الخارجي» - هذا بأنه «ثرثرة حواة». ومن المفارقات أن راسل تسبب في رفع معايير المناقشات الفلسفية إلى حد بعيد، ولكن قياسا بالمستويات المتطلبة التي بلغتها تلك المعايير، بات هو نفسه حاليا لا يبلغ المستوى المطلوب أحيانا.
ومع ذلك، فإن هذه الشكاوى غير ذات بال؛ ففي معظم الحالات التي يتجاوز فيها راسل التحفظات والتفاصيل القليلة الأهمية باستخدام نثره البديع، ويسحرنا بخفة ظله وظرفه، تصبح مثل هذه المشكلات التي يتسبب فيها غير فادحة إذا كان القارئ متنبها. وعلى أي حال كان راسل يدرك أنه أحيانا كان يستخدم أسلوبا مفرطا في سرعته. كان يضيق ذرعا بالميل إلى استعراض المعلومات الذي لا يرضى صاحبه إلا إذا أثقل الكتاب بسيل من الحواشي. كان يتلهف على النتائج العملية وعلى وجهة نظر ثابتة وفعالة تعبر عن أفضل معلومات أساسية عن التجربة يستطيع أن يوفرها العلم. وفي بعض أعماله اللاحقة خصوصا، كان موقفه هو أنه إذا أمكن إيجاز المخطط التمهيدي لنظرية ما، أصبح من الممكن إضافة التفاصيل فيما بعد. وحتى في هذه الحالة نجد أن أفكاره محفزة وأحيانا غير مألوفة.
ولكن يلحظ المرء أن هذه الأقوال لا تنطبق على راسل إلا وهو في عجلة من أمره، وكأنه يرسم بأقلام الفحم بدلا من الألوان الزيتية؛ ففي أفضل حالاته تكون أعماله الفلسفية غنية ومستفيضة وبارعة وعميقة. ويصح هذا بالتحديد على ما كتبه في الفترة ما بين عامي 1900 و1914. والأوراق البحثية المجموعة بين دفتي كتاب «المنطق والمعرفة» واضحة بذاتها في هذا الصدد. إن ما يقوله آر إل جودشتاين عن بعض مضمون كتاب «أصول الرياضيات» - «يمثل كتاب «أصول الرياضيات» من بعض النواحي قمة في الإنجاز الفكري؛ إن مفهوم نظرية الأنماط المتشعبة القائمة على بديهية القابلية للاختزال خصوصا من أدق وأذكى المفاهيم على مستوى كل المؤلفات في مجال المنطق والرياضيات» («ما بعد كتاب أصول الرياضيات»، في كتاب «مجلد راسل التذكاري»، من تأليف روبرتس، ص128) - يمكن أن ينطبق على بعض كتابات راسل الفلسفية الأهم. وهذه إشادة بالغة فعلا.
إن الرسم البياني للشهرة له شكل يكاد يكون ثابتا؛ فهو يرتفع أثناء حياة المرء، وحتى إذا انخفض في سنوات الضعف فإنه يرتفع ارتفاعا شديدا عند نشر إعلانات النعي والكتب التذكارية. ثم ينخفض انخفاضا شديدا ويظل راكدا لمدة جيل واحد. ولكن يعود إلى الارتفاع بعد مدة طويلة ويجد مكانته المناسبة في تقدير أجيال المستقبل. توفي راسل عام 1970؛ وعلى مدى العقود التي أعقبت وفاته لوحظ أن اسمه - وليس تأثيره الحقيقي، كما تعرض الصفحات السابقة - لم يكن حاضرا إلا بما يتصل بالموضوعات الفلسفية التي كانت أساسية في عمله، خصوصا في مناقشة الإحالة والأوصاف، ومساعي تحليل الوجود، وفي التاريخ الحديث لنظرية الإدراك. ومن أسباب هذا التراجع إلى هامش التاريخ هو أن الفلسفة اللاحقة لفيتجنشتاين (ويستعصي هذا الفيلسوف على قاعدة الرسم البياني التي أشرت إليها؛ فعقب وفاته مباشرة ظهر مريدون متحمسون له على مدى ثلاثة عقود، ولكن مواهبه كفيلسوف - رغم عظمتها - أصبحت الآن تحظى بتقدير أكثر رصانة واعتدالا) كانت تقدم أسلوبا مناقضا تماما لأسلوب راسل في التحليل؛ ففي الواقع ظل معظم المشتغلين في الفلسفة يواصلون عملهم بأسلوب راسل، ولكن شهرة أفكار فيتجنشتاين وحماس مريديه منح الانطباع المعاكس. ويكمن السر في ذلك فيما قاله رايل عن أن راسل لم يكن يسعى أو يرغب في تأسيس مذهب من المريدين: «علمنا راسل ألا نعتنق أفكاره، بل أن يكون لكل منا تفكيره الفلسفي المستقل؛ فمن ناحية لا يوجد أحد الآن يتبع أسلوب راسل ولن يتبع أحد أبدا أسلوب راسل مرة أخرى؛ ولكن من ناحية أخرى كل منا الآن يتصف بشيء من أسلوب راسل.»
شكل 5-2: صورة شخصية لراسل.
2
بوجه عام يحظى المفكرون بمريدين حين يقدمون أجوبة جذابة للأسئلة الكبرى للفلسفة (وهي الأسئلة الكبرى للحياة، وذلك في مظهر أكثر تبسيطا). كان راسل متشككا في الأجوبة، مع أنه كان يسعى إليها بكل قوة. وفي خاتمة كتاب «مشكلات الفلسفة»، كتب راسل متحدثا عن قيمة الفلسفة:
لا بد من دراسة الفلسفة، ليس من أجل الحصول على أجوبة محددة على الأسئلة التي تطرحها، ما دام من غير الممكن التيقن عموما من صحة أي أجوبة محددة، بل لا بد من دراستها من أجل الأسئلة نفسها؛ لأن هذه الأسئلة توسع مداركنا لكل ما هو ممكن، وتثري قدرتنا على التخيل الفكري، وتقلل من اليقين الجازم الذي يغلق العقل أمام التفكر؛ بل والأهم من ذلك، لأن العقل يصير عظيما نظرا لعظمة الكون الذي تتفكر فيه الفلسفة، ويصبح قادرا على ذلك الاتحاد مع الكون الذي يؤلف الخير الأسمى.
بأي مقياس يختاره المرء نجد أن راسل من العقول العظيمة؛ إذ كان يتفكر في مجالات كثيرة. لقد أسهم في تغيير مسار الفلسفة ومنحها طابعا جديدا. قلة نادرة من شخصيات التاريخ هي التي يمكن - كل في مجال نشاطه - أن توصف بهذا الوصف. وحتى في هذه الحالة، حقق بعض هؤلاء مكانتهم بالصدفة أو حقق بعضهم إنجازا وقتيا واحدا، كما هي الحال مع ألكسندر فليمنج وجافريلو برينسيب، وذلك للخير والشر على التوالي. لكن في المقابل، أنجز راسل هذه المكانة بوسيلة بارزة؛ بعدد كبير من الكتب والمقالات والمحاضرات على مدى سنوات طويلة، وفي عدة قارات؛ ومن ثم فهو شخصية ملحمية بحق، شأنه شأن أرسطو ونيوتن وداروين وأينشتاين.
هوامش
الأعمال المقتبس منها داخل النص
The Autobiography of Bertrand Russell,
one-volume edn. (Unwin Paperbacks, 1975).
The Analysis of Mind (Allen & Unwin, 1921).
The Analysis of Matter,
paperback edn. (Routledge, 1992).
Human Knowledge: Its Scope and Limits (Allen & Unwin, 1948).
Human Society in Ethics and
(Allen & Unwin, 1954). 'The Philosophy of Logical Atomism’, in
Logic and Knowledge , ed. R. C. Marsh.
Marriage and Morals , paperback edn. (Routledge, 1991).
My Philosophical Development,
paperback edn. (Routledge, 1993).
Our Knowledge of the External World,
2nd edn. (Allen & Unwin, 1926).
2nd edn. (Cambridge University Press, 1925).
The Principles of Mathematics (Allen & Unwin, 1937; first published 1903).
The Problems of Philosophy (Oxford University Press, 1912).
An Inquiry into Meaning and Truth (Allen & Unwin, 1940).
The Conquest of Happiness (Allen & Unwin, 1930).
Education and the Social Order (Allen & Unwin, 1931).
Essays in Analysis,
ed. Douglas Lackey (Allen & Unwin, 1973).
Introduction to Mathematical
(Allen & Unwin, 1919).
Logic and Knowledge,
ed. R. C. Marsh (Allen & Unwin, 1956).
Mysticism and Logic,
paperback edn. (Allen & Unwin, 1963).
(Allen & Unwin, 1938).
Reconstruction (Allen & Unwin, 1916).
Religion and Science (Oxford University Press, 1935).
Why I Am Not A Christian (Allen & Unwin, 1957).
(Routledge, 1994; first published 1917).
Roads to Freedom (Allen & Unwin, 1918).
(Allen & Unwin, 1958).
قراءات إضافية
Russell’s works remain their own best introduction, but there is a large literature on Russell and the various aspects of his philosophy, some of which carries much further the debates he started. A. J. Ayer’s
Bertrand Russell (Fontana, 1972) and
Russell and Moore; The Analytical Heritage (Harvard University Press, 1971) provide a sympathetic introduction. R. M. Sainsbury’s
Russell (Routledge, 1979) gives an absorbing technical discussion of Russell’s central work. Peter Hylton’s
Russell, Idealism and the Emergence of Analytic Philosophy (Clarendon Press, 1990) is essential reading for any serious study of Russell’s thought. Nicholas Griffin’s
Russell’s Idealist Apprenticeship (Clarendon
philosophy.
There are a number of collections of essays on aspects of Russell’s work. E. D. Klemke (ed.),
Essays on Bertrand Russell (University of Illinois Press, 1971), D. F. Pears (ed.),
Bertrand Russell (Anchor Books, 1972), G. W. Roberts (ed.),
Bertrand Russell Memorial Volume (Allen & Unwin, 1979), P. A. Schilpp (ed.),
The Philosophy of Bertrand Russell,
3rd edn. (Tudor
most academic libraries and between them cover much ground.
Alan Ryan’s
Bertrand Russell: A Political Life (Penguin Books, 1988) is excellent on the 'applied’ side of Russell’s activities.
Other works cited in the main text are: Michael Dummett,
Frege: Philosophy of Language,
2nd edn. (Duckworth, 1981); A. J. Ayer,
Central Questions of
(Weidenfeld & Nicolson, 1973); William James,
Essays in Radical Empiricism (Longmans, 1912); P. F. Strawson, 'On Referring’,
Mind (1950), reprinted in Strawson,
Logico-Linguistic
(Methuen, 1971), and
Individuals (Methuen, 1959); and F. H. Bradley,
Appearance and Reality (Oxford University Press, 1897).
Shafi da ba'a sani ba