Benefits from the Farewell Sermon
فوائد من خطبة الوداع
Nau'ikan
تعظيم شأن الدماء وجرم إراقتها بغير حق
إن النبي ﵊ (سأل الناس في يوم النحر فقال: في أي يوم أنتم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، ظنًا منهم أنه سيسميه بغير اسمه، وإلا فمن يخفى عليه ذلك اليوم؟! ثم قال لهم: في أي شهر أنتم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، ظنا منهم أيضًا أنه سيسميه بغير اسمه، وإلا فمن يخفى عليه أن الحج في أشهر الحج؟! ثم قال: في أي بلد أنتم؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، ومن يخفى عليه أنه في ذلك اليوم في منى أو في مكة المكرمة؟! ولكنه الأدب بين يدي النبي ﵊ أنهم ينسبون العلم إلى الله ﷿ وإلى رسوله، ثم قال: ألستم في بلد الله الحرام؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: أليس هذا يوم النحر؟ أليس هذا شهر ذي الحجة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فإن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا).
أي: لما كانت الحرمة لهذا اليوم ولهذا الشهر ولهذا البلد مستقرة في نفوس العباد جميعًا -حتى قبل مبعث النبي ﵊ أراد النبي ﵊ أن يلحق بهذا المعلوم يقينًا، ربما كان مجهولًا لدى البعض في الدماء والأموال، وكأنه قال: كما أنكم تعلمون أن هذا اليوم حرام، وأن هذا الشهر حرام، وأن هذا البلد حرام؛ فإن دماءكم حرام عليكم، أي: أن الدماء لا بد أن تحفظ، ولا بد أن تصان، لكن لو نظرنا إلى دماء المسلمين لوجدنا أنها تراق في أنحاء كثيرة من العالم، وأن الذي ينظر إلى خريطة العالم الآن لا بد أن يجد البقعة الإسلامية فحسب ملتهبة مشتعلة دامية، على أيدي اليهود والنصارى ومن عاونهم ممن كلفهم الله ﷿ في بلاد المسلمين بحفظ الدماء عامة، وممن يدور على مائدة اتفق عليها اللئام في الداخل والخارج، لذا لو نظرت مثلًا إلى اليهود والنصارى في أمريكا -بل في العالم أجمع- لوجدت أن أمنيتهم واحدة بمجرد أن ظهر البترول في السعودية، وهي: أن نبني لهم قواعد عسكرية في وسط بقعة الخليج العربي، لكن ردهم فيصل عليه رحمة الله، وردهم خالد ﵀، وسعى القاصي والداني في إبعادهم وعدم الاستجابة لمطالبهم، مع أنهم كانوا يبذلون المال لدول العرب من أجل الحصول على قواعد عسكرية، وقواعد للطيران في أرض الجزيرة، فلما لم يفلحوا يمنة ولا يسرة لعبوا لعبة خبيثة، فلم يجدوا في المنطقة العربية أخبث ولا أنكى من ذلك الطاغية صدام حسين قصمه الله ﷿ بقدرته، فاتفقوا معه على تلك المسرحية التي يسمع بها كل إنسان الآن، مع أن أمريكا غير عاجزة عن أن تبعد صدام من حكم بلاده بعد أن نشرت تفصيلًا دقيقًا عن ملابسه الداخلية، لكنه الورقة الرابحة لها، ووجوده ضرورة حتمية لأجل بقائهم في هذه البلاد، والجنود يأتيهم الطعام من دول أوروبا وأمريكا، في الوقت الذي لا يجد أي جيش من جيوش العرب لقمة العيش، بل يعيش على ما دون الكفاف.
إذًا: وجود صدام كان لقمة سائغة وغنيمة باردة، وهذه المسرحية مكشوفة وأكذوبة مفضوحة لا تنطلي على أهل البصائر بإذن الله، وصدام حسين ليس حامي الحمى، وهو الذي سمى نفسه بتسعة وتسعين اسمًا، مائة إلا واحدًا، لكن من أحصاها دخل النار، بخلاف الجبار ﵎ الذي سمى نفسه بتسعة وتسعين اسمًا، مائة إلا واحدًا، من أحصاها دخل الجنة، وانظروا إلى ما فعله صدام، لا أقول: بجيش العراق، ولا بشعب العراق الذي جوعه وأعراه وأنهكه في عقر داره، وإنما تعدى شره للشعب المسلم السني، أعني: شعب الأكراد، فسحقه سحقًا وسحله سحلًا، تارة بالكيماوي، وتارة بالدبابات، فكيف يؤتمن هذا على دين الله؟! بل كيف يؤتمن هذا على حزمة بقل؟! وانظروا -يا معشر الكرام- إلى شعب كوسوفا أو شعب البوسنة أو شعب فلسطين، إذ كل يوم نسمع عن دماء تراق بالمئات والألوف، وعلى مرأى من أسماع وأعين المسئولين وغير المسئولين ولا مجيب ولا أحد يتحرك، وكأن هذا الذي قتل أو أريق دمه ليس منا ولسنا منه، فهل لأننا نفهم القضية جيدًا؟ أبدًا، أم هل لأننا نخاف عدونا؟ نعم، والله نخافه؛ لأننا لا نخشى الله ﷿، ولأننا حرصنا على الدنيا، فهذه الملايين المملينة التي وضعت في تلك البنوك الغربية والشرقية أعظم عند أصحابها من إراقة دماء الأمة بأسرها.
قال النبي ﵊ فيما رواه الشيخان من حديث عبد الله بن مسعود ﵁: (إن أول ما يقضى بين العباد يوم القيامة في الدماء)، أي: أول قضاء يقضى بين يدي الله ﷿ هو في فصل الدماء، ولا تعارض بين هذا الحديث وبين قول النبي ﵊ (إن أول ما يحاسب عليه المرء الصلاة)، فإن هذا حساب مخصوص لكل شخص، أما القضاء وفصل النزاع بين الناس فإنه يبدأ بالدماء أولًا، ويقول النبي ﵊ فيما رواه الشيخان أيضًا من حديث أبي هريرة ﵁: (اجتنبوا السبع الموبقات)، أي: المهلكات التي تؤدي بأصحابه
3 / 3