وحين وصل الطريق الزراعي الموصل إلى بلده كان قد سئل ثلاث مرات، وأجاب ثلاث إجابات، نقض الذمة والأمانة في ثالثتها حين كسل أن ينص على بريزة السمسار.
كانت الدنيا لا تزال ضحى، والسوق منتصبة منذ الشروق، هذا صحيح، ولكن كان هناك على الطريق قادمون كثيرون، أولئك الذين لا يريدون ضياع اليوم، فأنهوا بسرعة أعمالهم، ثم أقبلوا مهرولين يلحقون السوق.
وعلى أول الطريق الزراعي سأله شيخ معمم، بجبة كالحة وقفطان: دفعت فيها كام بالذمة والأمانة والديانة إن شاء الله.
فقط لو أنهم لا يذممونه ويستحلفونه بالأمانة والدين، سبعة وتمانين جنيه وربع وبريزة للسمسار.
وبعد خطوة واحدة، إذا برجل وكأنه عمدة، يمتطي ركوبة، ويستظل بشمسية يزعق بصوت مسلوخ: بتقول بكام. - سبعة وتمانين وربع وبريزة للسمسار. - غالية شوية إنما تتعوض.
وما كاد يخرج علبة الدخان ويبدأ في لف السيجارة حتى حود عليه رجل مسن له لحية اختلط فيها السواد بالبياض: سلام عليكم. سلام ورحمة الله. دستورك منين؟ من هرية. شاري والا بايع؟ ما نتاش شايفني راجع، شاري. واصل ع الشيخ منصور؟ واصل إن شاء الله. طب بذمتك وحياة الشيخ منصور على قلبك بكام؟ بسبعة وتمانين جنيه وربع وبريزة للسمسار. يا راجل أنا ذممتك وحلفتك بالشيخ منصور. وحياة الشيخ منصور والذمة والأمانة والديانة وحياة شيخ العرب السيد بسبعة وتمانين جنيه وربع وبريزة للسمسار، يا راجل أنت اشتريت وخلاص، بري ذمتك وقول الحق. وأنا يعني ح أكذب عليك ليه، ما قلت لك الحق. بقى بذمتك وديانتك والأمانة عليك وبركة الشيخ منصور وديتها رقبتك بسبعة وتمانين جنيه وربع؟ وديني وما أعبد وحياة ربنا اللي أكبر من الشيخ منصور ومني ومنك ومن الدنيا كلها بسبعة وتمانين جنيه وربع وبريزة للسمسار. طب روح يا شيخ إلهي إن كنت كدبت ما توعى تعلقها في المحرات.
وتركه ومضى، ولو كان قد بقي أمامه لحظة أخرى لما كان قد استطاع كبح جماح الخاطر الذي كان يلح عليه باستمرار، أن ينتف ذقنه شعرة شعرة.
وما كاد يمشي أربع أو خمس قصبات حتى، برجاء حار، استوقفه شخص كان متنحيا جانبا، يعمل مثل الناس، على حافة الخليج الموازي للطريق، وحتى قبل أن ينتهي، وهو لا يزال القرفصاء، لوى رقبته وسأله: بالذمة والأمانة بقد إيه؟ - بسبعة وتمانين وربع وبريزة. - إيه اللي سبعة وتمانين وربع وبريزة، هم مش يبقوا سبعة وتمانين وخمسة وتلاتين صاغ. - طب يا سيدي ما تزعلش سبعة وتمانين وخمسة وتلاتين صاغ. - أمال الأول قلت وبريزة ليه؟ - عشان هي بسبعة وتمانين وربع وبريزة للسمسار. - بقى أبقى محلفك بالذمة والأمانة وتكذب. - أنا كدبت؟ - مش قلت بريزة للسمسار، هي البريزة تخش في التمن؟ - ما دام دفعتها تخش.
لا ما تخشش. تخش. لا ما تخشش. تخش. أنت كداب. أنت بارد. تفوه عليك نفر. تفوه عليك وعلى اللي خلفوك. وهو لا يزال متشبثا باستماتة في حبل البقرة اندفع ناحية الرجل يريد أن يطبق عليه وينتهي منه، وكان الرجل هو الآخر قد أوقف ما كان يقوم به واندفع ناحيته ويده مستميتة هي الأخرى على «دكة» السروال المفكوك، وبيد متشبثة والأخرى طليقة تريد أن تغور في زمارة رقبة الآخر، كادا أن يتماسكا، لولا أن أولاد الحلال وما أكثرهم على الطريق حالوا بينهما في آخر لحظة، وبعد محاولات لصلح فاشل، اندفع كل منهما، الرجل إلى حافة الخليج، وهو ناحية بلده وبينهما حبل طويل غليظ من الشتائم ظل يمتد ويرق كلما ابتعدا حتى انقطع، وسكت مخنوقا، ومد يده يبحث عن العلبة ليلف السيجارة غير أنه اكتشف أنه فقدها في الخناقة، وبلغ به الغيظ حد أنه لم يحتمل مجرد فكرة العودة للبحث عنها في مكان الخناقة.
وهو في قمة غيظه إذا برجل، يرتدي في عز الحر عباءة، مؤدب وقصير، ما كاد يفتح فمه ويقول: بالذمة والأمانة عليك، حتى كان قد رفع يده إلى آخرها دون أن يدري ثم هوى بها على صدغ صاحب العباءة الممدودة في أدب ووقار.
Shafi da ba'a sani ba