180

عبرت الطريق ومضيت من أمام المودكا. وواصلت السير حتى كافيه دي لابيه.

دفعت الباب الزجاجي ودخلت. جلست على مقعد من الجلد الصناعي. وأحضرت لي فتاة غارقة في الأصباغ، فنجانا من القهوة العربية.

احتسيت القهوة مع سيجارة وأنا أتأمل الرواد القليلين، ثم دفعت حسابي وغادرت المقهى. اتجهت يسارا ومشيت على مهل. مررت بجريدة النهار ومصرف لبنان. وبلغت ساحة برج المر ثم أشرفت على مطلع جسر فؤاد شهاب.

عبرت حاجزا مهجورا من البراميل إلى حي زقاق البلاط. وبدت المنطقة كلها مهجورة تماما. ولم يلبث الطريق أن انحدر بي جهة اليسار، واعترضني حاجز وقف عنده بعض المسلحين الذين لم أتبين هويتهم. لكنهم لم يعبئوا بي، فاجتزته. وبعد قليل ألفيت نفسي في ساحة رياض الصلح. اتجهت يمينا وولجت ساحة الشهداء.

بدت الساحة الرئيسية لبيروت القديمة، محاطة بالأطلال من جميع الجوانب. كانت المنازل القديمة، التي يعود أغلبها إلى أيام الأتراك، لا تزال قائمة. لكن نوافذها وأبواب حوانيتها تحولت إلى كوات مظلمة تتخللها قضبان ملتوية من الحديد. وفوق الأسطح خيمت بقية من هياكل إعلانات النيون، التي كانت تحيل الساحة في الليل إلى شعلة من الأضواء، ميزت منها آثار إعلان عن بيرة «لذيذة»، وشكولاتة «غندور»، إلى جوار زجاجة كوكاكولا.

وبالرغم من ذلك، كانت الساحة تشغى بالنشاط؛ فأمام الأبنية المهدمة، اصطفت العربات الخشبية المحملة بكافة أنواع السلع، من ملابس وأحذية وأوان منزلية، وأدوات كهربائية. وفي مداخل بعض الحوانيت المهدمة، جلس الصرافون . وأشرفت على هذا كله عدة مدرعات تحمل شارة الردع.

طفت حول الساحة بحثا عن زقاق به بائع للكتب الأجنبية المستعملة، تعاملت معه في زيارتي السابقة. وولجت زقاقا قام عند مدخله حانوت للسجائر والصحف والمجلات. واجتذب بصري ملصق كبير الحجم على الحائط المجاور للحانوت، يتألف من صورة فوتوغرافية مكررة عدة مرات للجزء الأعلى من امرأة عارية، أحاطت بذراعها الأيمن رأس رجل عار، انحنى بفمه فوق أذنها. كان شعره مبعثرا حول رأسها وقد فرجت شفتيها، وأغمضت عينيها. وأعطى تكرار الصورة الإيحاء بهذه اللحظة الممتدة المتجددة.

M;تأملت الصورة طويلا، وتبينت أسفلها سطرا من الكتابة الدقيقة، فدنوت منها. وأمكنني أن أميز الكلمات المطبوعة بالإنجليزية: «الأورجازم استجابة ينفرد بها الانسان؛ فلا تعرف الحيوانات الثديية الأخرى، خلال الجماع، لحظات مماثلة من الذرى الحادة».

استغرقني تأمل الملصق، فلم ألحظ الأصوات التي كانت تنبعث من باب مظلم في نهاية الزقاق، إلا عندما خرج منه عدة رجال، متواضعي المظهر، مرة واحدة، ولم ألبث أن ميزت فيها تأوهات أنثوية، ثم أدركت أنها تنبعث من صالة للعرض. ومن خروج الرجال وغياب أية لافتة، استنتجت أنها صالة رخيصة تعرض أردأ الأفلام الجنسية.

اجتزت الزقاق حتى نهايته، فألفيتني عند مفترق ثلاثة شوارع، يطل عليه حانوت مغلق يحمل اسم «صيدلية الجميل». ولم أنتبه إلى مغزى الاسم إلا عندما طالعني على الجدران، في ملصقات صغيرة الحجم، الوجه القاسي ذو العينين المجنونتين لزعيم الكتائب. وأدركت أني دخلت المنطقة الأخرى دون أن أدري.

Shafi da ba'a sani ba