مضى يتأمل من داخل الجراج المهجور الواقع خلف البناية إلى حيث مسكنه الذي كان، كتبه ومخطوطاته وملابسه.
وكم كان حبوره وإكباره لفروسيتها حين أخبرته من فورها بأنها ستصعد مستعينة بسلم إلى بلكون بالطابق الثاني، ومنه إلى ما يليه حيث مسكنه، وستلقي إليه خاصة بمخطوطاته التي كان منشغلا بالعمل بها قبل العدوان، وما يعن له أيضا من أشياء بسيطة.
في البداية، وحرصا منه عليها، حاول ثنيها عن مثل هذا الفعل، فلا داعي للخطر، ويكفي ما نحن فيه.
إلا أنها أصرت معدلة عن كيفية التسلل عبر باب الشرفة إلى داخل المسكن بلا مخاوف.
ومن فورها، قفزت جارية إلى البناية المجاورة، ونجحت بمساعدة ناطورها في إحضار سلم خشبي، تسلقته حتى أصبحت داخل المسكن، وراحت تلقي إليه بأوراقه وما وقع عليه اختيارها من ملابسه وأشيائه ضاحكة، وهي تمازحه ممتنعة عن إحضار بعض الأشياء في عبث بناتي محبب، إلى أن نجحت نازلة: ها أنا قد نجحت ... أنفع.
وضحكا طويلا وهما يأخذان طريقهما بعد أن ساعدته في حمل معظم أشيائه في حنان، إلى حيث مسكنهما الجديد في شاتيلا.
الفصل الرابع والعشرون
تساءل المهاجر بين وقت وآخر عن ذلك الخيط الخفي غير المرئي الذي يربطها به إلى حد أن توقف حياتها عليه، وأن تتخلى عن مصاحبتها لأهلها الذين رحلوا إلى مهجرهم بالبرازيل، منذ الساعات الأولى للعدوان، بينما تخلفت هي مصرة على عدم ترك البلد للمعتدين؛ إذ إن هذا بالتحديد هو هدفهم، كما سبق لهم فعله في فلسطين، نشر الذعر والفزع وإعادة استثمارهما في ترحيل السكان وهجرتهم إلى حيث لا رجعة: لن أرحل.
وهكذا بقيت قاصرة طاقتها على العمل بالمستشفى تكنس وتنظف وتسهر على رعاية المصابين؛ لتعود آخر اليوم لترعاه، تقرأ له وتنصت الساعات الطوال، وتصنع له قهوته السادة وطعامه، وتحمل الماء والصحف وخبز المستشفى «الجراية».
ما الذي يشدها إليه؟ إنه لا يستطيع الادعاء بأنها على دراية بدوره الفكري، فكيف يصلها منهجه في علمنة الثقافة، وعلوم الأثنوجرافي والأنثروبولوجي، وجدلية ما يحدث بعامة، ثم ما ضرورة مثل هذا الآن في «جحيم» ما يحدث، وتلحقهما نيرانه ووهجه الحارق؟ أسئلة يظل يطرحها دون إجابة، منذ ذلك السيمنار الذي انتهى بالانفجار والمصحة المعتقل معا، لحين مجيء العدوان بدءا من الجنوب مستشريا عبر كل المحاور، لحين القتال والصمود ، وقبول الخروج والرحيل، ووصول القوات متعددة الجنسيات.
Shafi da ba'a sani ba