84

Bayrut na kuka da dare

بيروت البكاء ليلا

Nau'ikan

وكم كان المهاجر يحس بالزهو حين كانت تعود إليه لتحدثه مختلجة عن هول ما أثاره الموقف من مشاعر، وما علق بذهنها من حكايات وقصص الغرام الدافق بين اللبنانيين والفلسطينيين، وهي العلاقة المتقدة التي جاء العدوان ليدمرها من جوانب عدة، تختتم على هذا النحو بالفراق، وخروج أولئك المطاردين أينما حلوا، من لا وطن لهم.

في تلك الأيام التي أصبحت تتسم بالحلاوة بعودتها، وسماعه للهجتها الجنوبية كمثل نغم، أو «ميلودية» عذبة تعاشر أسماع سامعها.

فبدأ المهاجر معها يستعيد أمنه وسلامته الذاتية، بإزاء ما عاناه عبر العدوان ولياليه وافتقادها والتشرد، والهروب المفتعل بالشم والمخدرات مع صديقه اللبناني الجديد طيب القلب، الذي قاسمه مسكنه مجزلا له الأجر أضعافا، في الوقت الذي كان يرفض فيه العريض عن جد أخذ أي شيء، والاكتفاء باستضافته في تلك المحنة التي حلت بالجميع عربا ولبنانيين.

وفي بعض الليالي كانت تزوره صديقته الجنوبية؛ لتمضي الليل معه في أحضانه في غرفته المنعزلة إلى حد ما عن الغرفة التي اختارها صاحب المسكن لنومه الليلي المتقطع، وشخيره العالي المتصل، ومعاركه مع نفسه عبر كوابيسه الملازمة، التي ادعى لكل من حادثه فيها بأن العتب ليس عليه، بل هي الحرب ودمارها حتى في النوم والمضاجع.

ودأب هو بدوره على زيارة صديقته التي دفعها واجبها إلى التطوع لخدمة المصابين والجرحى من الشباب والأشبال بمستشفى هذا المخيم الفقير الذي جمع معدمي الشعبين الفلسطيني واللبناني، ومعظمهم أيضا من مهجري الجنوب الذين فروا إثر اعتداءات العدو المتسلط المتعاقبة، وآخرها هذا العدوان الذي وصل ذروته بحصار بيروت، بل واقتحام أطرافها وتقطيعها قطعا على مشهد من أهلها المثقلين.

كان يأخذ طريقه إلى المستوصف عبر شوارع شاتيلا وأزقتها العفنة، مستطلعا وجوه الناس البسطاء الذين لم يتخلوا للحظة عن ابتساماتهم البشوشة برغم جسامة المحنة بالعدوان والخطر الداهم المحاوط برا وبحرا وجوا، في استباحة ما بعدها استباحة تجيء على هذا النحو منذ ما قبل 1948، لحين التواجد الفعلي، والتباهي بالنجمة الغازية «الطوطم» المسدسة، تعلو بفعل وهج القنابل الفوسفورية، وعبر أستار الليل الكثيف، وانقطاع الكهرباء فوق أعلى معالم المدينة العاصمة بيروت، ورموز كرامتها، دون أدنى استحياء.

رغم ذلك، لم يتخل هؤلاء القوم السمحاء عن ابتساماتهم المرحبة، خاصة للغرباء؛ حيث إن السكان بدورهم غرباء، ومن هنا يجيء التعاطف متجانسا لا رياء فيه: وطن الغرباء.

بل هو تعرف إلى الكثيرين منهم رجالا ونساء، تعرف على أسرة شيعية لبنانية: أم وخمس أخوات في سن متتابعة متقاربة، وجميعهن حتى الأم لم يتركن لحظة وداع وتساند مع الخارجين أو المطاردين.

وحكت له الأم البشوش الهرمة كيفية إنقاذها لبناتها وأولادها هربا بالجلد من مجزرة مدينة الخيام

كما استمع من مصحح لغة عربية طويل القامة، أحمر الوجه، يدعى عساف قسيس، كيف أحالت إسرائيل بلدتهم بكاملها بالقرب من صور، بعد أن أجبرت سكانها قتلا وتهجيرا على أن يخلفوها مفرغة من كل حياة؛ لتقيم فيها القوات الإسرائيلية بروفات حرب حية على الطبيعة؛ لإتقان - أو إخراج - حرب المدن، بنسف الدور والمدارس والمستشفيات وكل معلم لحضارة وحياة.

Shafi da ba'a sani ba