تذكر دفاع التومرجي الملثم في مواجهته: ما نحن سوى نزلاء مثلكم.
سقط بصره أرضا باتجاه الفتاة المعلقة بأطراف أصابعه بعينيها نظرة من تنتظر استطلاع الأمر، ولما لم يجد كلاما يقوله، استلقى على النجيل وأعناق الزهور البرية ممددا وقاربته الفتاة جالسة. - وبعدين؟
أصوات الجوارح تطغى على كل صوت حتى أزيز عجلات نقالات نقل المصابين الجرحى، التي تضاعف نشاطها، مئات من النقالات لكلا المرضى والتومرجية المقنعين: كل دا.
مضت الفتاة الصغيرة تعبث وهي تتشمم بأنفها الدقيق روائح اليود والصبغات التي أثقلت من «شوب» اليوم وحصار الأسوار الشائكة وعواء الجوارح أعلى القبة فوق.
فجأة توقف تومرجي العنبر مفتول الساعدين، متخليا عن نقالته ومريضه بالقرب منهما، ساحبا بيديه كمامتين ألقى بهما إليهما قائلا مهددا: البسا.
ومن فورها وضعت الفتاة قناعها على وجهها المكفهر، وساعدته في ارتداء قناعه، واندفع كل منهما يتأمل الآخر عبر قناعه فترة في توجس، انسحب على أثرها عامل المستشفى دافعا جريحه إلى بعيد.
ولما كان صوت المهاجر قد وصل إلى درجة من الانحباس الكلي؛ لذا بدا الوضع أكثر صعوبة من حيث التعبير، كيف والأمر برمته أصبح على هذا النحو الضبابى تحت صهد يوم صيفي كهذا وفي منتصف نهاره بالضبط: جوارح جرحى.
كانت الفتاة دائمة التطلع إلى عينيه من أسفل إلى أعلى عبر زجاج منظاره الطبي، على اعتبار أنهما الشيء الوحيد المفصح الذي لم يصل إليه القناع؛ لذا حاول جاهدا شرح الوضع لها، وهما في طريق عودتهما إلى العنبر، ذاكرا بأن الوضع في مجمله غير طبيعى، خاصة ما حدث منذ وصوله، وضراوة الأخت الصغرى الضخمة، كرد فعل طبيعي للأشياء والفراديس المفتقدة، مضافا إليه نيران المحاور، الحصن الجماعي، ما الذي تبقى؟ فها هي حكايته، عمله وكاره لم يقاربها منذ مجيئه ولو بمجرد القراءة، تلك التي أضناه جمعها وتحويشها سنين، أين هي منه؟
ورغم الكمامة التي تغيب ملامحها فيما عدا عينيها، فقد تبدت في عينيه تحت وهج الشمس، وحدة صدى أصوت الجوارح كمثل إلهة بحرية ضاحكة متفائلة.
ضحك قليلا ربما للمرة الأولى منذ هروبه، حين عرف أن ما أبهجها هو ذلك العالم المنقضي لحكايات: موت البجعة، وكسارة جوز الهند، والسمساوية، والعندليب الحكيم الذي أمسك به ذات مرة رجل مغفل.
Shafi da ba'a sani ba