Tsakanin Ebba da Ambaliya
بين الجزر والمد: صفحات في اللغة والآداب والفن والحضارة
Nau'ikan
تذمرت بالأمس إذ رأيت «الإجبشن ميل» تضحك من مشروع المجمع اللغوي. أما اليوم وقد توزعت في عمود منها ونصف عمود شظايا قنبلة قلمية؛ فإني أذهل بعض الذهول أمام هذه الحملة غير المنتظرة.
لا أظن المناقشة ذات جدوى إذا أريد منها الإقناع، بيد أنها موفورة الفائدة مرغوب فيها عندما ترمي إلى احتكاك الآراء، وما قد يؤدي إليه من شحذ الذهن والاهتداء إلى رأي جديد أو اجتلاء رأي مبهم، وإذا كان مناظرنا واسع الاطلاع، خالص النية، صادق في تمحيص الفكرة بأمانة ودقة دون تشبث بها وتعنت لها لأنها فكرته ليس إلا؛ وجدنا في مناقشته عدا الفائدة سرورا ونشاطا.
وهذا ما أشعر به - بعد الإجفال الأول - إزاء اعتراض سبيرو بك.
وأول ما يحضرني من اعتراضه هو قوله:
إن المجمع اللغوي لا فائدة منه إلا إذا جعل غايته تلقف جميع الكلمات الشائعة بين العامة ودمجها في اللغة؛ لأن اللغة ملك الأمة، وفي يد الأمة حياة اللغة وموتها، وإن لم يكن لهذا المجمع من مثيل إلا في فرنسا؛ أفنحسب سائر الأمم عاجزة ركيكة البيان لأن لا أكاذمية لها؟ كلا، إن الغربيين لا يقضون وقتهم في مثل هذه المماحكات الباطلة، ولديهم ما يصرفهم عنها من المشاغل الخطيرة، وكما أن اليونان والطليان لا يجهدون النفس لإحياء لغتهم القديمة ويكتفون بلغتهم الحديثة التي تتفق منها السهولة والتراكيب والاصطلاحات مع حاجات العصر، كذلك على المتكلمين باللغة العربية أن يطرحوا اللغة الفصحى بصعوبتها وتعقيدها جانبا، وأن يأخذوا بكل لفظة تدور على الألسن؛ لأنها تؤدي معنى من المعاني المطلوبة، فإذا اعتزم المجمع اللغوي على ذلك كان عمله نافعا، وإلا فليدع الشعب وشأنه يتصرف بلغته كما يشاء.
هذا أول ما أذكره من اعتراض سبيرو بك؛ لأن الاستعارات المقبولة والتراكيب المنقولة التي يرى فيها بعضنا كل الفصاحة وكل البلاغة، كادت تفسد علينا ذوقنا ونشاطنا وحريتنا الفكرية، بل وحاسة الحياة فينا!
الغرب يعالج مجاري الماء وتيارات الهواء، وينبش دفائن الطبيعة وأسرار النفوس، ويسعى إلى أخفى الزوايا من هذه الأرض؛ فيستعمرها ويغلبها على مرافقها ومواردها ومحصولاتها، ويستدر من جبالها وسهولها وأنهارها ثروة ما كان الأهلون ليحلمون بوجودها.
وفي هذا الوقت المملوء بالعراك وتنازع موارد التجارة والثروة، والسعي للمعرفة والنور، ترانا إذا شئنا أن نكتب ونعبر عن هذه الحركات الجديدة؛ نحرص جدا ليس فقط على أن لا يغضب من عجزنا الخليل وسيبويه، ولكن نجتهد (وباطلا نجتهد) أن لا نعرض اللفظة الحديثة لسخط المناطقة وعلماء اللسان والشعراء والمفسرين العديد عديدهم الذين لم يصدروا لها التصريح بالحياة والتجوال!
الأمم حولنا وفي ديارنا تجري وتبدع وتنبش وتطير وتغوص وتكتشف، مسخرة قوى الطبيعة لنشاطها وحاجتها، أما نحن فإذا حاولنا أن نحدث عن بعض هذا، فليس لدينا إلا الاستعارة القديمة والاسم الذي رضي عنه القاموس، وهما لا ينطبقان على المعنى المستحدث والآلة التي لم يعرفها أسلافنا. فإذا اقتحمنا على الاسم الإفرنجي وكتبنا كما تملي علينا شخصيتنا ونزعتنا الفردية، تلقحانا في الحال الحرم اللغوي القاسي، وجوزينا على وقاحتنا، أو على استقلالنا الأدبي، بالكلمة ذات الشأن الخطير كأنها هي الأخرى قدستها موافقة الخليل وسيبويه: «هذا عربي بالإفرنجي!»
والذين يرموننا بهذا «الحرم» لا يذكرون حتى ولا حقنا الطبيعي في أن يكون لنا حكم متواضع على «اللغة العربية البليغة» التي أقنعوا نفوسهم بأنهم كاتبوها!
Shafi da ba'a sani ba