فتأثر ياسين لهذا الحوار المتبادل، واشتد كربه لفرط إحساسه بالحرج بصفته صاحب الاقتراح المشئوم، وتردد طويلا بين معاودة الاعتذار عن اقتراحه، على مسمع من الجدة أن تعاتبه أو تضمر له حنقا، وبين السكوت على ما به من رغبة في التنفيس عن تحرجه، ثم خرج من تردده بأن ترجم كلام فهمي إلى لغة أخرى قائلا: أجل، نحن المذنبون وأنت المتهمة (ثم ضاغطا على مخارج الكلمات كأنما يضغط على عناد أبيه وصلابته) ولكنك ستعودين وسوف تنقشع السحابة التي تظلنا جميعا.
ولفت كمال وجهها إليه من ذقنها، وانهال عليها بسيل من الأسئلة، عن معنى مغادرتها البيت، وكم تطول إقامتها في بيت جدته. وعما يحدث لو عادت معهم، وغير ذلك من الأسئلة التي لم يسمع عنها جوابا واحدا حقيقا بأن يسكن خاطره الذي لم ينفع في تسكينه عزمه على أن يبقى مع أمه حيث هي، ذلك العزم الذي كان أول من يرتاب في قدرته على تحقيقه، وتغيرت وجهة الحديث بعد أن فرغ كل منهم من التعبير عن عواطفه، فأخذوا يعالجون الموقف معالجة جدية؛ لأنه - كما قال فهمي - «لا يجدي التكلم فيما كان، ولكن ينبغي أن نتساءل عما سيكون.» وقد أجابه ياسين على تساؤله قائلا: «إن رجلا كأبينا لا يرضى بأن يمر بحادث كخروج أمنا مرا كريما، فلم يكن بد من أن يعلن غضبه بطريقة لا يسهل نسيانها، ولكنه لن يجاوز حدود ما فعل.» بدا هذا الرأي مقنعا لما صادف من ارتياح النفوس إليه، فقال فهمي مفصحا عن اقتناعه ومرجوه معا: «والدليل على صحة رأيك أنه لم يقدم على فعل شيء آخر، ومثله لا يؤجل عزمه لو صحت نيته عليه.» وتكلموا كثيرا عن «قلب» أبيهم، فاتفقت كلمتهم على أنه قلب خير رغم ثورته وحدته، وأن أبعد شيء عن تصورهم هو أن يقدم على عمل من شأنه أن يسيء إلى السمعة أو يؤذي أحدا، وعند ذاك قالت الجدة على سبيل الدعابة وهي تعلم باستحالة ما تدعو إليه: لو كنتم رجالا حقا لالتمستم الوسيلة إلى قلب أبيكم ليتحول عن عناده.
فتبادل ياسين وفهمي نظرات ساخرة من هذه «الرجولة» المزعومة التي تذوب لدى ذكر أبيهم، وخافت الأم من ناحيتها أن يتطور الحديث بين الشابين والجدة إلى ذكر حادث السيارة، فأفهمتهما بالإشارة - وهي تردد يدها بين كتفها وأمها - أنها أخفت عنها الأمر، ثم قالت تخاطب أمها وكأنها تنبري للدفاع عن رجولة الشابين: لا أحب أن يتعرض أحدهما لغضبه، فلنتركه لنفسه حتى يعفو.
وهنا تساءل كمال: ومتى يعفو؟
فأشارت الأم بسبابتها إلى فوق وهي تغمغم: «ربنا عنده العفو.» وكالمألوف في مثل هذه الحال دار الحديث حول نفسه، فأعاد كل ما سبق له قوله بنفس الألفاظ أو بألفاظ جديدة من إيثار متواصل للظنون الوردية، فطال الحديث دون أن يستجد به جديد، حتى خيم الظلام ووجب الرحيل. وحين وجب الرحيل وغشيت كآبته القلوب كالضباب شغل به الفكر عن الكلام فساد سكون كالسكون الذي يسبق العاصفة، اللهم إلا كلمات لا يراد بها إلا التخفيف من وطأة الصمت، أو التهرب من الاعتراف بجثوم الوداع، وكأن كلا منهم يلقي تبعة إعلانه على عاتق غيره رحمة بالجانب الآخر، هنالك حدس قلب العجوز ما تضطرم به النفوس حولها، فرمشت عيناها المظلمتان ولعبت أصابعها بحبات السبحة في عجلة ولهوجة، ومضت بها دقائق بدت على قصرها كاتمة للأنفاس كاللحظات التي يترقب فيها الحالم في كابوس سقطة من علو شاهق، حتى جاءها صوت ياسين، وهو يقول: «أظن آن لنا أن نذهب، وسنعود لنأخذك معنا قريبا إن شاء الله.» وتسمعت العجوز لترى كيف تتهدج نبرات ابنتها عند الكلام، ولكنها لم تسمع كلاما بل سمعت حركة دالة على نهوض الجلوس، وأصوات قبل وهمهمة توديع، واحتجاج كمال على انتزاعه بالقوة فبكاءه، ثم جاء دورها في التسليم في جو مشبع بالحزن والفتور، وأخيرا أخذت الأقدام تبتعد تاركة إياها في وحدة وشجن.
وعادت قدما أمينة الخفيفتان فمضت العجوز تتنصت في قلق، حتى هتفت بها: أتبكين؟! يا لك من عبيطة! كأنك لا تطيقين أن تبيتي ليلتين في حضن أمك!
34
بدت خديجة وعائشة أضيق الجميع بغياب الأم، فإلى حزنهما الذي يشاركهما فيه الإخوة تحملتا وحدهما أعباء البيت وخدمة الأب، بيد أن أعباء البيت لم تكن لتنوء بهما، أما خدمة الأب فهي التي عملتا لها ألف حساب ونزعت عائشة إلى الهرب من منطقة أبيها معتلة بأن خديجة سبق لها أن تدربت على خدمته في أثناء رقاد الأم، فوجدت خديجة نفسها مرغمة على العودة إلى تلك المواقف الدقيقة الرهيبة التي تكابدها وهي على كثب من السيد، أو وهي تقضي له حاجة من حاجاته. ومنذ الساعة الأولى لذهاب الأم قالت خديجة: «ينبغي ألا تطول هذه الحال، إن الحياة بدونها في هذا البيت عناء لا يطاق.» فأمنت عائشة على قولها، ولكنها لم تجد من حيلة في وسعها غير الدموع فذرفتها، وانتظرت عودة إخوتها من بيت الجدة حتى جاءوا وقبل أن تلفظ كلمة مما يدور في نفسها، راحوا يحدثون عن حال أمهم في «منفاها» فوقع الحديث من نفسها موقع الغرابة والاستنكار؛ لأنها كانت تسمع عن قوم غرباء لا يتاح لها لقاؤهم، فغلبها الانفعال وقالت بحدة: إذا قنع كل منا بالسكوت والانتظار، فربما تلاحقت الأيام والأسابيع وهي مبتعدة عن بيتها حتى يضنيها الحزن، أجل إن مخاطبة بابا في هذا الشأن مهمة شاقة، ولكنها ليست أشق من السكوت الذي لا يليق بنا، ينبغي أن نجد طريقة ... ينبغي أن نتكلم.
ومع أن صيغة «نتكلم» التي ختمت بها جملتها جاءت شاملة لجميع الحاضرين، إلا أنه قصد بها - كما فهم بالبداهة - شخص أو شخصان شعر كلاهما لدى سماعها بارتباك لم تخف بواعثه على أحد، بيد أن خديجة واصلت حديثها قائلة: لم تكن مهمة مخاطبته فيما يعرض من أمور بأيسر على نينة مما هي علينا، ومع ذلك لم تكن تتردد عن مخاطبته إكراما لأي واحد منا، فمن الإنصاف أن نتحمل نفس التضحية من أجل خاطرها.
تبادل ياسين وفهمي نظرة فضحت إحساسهما بالخناق الذي أخذ يضيق حولهما سريعا، ولكن واحدا منهما لم يجرؤ على فتح فيه أن ينتهي به الكلام إلى أن يقع عليه الاختيار ليكون كبش الفداء، فاستسلما لانتظار ما يجيء به النقاش كما يستسلم الفأر للهرة. وتركت خديجة التعميم إلى التخصيص، فالتفتت إلى ياسين قائلة: أنت أخونا الأكبر، وإلى هذا فأنت موظف، أي رجل كامل، فأنت أجدرنا بالقيام بهذا الواجب.
Shafi da ba'a sani ba