عند ذاك بسطت راحتيها في جزع وألم وهمست بأنفاس مضطربة: أعوذ بالله يا سيدي، إن خطئي كبير حقا ولكني لا أستحق هذا القول.
ولكن الرجل واصل حديثه بهدوئه الرهيب الذي يهون إلى جانبه الزعيق قائلا: كيف اقترفت هذا الخطأ الكبير! ... ألأني ابتعدت عن البلد يوما واحدا؟!
فقالت بصوت متهدج وشت نبراته بالرجفة التي ملكت جسمها: أخطأت يا سيدي، وعندك العفو، كانت نفسي تتوق إلى زيارة سيدنا الحسين، وحسبت أن زيارته المباركة تشفع لي في الخروج، ولو مرة واحدة.
فهز رأسه في شيء من الحدة كأنما يقول: «لا فائدة ترجى من الجدال» ثم رفع إليها عينيه متجهما ساخطا وقال بلهجة لا تقبل المراجعة: ليس عندي إلا كلمة واحدة! غادري بيتي بلا توان.
هوى أمره على رأسها كالضربة القاضية، فبهتت لا تنبس بكلمة ولا تستطيع حراكا، طالما توقعت في أشد أوقات محنتها - وهي تنتظر عودته من رحلة بورسعيد - ألوانا من المخاوف، كأن يصب عليها غضبه أو يصمها بزعيقه وسبابه، حتى الضرب لم تستبعده، أما الطرد من البيت فلم يزعج لها خاطرا، لا لشيء إلا أنها سكنت إلى معاشرته خمسة وعشرين عاما، فلم تتصور أن ثمة سببا يمكن أن يفرق بينهما أو ينتزعها من البيت الذي صارت جزءا منه لا يتجزأ ... أما السيد فقد تخلص - بكلمته الأخيرة - من عب فكر دوخ دماغه طوال الأسابيع الثلاثة المنقضية .. وقد بدأ الصراع في اللحظة التي اعترفت فيها المرأة بخطئها باكية وهي طريحة الفراش، لم يصدق أذنيه لأول وهلة، ثم أخذ يفيق إلى نفسه وإلى الحقيقة البغيضة التي تطالعه متحدية كبرياءه وصلفه، بيد أنه أجل حنقه ريثما يرى ما أصابها، أو أنه - وهو الأصدق - لم يسعه أن يفكر فيما تحدى كبرياءه وصلفه لما اعتراه من قلق عميق بلغ حد الخوف والجزع على المرأة التي يألفها، ويعجب بمزاياها فعطف عليها عطفا أنساه خطأها، وسأل الله لها السلامة، انكمش جبروته حيال الخطر المحدق بها، واستيقظ ما تنطوي عليه نفسه من حنان موفور، فعاد - يومذاك - إلى حجرته محزونا مكتئبا وإن لم يفصح وجهه .. إلا أنه مضى يستعيد طمأنينته وهو يراها تتماثل للشفاء بخطى سريعة ثابتة، ومضى بالتالي يعيد النظر إلى الحادث كله - أسبابه ونتائجه - بعين جديدة، أو بالأحرى بالعين القديمة التي اعتاد أن ينظر بها في بيته، فكان من سوء حظ - حظ الأم طبعا - أن يعيد النظر في هدوء وهو خال إلى نفسه، وأن يقتنع بأنه إذا غلب العفو ولبى نداء العطف - وهو ما نزعت إليه نفسه - فقد أضاع هيبته وكرامته وتاريخه وتقاليده جميعا، فأفلت منه الزمام وانتثر عقد الأسرة التي يأبى إلا أن يسوسها بالحزم والصرامة، وبالجملة لن يكون في تلك الحال أحمد عبد الجواد ولكن شخصا آخر لن يرتضي أن يكونه أبدا ... أجل كان من سوء الحظ أن يعيد النظر في هدوء وهو خال إلى نفسه؛ إذ لو أتيح له أن ينفس عن غضبه حين اعترافها لانفثأ حنقه، ومر الحادث دون أن يسحب وراءه عواقب خطيرة، ولكنه لم يسعه الغضب في وقته كما لم يكن مما يرضي كبرياءه أن يعلن غضبه عقب شفائها - بعد هدوء دام ثلاثة أسابيع - إذ إن هذا الغضب يكون أقرب إلى الزجر المتعمد منه إلى الغضب الحقيقي، ولما كانت حساسيته الغضبية تستعر عادة من طبع وتعمد معا، ولما كان الجانب الطبيعي منها لم يجد متنفسا في حينه، فقد وجب على الجانب المتعمد - وقد أتيحت له فرصة من الهدوء لمعاودة التفكير - أن يجد وسيلة فعالة لتحقيق ذاته على صورة تتناسب وخطورة الذنب، وهكذا انقلب الخطر الذي تهدد حياتها حينا، والذي أمنها من غضبه بما أثار من عطفه أداة عقاب بعيدة المدى بما أتاح له من وقت للتدبير والتفكير ... ونهض مقطبا فولاها ظهره مستقبلا ملابسه على الكنبة ثم قال بجفاء: سأرتدي ملابسي بنفسي.
كانت لم تزل متسمرة في مكانها ذاهلة عما حولها فأفاقت على صوته، وسرعان ما أدركت من قوله ووقفته أنه يأمرها بالانصراف، فاتجهت نحو الباب في خطى لا وقع لها، وقبل أن تجاوزه أدركها صوته وهو يقول: لا أحب أن أجدك هنا إذا عدت ظهرا.
32
خارت قواها في الصالة فارتمت على طرف كنبة وكلماته القاسية الحاسمة تتردد في باطنها، ليس الرجل هازلا، ومتى كان هازلا؟! ولم تستطع مبارحة مكانها - على رغبتها في الفرار - أن يثير نزولها قبل مغادرته البيت على خلاف المألوف ريبة الأبناء الذين لا تحب لهم أن يستقبلوا يومهم، أو يذهبوا إلى أعمالهم متجرعين خبر طردها، وثمة إحساس آخر - لعله الحياء - أقعدها عن أن تلقاهم في ذل المطرود، وقررت أن تبقى حيث هي حتى يغادر البيت، أو أن تأوي إلى حجرة المائدة وهو الأفضل حتى لا تقع عليها عيناه إذا مضى إلى الخارج، فتسللت إلى الحجرة كسيرة الفؤاد، وقعدت على شلتة ساهمة واجمة. ترى ماذا يعني؟ أيطردها إلى حين أم إلى الأبد؟ إنها لا تصدق أنه ينوي تطليقها، هو أكرم من هذا وأنبل، أجل إنه غضوب جبار ولكن من الإسراف في التشاؤم أن تغيب عنها آي شهامته ومروءته ورحمته. وهل تنسى كيف حزن لحالها حين الرقاد؟ ... وكيف عادها يوما بعد يوم مستفسرا عن صحتها؟ ... مثل هذا الرجل لا يهون عليه أن يخرب بيتا، أو يكسر قلبا، أو ينزع أما من بين أبنائها. وجعلت تدير هذه الأفكار في رأسها كأنما لتدخل بها بعض الطمأنينة إلى نفسها المزعزعة، وألحت في هذا إلحاحا إن دل على شيء فعلى أن الطمأنينة لا تريد أن تستقر بنفسها كبعض المرضى الذين يزيدون تغنيا بقوتهم كلما زادوا إحساسا بضعفهم؛ إذ كانت لا تدري ماذا تصنع بحياتها، أو ماذا يمكن أن تغني الحياة لها لو خاب الرجاء ونفذ المحذور. وترامى إلى أذنيها وقع عصاه على أرض الصالة، وهو يمضي خارجا فأطار أفكارها وأنصتت باهتمام تتابعه حتى غاب، وشعرت عند ذاك بألم جارح لحالها، وسخط على الإرادة المتحجرة التي لم ترع لضعفها حقا، ثم نهضت فيما يشبه الإعياء وغادرت الحجرة لتنزل إلى الدور الأول فجاءتها عند رأس السلم أصوات الأبناء وهم ينزلون تباعا، فمدت رأسها من فوق الدرابزين، فلمحت فهمي وكمال وهما يتبعان ياسين إلى الباب المفضي إلى الفناء، هنالك غمزت خطرة من الحنان قلبها فأذهلته، وعجبت لنفسها كيف تركتهما يذهبان دون أن تودعهما، أليست قد تحرم عليها رؤيتهما ... أياما أو أسابيع؟ وربما لا تراهما مدى العمر إلا لماما كالغرباء؟ ... وعاودها غمز الحنان متتابعا وهي بموقفها من السلم لا تريم، بيد أن قلبها - على امتلائه - كبر عليه أن يصدق أن يكون هذا المصير الأسود نصيبها المقدور؛ لإيمانها اللانهائي بالله الذي حفظها في وحدتها الغابرة من العفاريت نفسها، ولثقتها برجلها التي تأبى أن تنهار، ولأنها لم يصبها في حياتها الماضية شر خطير خليق بأن يسلبها الطمأنينة إلى الحياة الوادعة، فمالت نفسها إلى اعتبار محنتها تجربة قاسية ستمر بها دون أن تنشب فيها، ووجدت خديجة وعائشة مشتبكتين في جدال كعادتهما، ولكنهما نزعتا عما كانتا فيه حين رأتا وجومها، ونظرة عينيها الخابية، ولعلهما خافتا أن تكون قد برحت الفراش قبل أن تسترد كامل صحتها، فسألتها خديجة في قلق: ماذا بك يا نينة؟ - لا أدري والله ماذا أقول ... إني ذاهبة.
ومع أن العبارة الأخيرة جاءت مقتضبة غير محدودة الهدف، إلا أنها اكتسبت من نظرتها اليائسة ونبراتها الشاكية معنى حالكا ريعتا له فهتفتا معا: إلى أين؟!
فقالت بانكسار وهي تشفق سلفا من وقع كلامها من أذنيهما بل ومن أذنيها هي نفسها: إلى أمي.
Shafi da ba'a sani ba