تمنت في تلك الساعة لو بقي ياسين وفهمي إلى جانبها ليشجعاها، تقول خديجة «سنخبره بما تم الاتفاق عليه فيمر الأمر بسلام» ولكن هل يظل ما وقع سرا مغلقا إلى الأبد ... ألا تجد الحقيقة فرجة تنفذ منها إلى الرجل؟ ... كم تخاف الكذب بقدر ما تخاف الحقيقة، ولا تدري أي مصير يتربص بها، ورددت عينيها بعطف بين الفتاتين وفتحت فاها لتتكلم حين دخلت أم حنفي مهرولة، وهي تقول بصوت مهموس كأنها تخاف أن يسمع خارج الحجرة: سيدي جاء يا ستي.
وخفقت قلوبهن في اضطراب، وجلت الفتاتان عن الفراش في وثبة واحدة، ثم وقفتا حيال أمهما يتبادلن جميعا النظر صامتات، حتى غمغمت الأم: لا تتكلما أنتما؛ فإني أخاف عليكما مغبة مخادعته، اتركا لي القول والله المستعان.
وساد صمت مشحون بالتوتر كالصمت الذي يركب أطفالا في الظلام إذا قرع آذانهم وقع أقدام من يظنونهم عفاريت يجوسون في الخارج، حتى ترامى إليهن وقع أقدام السيد على السلم، وهي تقترب فأزاحت الأم كابوس الصمت بمشقة وغمغمت: إذا تركناه صعد إلى حجرته لم يجد أحدا؟!
ثم التفتت صوب أم حنفي قائلة: أخبريه بأنني هنا، مريضة، ولا تزيدي.
وازدردت ريقها الجاف، أما الفتاتان فمرقتا من الحجرة مستبقتين وغادرتاها وحيدة، ووجدت نفسها وكأنها في عزلة عن العالم كله فاستسلمت للمقادير، وكثيرا ما يبدو هذا الاستسلام في سلوكها - الأعزل من كل سلاح - كأسلوب من أساليب الشجاعة السلبية، واستجمعت فكرها لتتذكر ما يجب قوله بيد أن الشك في سلامة تدبيرها لم يزايلها قط، وكمن في أعماق شعورها معلنا عن ذاته بحال من القلق والتوتر وتبدد الثقة وجاءها وقع طرف عصاه على أرض الصالة، فغمغمت: «رحمتك يا رب وعونك»، ثم تطلع بصرها إلى الباب حتى اعترضه جسمه الطويل العريض، ورأته وهو يدخل مقتربا ملقيا عليها نظرة متفحصة من عينيه الواسعتين حتى وقف في منتصف الحجرة، وهو يتساءل بصوت خالته رقيقا على غير عادته: ما لك؟
فقالت وهي تغض بصرها: حمدا لله على سلامتك يا سيدي، بخير ما دمت بخير. - لكن أم حنفي قالت لي إنك مريضة.
فأشارت بيسراها إلى كتفها اليمنى، وقالت: أصيب كتفي يا سيدي لا أراك الله سوءا.
فتساءل الرجل وهو يتفرس في كتفها باهتمام وقلق: ماذا أصابه؟
حم الأمر، وجاءت الدقيقة الفاصلة، ما عليها إلا أن تتكلم، أن تنطق بكذبة النجاة، فتمر الأزمة بسلام وتستزيد من العطف المتاح، ورفعت عينيها وهي تتوثب، فالتقت عيناها بعينيه، أو بالأحرى عيناها في عينيه، فاشتد وجيب قلبها، وتتابع بلا رحمة ، هناك تبخر ما جمعته في رأسها من رأي، وانتثر ما كتلته في إرادتها من عزم، ورمشت عيناها في اضطراب وذهول، ثم رنت إليه بطرف حائر دون أن تنبس بكلمة، وعجب السيد لاضطرابها فتعجلها متسائلا: ماذا حدث يا أمينة؟!
لا تدري ماذا تقول، كأنه ليس لديها ما تقوله ولكن بات في حكم اليقين أنه لم يعد بوسعها أن تكذب، أفلتت الفرصة دون أن تدري كيف، ولو أنها أعادت المحاولة لخرجت من صدرها مبتورة مكشوفة، كانت كمن يسير وهو منوم تنويما مغناطيسيا على حبل إذا دعي إلى إعادة مخاطرته وهو صاح، وكلما مرت الثواني غاصت في الارتباك والهزيمة حتى أشفت على اليأس. - لماذا لا تتكلمين؟
Shafi da ba'a sani ba