فنهض الغلام مبتسما في ارتباك وقال: تذكرت أني نسيت كراسة الإنجليزي فعدت لآخذها، ثم بدا لي أن أستعيد الكلمات مرة أخيرة.
وذهبت معه مرة أخرى إلى حجرة النوم، ولم تتركه حتى تمدد تحت الغطاء، ولكنه لم ينم. وكان النوم أعجز من أن يغلب اليقظة الماكرة التي تنبعث في شعوره، فلم يلبث أن وثب من السرير، ومضى إلى سمعه وقع أقدام أمه، وهي ترقى السلم إلى الدور الأعلى، ثم فتح الباب وجرى إلى حجرة شقيقتيه، ودفع بابها ودخل دون أن يغلقه ليوسع للمصباح المعلق بالصالة منفذا يضيء منه جانبا من الظلمة الغاشية في الداخل، وهرع إلى الفراش وهو يهمس: «أبلة خديجة!» فجلست الفتاة في الفراش دهشة، فوثب إلى جانبها وهو يلهث من الانفعال، وكأنه لم يقنع بمستمعة واحدة ليستودعها السر الذي أطار النوم من عينيه، فمد يده إلى جسم عائشة وهزه، ولكن الفتاة كانت قد تنبهت إلى القادم، وأزاحت عنها الغطاء ثم رفعت رأسها بين الاستطلاع والاحتجاج متسائلة: ماذا جاء بك الآن؟
لم يأبه للهجة الاحتجاج؛ لأنه كان على يقين من أن كلمة واحدة يشير بها إلى سره خليقة بأن تقلبهما رأسا على عقب، وقفز لهذا قلبه بهجة وسرورا، ثم قال هامسا كأنه يحاذر أن يسمعه رابع: عندي سر غريب.
فسألته خديجة: أي سر هذا؟! ... هات ما عندك وأرنا شطارتك.
ولم يعد باستطاعته الكتمان، فقال: أخي فهمي يريد أن يخطب مريم.
عند ذاك جلست عائشة في الفراش بدورها في حركة آلية سريعة، كأنما التصريح رشة ماء بارد ألقيت في وجه وسنان، وتقاربت الأشباح الثلاثة في شكل هرمي كما بدا على الضوء الخافت النافذ إلى الحجرة والمنعكس على أرضها فيما يلي الباب المفتوح على هيئة متوازي الأضلاع، مذبذب الأطراف تبعا لذبذبة ذبالة المصباح الذي تعرض - بترك الباب مفتوحا - إلى تيار وإن نسم من خصاص النافذة إلى الصالة في لطف همسات تذيع سرا، ثم تساءلت خديجة في اهتمام: كيف عرفت هذا؟ - تركت فراشي لأحضر كراسة الإنجليزي، وعند باب أخي جاءني صوته وهو يتكلم فلبدت في الكنبة ... ثم أعاد على مسمعيهما ما تسرب إليه من وراء الباب الموارب، وهما تنصتان إليه في اهتمام ملك عليهما الأنفاس حتى فرغ من حديثه، وهنا تساءلت عائشة كأن بها حاجة إلى المزيد من الاقتناع: أتصدقين هذا؟
فقالت خديجة بصوت كأنه ينبعث من تليفون بمدينة بعيدة: أتتصورين أن يخترع هذا (مشيرة إلى كمال) حكاية طويلة عريضة كهذه؟ - لك حق (ثم ضاحكة لتخفف من حدة اهتمامها) اختلاق موت غلام في الطريق شيء، أما هذه الحكاية فشيء آخر.
فتساءلت خديجة دون أن تلقي بالا إلى احتجاج كمال الذي اعترض على التعريض به: كيف وقع هذا يا ترى؟!
فضحكت عائشة قائلة: ألم أقل لك مرة إني أشك في أن اللبلاب هو الذي يدعو فهمي إلى السطح كل يوم؟! - إنه اللبلاب الآخر الذي التف حول ساقه هو.
فترنمت عائشة بصوت خفيض: لا ملام عليك يا عيوني في حبه.
Shafi da ba'a sani ba