وبلغ بها القلق غايته فاستعاذت بالله وبسملت عدة مرات، أما كمال فاستطرد قائلا: وسألت الشيخ: هل يدخل المسلمون منهم الجنة؟ فقال: نعم، فسألته مرة أخرى: كيف يدخلونها بأجسام من نار؟ فأجابني بحدة قائلا: إن الله قادر على كل شيء ... - جلت قدرته.
فرنا إليها باهتمام ثم تساءل: وإذا التقينا بهم في الجنة ألا تحرقنا نارهم؟!
فابتسمت المرأة وقالت في ثقة وإيمان: ليس فيها أذى أو خوف.
وسرح الغلام بعينيه حالما وإذا به يسأل مغيرا مجرى الحديث فجأة: أنرى الله في الآخرة بأعيننا؟
قالت المرأة بنفس الثقة والإيمان: هذا حق لا ريب فيه.
فلاحت في نظرته الحالمة أشواق كما تلوح في الغلس بتأثير الضياء، وساءل نفسه: متى يرى الله، وفي أي صورة يتبدى؟ وإذا به يسأل أمه مغيرا مجرى الحديث فجأة مرة أخرى: أيخاف أبي الله؟!
فتولتها الدهشة وقالت في إنكار: يا له من سؤال غريب! ... أبوك رجل مؤمن يا بني، والمؤمن يخاف ربه.
فهز رأسه في حيرة وقال بصوت خفيض: لا أتصور أن أبي يخاف شيئا.
فهتفت المرأة في عتاب: سامحك الله ... سامحك الله ...
واعتذر عن قوله بابتسامة رقيقة، ثم دعاها إلى حفظ السورة الجديدة، وراحا يتلوانها آية آية ويعيدان. ولما استفرغا جهدهما نهض الغلام ليذهب إلى حجرة النوم فتبعته، حتى اندس تحت الغطاء على فراشه الصغير، ثم وضعت راحتها على جبينه وتلت آية الكرسي، وانحنت فوقه وطبعت قبلة على خده، فأحاط عنقها بذراعه ورد بقبلة طويلة صادرة من أعماق قلبه الصغير. وكانت تلقى دائما صعوبة في التخلص منه عند توديعه مساء؛ لأنه كان يبذل كل حيلته ليستبقيها إلى جانبه أطول مدة ممكنة إن لم يفز باستبقائها، حتى يغيب في نومه وهو بين ذراعيها، ولم يجد وسيلة لبلوغ غايته خيرا من أن يطلب إليها أن تتلو على رأسه - إذا ختمت آية الكرسي - سورة ثانية ثم ثالثة، حتى إذا آنس منها ابتسامة اعتذار توسل إليها معتلا بخوفه من وحدته في الحجرة، أو بما يتراءى له به من أحلام مزعجة لا تدفعها إلا تلاوة طويلة للسور الشريفة، وربما تمادى في تشبثه بها إلى حد تصنع المرض، غير واجد في تحايله هذا جورا، بل رآه عن يقين ممارسة منقوصة لحق من حقوقه المقدسة التي هضمت أفظع الهضم يوم فصل عن أمه ظلما وعدوانا، وجيء به إلى هذا الفراش المفرد بحجرة أخويه. كم يذكر مع الحسرة عهدا غير بعيد من ماضيه حين مضجعهما كان واحدا، وحين ينام متوسدا ذراعها وهي تسكب في أذنه بصوتها الرقيق قصص الأنبياء والأولياء، وحين النوم يغشاه قبل رجوع أبيه من سهرته، وينحسر عنه بعد نهوض الرجل إلى الحمام، فلم يكن يرى مع أمه ثالثا، وكانت الدنيا له بلا شريك. ثم بقضاء أعمى لم يدر له حكمة فرقوا بينهما، وتطلع إليها ليرى أثر نفيه في نفسها فما عجب إلا بتشجيعها الموحي بموافقتها وتهنئتها له قائلة: «الآن صرت رجلا فمن حقك أن يفرد لك فراش خاص.» من قال إنه يسره أن يكون رجلا، أو أنه يطمح إلى أن يفرد له فراش خاص؟! ومع أنه بلل أول وسادة خاصة له بدمعه، ومع أنه أنذر أمه بأنه لن يعفو عنها مدى الحياة، إلا أنه لم يجرؤ على التسلل إلى مضجعه القديم؛ لأنه كان يعلم أن وراء تلك الحركة الجائرة الغادرة تجثم إرادة أبيه التي لا ترد، ولشد ما حزن حتى رسبت عكارة الحزن في أحلامه، ولشد ما حنق على أمه - لا لأنه لم يسعه أن يحنق على أبيه فحسب - ولكن لأنها كانت آخر من يتصور أن يخيب عنده الأمل، بيد أنها عرفت كيف تسترضيه وترده إلى الصفاء رويدا ودأبت على ألا تفارقه بادئ الأمر حتى يوافيه النوم، وجعلت تقول له: «لم نفترق كما تزعم، ألست ترانا معا؟ وسنبقى دائما معا، لن يفرق بيننا إلا النوم الذي كان يفرق بيننا ونحن في فراش واحد.» والآن لم تعد تطفو على شعوره حسرة مما تخلف عن تلك الذكرى، واستنام إلى حياته الجديدة، بيد أنه لم يكن يدعها تذهب حتى يستنفد الحيل لاستبقائها إلى جانبه أطول مدة ممكنة، وقد قبض على راحتها في حرص شديد كما يقبض الطفل على لعبته بين أطفال يتخاطفونها. وراحت هي تتلو الآيات على رأسه حتى غافله الكرى، فودعته بابتسامة رقيقة وغادرت الحجرة، واتجهت إلى الحجرة التالية ففتحت بابها بخفة، ونظرت صوب فراش لاح شبحه في جانبها الأيمن وتساءلت في رقة: «نمتما؟» فجاءها صوت خديجة وهي تقول: كيف يتأتى لي النوم وشخير ست عائشة يملأ علي الحجرة؟!
Shafi da ba'a sani ba