غادر الغلام المدرسة، ومع أنه كان لرنين الجرس المؤذن بانتهاء اليوم الدراسي فرحة في نفسه لا تعادلها فرحة في تلك الأيام، إلا أن نسائم الحرية التي نشقها خارج بوابة المدرسة بصدر رحب لم تمح أصداء الدرس الأخير الحبيب - درس الديانة - من قلبه. وقد قرأ عليهم الشيخ ذلك اليوم سورة «قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن» وشرحها لهم، فتركز فيه بوعيه، ورفع أصبعه أكثر من مرة سائلا عما أغلق عليه، ولما كان الأستاذ يعطف عليه لإقباله على الاستماع لدرسه باهتمام بارز، إلى حفظه للسور حفظا جيدا، فقد أوسع صدره لأسئلته بحال يندر أن يحظى بها أحد التلاميذ، وراح الشيخ يحدثه عن الجن وطوائفهم، وعن المسلمين منهم خاصة الذين سيظفرون بالجنة في النهاية أسوة بإخوانهم من البشر، وحفظ الغلام عن ظهر قلب كل كلمة نطق بها، ولم يزل يديرها في نفسه حتى هذه اللحظة التي يعبر فيها الطريق قاصدا دكان البسبوسة على الجانب الآخر، فإلى شغفه بالديانة كان يعلم أنه لا يتلقاها لنفسه فحسب، وأن عليه أن يعيد ما وعى منها في البيت على أمه - كما اعتاد أن يفعل مذ كان في الكتاب - فيلقي إليها بمعلوماته وتستعيد هي على ضوئها ما عندها من معلومات عرفتها عن أبيها الذي كان شيخا أزهريا، ويتذاكران معارفهما طويلا ثم يحفظها الجديد من السور التي لم يسبق لها حفظها. وانتهى إلى دكان البسبوسة فمد يده الصغيرة بالملاليم التي احتفظ بها منذ الصباح، ثم تناول القطعة في ارتياح شامل لا يشعر به إلا في مثل هذا الموقف اللذيذ، مما جعله يحلم كثيرا بأن يكون يوما صاحب دكان حلوى ليأكلها لا ليبيعها، ثم واصل سيره في شارع الحسين وهو يقضم منها مسرورا مترنما. نسي وقتذاك أنه كان سجينا النهار كله، وأنه كان محروما من الحركة فضلا عن اللعب والمرح، وأنه كان عرضة في أية لحظة لعصا المدرس المسلطة على الرءوس، بيد أنه رغم هذا كله لم يكره المدرسة كراهية مطلقة؛ لأنه كان يظفر بين جدرانها بأسباب من التقدير والتشجيع - بسبب تفوقه الذي يرجع كثير من الفضل فيه إلى شقيقه فهمي - لا يحظى بعشر معشارها عند أبيه. ومر في طريقه بدكان ماتوسيان لبيع السجائر، فوقف كعادته كل يوم في مثل هذه الساعة تحت لافتتها يصعد عينيه الصغيرتين إلى الإعلان الملون الذي يصور امرأة مضطجعة على ديوان وبين شفتيها القرمزيتين سيجارة يتطاير منها خيط دخان متعرج، معتمدة بساعدها على حافة نافذة يلوح وراء ستارتها المنحسرة منظر يجمع بين حقل نخيل ومجرى من مجريات النيل، وكان يدعوها فيما بينه وبين نفسه «أبلة عائشة» لما بين الاثنتين من شبه يتمثل في الشعر الذهبي والعينين الزرقاوين، ومع أنه كان يناهز العاشرة إلا أن إعجابه بصاحبة الصورة فاق كل تقدير، فكم تخيلها متمتعة بالحياة في أبهج مظاهرها، وكم تخيل نفسه وهو يقاسمها حياتها الرغيدة بين حجرة ناعمة، ومنظر ريفي متاح لها - لهما - أرضه ونخيله وماؤه وسماؤه، يسبح في الوادي الأخضر أو يعبر النهر في قارب بدا في نهاية الصورة كالطيف، أو يهز النخيل فيساقط عليه الرطب، أو يجلس بين يدي الحسناء طامح الطرف إلى عينيها الحالمتين. على أنه لم يكن جميلا كأخويه، ولعله كان أشبه الأسرة بأخته خديجة، فمثلها قد جمع في وجهه بين عيني أمه الصغيرتين وأنف أبيه الضخم ولكن بكامل هيئته لا مهذبا بعض التهذيب كما ورثته خديجة، إلى رأس كبير يبرز عند الجبهة بروزا واضحا، جعل عينيه تبدوان غائرتين أكثر مما هما في الواقع، وكان من سوء الحظ أن نبه إلى غرابة صورته بحال مثيرة للسخرية حين دعاه أحد الرفاق بأبي «رأسين»، فأهاج غضبه وأورطه في إحدى المعركتين اللتين خاضهما، ولم يسكن خاطره الانتقام فشكا في البيت حزنه إلى أمه التي تكدرت لكدره، وراحت تعزيه مؤكدة له أن كبر الرأس من كبر العقل، وأن النبي عليه السلام كان كبير الرأس، وأنه ليس وراء التشابه بين الرسول وبينه من مطمع لطامع. ولما انتزع نفسه من صورة المدخنة واصل سيره رانيا هذه المرة إلى جامع الحسين الذي قضت نشأته بأن يكون لقلبه مثار أخيلة وعواطف لا تنضب. ومع أن المكانة التي نزلها الحسين من نفسه - تبعا لمنزلته من نفس أمه خاصة والأسرة عامة - كانت وليدة قرابته من النبي، إلا أن معرفته للنبي وسيرته لم تكن شفيعا إلى معرفته بالحسين وسيرته، وما تهفو نفسه دائما إليه من استعادة هذه السيرة والتزود منها بأنبل القصص وأعمق الإيمان، حتى لقد وجدت منه على مر القرون مستمعا مشغوفا ومحبا مؤمنا وأسيفا بكاء، فلم يهون من بلواه إلا ما قيل من أن رأس الشهيد بعد فصله عن جسده الطاهر لم يرض من الأرض مسكنا إلا في مصر، فجاءها طاهرا مسبحا ثم ثوى حيث يقوم ضريحه. وكم وقف حيال الضريح حالما مفكرا، يود لو ينفذ ببصره إلى الأعماق ليطلع على الوجه الجميل الذي أكدت له أمه أنه قاوم غير الدهر بسره الإلهي، فاحتفظ بنضارته ورونقه حيث يضيء ظلمة المثوى بنور غرته، ولما لم يجد إلى تحقيق أمنيته سبيلا قنع بمناجاته في وقفات طويلة، مفصحا عن حبه، شاكيا إليه متاعبه الناشئة من تصوراته عن العفاريت، وخوفه من تهديد أبيه مستنجدا به على الامتحانات التي تلاحقه كل ثلاثة أشهر، ثم خاتما مناجاته عادة بالتوسل إليه أن يكرمه بالزيارة في منامه. ومع أن عادة مروره بالجامع صباحا ومساء خففت بعض الشيء من شدة تأثره به، إلا أنه لم تكن تقع عليه عيناه حتى يقرأ له الفاتحة، ولو تكرر ذلك منه مرات في اليوم الواحد، أجل لم تستطع العادة أن تقتلع من صدره بهجة الأحلام، فلم يزل لمنظر الجدران السامقة تجاوبها مع قلبه، ولم يزل لمئذنته العالية نداء ما أسرع أن تلبيه نفسه. قطع طريق الحسين، وهو يقرأ الفاتحة، ثم انعطف إلى خان جعفر، ومنها اتجه إلى بيت القاضي، ولكنه بدلا من أن يمضي إلى البيت مخترقا النحاسين عبر الميدان إلى درب قرمز على وحشته وإثارته لمخاوفه ليتفادى من المرور بدكان أبيه. كان يرتعد فرقا من أبيه ولا يتصور أنه يخاف العفريت لو طلع له أكثر منه إذا زعق به غاضبا، وضاعف من كربه أنه لم يقتنع يوما بالأوامر الصارمة التي يلاحقه بها للحيلولة بينه وبين ما تصبو إليه نفسه من اللعب والمراح، فلو أنه أذعن لمشيئته مخلصا لقضى وقت فراغه كله متربعا مكتوف اليدين لذلك لم يسعه أن يطيع تلك المشيئة الجبارة العاتية، واختلس اللهو من وراء ظهره كلما حلا له، في البيت أو في الطريق، وظل الرجل على جهل بأمره إلا أن يبلغه منه شيء بوشاية من أهل البيت إذا ضاقوا بغلوه وإفراطه. من ذلك أنه جاء يوما بسلم وارتقاه إلى عرش اللبلاب والياسمين فوق السطوح، ورأته أمه وهو على تلك الحال بين السماء والأرض فصرخت فزعة حتى أجبرته على النزول، ثم غلب إشفاقها من مغبة لعبة خطيرة كتلك على خوفها عليه من شدة أبيه، فصرحت للسيد بما كان منه، وسرعان ما دعا به وأمره أن يمد قدميه وانهال عليهما بعصاه غير مبال بصراخه الذي ملأ البيت، وغادر الغلام الحجرة وهو يظلع ليجد إخوته في الصالة وهم يغالبون ضحكهم إلا خديجة التي حملته بين يديها هامسة في أذنه: «تستاهل ... كيف تعلو اللبلاب وتناطح السماء! أحسبت نفسك زبلن؟!» على أنه فيما عدا الألعاب الخطرة كانت أمه تتستر عليه وتبيح له ما يشاء من اللعب البريء. ولشد ما يعجب كلما ذكر كيف كان هذا الأب نفسه ظريفا لطيفا معه على عهد طفولته القريبة، وكيف كان يتسلى بمداعبته وكيف كان ينفحه من آن لآخر بألوان شتى من الحلوى، وكيف هون عليه يوم الختان - على فظاعته - فملأ حجره بالشوكولاتة والملبس وشمله بعطفه ورعايته، ثم ما أسرع أن تغير كل شيء فتبدل عطفه صرامة، ومناغاته زعقا، ومداعباته ضربا، حتى الختان نفسه اتخذه أداة لإرهابه حتى اختلط عليه الأمر ردحا من الزمن، فظن أنه من الممكن حقا أن يلحقوا ما تبقى له بما ذهب! وليس الخوف وحده الذي شعر به نحو أبيه فإجلاله له لم يكن دون خوفه منه، كان يعجب بمظهره العظيم القوي، ومهابته التي تعنو لها الهام، وأناقة ملبسه، وما يعتقده فيه من قدرة على كل شيء، ولعل حديث الأم عن سيدها هو الذي هوله عنده، فلم يتصور أنه يوجد في الدنيا رجل يضارعه في قوته أو إجلاله أو ثروته. أما عن الحب فقد كان كل من في البيت يحب الرجل لحد العبادة، فانسرب حبه إلى قلبه الصغير بإيحاء البيئة، بيد أنه ظل جوهرة مكنونة في حق مغلق من الخوف والرعب. مضى يقترب من قبو درب قرمز المظلم الذي تتخذه العفاريت مسرحا لألعابها الليلية، والذي آثره لنفسه طريقا عن المرور بدكان أبيه، وعندما دخل في جوفه راح يقرأ «قل هو الله أحد» بصوت مرتفع رن في الظلمة تحت السقف المنحني، وسبقته عيناه إلى فوهة القبو البعيدة حيث يشع نور الطريق، ثم حث خطاه وهو يردد السورة لطرد من تحدثه نفسه بالظهور من العفاريت، فالعفاريت لا سبيل لها على من يدرع بآيات الله، أما أبوه فلن يدرأ غضبه عنه إذا ثار أن يتلو كتاب الله كله. وخرج من القبو إلى الشطر الآخر من الدرب، وعند نهايته طالعه سبيل بين القصرين ومدخل حمام السلطان، ثم لاحت لعينيه مشربيات بيته بلونها الأخضر القاتم، والباب الكبير بمطرقته البرنزية، فافتر ثغره عن ابتسامة فرح لما يدخره له هذا المكان من أفانين المرح، فعما قليل يهرع الغلمان إليه من جميع البيوت المجاورة إلى فناء الدار الواسع، الذي يحوي عدة حجرات تتوسطها الفرن فيكون لعب ولهو وبطاطة. وفي تلك اللحظة رأى سوارس وهي تقطع الطريق على مهل متجهة إلى بين القصرين، فوثب قلبه وشاع فيه سرور ماكر، وما لبث أن دس حقيبة كتبه تحت إبطه الأيسر، وجرى وراءها حتى أدركها ثم وثب إلى سلمها الخلفي، ولكن الكمساري لم يتركه في سروره طويلا، فجاءه يطالبه بثمن التذكرة وهو يرمقه بنظرة تنم عن ريبة وتحد، فقال له متوددا إنه سيغادرها حالما تقف؛ لأنه لا يسعه النزول وهي سائرة، فتحول الرجل عنه إلى السائق، وهتف به أن يوقف العربة وهو يزمجر غاضبا، فانتهز الغلام فرصة تحوله عنه وشب على أمشاط قدميه وصفعه، ثم وثب إلى الأرض وانطلق هاربا وشتائم الكمساري تلاحقه أشد من الأحجار المطينة! ... لم تكن خطة مدبرة، ولا هي من مختار شطارته، ولكنه رأى غلاما يفعلها في الصباح فراقت له، ثم وجدها سانحة لإعادتها بنفسه ففعل.
9
واجتمعت الأسرة - ما عدا الأب - قبيل المغيب فيما يعرف بينها بمجلس القهوة، وكانت الصالة بالدور الأول مكانه المختار حيث تحيط بها حجرات نوم الإخوة والاستقبال ورابعة صغيرة أعدت للدرس، وقد فرشت الصالة بالحصر الملونة وقامت في أركانها الكنبات ذوات المساند والوسائد، وتدلى من سقفها فانوس كبير يشعله مصباح غازي في مثل حجمه. وكانت الأم تجلس على كنبة وسيطة وبين يديها مدفأة كبيرة دفنت كنجة القهوة حتى النصف في جمرتها التي يعلوها الرماد، وإلى يمينها خوان وضعت عليه صينية صفراء صفت عليها الفناجين، يجلس الأبناء حيالها سواء من يؤذن له باحتساء القهوة معها كياسين وفهمي، أو من لا يؤذن له بحكم التقاليد والآداب فيقنع بالسمر كالشقيقتين وكمال. تلك ساعة محببة إلى النفوس يستأنسون فيها إلى رابطتهم العائلية وينعمون بلذة السمر، وينضوون جميعا تحت جناح الأمومة في حب صاف ومودة شاملة. وبدت في جلساتهم راحة الفراغ وتحرره فكانوا بين متربع ومضطجع، وبينما جعلت خديجة وعائشة تستحثان الشاربين على الفراغ من شربهم لتقرآ لهم الطالع في فناجينهم، راح ياسين يتحدث حينا ويقرأ في قصة اليتيمتين من مجموعة مسامرات الشعب حينا آخر. كان من عادة الشاب أن يهب بعض فراغه لمطالعة القصص والأشعار، لا لإحساسه بنقص تعليمه - فالابتدائية وقتذاك لم تكن مطلبا صغيرا - ولكن غراما بالتسلية وولعا بالشعر والأساليب الجزلة. وقد بدا بجسمه المكتنز في جلبابه الفضفاض كقربة هائلة إلا أن مظهره لم يتعارض - بحكم الزمن - مع قسامة في وجهه الأسمر الممتلئ بعينيه السوداوين الجذابتين وحاجبيه المقرونين وشفتيه الشهوانيتين، ونم بجملته - رغم حداثة سنه الذي لا يجاوز الواحدة والعشرين - على رجولة مفعمة بالفحولة. ولبد كمال لصقه ليلتقط ما يرمي إليه بين آونة وأخرى من نوادر القصص، وهو لا يكف عن الاستزادة منها غير مكترث لما يحدثه إلحاحه على أخيه من الضيق كي يشبع أشواقا تشتعل بخياله في مثل هذه الساعة من كل يوم، ولكن ما أسرع أن يشغل عنه ياسين بالحديث أو بالاستغراق في المطالعة متفضلا عليه بين حين وآخر - كلما اشتد إلحاحه بكلمات مقتضبة إن وجد بها الجواب على بعض أسئلته، فما أحرى أن تستثير أسئلة جديدة لا جواب لها عنده، ثم لا يفتأ يرمق أخاه وهو آخذ في المطالعة التي تبيح له مفتاح العالم السحري بعين الحسد والحزن، فكم حز في نفسه عجزه عن قراءة القصة بنفسه، وكم أحزنه أن يجدها بين يديه بحيث يقلبها كيف شاء دون أن يسعه حل رموزها، فالولوج منها إلى دنيا الرؤى والأحلام، فقد وجد في هذا الجانب من ياسين مثارا لخياله هيأ له من ألوان المسرة ما هيأ، وهيج من أسباب الظمأ وعذابه ما هيج. وكثيرا ما كان يرفع عينيه إلى أخيه ويسأله في لهفة: «وماذا حدث بعد ذلك؟» فينفخ الشاب قائلا: «لا تضيق علي بأسئلتك ولا تتعجل حظك، فإن لم أقص عليك اليوم فغدا.» ولم يكن يحزنه شيء كاستنظاره للغد حتى اقترنت لفظة الغد في ذهنه بالحسرة، ولم يكن نادرا أن يتحول إلى أمه بعد تفرق المجلس وبه أمل أن تقص عليه ما «حدث بعد ذلك»، ولكن المرأة كانت تجهل قصة اليتيمتين وغيرها مما يقرأ ياسين، إلا أنها يعز عليها أن ترده خائبا فتروي له ما تحفظ من حكايات اللصوص والعفاريت، فيروغ خياله إليها رويدا ظافرا بزاد من العزاء. في مجلس القهوة ذاك لم يكن عجيبا أن يشعر بأنه ضائع مهمل بين أهله، لا يكاد يلتفت إليه أحد، وأنهم مشغولون عنه بأحاديثهم التي لا تنتهي. فلم يتورع عن الاختلاق في سبيل الاستئثار باهتمامهم ولو إلى حين، ولذلك رمى بنفسه في مجرى الحديث معترضا تياره بجرأة، وقال بلهجة حادة فجائية كانطلاق القذيفة كأنما تذكر أمرا خطيرا بغتة: يا له من منظر لا ينسى الذي رأيته اليوم وأنا عائد! ... رأيت غلاما يثب إلى سلم سوارس ثم صفع الكمساري وركض بأكبر سرعة، فما كان من الرجل إلا أن عدا وراءه حتى أدركه ثم ركله في بطنه بكل قوته ...
وقلب عينيه في الوجوه ليرى أثر حديثه، فلم يجد ثمة اهتماما ولمس إعراضا عن خبره المثير وتصميما على مواصلة الحديث، بل رأى يد عائشة تمتد إلى ذقن أمه وتحولها عنه بعد أن همت بالإصغاء إليه، ولمح إلى هذا ابتسامة هازئة ترتسم على شفتي ياسين الذي لم يرفع رأسه عن الكتاب، فركبه العناد وقال بصوت مرتفع: وسقط الغلام يتلوى وازدحم حوله الناس، فإذا به قد فارق الحياة ...
وأبعدت الأم الفنجان عن فمها وهتفت: يا ولداه! ... أتقول إنه مات؟
وسر باهتمامها وركز قوته فيها كما يركز المهاجم اليائس قوته في نقطة ضعيفة من سور منيع، فقال: أجل مات، ورأيت بعيني دمه وهو يسيل بغزارة.
وحدجه فهمي بنظرة ساخرة كأنها تقول له: «إني أذكر لك أكثر من قصة من هذا النوع» وقال متسائلا في تهكم: قلت إن الكمساري ركله في بطنه؟ ... فمن أين سال الدم؟!
وانطفأت شعلة الظفر التي تلألأت في عينيه مذ جذب أمه إليه، وحل محلها سهوم الارتباك والحنق، ولكن أسعفه الخيال فاستردت نظرة عينيه حيويتها وقال: لما ركله في بطنه سقط على وجهه فشج رأسه!
وهنا قال ياسين دون أن يرفع عينيه عن اليتيمتين: أو أن الدم سال من فيه؛ فالدم قد يسيل من الفم دون حاجة إلى جرح ظاهري، هنالك أكثر من تفسير لخبرك المكذوب - كالعادة - فلا تخف ...
واحتج كمال على تكذيب أخيه وراح يحلف بأغلظ الأيمان على صدقه، ولكن احتجاجه ضاع في ضجة من الضحك جمعت الغليظ والرفيع من حناجر الرجال والنساء في هارموني واحدة، وتحركت طبيعة خديجة الساخرة فقالت: ما أكثر ضحاياك، لو صدقت فيما تروي من أخبار لما أبقيت على أحد من أهل النحاسين حيا ... ماذا تقول لربنا لو حاسبك على أخبارك هذه؟!
Shafi da ba'a sani ba