فاهتزت نفس ياسين وقال ضاحكا: ما كان أجدرني أنا بحفظها.
وفكر فهمي في خاطر طارئ، ثم تساءل بحزن: ترى أترامت أنباء ثورتنا إلى سعد في منفاه؟ ... أعلم الشيخ الكبير بأن تضحيته لم تذهب هباء أم تراه غارقا في يأس المنفى؟
57
لبثوا على السطح حتى الضحى، وراق للأخوين أن يراقبا المعسكر البريطاني الصغير، فرأيا نفرا من الجنود قد أقاموا مطبخا وراحوا يعدون الغداء، وتفرق كثيرون ما بين مدخل درب قرمز والنحاسين وبين القصرين في خلاء من المارة، وبين حين وآخر كان يتجمع كثيرون في طابور على نداء النفير، ثم يأخذون بنادقهم ويركبون أحد اللوريات الذي ينطلق بهم صوب بيت القاضي مما دل على قيام مظاهرات في الأحياء القريبة، وكان فهمي يراقب تجمعهم وذهابهم بقلب خافق وخيال متقد.
وأخيرا غادر الأخوان السطح تاركين كمال يلهو كيف شاء وحده، وأويا إلى حجرة المذاكرة، فأقبل فهمي على كتبه يراجع ما فاته في الأيام المنقضية، وتناول ياسين «ديوان الحماسة» و«غادة كربلاء»، وخرج إلى الصالة يستعين بهما على قتل الوقت الذي توافر وراء جدران سجنه كما يتوافر الماء وراء السدود، كانت الروايات - بوليسية وغيرها - أشد استحواذا على قلبه من الشعر، ولكنه أحب الشعر كذلك، وعرفه من أيسر سبله، يفهم ما يسهل فهمه، ويقنع من الصعب بموسيقاه، فندر أن يلجأ إلى الهامش المشحون بالشروح، وربما حفظ البيت وترنم به، وهو لا يفقه من معناه إلا أقله، أو يتصور له معنى لا يمت إلى حقيقته بسبب، أو لا يدرك له معنى على الإطلاق، ولكن رغم هذا كله رسب في عقله من صوره وألفاظه ما يعد ثروة يتيه بها مثله، حتى دأب على استغلالها لمناسبة ولغير مناسبة وهو الأكثر، فإذا عرض له يوما أن يكتب رسالة تهيأ لها تهيؤ الكتاب، وأقحم عليها من الألفاظ الرنانة ما يعلق بحافظته، وضمنها ما فتح الله به عليه من مأثور الشعر حتى عرف بين معارفه بالبلاغة، لا لأنه كان بليغا حقا، ولكن لقصورهم عن مجاراته وارتياعهم حيال غريب محفوظاته. قبل اليوم لم يعهد مثل هذا الفراغ الطويل الذي قضي عليه بأن يكابده ساعة فساعة محروما من أسباب الحركة والتسلية، وربما كانت القراءة خليقة بأن تسعفه على تحمله لو كان به صبر عليها، ولكنه اعتاد أن يلم بها في رفق، وفي الأوقات القصيرة التي تسبق خروجه إلى سهرته اليومية دون غيرها، وحتى في تلك الأوقات لم يكن يجد بأسا في أن يقطع القراءة بالمشاركة في أحاديث مجلس القهوة، أو يطالع قليلا، ثم يدعو كمال ليروي له ما قرأ مستلذا بإقبال الغلام على الإصغاء بذاك الشغف المأثور عن الأطفال والغلمان. إذن لم يكن الشعر ولا الرواية بالتي تستطيع أن تؤنس وحشته يوما كيومه هذا، وقد قرأ أبياتا من الشعر، وفصولا من «غادة كربلاء»، ومضى يتجرع الملل قطرة فقطرة، لاعنا الإنجليز من أعماق قلبه، ضجرا برما ضيق الصدر، حتى حان وقت الغداء، جمعتهم المائدة مرة أخرى، وقدمت لهم الأم حساء ودجاجات محمرة وأرزا، وأتمت أطباقها - التي حرمت من الخضر بسبب الحصار المضروب حول البيت - بجبن وزيتون ومش، وأحضرت عسلا أسود بدلا من الحلوى، ولكن لم يأكل بشهوة إلا كمال، أما السيد والأخوان فلم يسعدوا بقابلية قوية للطعام لقبوعهم يومهم بلا عمل ولا حركة، بيد أن الطعام هيأ لهم فرصة للهروب من الفراغ بالنوم، وعلى الخصوص السيد وياسين اللذان كان يسعهما الظفر بالنوم وقتما شاءا وكيفما أحبا. وغادر ياسين فراشه قبيل المغرب، فنزل إلى الدور التحتاني لشهود جلسة القهوة، ولكنها كانت جلسة قصيرة إذ إن الأم لم يسعها أن تترك السيد وحده طويلا، فودعتهم وطلعت إليه، ولبث ياسين وزينب وفهمي وكمال يتسامرون في جو يغلب عليه الفتور، حتى استأذن فهمي ومضى إلى حجرة المذاكرة، ثم دعا إليه كمال فغودر الزوجان منفردين. «ما عسى أن أصنع من الآن إلى ما بعد منتصف الليل؟» ... أزعجه هذا السؤال الذي ألح عليه طويلا، وبدا له اليوم كئيبا ذميما منتزعا بالقوة الغشوم من مجرى الزمان الذي يتدفق في الخارج حافلا بالمسرات، كما ينتزع الغصن من الشجرة فيستحيل حطبا. لولا الحصار العسكري لكان الآن بمجلسه المحبوب بقهوة أحمد عبده، يحسو الشاي الأخضر، ويسامر معارفه من روادها، ويمتع النفس بجوها العتيق الذي يستهوي شعوره بمقدمه، ويستأثر خياله بحجراته المطمورة تحت أنقاض التاريخ. قهوة أحمد عبده أحب المقاهي إلى قلبه، ولولا الغرض - والغرض مرض كما يقولون - ما اختار غيرها، ولكنه الغرض الذي جذبه فيما مضى إلى الكلوب المصري لقربه من مقام بائعة الدوم، وهو نفسه الذي أغراه بالانتقال بعد ذلك إلى قهوة سي علي بالغورية لوقوعها أمام بيت زنوبة العوادة؛ فهو يبدل المقاهي تبعا لغرضه، بل إنه يبدل من تعرض له صداقتهم فيها تبعا له، ففيما وراء الغرض لا مقهى ولا أصدقاء له، أين الكلوب المصري وأصحابه؟ ... أين قهوة سي علي ومعارفها؟ ... من حياته ذهبوا، ولعله لو صادفه أحدهم تجاهله أو تهرب منه، والدور الآن على قهوة أحمد عبده وسمارها، والله وحده يعلم ما يخبئه الغد من مقاه وأصدقاء. على أنه لم يكن يمكث بقهوة أحمد عبده طويلا، فسرعان ما يسترق الخطى إلى بقالة كستاكي، أو بالأحرى إلى حانته السرية ليحظى بالقارورة الحمراء، أو «العادة» كما يحلو له أن يدعوها ... أين منه «العادة» هذا المساء الكالح؟! وسرت في بدنه، لتذكر حانة كستاكي، رعدة شهوة، ثم ما لبث أن لاحت في عينيه نظرة سأم عميقة، وتململ تململ السجين. بدا البقاء في البيت حسرة طويلة زاد من حدة ألمها ما طاف بمخيلته من صور الهناء وذكريات النشوة المقترنة بالحانة والقارورة، فعذبته الأحلام وضاعفت من وجده، وقد جرت حنينه الملهوف على موسيقى الخمر الباطنية، ولعبها بالرأس ذلك اللعب المدغدغ الحار السار السائل بهجة وأفراحا، فلم يدرك قبل ذاك المساء أنه أعجز من أن يصبر على هجر الشراب يوما واحدا، ولم يحزن لما بدا له من ضعفه وعبوديته، ولا لام نفسه على إسرافها الذي جر عليه التعاسة لأهون الأسباب، كان أبعد ما يكون عن لوم نفسه أو السخط عليها، ولم يذكر من بواعث ألمه إلا الحصار الذي شنه الإنجليز حول البيت، وأنه يحترق ظمأ ومورد النشوات غير بعيد، ثم لاحت منه التفاتة إلى زينب، فوجدها تتفرس في وجهه بنظرة كأنما تقول له حانقة: «ما لك شاردا، ما لك واجما، أليس لوجودي أي أثر في التسرية عنك!» ... أدرك معناها كله في لحظة خاطفة التقت فيها عيناهما، ولكنه لم يستجب لعتابها الحانق الحزين، وبالعكس لعله أحنقه وأثار ثائرته، أجل لم يحقد على شيء كما حقد على اضطراره للبقاء معها طوال الليل، بلا رغبة، ولا مسرة، وحتى محروما من النشوة التي يستعين بها على تحمل حياته الزوجية. جعل يسترق إليها النظر، ويتساءل في غرابة: أليست هي هي! ... أليست هي التي خلبت لبي ليلة الزفاف؟! ... أليست هي التي شغفتني هياما ليالي وأسابيع؟! فما لها لا تحرك في ساكنا! ... أي شيء طرأ عليها! ما لي أتململ برما وسأما، فلا أجد من حسنها وأدبها ما يغريني عن سكرة تأجلت! ومال - كما فعل مرات من قبل - إلى رميها بالنقص فيما برعت فيه زنوبة ومثيلاتها من ضروب الخدمة والشطارة، والحق أن زينب كانت أولى تجاربه في المعاشرة الدائمة. فلم تطل به معاشرة العوادة ولا بائعة الدوم، ولم يكن تعلقه بإحداهما بمانعه من التنقل إذا سنحت دواعيه، وقد ذكر لحظات حيرته هذه وأفكاره عنها بعد كرور أعوام طوال، فعرف من نفسه ومن الحياة عامة ما لم يجر له في خاطر. وانتبه على تساؤلها: لعلك غير مرتاح إلى البقاء في البيت؟!
لم يكن على حال يطيق معها حتى العتاب، فوقع تساؤلها التهكمي من نفسه موقع الضربة الطائشة من الدمل، فاندفع قائلا بصراحة مؤلمة وإصرار: بلى.
ومع أنها تحامت النقار من بادئ الأمر إلا أن لهجته آذتها أشد إيذاء، فقالت بحدة: لا ذنب لي في هذا، أليس عجيبا ألا تطيق التخلف عن سهرتك ولو ليلة واحدة. فقال متسخطا: دليني على شيء واحد يجعل البيت محتملا.
فقامت غاضبة وهي تقول في نبرات منذرة بالبكاء: سأخلي لك المكان لعله يطيب لك!
وولت كالهاربة وهو يتبعها بصرا جامدا، ثم قال لنفسه: «يا لها من حمقاء لا تدري أن القدرة الإلهية وحدها هي التي تبقي عليها في بيتي.» ومع أن الشجار نفس عن حنقه قليلا، إلا أنه كان يفضل ألا يقع حتى لا يضاعف من كآبة فراغه، ولم يكن يعجز عن استرضائها لو أراده، ولكن عقله الفتور الذي ران على مشاعره جميعا. غير أنه لم تمض دقائق حتى شمله هدوء نسبي فرن صدى عباراته القاسية التي وجهها إليها في أذنيه فأقر بقسوتها، وبأنه لم يكن ثمة ما يدعو إليها، وداخله شبه ندم، لا لعثوره فجأة على ثمالة حب لها في زوايا قلبه، ولكن لحرصه على ألا يشذ في معاملتها عن حد الأدب - ربما إكراما لأبيها أو خوفا من أبيه - حتى في فترة الانتقال العصيبة التي أخذ على نفسه فيها إخضاعها لسياسته بالصلابة والحزم، واعتذر عن إسرافها بالغضب، ولم يكن الغضب بالانفعال المستغرب في هذه الأسرة، فما يركبهم الحلم إلا حين قيام الأب بينهم مستأثرا لنفسه من دونهم بكافة حقوق الغضب.
بيد أن غضبهم كالبرق سريع الاشتعال سريع الانطفاء، ثم يردون إلى ألوان من الأسف والندم. إلى هذا كله خص ياسين بالمكابرة، فلم يدفعه أسفه إلى مصالحة زوجه، بل قال لنفسه: «هي التي استثارت غضبي ... ألم يكن بوسعها أن تخاطبني بلهجة أرق!» إنه يحب دائما أن تتحلى بالصبر والحلم والعفو كيما ينطلق على هواه مطمئنا إلى خطوطه الخلفية. اشتد ضيقه بسجنه بعد غضبها وانسحابها، فغادر المكان إلى السطح. وجد الجو لطيفا والليل ساجيا والظلمة شاملة، إلا أنها كثيفة تحت عرش اللبلاب والياسمين، رقيقة في نصف السطح الآخر المسقوف بقبة السماء المرصعة بلآلئ النجوم. وراح يقطع السطح ذهابا وجيئة ما بين السور المطل على بيت مريم، ونهاية حديقة اللبلاب المشرفة على قلاوون، مستسلما لخيالات شتى، وفيما هو يسير الهوينا عند مدخل السقيفة تسلل إلى أذنيه حفيف، أو لعله همس، بل أنفاس تتردد بين لحظة وأخرى، فحملق في الظلام متعجبا وهتف متسائلا: من هنا؟
Shafi da ba'a sani ba