Tsakanin Addini da Kimiyya
بين الدين والعلم: تاريخ الصراع بينهما في القرون الوسطى إزاء علوم الفلك والجغرافيا والنشوء
Nau'ikan
1 - علم الفلك
2 - علم الجغرافية
3 - من الخلق إلى النشوء
1 - علم الفلك
2 - علم الجغرافية
3 - من الخلق إلى النشوء
بين الدين والعلم
بين الدين والعلم
تاريخ الصراع بينهما في القرون الوسطى إزاء علوم الفلك والجغرافيا والنشوء
تأليف
Shafi da ba'a sani ba
أندرو ديكسون وايت
ترجمة
إسماعيل مظهر
إنما نستنشق من الهواء بلا كد، تلك الأفكار التي تحطمت في سبيلها القلوب الكبيرة.
لوويل
الحقيقة بنت الزمان.
باكون
وتعرفون الحق والحق يحرركم.
القديس يوحنا، إصحاح 8 : 32
العداء بين اللاهوت والعلم لا بين الدين والعلم
Shafi da ba'a sani ba
العلم موضوعي والدين ذاتي1
بقلم إسماعيل مظهر (1) تمهيد
كثر ما علت الصيحة في هذه الأيام أن بين الدين والعلم عداء وأن في طبيعة الدين شيئا يعاند طبيعة العلم أو بالعكس. والحقيقة أن هذا القول له مبرراته القديمة والحديثة. وله فوق ذلك وقائع يذكرها التاريخ ووقائع تقع تحت أعيننا. غير أن مجرد القول بأن بين الدين والعلم عداء وصراعا، ومجرد رواية الوقائع التاريخية أو حدوث وقائع في زماننا هذا تؤيد ما يرويه التاريخ، ليست بدليل قاطع على أن في طبيعة الدين شيئا يعاند طبيعة العلم أو أن في طبيعة العلم شيئا يعاند طبيعة الدين. ولو أنك نظرت نظرة أولية في حالات الحضارة الحديثة لوقعت لأول وهلة على أشياء تدلك على صحة ما نذهب إليه. فإن العلم يجري تياره بأقصى ما جرى تيار من التقدم في كل العصور، وتجد بجانبه روح الدين قائمة راسخة القواعد، وأنها لم تكن في عصر من العصور الماضية بأكثر ثباتا في النفوس منها في عصرنا هذا. نعم إننا لا ننكر أنه مرت على المدينة عصور خفت فيها صوت الدين ليعلو صوت المادية حينا، ولكنا نجد مع هذا أنه مهما خفت صوته في الخارج، فإن ثباته في النفوس لم يضعف، وركيزته في اليقين لم تهن.
ولو صح أن بين الدين والعلم عداء وصراعا، فكيف أن هذا الصراع الذي ظل قائما بينهما خمسة وعشرين قرنا من الزمان لم ينته بأن يصرع أحدهما الآخر؟ وهل خمسة وعشرون قرنا غير كافية لأن تنهي المعركة وتنصر فريقا؟
الحقيقة أن الصراع ليس قائما بين العلم والدين. والحقيقة أن الدين والعلم كل منهما يستمد من ناحية من نواحي التكوين الفكري في الإنسان؛ لهذا ظل الدين باقيا وظل العلم ثابتا لأن كلا منهما مظهر من مظاهر الفكر الإنساني. ولكن إذا اعتقدنا هذا، فبأي شيء نعلل ذلك التاريخ الطويل الذي حاول فيه رؤساء الدين أن يخفتوا صوت العلم وبأي شيء سوف نعلل ذلك الصراع الذي سيحاول فيه رجال العلم أن يخفتوا صوت الدين في المستقبل؟
إذا اعتقدنا أن الصراع لم يقم بين الدين على اعتبار أنه شيء مستمد من طبيعة الإنسان وبين العلم على اعتبار أنه شيء مستمد من القوة العاقلة التي خص بها الحيوان الناطق، واعتقدنا أن الصراع قام في الواقع بين اللاهوت المذهبي وبين العلم، استطعنا أن نعلل حوادث التاريخ بل استطعنا أن نظهر على شيء مما سوف يقع في المستقبل. (2) الجمود ضروري للاجتماع مفيد للحضارة
الجماعات تشعر ولا تفكر. بل قيل بأن رقي الجماعات من حيث الشعور والتفكير يقاس في الحقيقة بنسبة أضعف فرد من أفرادها تفكيرا وأهوجها شعورا مضروبا في عدد الجماعة. ولكن الناظرين في حالات الاجتماع نسوا أن يذكروا بجانب هذا أن الجماعات جامدة صرفة كما هي شاعرة صرفة، وأن جمودها هذا ضروري للاحتفاظ بتوازن خطاها التي تخطوها نحو الارتقاء في كل ضروبه وعلى اختلاف ألوانه.
مر على الناظرين في حالات الاجتماع عقود من السنين وهم يقولون بما قال جوستاف لوبون. ولم يمر بهم خاطر أن الجماعات كائنات جامدة بطيئة القبول لحالات التغير والنشوء. وإني لأثبت هنا أن أول من عثرت له على قول في هذا الموضوع الخطير هو العلامة كارل بيرسون الإنجليزي إذ يقول:
إن ما نجد في مباحث داروين من نفوذ البصيرة وقوة الإدراك، وما عقبها من مؤلفات سبنسر تلك المؤلفات التي هي على قوتها وبالغ أثرها سوف تكون أقل ثباتا وأسرع زوالا من مؤلفات داروين، وما زودتنا به مبادئ النشوء في الحياة الفردية والاجتماعية، قد اضطرتنا إلى تعديل أفكارنا القديمة وتقويمها، وأخذت تقوي من دعائم مثلنا الأدبية وتوسع من ميدانها، ولكن ببطء تدرجي. ولا يجب أن يحزننا هذا البطء ولا أن ييئسنا؛ لأن من أقوى المؤثرات التي تحفظ الثبات الاجتماعي وتحول دون تخلخله تلك الصفة التي نبغضها؛ صفة الجمود على القديم. لا بل نقول بأن العداء الصارخ الذي تقابل به الجماعات الإنسانية كل الفكرات الجديدة لمن أخص تلك المؤثرات. وإن هذه الصفات هي بمثابة الكور المتلظية نيرانه، والذي بدونه لا نستطيع أن نفصل بين المعدن الصحيح والفضلات الزائفة، وهي التي تحمي الجسم الاجتماعي من أن يترك معرضا لتغيرات تجريبية فجائية، قد تكون غير مفيدة آنا أو بالغة أقصى الضرر آنا آخر.
والظاهر أن بين بناء العالم المادي وبين تكوين الجماعات الإنسانية أوجها من التشابه تمثلها عناصر لازمة لحفظ النظام في كليهما. ففي الجوهر الفرد كهارب إيجابية وأخرى سلبية، وفي الدقائق المادية قوتا جذب ودفع. وفي الاجتماع تقدم وجمود، وفي الحياة موت هو لزام لوجودها. وعلى هذا النمط نجد أن الصفات السلبية التي نبغضها في المجتمع هي في الواقع أشياء لازمة للمحافظة على كيانه باعتباره اجتماعا إنسانيا تنعكس على صفحته صور الصفات الفردية والاجتماعية.
Shafi da ba'a sani ba
خذ بين يديك قطعة من المادة اللينة واضغطها فإنها تأخذ شكلا ما، ثم اضغطها ثانية فإنها تتبدل من شكلها الأول شكلا آخر. وهكذا فإن كل ضغطة تصورها في صورة جديدة. وتمثل بعد هذا أن المجتمع الإنساني فيه من صفات الليونة ما في هذه المادة، وأنه فقد كل صفات الجمود والمحافظة على القديم، ألست ترى أن ذلك يكون منتجا لفوضى عظيمة في نظام الأشياء الإنسانية، وأن تقبل كل جديد ليهدم ما قبله وليهدمه ما بعده؛ يكون في هذه الحالة إفسادا لبناء المجتمع وتحطيما للمعاهد التي تقوم عليها المدنية؟
عدد من مذاهب الفلسفة العلمية ما شئت أن تعدد، وارجع إلى مذهب سقراط ثم الكلبيين ثم السيرينين، ثم إلى مذهب الأبيقوريين ثم إلى الرواقيين، واعدل عن هذا إلى تضارب جهات الفكر المعتقد، وتصور بعد هذا أن المجتمع الإنساني كان فيه من الصفات ما تحتمل تقبل كل هذا، ثم رفضه على تتالي الأجيال وعلى تقارب الفترات التي كانت تظهر فيها المذاهب والآراء الفلسفية واحدا تلو الآخر، فهل كنت تجد في بناء المجتمع ما تجد فيه الآن من الثبات؟ وهل كنت تجد أن للحق ما له الآن من صفات البقاء والخلود؟
وكذلك تجد الحال في السياسة والدين واللغة وفي كل ما تقوم عليه الحضارة من الصفات الاجتماعية. وعلى هذا تجد أن التقدم والارتقاء قوة إيجابية تعضدها - وإن كانت تقاومها - قوة سلبية هي الجمود والمحافظة على القديم، كما لو كان المجتمع الإنساني دقيقة من المادة تجذب جواهرها بعضها بعضا في حين أنها تتدافع. وهذا لزام لبقائها دقيقة مادية خالدة كما أن الارتقاء والجمود صفتان لازمتان لبقاء المجتمع الإنساني مجتمعا مستكملا لصفات النشوء والارتقاء.
لهذا لا يجب أن ننظر إلى الجامدين نظرة من يعتقد أنهم رجعيون؛ لأن الرجعي هو الذي ينكص إلى الخطأ على الرغم من أنه يعلم أنه سائر في سبيل الحق والصواب. أما الجامدون فهم القوة السلبية التي تحفظ على الجماعات نصيبها من التوازن اللازم لثباتها، وخطوها نحو الارتقاء في خطا متعادلة بطيئة، ولكنها تدريجية. (3) ما فوق العقل والعقل
بدأ الفيلسوف هربرت سبنسر كتابه مبادئ علم النظام الاجتماعي ببحث في تطور ما بعد الآليات، فقال بأن التطور على ثلاثة أوضاع؛ الأول: التطور غير العضوي، وهو يتناول بناء السماوات والسيار الأرضي. والثاني: التطور العضوي، وهو يتناول الظاهرات الطبيعية التي نشاهدها حشو الطبيعة الحية وتراكيبها من نبات وحيوان على اختلاف درجاتها ومراتبها، ثم الظاهرات الخاصة التي تعرف في مباحث العلوم بالظاهرات النفسية - البسيكولوجيا - وهي التي تختص بها الصور الحية التي بلغت من الترقي حدا أصبح بطبيعة التطور مجالا لتلك الظاهرات. والثالث: تطور ما بعد الآليات أو ما بعد العضويات وهو في الواقع بلوغ الحالة الاجتماعية واقتسام العمل بين أفراد الجماعة.
فإذا أردنا أن ننظر في هذا المبدأ نظرة تحليل نطبقها على موضوعنا هذا؛ اعتقدنا أن تطور ما بعد الآليات هو آخر الخطى النشوئية التي وصلت إليها جماعات الحيوان من الرقي. ولقد شاركها الإنسان في كل هذا وبلغ إلى أرقى ما يمكن أن يبلغ حيوان من تطور ما بعد الآليات، فبماذا يمتاز على بقية الخلق؟ يمتاز بأنه يستمد مما بعد عقليته قوة يستعين بها على قوته العاقلة ليخضعها دائما لصالح الكل الاجتماعي.
إن الفرد والجماعة لا يتفقان، بل هما كائنان متضادان. ولكل منهما طبيعة تختلف عن طبيعة الآخر. يدلك على هذا أن العديد الأكبر من الأفراد التي تعيش في زمان ما، لا تعير تطور الجماعة التي تلحق بها شيئا من الانتباه لمظاهرها ولا تحاول أن تصرفها إلى طريق الخير والسلام.
فالفرد يتطور بتطور الجماعة؛ خضوعا لروحها، من غير أن يدرك من هذا التطور - حين وقوعه - شيئا. والجماعة ذاتها تساق إلى التطور من غير أن تحس بشيء منه، حتى يظهر الزمان فرقا بين حالة الجماعة في زمانين مختلفين تدركه الأجيال المستقبلة.
وخضوع الفرد لشعور الجماعة يبعده عن عقليته المستقلة. فيجرفه تيار الشعور العام إلى حيث يراد به، إلى الخطأ أو إلى الصواب، إلى الشر أو إلى الخير، حسب المتجه الذي يملك شعور الكل الاجتماعي. والشجار القائم بين شعور الجماعة وعقلية الأفراد كون التاريخ الإنساني برمته. فما من حادث من حوادث الحروب، أو مظهر من مظاهر الثورات الاجتماعية، أو قيام المدنيات المختلفة، إلا وتجد تلك الروح متجلية فيه تسوق أمامها الإنسانية سوقا إلى حيث يريد بها ما أثر فيها شعور بكارثة قومية أو إحساس بعزة النفس أو خيال الدفاع عن شيء أكثر ما كان موهوما لا واقعا بالفعل.
ولكن بأي شيء استطاع الإنسان أن يحتفظ بخضوع عقلية الفرد لشعور الجماعة؟ هنالك في معتقداته الدينية وجد الإنسان القوة التي استقوى بها على عقليته الفردية فأخضعها لقوة إحساسه بالشريعة الأدبية. أما وظيفة تلك المعتقدات فتجهيزها الفردية بقوة نفسية تسوقه إلى الخضوع لمجموعة من آداب السلوك ومبادئ من الأخلاق تبقي عقليته واقعة تحت الإحساس بواجباته الأدبية؛ أي إنها تخضع العقلية الإنسانية لقوة مستمدة مما بعد العقلية. وتلك ظاهرة لازمت قيام المدنيات في كل عصر من عصور التاريخ.
Shafi da ba'a sani ba
يقول الأستاذ بنيامين كيد صاحب كتاب التطور الاجتماعي المعروف:
إن الروح الحربية التي تملكت زمام المدنية في عصور الوثنية هي التي شكلت تاريخ الغرب برمته، فخرجت الشعوب الغربية من تلك المعامع - معامع التدمير والتخريب - بمدنية هي أغرب ما وصل إليه الإنسان في تاريخ الدنيا. وما من نتاج من ثمار هذه المدنية، وما من نظام من أنظمتها الاجتماعية أو شكل من أشكالها، إلا وتجد للروح القديم أثرا فيه كبيرا. يرجع ذلك إلى اعتقاد ثابت راسخ في روع الشعوب منذ نشأتها لحمته أن حيازة القوة والانتفاع بثمراتها هو المبدأ الذي يجب أن تعمد إليه الأمم إذا ما شاءت أن تحتفظ بكيانها. غير أن هذا الكائن الناطق الذي خرج من جوف الأزمان الأولى وبيده آلات الحرب والتخريب كان ذا عقيدة دينية، عقيدة تخالف في أسسها ومبعثها الذي ترتكز عليه في طبيعة الرغبات الإنسانية. نزعته إلى القوة من أية طريق أتاها وبأية من الوسائل التي تذرع إليها. وظلت نزعة الإنسان إلى القوة تحارب تلك العقيدة الموروثة حربا عوانا تشهرها على ذلك المعتقد نزعات الإنسان وبواعث انفعالاته طوال القرون الأولى. ولا يزال الشجار قائما حتى الآن. وإنك إن قلبت تاريخ الإنسان لتجلى لك مقدار ما جالد ذلك الحيوان الناطق المفكر في سبيل التخلص من قيود تلك الوراثة الدينية التي خرج بها من حياته الأولى مستعينا بها على هدم ذلك المعتقد بكل ما أوتي من قوة الفلسفة والعقل، فكم زجت تلك النزعة بالإنسان في غمرات حروب تهدم بها ما أقام السلم من صروح العمران، وكم تمزق بها ما رأيت شريعة الآداب من صدوع الإنسانية.
تلك روح خالدة في الجماعات قد تتغير مظاهرها، وجوهرها ثابت في الزمان، مرتكز على طبيعة الإنسان المفكر المعتقد المدرك لحقيقة الشريعة الأدبية، المحكوم بوازع مما فوق عقليته يخضع عقله لحاجات الاجتماع. تلك الصفات التي ترتكز عليها أصول المدنية.
عبثا ما حاول بعض الفلاسفة أن يقاوموا تلك الروح بمذهب فلسفي في النفعية، يستغوي الفردي ليخرج عن شعور الجماعة وروحها. كثر في أوروبا من حاول ذلك في أواخر القرن الفارط، ونشر بعض المشتغلين بالآداب كتبا في «دين الطبيعة» ما لبثت أن قتلتها روح الجماعات، شأنها في كل شيء يصد طريقها الشعوري الصرف. حاول هؤلاء أن يجعلوا العقل حد الدين، فوقع الإنسان في مأزق من مآزق البعد عن الشريعة الأدبية كاد يتداعى معه أساس المدنية. ولا يزال بعض المفكرين يتابعون ذلك الرأي، قائلين بأن دين المستقبل سوف يكون معتقدا بعيدا عما تبعثه في أهل هذا العصر معتقدات ما بعد العقلية البشرية. حاول هؤلاء أن يجدوا في عقل الإنسان وحده هاديا ومرشدا أمينا بصفته فردا صالحا من مجموع إنساني، يختط له خطة من السلوك والأخلاق جديرة بأن تحفظ نظام الهيئة البشرية التي يجب أن تقوم على أساس من الإحساس الأدبي أخفقوا سعيا وضلوا سبيلا؛ لأن الطبيعة لم تحب الإنسان بشيء من هذا.
رجع الناس بعد ذلك مؤمنين بأن وازع ما بعد العقلية، أول عنصر من عناصر المعتقد الديني بل نواته، وأنه الضابط الذي يضبط علاقة الفرد بالجماعة في كل حالة من الحالات وتحت تأثير أي ظرف من الظروف، على أنك تجد أن في النظام الاجتماعي قوتين متضادتين تتنازعان بقاءه: قوة مفرقة وقوة مؤلفة؛ فالقوة المفرقة يمثلها عقل الفرد الأناني المحب لذاته، والقوة المؤلفة يمثلها معتقد ديني يستمد مما فوق عقلية الفرد، وتنحصر وظيفته في أن يحتفظ في تطور الجماعات بإخضاع مصالح الأفراد ومطامعهم لصالح الكل الاجتماعي. وإن الدين في طبيعته ضرب من ضروب المعتقد يهيئ الإنسان بوازع مما فوق عقليته، يضبط سلوكه نحو المجموع.
فإذا أيقنا بعد كل هذا أن الإنسان كائن معتقد كما هو مجتمع، وأن الدين من بين كل معتقداته هو الذي يهيئه بوازع مما فوق عقليته؛ استطعنا أن ندرك كيف أن الخصومة الموهومة بين الدين والعلم مستحيلة، وإلا فلو كان بين الدين والعلم خصومة وعداء، لتحطمت قواعد العلم قبل أن يهتز ركن واحد من أركان الدين.
الدين في النفس الإنسانية ثابت لا تتغير ماهيته وإن تغيرت مظاهره. وهو فوق ذلك صفة غريزية تلازم طبيعة الإنسان ما دام قد تكون ليكون إنسانا فيه من التكوين الطبيعي ما يجعل للدين ركيزة أثبت في نفسه من ركيزة العلم والفلسفة. وعلى هذا لا يمكن أن يكون بين الدين والعلم تجالد وصراع؛ لأنهما - على الرغم من الفوارق الطبيعية الكائنة بينهما والتي لا تجعل للصراع بينهما مجالا - يستمدان من ناحيتين متباعدتين من نواحي التكوين الإنساني. (4) الفرق بين العلم والفلسفة والدين
ضرورات الحالة الاجتماعية كثيرة متباينة، وهي على كثرتها وتباينها - بل وإن شئت فقل: تناظرها - إنما تستمد من طبيعة الكائن المجتمع وليس من هذه الضرورات ما ينزل عن حد الضرورة ليكون أكثر ضرورة أو أقل ضرورة من غيره، وليس منها ما هو أقرب إلى الكماليات من الحاجيات؛ فإن هذه الضرورات كلها تنزل منزلة واحدة من حاجة المجتمع إليها.
وهي فوق ذلك مستمدة من صفات غريزية في الكائن المجتمع تتشكل في صور مختلفة بمقتضى اجتماعه ليكون كلا اجتماعيا، أو كائنا اجتماعيا كما يقول سبنسر. ومن أول هذه الضرورات أن يكون في الإنسان صفات نفسية وأخرى عقلية. وهذه الصفات بصرف النظر عن مظاهرها الخارجية وباعتبار أنها أشياء كائنة في تضاعيف الفطرة، لا يمكن أن يكون بين ما تنتج تضارب وتجالد، أو عداء وصراع. قد يكون بين بعض ما تنتج من الحالات الاجتماعية جمود يناظره في أخرى نزعة إلى التقدم والارتقاء، وقد يكون في ناحية منها حركة في حين أن ناحية أخرى تتطلب الهوادة والسكون النسبي لتتعادل الكفة، ويحدث الثبات الاجتماعي الذي هو أول صفة من الصفات المطلوبة في جماعة إنسانية يصح أن يقال فيها إنها متحضرة وإنها تقيم عمرانا.
فالعلم مثلا صفة عقلية أصبحت الآن ضرورة من ضرورات المجتمع الحديث، وإن كان العقل - وهو نبعها الفياض - صفة من الصفات الأصيلة في حياة الإنسان الاجتماعية، بل وفي غيره من كثير من الحيوانات الأخرى. وكذلك الدين فهو صفة تستمد مما فوق العقلية البشرية ليسد فراغا في الاجتماع لا يسده العلم. وبين العلم والدين فجوة لا تسدها إلا الفلسفة. فهذه الدرجات الثلاث أو هذه الصفات الثلاث: صفة أن الإنسان يعلم وصفة أنه يتدين، وصفة أنه يتفلسف ليوفق بين طرفي العقل وما بعد العقل. صفات فطرية في الإنسان أصبحت بطبيعته ضرورات اجتماعية، ولا يمكن أن يكون بين شيء منها عداء وصراع، وإلا أصبح الإنسان عبارة عن مجموعة صفات متناقضة وهيكل من الفوضى المتحركة. هي في الواقع متناسقة متكاملة كالقضية المنطقية التي تتكون من طرفين ووسط، موضوع ومحمول وحد وسط. وهي فوق ذلك لا تنتج إنتاجا صحيحا إلا إذا صحت مقدماتها ... هذا مثل الإنسان في العلم والفلسفة والدين. وكلها ضرورات لا بد منها، وإن استمدت من نواح مختلفة من نواحي الفطرة الإنسانية. هي ضرورات اجتماعية من ناحية أن الإنسان مجتمع، وضرورات فطرية من ناحية أن الإنسان كون على ما فيه غير مخير هواه.
Shafi da ba'a sani ba
على أننا لا نترك الموضوع عند هذا الحد؛ فلا بد من أن نظهر أن هذه المنتجات لا تتخالط مطلقا، وبذلك لا تتعادى ولا تتصارع.
يقال إن العلم ذو صفات ثلاث؛ يقال إنه تام، إيجابي، موضوعي. وإن الفرق بينه وبين صور الفكر الأخرى أن هذه غير تامة مبهمة ذاتية. إن العلم يؤدي للعقل نواتجه أو فكراته في اصطلاحات محدودة بالتعريف، مباشرة المعنى، بينما تجد أن هنالك عالما في الأدب والنواتج العقلية غير محدود بالتعاريف، رمزي في قوامه غير مباشر المعنى والتعبير. إن العلم يسلم بأن ليس له من دعامة إلا دعامة المعرفة، على أن تكون بينة جلية تامة الوضع. لهذا تجده مناظرا في طبيعته لنواحي الفكر الأخرى المرتكزة على الآراء والاعتقاد والإيمان، ولا يغيب عنا أن هذه المصطلحات إما أن تشير إلى الأسلوب الذي ينتحى في البحث، وإما أن تشير إلى موضوع البحث ذاته. أما العلم فيفخر بأن له أسلوبا ثابتا لا يحتمل الجدل ولا يسع التورط في المسائل الخلافية النظرية. أما بقية فروع الفكر فإما أن تستعير أساليبها من الأسلوب العلمي، وإما أن تطبق أساليب متغايرة لم يجمع عليها الإجماع كله، وإما أن تأبى الخضوع لأسلوب ما على وجه عام.
2
فالعلم يتناول كل الأشياء أو الموضوعات التي تطرأ على أذهان السواد الأعظم من الناس أو تمس مصالحهم، وهي موضوعات قد يبلغ إلى الإحاطة بها كثير من الناس؛ ولهذا يفخر العلم دائما بأن مشاهداته واستنتاجاته خاضعة دائما للتحقيق والبحث آنا بعد آن؛ لذلك تجد أن شطرا عظيما من المشاهدات والاستنتاجات العلمية قد تؤخذ في أكثر الأحيان على أنها حقائق تامة أجمع على صحتها وثباتها، فيمضي الذين لا يأنسون من أنفسهم القدرة على تمحيصها وبحثها، أو الذين تقعد بهم الهمة دون فحص براهينهما، قانعين بأنها أشياء بديهية ثابتة لا مبدل لها. غير أن هنالك أشياء كثيرة تقوم في عقل كل فرد من الأفراد، شخصية في طبيعتها ذاتية في مبعثها، ولهذه الأشياء في أنفسنا من الشأن والخطر ما يعدها من مطالب الحياة وحاجاتها. وإن هذه الأشياء هي المادة الحقيقية التي يتركب منها الفكر الخارج عن ميدان العلم. وهي في جوهرها ومظهرها مناظرة للعالم اليقيني. وفي هذا الشطر من الفكر لا يستطيع شخص بذاته أن يقوم بعمل ينتفع به الكثيرون على نفس الطريقة التي تحتذى في العلم. فالأخذ بالبرهان في ذلك الشطر مستحيل، والإجماع على شيء فيه لا يضم تحت لوائه إلا عددا قليلا من الناس. فالأقوال والنظريات لا يمكن أن تؤخذ في هذا الشطر على أنها حقائق ضرورية لا تحتمل الجدل كما هي الحال في العلم، بل إن كل شخص لا بد من أن يجتاز فيها السبيل الذي اجتازه الذين تقدموه، قبل أن يأنس في نفسه القدرة على قبول ما ألقي إليه والانتفاع بثمراته.
إن الصفة الوحيدة التي تلازم هذا الشطر في الفكر أنه فردي ذاتي في حين أن العلم مهما كانت صبغته ومهما كان أصله عام موضوعي؛ أي إنه غير ذاتي. يرجع إلى الموضوع لا إلى الذات التي تفكر في الموضوع وتفحص عنه. فإذا مثلت للفكر بشيء ذي طرفين متناظرين ألفيت أن العلم الرياضي في أحد طرفي الفكر وأن الدين في الطرف الآخر. وإنك لتجد أن الاتفاق في الطرف الأول صفة ملازمة، كالاختلاف والتنابذ في الطرف الثاني. نلحظ أن وحدة الفكر صفة ثابتة في الطرف الأول في حين أنك لن تقع لها على ظل في الطرف الثاني. إنها لم تعرف في الدين ولن تعرف، وإنك إذا أردت أن تعبر عن ذلك بالكلام الدارج استطعت أن تقول إن المعرفة والتحقيق لزام الأول وإن الإيمان والاعتقاد لزام الثاني. على أنك فيما بين الطرفين تقع على فراغ كبير يفصل بينهما. إن هذا الفراغ ينشئ في الفكر صورا تصل بين الطرفين فتبرز حينا في هيكل من المعرفة، وآخر في مثال من الإيمان، فيختلط فيها قليل من الأشياء المحققة بكثير من الإيمان والاعتقاد المبهم. تلك المسافة الكبيرة وهذه المفازة المترامية الأطراف - والتي تتوارد عليها صور التغيير والاختلاف - سريعة متعاقبة هي سكن الفلسفة الحقيقي ومنبتها الأصلي. الفلسفة التي تتناول الحقائق ولا تأنف من الإيمان، الفلسفة أصل المعرفة ومصدر الاعتقاد واليقين، الفلسفة حلقة الوصل الواقعة بين الطرفين: طرف العلم وطرف الدين.
3
بعد هذا التحليل الدقيق تتساءل: هل يمكن للإنسان أن يكون بلا عقل ليكون بلا علم؟ وهل يمكن أن يكون بلا وازع من فوق عقليته ليكون بلا دين؟ وهل يمكن أن يكون بلا تأمل في الناحيتين ليكون بلا فلسفة؟ هذا مستحيل. مستحيل على الإنسان أن يلغي عقله، أو يلغي وازع ما فوق عقليته، أو يلغي تأمله في حقائق الأشياء.
ثم نتساءل ثانية: هل يمكن أن يقوم بين هذه الضرورات العقلية والنفسية صراع وتجالد، بحيث يمكن أن يقوم بجانب هذا الصراع الشديد حياة اجتماعية، لا تجري فيها الدماء، ولا يعبث فيها بأخص الصفات الإنسانية؟ أما دليلنا الملموس على أن الصراع بين الدين والعلم شيء موهوم فبقاء بناء الاجتماع الإنساني بما فيه من مختلف الصور الناتجة عن العقل والشعور، وثباته وبعده عن التناقض والانشعاب. (5) الصراع بين اللاهوت والعلم لا بين الدين والعلم
إذا صح لدينا أن لا نزاع بين الدين والعلم فما هو السبب؟ إذن في تلك الفجائع التي يرويها التاريخ خلال القرون الوسطى، بل وفي الأزمان القديمة. وما هو الباعث على تلك الحروب التي قامت بين العلماء والفلاسفة من ناحية، وبين من نسميهم رؤساء الدين من ناحية أخرى؟
إذا كانت حقائق التحليل النفسي والعقلي تدلنا على أنه لا يمكن أن يقوم صراع بين الدين والعلم؛ لأن هذا مستحيل فطرة وإجماعا. وقفنا أمام وقائع التاريخ - وعلى الأخص تاريخ النشوء العقلي والفكري - نتلمس أسبابا نعزو إليها البواعث التي كونت تلك العناصر التي انطوت عليها صفحات الماضي وكانت سببا في تكوين محاكم التفتيش في القرون الوسطى، لتحرق وتقتل تحت عنوان الهرطقة والخروج على الدين كل من نزع إلى جديد في العلم وكل من كشف عن حقيقة من حقائق الطبيعة.
Shafi da ba'a sani ba
لم تبلغ الخصومة بين العلم واللاهوت من الشدة ما بلغت في القرون الوسطى وبين أحضان النصرانية؛ فإنك لا تعثر في تاريخ الأديان كلها على تاريخ يشابه تاريخ مذاهب اللاهوت النصراني في قيامها في وجه العلم أزمانا طوالا بل قرونا متعاقبة. والسبب في هذا أنه قامت لدى اللاهوتيين فكرة ثابتة في أن العلم لا يجب مطلقا أن يبشر بشيء فيه أقل مخالفة لظاهر ما جاءت به الأسفار المقدسة والمتون ورسائل الحواريين. ولست تعلم لماذا يكون هذا لزاما على العلماء والفلاسفة مع أن طبيعة الدين لا تسع هذا ولا تدعو إليه. فإن وظيفة الدين في الواقع اجتماعية إرشادية لا تعليمية. ولكن شاءت عقول اللاهوتيين أن تكون وظيفته تعليمية؛ لهذا نشأ ما يسمونه الخصومة بين الدين والعلم، وما هي في الواقع إلا خصومة بين اللاهوت والعلم. وكم من لاهوتي ظهر خلال القرون الوسطى وحاول أن يثبت أن الدين لا شأن له بالعلم وأن وظيفته تنحصر في أن يعرف الناس طريقة الخلاص في الآخرة، لا حركات الأجرام السماوية أو تكوين الأرض كيف يكون! ولكن المذاهب الشائعة في اللاهوت ومن ورائها محاكم التفتيش، لم تكن تترك لأمثال هؤلاء مجالا. وزاد الطين بلة أن اللاهوتيين ومن ورائهم الكنيسة - وعلى رأسها البابوات المعصومون عن الخطأ - كانت قد زكت المذاهب اللاهوتية التي ذاعت في تفسير الإنجيل والتوراة بإجازتها حينا بعد حين، فأصبحت تلك التفاسير في الواقع مقدسة كأصل المتون نفسها؛ لهذا كانت ثورة اللاهوت في القرون الوسطى حامية ونارها محرقة تلظى. (6) هل بين الدين والعلم عداء حقيقي أو مجازي
يخيل إلى الذين يقولون بأن بين الدين والعلم عداء، وأن بينهما صراعا وجلادا يقوم على شيء في طبيعة الدين يعاند طبيعة العلم، أو أن في طبيعة العلم شيئا يعاند طبيعة الدين: أن الإنسان عبارة عن كائن كل ما فيه عقل صرف وتفكير محض، في حين أن ما كشف عنه علم الاجتماع الإنساني مؤيدا بمباحث العلماء الأعلام في فروع علم البسيكولوجيا قد أثبت بما لا سبيل إلى إدحاضه أن الإنسان عبارة عن مجموعة مشاعر حادة قوية تزكيها نزعة غريزية مما فوق العقل تحكم رابطته بما نسميه الجماعة، أو المجتمع البشري، يقول ديكارت: «أنا أفكر أنا إذن كائن.» والحقيقة أن الوجود والحياة أولى الحالات التي يقوم عليها أساس الجماعات. فلنفكر قليلا في حالة الحياة ذاتها وعلى الأخص في الإنسان المفكر المجتمع لنرى إن كان حبنا للحياة ذاتها شيء يقودنا إليه العقل أو الشعور والخضوع لما بعد العقلية.
إذا وازن الإنسان بين ما ينعم به في هذه الحياة من سعادة وبين ما ينزل به من ملمات فادحات، فلا شك في أن كفة آلامه ترجح كفة سعادته على حسب ما يصور له عقله إضعافا. فإن مطاليب الحياة والسعي الجاد وراء ما تطلب من ضرورات لا تترك للفرد مجالا للمتعة بما يصور له عقله أنه متعة حقيقية. وإذا نظر فيما يحيط به من الحالات الطبيعية ألفى أن الطبيعة التي تحيط به والتي يعيش بين أحضانها خاضعا لقواسرها إنما تناهزه أشد العداء ويقابلها بأشد المقاومة. فهو في الواقع في حرب مستعرة مع العناصر التي تؤلف كيانه.
فالجراثيم القاتلة والوحوش الضارية وتقلبات الطقس وتأثيرات المناخ والتناحر على الحياة والانتخاب الطبيعي وإبقاء الأصلح، بل وكل ما تتطلب نظامات الطبيعة من جهود يبذلها الإنسان ليعيش ويحيا حياة طبيعية، هي بذاتها متاعب لا تجعل للحياة من قيمة حقيقية إذا نظر الإنسان فيها بعين العقل وحده وجرد نفسه من نوازع ما فوق عقليته. ثم فكر قليلا بعد هذا في هذه الحياة وسائل نفسك: لماذا وجدت؟ ولأي غرض خلقت؟ وما هو القصد من هذه الحياة التي أحياها؟ وما ذلك الموت الذي أنا بالغه يوما من الأيام؟
وانظر بعد ذلك هل ترضى عن هذه الحياة وهل يكون وجودك فيها ممكنا إن تركت نزعات العقل تحتكم فيك وحدها، أو إن لجأت إليها لتلتمس هدايتها للخروج من هذه الظلمات؟ إن العقل يوحي إليك بأن تفارق هذه الحياة فلا فائدة منها، وأنت فوق ذلك عاجز عن أن تعرف سر وجودك فيها! إنها عبث في عبث وبدء ونهاية لا خلود وراءها، ولا حياة أخرى تثاب فيها على طيباتك أو تعاقب فيها على سيئاتك. يهمس العقل في روعك دائما بأن هذه الحياة التي تحياها وتلك المتاعب التي تتحملها والمشاق التي تذللها إنما تعمل فيها لغيرك لا لنفسك وتتحمل كدورتها للأجيال المستقبلة التي ليس لك من علاقة بها، ولا تعرف إن كانت تستحق منك ما تضحي به من صحة وعافية.
أليس هذا وحي العقل؟ أليست هذه الأشياء هي أول ما يوحي إليك به العقل الصرف المجرد عن المشاعر وقواسر ما فوق العقلية؟ إذن نستطيع أن نقول إن بين العقل والوجود كله صراعا بحكم أننا كائنات لا نعرف لماذا وجدنا ولا نفقه لوجودنا غرضا يختفي وراء مظاهر هذه الحياة.
ثم ارجع بعد هذا إلى نظام الزوجية، وجرد نفسك من المشاعر برهة واحدة لتحكم العقل في هذا النظام الذي لولاه لما كان للاجتماع الإنساني على ما نراه اليوم من أثر.
لماذا يقسر الرجل المرأة على أن تكون له وحده؟ ولماذا تغار المرأة على الرجل إن هو جرى وراء أخرى؟ ولأي شيء يحتمل الرجل والمرأة كلاهما تلك الواجبات؟ ولماذا يلزمان تلك الحدود التي وضعتها الشرائع والقوانين وفي فناء الإباحة ما هو أرخى لعنانهما وأقرب لما يرضي نزعتهما العقلية؟ يسعى الرجل ويكد كل كد ليعول امرأة أراد، ولا يعرف لماذا، أن يختص بها وتختص به، وأن يقوم حفيظا عليها زعيما بمطالبها في الحياة. يحتمل مرارة العيش ويواجه مصاعب الحياة بلذة وصبر في سبيلها وفي سبيل شيء لا يعرفه.
سائل نفسك لماذا أنت تخضع لنظام الزوجية، ولماذا تجد فيه من السعادة مع مرارة السعي ما لا تجد مع راحة العقل واطمئنانه إلى حياة خلو من المسئوليات والواجبات، وأنت لا تعرف إن كنت تعيش في نظام أساسه العقل الصرف أم في نظام لا تعرف في الواقع لماذا تخضع له إن حكمت فيه العقل، وأردت أن تستوحيه ليهديك في ظلمات ما أنت فيه من نظام؟
ثم ارجع إلى المرأة وحدها وتصور لهفة بنت حواء إذ نبذتها الطبيعة في صحراء العقم وتركتها بلا عقب. وانظر كيف أنها تغضب على الطبيعة وعلى الحياة وعلى الأحياء؛ لأن القدر شاء لها أن تكون عاقرا غير ولود.
Shafi da ba'a sani ba
وصور بجانب هذه الصفة المثالية متاعب المرأة في تربية أولادها والقيام عليهم، وما تعرض له حياتها من المخاطر في الحمل والوضع، وتصور كيف أنها تنسى كل آلامها وتغيب عن عقلها كل متاعبها بمجرد أن تضم طفلها إلى صدرها ضمة تفيض معها كل معاني الحياة لا كل حقائقها، فتغمرها في بحر لجي من المشاعر يموت معه العقل ويحيا الوجدان.
ثم انظر في حياة المرأة في مفصلاتها؛ فإنك تجد أنها إنما تعيش للمستقبل الصرف الذي لا يغشاه من التطلع إلى الحاضر غاشية. كل ما فيها من مشاعر، وكل ما تأتيه من أعمال، وكل ما تحتمله من متاعب في هذه الحياة، إنما تتوجه به شطر المستقبل والأجيال التي سوف يتمخض عنها القدر في الأيام الآتية. هذه هي أكبر فضائل المرأة الغريزية؛ تعيش لغيرها لا لنفسها، تعيش لرجلها ولأولادها وتضحي في سبيلهم كل شيء تملكه أو لا تملكه إلا مجازا؛ لتضع للمستقبل عمادا يقوم عليه، وأساسا يرتفع من فوقه بناؤه المشمخر.
جرد المرأة من هذه المشاعر وخلص نفسيتها من قواسر ما فوق العقلية التي تقوم عليها كل هذه الصفات، وحكم العقل فيها وحده، أو اجعلها تحكم العقل في كل ما تعمل أو تأتي من أفعال. وانظر بعد ذلك كيف يكون المجتمع إذا سادت فيه نزعات المرأة العقلية، وكيف يتهدم الحب وتموت الشفقة، وتنتفي الرحمة؟ وكيف تندك الشرائع السماوية، وتتبدد سلطة القوانين الوضعية؟ وماذا يبقى بعد كل هذا؟ هل يبقى من المجتمع الإنساني عين أو أثر.
وهنا أيضا نستطيع أن نقول بأن بين العقل وبين نظام الزوجية وتضحية المرأة نزاعا وصراعا، وأن بينهما جلادا يجب أن تخضع فيه المشاعر لحكم العقل وحده، كما تقول بأن بين الدين والعلم قتالا يجب أن يتغلب فيه العلم وليد العقل على الدين وليد المشاعر ونزعات ما فوق العقلية في الإنسان.
تأمل في نفسك ساعة وانظر فيما يحف بك من النظم الاجتماعية والقيود الثقيلة التي تربطك بالمجتمع الذي تعيش فيه، والسلاسل والأغلال التي تثقل جيدك وتنقض ظهرك، من واجبات نحو الأسرة والأب والأم والزوجة والوطن والدين والتقاليد وفكرات الشروف والعروض وما إلى ذلك، واستسلم إلى العقل وحده وانزل على حكمه في تلك الأمور عامتها، وجرد نفسك من المشاعر إن استطعت برهة واحدة؛ فإنك لا تلبث أن تجد عقلك وقد أخذ يجر خطاك إلى التخلص من هذه القيود التي لن تجد من عقلك ما يسوغها أو ينزلها على حكم النفع المباشر. لماذا تعيش في أسرة وتحمل نفسك من الأعباء ما لا تطيق وما لا تطيق؟ ولماذا تحب أباك وتحترم واجبات الأمومة وتعطف عليها؟ ولماذا تخضع لعيشة الزوجية وفي مقدورك أن تستعيض عنها بعيش أرغد في نظر العقل وأقرب إلى مطالب الحياة الحرة المطلقة من قيود الواجبات الأدبية؟ ولماذا تحتمل تربية أولادك وتحمل من أجلهم أمر مذاقات الحياة باصطبار وسعادة؟ ولماذا تحب وطنك وتضحي في سبيله نفسك ومالك، وتريق من أجله دمك وأرض الله واسعة الفضاء؟ ولماذا تقيد نفسك بدين تخضع له وفي متسع الإجابة ما هو أرضى لعقلك وأرضى لعنانك وأوجب في رضائك بالحياة؟
هذه أسئلة يجيبك عليها الشعور جوابا لا يرضاه العقل، ولا تسكن إليه موحيات الأنانية الرسيسة في طبيعتك. إنما الطبيعة قد خصت الإنسان بشيء يمتلك ناصية عقله ويتحكم فيه التحكم كله. شيء آت مما فوق عقليته ينزل تلك المعاني من نفسه منزلة يخضع لها العقل قسرا عنه، شيء يقال له الفكرة الدينية، فيها من المشروعية المكتسبة بحكم الإجماع العام ما يخضع الفرد المجتمع بحكم المشاعر وتحد من شهوات الفرد المستقل الخاضع لحكم العقل. تلك هي وظيفة الدين الكبرى في الاجتماع الإنساني.
4 •••
هذه أمثال مقتضبة مما في هذه الحياة من بواعث ما فوق العقلية لو أننا مضينا نضرب فيها الأمثال إذن لملأنا صدر مجلد ضخم حتى نبلغ منها حدا يرضي نزعة البحث الصحيح. وما أتينا بهذه الأمثال إلا لنظهر أنه كما أن العلم لم يصارع بقية ما في الحياة من بواعث ما فوق العقلية الإنسانية صراعا واجهه فيه بالذات، كذلك هو لا يصارع الدين وهو أخص ما في هذه الحياة من الإلهامات العلوية التي تحكم في ما فوق العقل، لا في العقل نفسه.
إنما يصارع العلم صور اللاهوت المذهبي؛ لأن هذه الصور إنما تريد أن تنزل بالدين إلى أفق العلم. تريد أن تجعله دينا وتجعله علما وهنالك يقع الصراع بطبيعة الحال.
لم يشرف القرن التاسع عشر على الختام حتى ودعه العلماء بعدة مستكشفات خطيرة في الموسيقى والكيمياء والتاريخ الطبيعي. غير أن أعظم استكشاف وصل إليه العقل البشري خلال القرن التاسع عشر على معتقدي، تيقن أهل العلم بأن للعلم حدا يقف عنده، هنالك ترك العلم ادعاءه بحق التفرد بالوجود والتسلط وحده على كفايات العقل البشري؛ إذ بان لأهله أن وظيفة العلم تنحصر في وصف حقائق الأشياء. هنالك نامت عاصفة العلم وانتصرت الطبيعة على نزعات الوهم السائدة فيها، وهنالك تحددت المعارف الإنسانية بحسب كفايات العقل الإنساني فترك الدين سلطانه وحدد للعلم حيزه. (7) وظيفة الدين إرشادية لا تعليمية
Shafi da ba'a sani ba
لقد أبنا في سياق هذا البحث أن العداء لا يمكن أن يقع بين الدين والعلم بصورة مباشرة، وأثبتنا فوق ذلك أن العداء لا يقع إلا بين صور اللاهوت المذهبي والعلم، لأسباب هي في الواقع ذاتية أكثر منها موضوعية؛ فإن رجال اللاهوت عندما أرادوا أن يفسروا نصوص الكتب المقدسة، ويطبقوا هذه النصوص على الحقائق الكونية جنحوا في الواقع إلى فكرة أساسية كانت السبب الكلي فيما ترى من نتائج ذلك الصراع الذي قام بين معاهد الدين ورجال العلم. وكان أول ما ذهبوا إليه وأدى إلى هذه النتائج الخطيرة قولهم بأن نصوص الكتب المقدسة لا تقبل التأويل، وأنها إنما تزودنا بمعارف الدنيا كما تؤدي بنا إلى الخلاص في الآخرة. وكان لهم في ذلك مذاهب كثيرة أخصها مذاهبهم المعروفة في علم الفلك والجغرافية والخلق وما إلى ذلك.
على أن جهلهم بحقائق التاريخ كان في الواقع من أكبر الأسباب التي حدت بهم إلى الاستمساك بمثل هذه الآراء والوقوف في مثل تلك المواقف الحرجة التي كان من شأنها أن تذيع في بعض العصور مذاهب بلغت من التطرف في الإلحاد أقصى الحدود. فإنهم لم يعرفوا مثلا أن أكثر ما جاءت به الكتب المقدسة وأكثر التفاسير التي فسرت بها تلك الكتب إنما استمدت من أساطير وخرافات ذاعت بين أمم العالم القديم، في مصر والهند وآشورية وبابل والكلدان، وأن هذه التصورات الفرضية قد نماها الزمان وانتقلت باللقاح من جيل إلى جيل ومن أمة إلى أمة حتى أسلمت بها تطورات الاجتماع إلى العصور الحديثة محيكة في صورة كتب مقدسة هي في الواقع ليست بالدين، ولكنها مظهر من مظاهره.
لهذا لا نريد أن نتابع الكلام في وظيفة الدين بإطناب؛ لأن مجال الكلام في هذا واسع كبير. وجل ما نرمي إليه من هذه العجالة يتلخص في شيء واحد هو الاعتقاد بأن وظيفة الدين إرشادية لا تعليمية؛ لأن القول بأن وظيفته تعليمية قد يجر إلى البحث في أصل الأديان ومنشأها ومقارنة بعضها ببعض. وهذا بلا شك يؤدي حتما إلى القضاء على المهمة الأصلية التي من أجلها وجدت الأديان، مهمة الإرشاد والتأثير من طريق الوازع في سلوك الأفراد.
على أننا إن قدمنا اليوم إلى القراء كتاب «تاريخ تنازع البقاء بين اللاهوت والعلم من العصور الوسطى»، فإنما نقدمه لطبقة من الطبقات المستنيرة في أنحاء الشرق العربي مرنت على مواجهة الحقائق وسكنت إليها وعرفت أن أفضل ما يتصف به الإنسان في هذه الحياة من خلق هو البحث وراء الحقائق لذاتها والسكون إليها مهما كان فيها من المنافاة لما نشأ عليه المرء من التقاليد.
ولا ينبغي أن تمر بي هذه الفرصة دون أن أنبه على أن الأديان ذاتها إنما كانت لتعرفنا الحقيقة من طريق ما. فألواح الوصايا العشر التي نزلت على موسى وجرت عليها بقية الأديان وشرعتها للناس، قد نزلت على قلب الإنسان من قبل عهد موسى، ومضى المشرعون والمصلحون يتبعون مبادئها قرونا قبل أن يعرف الإنسان ما هو التنزيل، فإنك تجد مثلا في «كتاب الموتى» عند قدماء المصريين ألواحا كهذه الألواح عددها عشرة تماما. وتجد ما يماثلها في دين زرادشت وماني وبوذا وكونفوشيوس.
وعلى هذا فإني أعتقد اعتقادا لا يوهنه الشك بأننا إذا أردنا بعزم صادق أن نؤيد الأديان، وأن يكون لنا في هذه الحياة عقائد صالحة لأن تكون دستورا قويما في الحياة، فلنبحث عن الحقائق ولنطرد الأوهام لتقوم الحياة الإنسانية على أساس ثابت لا يدخله الوهم ولا تعمل فيها يد التقاليد.
الفصل الأول
علم الفلك
(1) النظرية الجيوسنترية: وهي النظرية القديمة المقدسة في تكوين العالم
كان التنازع على العلاقات الواقعة بين السماوات المنظورة والسيار الأرضي محورا لسلسلة من الوقائع تصادم فيها اللاهوت والعلم صداما والتحما التحاما.
Shafi da ba'a sani ba
نظرت الكنيسة - خلال العصور الأولى - في علم الفلك، نظرة القانع بأنه من الأشياء البائرة؛ اعتمادا على حكمة ظاهرة بشرت بها التوراة، مؤداها أن الأرض لا بد من أن تزول سراعا، وأنه سوف تكون «سماوات جديدة وأرض جديدة»،
1
فلماذا إذا إذن إعنات النفس في درس السماوات القديمة والأرض القديمة، ما دامتا سوف تبدلان سريعا بشيء جديد لا نهاية لأوجه تفضيله على القديم المنهار الأركان المتصدع البنيان؟ ولقد يتجلى هذا الشعور بأجلى صوره في قول القديس أوغسطين
st. Augustin
المشهور: «أي شأن لي في أن أعرف إذا كانت السماوات ككرة تتضمن الأرض معلقة في وسط الكون، أم أنها تشرف مرتكزة عليها من كلا الجانبين؟»
أما الأجرام السماوية فلم يكن اللاهوتيون لينظروا فيها إلا على اعتبار أنها أشباح ما يؤدي النظر فيها إلى شيء، اللهم إلا إلى تأملات تبعث على الورع والتقوى، أما إزاء طبيعتها فإن آباء الكنيسة منقسمون؛ فإن «أوريغن»
Origen
ولفيفا من حوله كانوا يعتقدون بأنها ذوات حية تقمصتها الأرواح. ولقد بني هذا الاعتقاد على الرؤيا المعروفة في التوراة إذ تغني نجوم السماء معا، وعلى ذلك الابتهال الجميل الذي يوجه إلى «النجوم والضوء» في أغنية الأطفال الثلاثة البنيديسيت
Benedicite
تلك الأغنية التي أحسن الجمهور الأنفليكاني
Shafi da ba'a sani ba
2
بأن حافظ عليها في طقوسه الدينية.
وظن آباء آخرون بأن الأجرام السماوية محلات تسكنها الملائكة، وأن الملائكة تحركها. أما الأدريون
Gnostics
فقالوا بأنها كائنات روحانية تحركها الملائكة، وأنها كفت عن أن تدبر حوادث الأرض، ووكل بها أن تشير إليها لا غير.
أما البناء السماوي عامة فقد كان معتقد الكنيسة فيه قائما على ما جاء في التوراة من القول بأنه قبة صلبة القوام ركبت فوق الأرض، وأن الأجرام السماوية أضواء معلقة فيها. وظل هذا المعتقد زمانا ما ثابتا في روع الناس، حتى لقد أعلن القديس «فيلاسطوريوس»
st. Philastrius
في مقاله المعروف عن الهرطقة،
3
أن إنكار القول بأن الله يجلب الأجرام السماوية من خزائنه كل ليلة ليعلقها في السماء هرطقة صريحة. بل زعم بأن أي قول مضاد لهذا فيه «إنكار للمعتقد الكاثوليكي». كذلك عاش هذا الزعم في تلك النظرية المقدسة التي قام «قوزماس»
Shafi da ba'a sani ba
Cosmas
بترويجها وتثبيت دعائمها في القرن السادس؛ فإنه بعد أن أيد نظريته في الكون بآيات كثيرة استمدها من التوراة والإنجيل، وبعد أن جعل العالم عبارة عن علبة مستطيلة الشكل، عظيمة القدر، مغطاة بتلك القبة الصلبة؛ عمد إلى التوراة يستمد من نصوصها ما يعلل به حركة الأجرام، فكون نظرية أن الشمس والسيارات إنما تتحرك، وأن «نوافذ السماء» إنما تفتح وتغلق لهذا الغرض، بأيدي ملائكة وكل إليهم تدبير هذا الأمر كله.
أما ما كتب «القديس إزيدور»
st. Isidore
أكبر رائد للفكر الأورثوذكسي في القرن السابع فشديد الدلالة على مقدار ما ثبتت هذه المزاعم في روع الناس. فقد مضى معتقدا بأنه منذ خطيئة الإنسان الأولى، وبناء على هذه الخطيئة قلت الأضواء التي كانت تنبعث من الشمس ومن القمر ثم حاول من بعد ذلك أن يثبت بنصوص استمدها من سفر «أشعياء»
Esaiah
أن الإنسان متى خلص من أكدار هذه الخطيئة فإن الشمس والقمر سوف تعود إليهما أضواؤهما التي فقداها بخطيئة الإنسان، وسوف يظهران كما كانا من قبل، بكامل عظمتهما وجلالهما ورائع بهائهما. غير أنه على الرغم من أقوال هؤلاء الثقات، وما بشروا به من الغائبات اللاهوتية، فإن نشوء الفكرة العلمية لم يعقه عائق، ولم يصده صاد عن الانبعاث في سبيله المحتوم. وقد فرخت جراثيم تلك الفكرة حول «النظرية الجيوسنترية»
Geocentric Theory
وهي النظرية القائلة بأن الأرض مركز النظام الكوني، وأن الشمس وبقية السيارات إنما يدرن من حولها.
ظلت هذه النظرية زمانا مديدا حائزة لأكبر قسط من الاحترام والمنزلة في الصدور؛ فإنها نشأت منذ أزمان موغلة في القدم، وظل العقل الإنساني عاكفا على تأييدها؛ لأنها أقرب النظريات انطباقا على حركات الأجرام السماوية الظاهرة للعين المجردة. وقد زادت تسميتها «بنظرية بطليموس» إلى قيمتها، وضاعف من خطرها. ومن أجل أنها ورثت عن العالم القديم، ونقلت عن العالم المسيحي؛ مضى «القديس كليمانت»
Shafi da ba'a sani ba
st. Clement
الإسكندري يعززها فقال بأن المذبح الذي يوضع عادة في الهيكل اليهودي إنما هو «رمز للأرض ووجودها في وسط الكون.» ولم يحتج إذ ذاك إلى شيء أكثر من هذا لتصبح النظرية «الجيوسنترية» معتقدا مستفادا من معتقدات الكنيسة؛ لأنها «تلائم ظاهرة التوراة وتتمشى مع روحها.»
على هذا الأساس نفسه قامت نظرية مقدسة أخرى في حقيقة الكون خلال العصور الوسطى، حتى لقد اعتبرت أثمن كنز تحويه خزائن الكنيسة العظمى. وزعم أنها آخر ما نزل به الوحي في حقيقة العالم. على أن هذه النظرية لم تقم في الواقع إلا على شتات من النظريات الكونية التي راج في بلاد الكلدان القديمة سوقها؛ ومن ثم بثت في تضاعيف التوراة العبرية.
قام بترويج هذه النظرية ثلاثة من فحول الرجال: أولهم ذلك الرجل غير المعروف الذي كتب تلك المقالات التي تنسب عادة إلى «ديونسيوس الأريوباغيطي »
Dionistus areopagite
وسرعان ما شاع الاعتقاد بأن هذه المقالات من منتجات ذلك الآثيني
4
الذي آمن بتبشير «القديس بولص»
st. Paul
ومن ثم بأنها من عمل «القديس بولص» نفسه. على أن هذه المقالات على الرغم مما ظهر من البراهين الناصعة على أنها منتحلة مدسوسة على الذين نسبت إليهم، فإنها اعتبرت - في عهد ذيوعها - من كنوز الوحي والإلهام؛ حتى لقد أرسلها إمبراطور شرقي إلى إمبراطور غربي كأثمن ما يهدى وأجل ما يمنح. وفي القرن التاسع ذاعت تلك المقالات في غربي أوروبا ذيوعا كبيرا، فأصبحت منبعا فياضا ينضح بصور الفكر، وعلى الأخص في حقيقة النظام السماوي. وبهذا تضخمت الفكرات القديمة التي ذاعت في علم الفلك وانتفخت إلى حد أن رتبت كوكبات السماء - بل سميت - على مقتضى الإشارات التي تناثرت بين دفتي الكتاب المقدس.
Shafi da ba'a sani ba
أما ثاني أولئك العظماء الذين أشرنا إليهم فهو «بطرس لومبارد»
الذي كان أستاذا في جامعة باريس؛ فإنه في أواسط القرن الثاني عشر أذاع مجموعته التي أسماها «الجمل»
Sentences
جامعا فيها أقوال آباء الكنيسة؛ فظلت هذه المجموعة أثبت متن للاهوت حتى نهاية العصور الوسطى. وفيها عني عناية خاصة بأمر تلك الفكرة اللاهوتية التي تكونت حول علاقة الإنسان بالكون المحيط به؛ فقضى بأنه «كما أن الإنسان قد خلق من أجل الله - أي من أجل أن يخدمه ويخضع له - كذلك لم يخلق الكون إلا من أجل الإنسان - أي من أجل أن يسخر له ويقوم بخدمته - وعلى هذا ينبغي أن يوضع الإنسان في مركز الكون الأوسط حتى يستطيع أن يخدم الله، وأن يسخر الكون لخدمة نفسه.»
أما مقدار ما كان في هذه النظرية من خطر، وما احتوت من قوة صارعت علم الفلك اليقيني، فذلك ما سوف نعود إلى الكلام فيه، وعلى الأخص لدى الكلام في عصر «غاليليو»
Galileos .
أما آخر حلقة من ثالوث هؤلاء المفكرين فانتهت بالنابغة القديس «توماس أكونياس»
st. Thomas Akiunas ، ذلك القديس اللاهوتي، فخر الكنيسة في العصور الوسطى والحكيم الإنجيلي،
5
الذي حاز أكبر عقل جادت به الطبيعة على إنسان منذ عصر أرسطوطاليس حتى عصر «نيوتن»
Shafi da ba'a sani ba
Newton
هو ذلك الرجل الذي اعتقد أهل زمانه بأنه شبح المسيح مصلوبا قد تحدث إليه بكلمات عبر بها عن إعجابه بما خطت يراعته، كان كبير العقل، صلب القناة، حاد الطبع، غير أنه كان عادلا - بل أكثر من عادل - في تقدير معارضيه واحترام مناظريه، أخرج في النصف الأخير من القرن الثالث عشر موسوعته اللاهوتية
Summa Theologia
وفيها توسع في شرح النظرية المقدسة في الكون بما بلغ بها النهاية والتمام. ولقد استطاع - بما أعطي من قوة العقل والقدرة على التعبير في أبسط الأساليب - أن يطبق تلك النظرية الكونية الفجة من الوجهتين المادية والروحية على العلاقات الواقعة بين الله والناس.
على هذه الصورة بنيت تلك النظرية الكبرى مصبوبة في ذلك القالب الذي كونته عقول ثلاثة من رواد الفكر الإنساني في العصور الوسطى. وعقب عليهم ذلك الرجل الفذ بل النابغة الأوحد الذي استطاع أن يغذي دوحة ذلك المعتقد بما جعل جذورها القوية تمتد إلى أبعد أغوار الفكر الأوروبي، ذلك الشاعر الذي أمده الوحي القدسي بتأييد جعل به تلك النظرية جزءا من حياة العالم الحاف به؛ فالسماوات العليا - عليون - والسماء المتراكزة - ذات المركز - والجنة والمطهر وجهنم، قد صورتها عبقرية الشاعر «دانتي»
Dante
تصويرا جعل الناس يرونها بعين الخيال، كأنهم يرونها بعين الحقيقة. تخيلوا الله في توحيده الثالوثي مستويا على عرشه فوق دائرة الفلك، كأن ذلك كان حقيقة واقعة، كما يرون البابا مستويا على عرش القديس «بطرس»، وتخيلوا سيراف والكروبيم
6
والملائكة المزدوجة الأجنحة التي تمثل حملة عرش الله، يحوطون الواحد القهار، كما يروا الكرادلة من حول البابا في أبهته وعظمته. وتصوروا الدرجات الثلاث التي تنزلها الملائكة في السماء، كما يرون الدرجات الثلاث التي ينقسم إليها رجال الكنيسة من أساقفة وقساوسة وشماسة فوق الأرض، ورأوا في مجموعة النظام الجرمي، وفي دورة كل جرم من الأجرام في دائرة فلك الجرم الذي يعلوه، وفي دورة الكل من حول الأرض مع خضوع ذلك النظام لإرادة «المحرك الأول»، كما يرون النظام الإقطاعي في غربي أوروبا وفي خضوع كل ذوي الإقطاعات للإمبراطور الأعظم.
ولننظر الآن في ذلك الوهم الأكبر - وهو أعظم ما كونت الفكرة اللاهوتية في تاريخ الدنيا - نظرة أدق وأعمق.
Shafi da ba'a sani ba
إن أول ما يلقى في روعنا هو أن نظام الكون المقدس ليس سوى تفصيلا لما أضمرت، وتضخيما لما صغرت، تلك الفكرات اللاهوتية التي راجت في الأزمان الأولى. فلم تصبح الأرض ذلك السهل المنبسط المحوط بأربعة جدران تعلوها قبة صلبة القوام، كما اعتقد لاهوتيو القرون الأولى تحت تأثير «قوزماس»، ولم تمس قرصا منبسطا تعلوه الشمس والقمر والنجوم لتمده بما يحتاج إليه من ضوء، كما صورها فنانو الكاتدرائيات الأولى، بل أضحت كرة كائنة في وسط النظام الكوني، يحيط بها عدة أفلاك كروية شفافة تديرها الملائكة حول محورها ومن حول الأرض، وكل منها يحوي جرما أو أكثر من أجرام السماء. فالأقرب فلك الأرض ويحمل القمر، ومن بعده فلك عطارد ثم فلك الزهرة ثم فلك الشمس، ثم الثلاثة التي تلي هذه وهي فلك المشترى وفلك المريخ وفلك زحل. والفلك الثامن يحوي النجوم الثوابت، والتاسع هو فلك «المحرك الأول»
ويحوي الكل الفلك العاشرة أو فلك عليين، وهذا غير متحرك، وهو الحد الفاصل بين الخلق الكوني المنظور وبين الخلاء الخارجي اللامتناهي، وهنالك - في ضوء يخطف البصر ولا يستطيع أحد الدنو منه - يستوي الله في حدته الثالوثية فوق العرش حيث ترتفع إليه «وموسيقى الأفلاك» إذ هي تتحرك. وعلى هذا ترى أن الفكرة الوثنية في حقيقة الأفلاك قد انقلبت إلى فكرة مسيحية، منبثة في تضاعيف الدين النصراني.
ويقوم على خدمة «الجلالة القدسية» فوق عرشها العظيم جماعات من الملائكة وافرات العدد، تنقسم في ثلاثة منازل أو درجات: فالجماعة الأولى تقوم بالخدمة في عليين، والثانية في السماوات؛ أي بين عليين والأض، والثالثة فوق الأرض نفسها.
وكل من هذه المنازل تنقسم إلى ثلاث مراتب: الأولى تتضمن مراتب سيراف والكروبيم والملائكة المزدوجة الأجنحة التي تمثل حملة العرش، والمهمة التي يقوم بها هؤلاء هو الغناء المستمر وترتيل الحمد الدائم لله. أما حملة العرش فمنوط بها حمل إرادة الله إلى الدرجة الثانية التي يخدم أفرادها في الأفلاك المتحركة، وهذه الدرجة الثانية تتكون من ثلاث مراتب؛ الأولى: مرتبة الدومنيون وهي التي تتلقى الأوامر الإلهية، والثانية: مرتبة القوات التي تحرك الأفلاك كالشمس والقمر والسيارات والنجوم وتفتح نوافذ السماء وتغلقها، وتدبر كل الظاهرات السماوية الأخرى، والثالثة: مرتبة الحفاظ وغيرهم.
أما الدرجة الثالثة وهي أسفل الدرجات الملائكية، فتتكون من ثلاثة مراتب أيضا: الأولى مرتبة الرؤساء وفيها حفظة الأمم والدول، وبعدها مرتبة رؤساء الملائكة. وهؤلاء يقومون على حفظ الدين ويحملون ابتهالات القديسين وصلواتهم إلى أعتاب عرش الله، والثالثة الملائكة العاديون، وهؤلاء يوكل إليهم أمر العناية بالأشياء الأرضية عامة، ويناط كل منهم بواحد من أبناء آدم، ويناط آخرون بالحرص على صفات النباتات وأنواعها ثم المعادن والأحجار وما شابه ذلك. وفي خلال هذا النظام كله من عرش الله الموحد الثالوث إلى أحط مراتب الملائكة، تجد أسطورة القوة والتأثير المنسوب إلى «المثلث» ذلك الشكل الهندسي البسيط، وإلى العدد «ثلاثة». وهي بذاتها تلك الأسطورة التي أوحت بفكرة التثليث لواضعي اللاهوت الهندي القديم، ومنها نشأ معتقد التثليث عند قدماء المصريين ومن ثم نقلت هذه الهبة اللاهوتية إلى العالم المسيحي، وعلى الأخص من طريق «أتناسيوس» المصري
Athnasius .
ومن تحت الأرض تكون جهنم، وهي مثوى الملائكة الذين عصوا وثاروا تحت إمرة «إبليس» أمير سيراف، وصفي الله من قبل. ولكن من بين أولئك العصاة فئة لا تزال تزود أفلاك السيارات وتسبب للملائكة المطيعين المنيبين ألما وعذابا. في حين أن غيرهم يغشون جو الأرض فيرسلون عليها الصواعق والزوابع والقحط والجليد. وغير أولاء وهؤلاء عصبة خصت بإغراء الجماعات الأرضية يدفعونها إلى ارتكاب الرذائل والآثام. أما الأستاذ «بطرس لومبارد» والقديس «تومس أكويناس» فقد جهدا نفسيهما كل جهد لكي يثبتا أن عمل هذه العصبة الشيطانية إنما يقصد به تنظيم أعمال الإنسان، وتحديد العقوبات التي يستحقها العصاة تحديدا صحيحا، وعلى قسطاس مستقيم.
كل هذا النظام العظيم قد دس على المذهب البطليموسي بإحكام كبير، حيث استعان الآباء في سبيل ذلك بالمتون الإنجيلية وبأسلوب التفكير اللاهوتي، ولم يكن لذلك من نتيجة اللهم إلا الاعتقاد بأن نظام الكون على هذه الصورة قد أصبح غير قابل للتعديل ولا التحوير، وأنه غائي لا سبيل إلى إدحاضه، وأن القول بما يضاده أو تعمد نقده هرطقة صريحة وكفر بالله.
وظل هذا النظام ثابت الدعائم قرونا عديدة؛ حتى إن كثيرا من جهابذة اللاهوتيين مثل «فنسنت بوفييه»
Vincent of Beauvais
Shafi da ba'a sani ba
والكردينال «دايلي»
cardinal d’Ailly
قد وقفا كل جهدهما ليظهرا أن هذا النظام تعززه نصوص الكتاب المقدس، لا بل ليثبتا أنه يزكي التوراة والإنجيل.
وعلى هذا ترى أن «النظرية الجيوسنترية» قد امتدت أصولها إلى صميم النصرانية، بل إلى أعمق معتقداتها وآمالها ومخاوفها، وظلت كذلك حتى منتصف القرن السادس عشر الميلادي. (2) النظرية الهليوسنترية
منذ عهد عهيد فرخت في العقل الإنساني جراثيم «النظرية الهليوسنترية»
Hellocentricheory
أي النظرية القائلة بأن الشمس مركز النظام الكوني؛ ففي القرن السادس قبل الميلاد قال «فيثاغورس»
ومن بعده «فيلولاوس»
بنظرية أن الأرض والسيارات إنما تدور من حول «نار مركزية». ومن بعد ذلك بثلاثة قرون عمد «أرسطارخس»
Aristarchaus
Shafi da ba'a sani ba
إلى تقرير هذه الحقيقة بكثير من دقة التدليل وقوة البرهان. وفي ذلك حجة ناهضة على أن تنازع البقاء بين الأسلوبين اللاهوين والعلمي غير قاصر على النصرانية؛ فإن ما قرره «أرسطارخس» من حقائق العلم كان سببا في أن يرمى بتهمة الزندقة والكفران، فغشيت سماء العلم غمامة كثيفة من الحقد والكراهية حجبت أنواره ستة قرون أخرى. ولم تلمع شمس هذه الحقيقة مرة ثانية في سماء الفكر إلا في القرن الخامس من التاريخ الميلادي، حيث ظهرت في تأملات «مارتيانوس كابيلا»
Martianus Capelia
غير أن أضواءها حجبت ثانية وظلت محجوبة ألفا من السنين، حتى أشرقت ثانية في غضون القرن الخامس عشر، ولكن واهنة ضعيفة، في عقل الكردينال «نيقولاوس ده كوزا»
Nicolas de Cusa
منبثة في تضاعيف ما ألف من أسفار.
غير أن ذلك النظام الكبير الذي أنبتته عقول عظماء اللاهوتيين، وعضدته تلك الصيحات العالية التي انبعثت من قلب «دانتي»، قد أثرت في نشر هذه الفكرات الصحيحة تأثيرا عاقها عن أن تنمو وأن تؤتي أكلها.
ولقد أخذت عناصر العقل الإنساني تزداد خصبا، وفراغه يزداد امتلاء؛ فإن الأساليب التي اعتمدت عليها الرياضيات كانت قد مضت في التهذب والارتقاء، وأخذ النظر يمتد من خلال العدسات الزجاجية إلى الأجرام السماوية. وما بلغ العقل الإنساني هذا المبلغ حتى ظهر في منقطع العمران الأوروبي وعلى حدود «بولاندا» طالب من طلاب العلم واسع النظر طيب القلب، أمكنه بما وهب من كفاءات أن يبشر للعالم الحديث بالحقيقة الناصعة - تلك الحقيقة التي نراها اليوم ضرورة أولية وكانت إذ ذاك من المدهشات الخارقة للقياس - حقيقة أن الشمس لا تدور من حول الأرض، بل إن الأرض وبقية السيارات هن اللائي يدرن من حول الشمس. ذلك الطالب هو «نيقولا كوبرنيكوس»
Nicolas Copernicus .
كان «كوبرنيكوس» أستاذا في «روما» وقد أعلن نظريته هذه هنالك منذ سنة 1500، ولكن بطريقة تشعر بأنها غريبة من غرائب العلم، أو أنها قول من الأقوال التي يناقض ظاهرها الحقائق الواقعة، كما كان شأن الكردينال «ده كوزا» لدى الكلام فيها من قبل، فلم يروجها بين الناس على اعتبار أنها مذهب علمي يعبر أصح تعبير عن حقيقة من حقائق الطبيعة العظمى. وبعد ذلك بثلاثين عاما قام «ودمانستاد»
Wedmanstadt
Shafi da ba'a sani ba
أحد تلاميذ «كوبرنيكوس» يشرح هذه النظرية للبابا «كليمان السابع»، ولكنها ظلت حتى ذلك العهد عبارة عما لا يخرج عن حيز الظن والتخمين، وسرعان ما نسيت هذه النظرية وأسدلت عليها أستار كثيفة من نزعات ذلك العصر، غير أن «كوبرنيكوس» لم ينسها، وظل يدرسها درسا عميقا، فكان كلما استعمق في درسها أخذت أنوار الحقيقة تشع في عقله شيئا فشيئا، حتى تصور أن حمل هذه الحقيقة الكبرى في طيات عقله وبين نياط قلبه، لا يتفق مع ما يطلب من الأمن والسلام في جو «روما» المفعم بالتعصب، المملوء باستبداد التقاليد، ولقد أيقن بأن إعلان هذه الحقيقة على أنها نظرية تخمينية أو على أنها زعم يناقض ظاهرة الحقائق الواقعة، قد يمكن أن يكون شيئا يلهو به رجال البلاط البابوي. أما إعلانه إياها على أنها حقيقة بل على أنها الحقيقة، فأمر يخالف الأول مخالفة تامة؛ لهذا تراه يعود أدراجه إلى قريته الصغيرة من أطراف «بولاندا» تارة أخرى.
وكان على يقين من أن نشر فكرته هذه كما تكونت في عقله إذ ذاك أمر لا يخلو من خطر ماحق، حتى في قريته المنعزلة عن عمران العالم الأووبي؛ لذلك ظلت هذه الفكرة ثلاثين سنة أخرى جاثمة في خلايا عقله الكبير وفي عقول أولاء من أصحابه الأخصاء الذين أفضى إليهم سرا بما كان يوحي إليه به ذهنه من آيات الحق الثابت.
وكانت النتيجة أنه أتم كتابه الكبير «حركات الأجرام السماوية»
Revolutiono of the Hevenly Bodis
وأهداه إلى البابا نفسه. وفكر من بعد ذلك في مكان يستطيع أن ينشر فيه كتابه، فلم يجرؤ أن يرسله إلى روما وهنالك تجثم عصابة من رءوس الكنيسة القديمة مرتقبون لمصادرته. ولم يستطع أن يرسل به إلى «ويتنبرج»
Wittenburg
وهنالك رءوس البروتستانت. وما كانوا في ذلك الزمان بأقل عداء لحقائق العلم من زعماء الكثلكة؛ لهذا عهد بالكتاب إلى رجل يدعى «أوسياندر»
Osiander
في نورمبرج.
غير أن شجاعة «أوسياندر» خانته، ولم يستطع أن ينشر الفكرة الجديدة بما يحتاج إليه ذلك العمل من إقدام وبسالة. فكتب مقدمة دنيئة حاول أن يعتذر فيها عن «كوبرنيكوس» تلقاء فكرته هذه، بل اختلق عليه من الفكرات ما خيل إليه أن يكون عذرا مقبولا، فقال بأن «كوبرنيكوس» لم يحاول نشر هذا المذهب على أنه الحقيقة؛ بل على أنه مجرد نظرية تخيلية لا غير، معلنا أنه مما لا يخرج عن طوق القانون أن يهيم فلكي مع موحيات خياله وتصوره، وأن مثل «كوبرنيكوس» في كتابه لا يخرج عن هذا.
Shafi da ba'a sani ba
وعلى هذا ترى أن أعظم الحقائق العلمية شأنا - بل أكبر ما كشف العقل الإنساني من نظام الطبيعة خطرا وجلالا - تلك الحقيقة العظمى التي تسمو بالدين بقدر ما تسمو بالعلم، لم تخترق طريقها إلى عالم المعرفة الإنسانية إلا متسللة خفية، دابة دبيب الزواحف بين عقبات من العقائد الزائفة وأشواك من التقاليد.
في الرابع والعشرين من شهر مايو سنة 1543، وصلت أول نسخة من الكتاب مطبوعا إلى حيث كان يقيم «كوبرنيكوس»، ولما أن وضعت النسخة بين يديه كان الجهبذ الكبير محتضرا على فراش الموت. وبعد بضع ساعات كان بعيدا عن هذا العالم، بل بعيدا عن أن تصل إليه أيدي أولئك الأنقياء الذين ربما كانوا قد هدموا مجده هدما، وأذاقوه الموت ألوانا، لو لم تعجل به إلى العالم الثاني خطاه.
غير أنه لم يكن بعيدا عن أن تناله الأيدي الفاجرة بإثمها؛ فإن الموت نفسه لم يكف لأن يكون حجابا يحجب عنه الأذى والكفران. والظاهر أنهم خافوا أن ينزلوا العقاب المادي بالجثة الهامدة، فاكتفوا بأنه لا يذكر على شاهد قبره شيئا عن جهوده العظيمة التي بذلها في حياته، ولا أن يشار بحرف واحد إلى استكشافه العظيم، وأن ينحت على قبره دعاء قال فيه واضعه: «اللهم إني لا أسألك غفرانا كما غفرت لبولص، ولا إحسانا كما أحسنت إلى بطرس، ولكن أسألك أن تنعم علي كما أنعمت على اللص وهو معلق فوق صليب الإعدام.» ومضى على ذلك ثلاثون عاما، تجرأ بعدها صديق من أصدقائه، أن يحفر على قبره تذكارا يشير إلى استكشافه العظيم.
إن المقدمة التي وضعها «أوسياندر» والتي ادعى فيها أن «كوبرنيكوس» قد أذاع ما أذاع على أنه نظرية تخيلية - لا على أنه حقيقة يؤمن بها - قد أدت إلى كل ما خيل إليه أنها سوف تؤدي إليه؛ فقد قطع رءوس الكنيسة من الزمان حقبة لا يقل مداها عن السبعين عاما وهم يفضلون أن لا يثيروا من حول الكتاب عجاجة؛ حتى لقد استطاع أساتذة من أمثال «كالجانيني»
Calganini
أن يلقنوا المذهب الجديد على أنه نظرية فرضية. وعلى الرغم من أن اللغط كان كثيرا ما يرتفع من حول هذا الاستكشاف في الدوائر اللاهوتية بين حين وحين، فإن الرجل لم ينفجر إلا في حدود سنة 1616؛ ذلك لأن المذهب كان قد تركز في عقل «غاليليو» العظيم، فاعقتد أنه حق وأن لا حق غيره، وأخذ يذيعه ويدفع عنه، بل مضى يبرهن على أنه حق مستعينا بالتلسكوب، فصادرت الكنيسة الرومانية الكتاب، على اعتبار أن كل ما قرره كوبرنيكوس في كتابه لا ينال رضاها، أو يصحح بما يوافق مشتهياتها. ولم يكن ذلك التصحيح عندهم إلا الرجوع عن الحق الثابت إلى تلك الخيالات الوهمية التي كانت تدعى ظلما بنظرية «بطليموس».
ولا ينقصك على أنهم لم يقصدوا بالتصحيح سوى هذا النكوص من دليل؛ فلديك الأدلة ناطقة فيما أتوا من فعل في ذلك العام الذي منع فيه «غاليليو» عن أن يلقن علم الفلك أو يناقش فيه مستعينا بقواعد «كوبرنيكوس»، وعندما حظروا ذيوع كل كتاب يبشر بدوران الأرض. وعلى هذا أصبحت قراءة كتاب «كوبرنيكوس» إثما لا يوازيه من عقاب سوى اللعنة الأبدية، وقبل الناس أن يمضوا لهذا القرار خاضعين مهطعين مقنعي رءوسهم.
لهذا خضعت أكبر العقول وأرشد الأحلام؛ فإنهم وإن لم تطاوعهم موحيات عقولهم على أن يؤمنوا بالنظام القديم، فلا أقل من أن يتظاهروا بأنهم به مؤمنون. ولقد حدث هذا حتى بعد أن فتح الطواف طول الأرض للعيون منفذا تنفذ منه إلى الحق، وفرجة ترى منها سبيل الرشاد، ومهما يكن من أمر فإن مثل المبشر اليسوعي «يوسف أكوستا»
Joseph Acosta
لمثل رائع؛ فإن كتابه «تاريخ جزر الهند طبيعيا وأدبيا» الذي نشر في الربع الأخير من القرن السادس عشر، قد هدم كثيرا من القواعد التي كان يرتكز عليها عديد وافر من الأخطاء الفلكية والجغرافية. ففي ذلك الزمان الذي قنع فيه العقل بالنقل، ومضى مثبتا للتقاليد؛ أوحى ذلك المبشر لأهل الأرض بحقائق من العلم أمعن في التبشير بها إلى أبعد حد ذهبت إليه شجاعته، وانتهت بسالته، غير أنه ارتد إزاء حركة الأجرام السماوية محافظا محضا؛ إذ أعلن في غير رهبة ولا خجل أنه «رأى بعيني رأسه القطبين اللذين تدور عليهما السماوات كما تدور الرحى على قطبيها.»
Shafi da ba'a sani ba