وأمرت التاكسي بالوقوف قبل منزلها، ودون أن تنظر إلي هبطت بسرعة ثم غادرته ورأسها مرتفع في كبرياء مصنوعة.
وتذكرت وأنا أراها تمضي بسرعة في الطريق الجانبي المظلم الذي اختارته لوقوف التاكسي، تذكرت أنها - كما قالت فتاة المستوصف - تمشي كشيتا.
ولوى السائق رقبته في خيبة أمل وكأنه يشاركني المأساة وقال: هيه يا بيه، نرجع؟
فقلت: أيوه، بآخر سرعة.
ولم يكن ورائي شيء أفعله بالمرة، ولم يكن هناك داع للسرعة، ولكني كنت أحس بجمرة خبيثة تنهش قفص صدري من الداخل وأنا لا أقوى على منعها أو تخفيف حدتها. جمرة نقمة على نفسي، وإحساس صارخ زاعق بالهزيمة، الهزيمة في أصوات قطارات آخر اليوم المبحوحة في الطريق الطويل الخالي، في الضيق المجنون الذي تحفل به روحي والذي يصفر في عقلي ويهيب بي أن أخنق أحدا أو يخنقني أحد أو إن لم أجد أخنق نفسي، أقبض عليها بيدين من حديد وأظل أضغط حتى يحتبس إلى الأبد كل ما في صدري من غيظ، أشد سوادا من الظلام الحالك الهائل الرابض فوق صدر القاهرة.
وصلت إلى البيت، وصعدت في السلالم الطويلة بلا روح، ولم يضايقني أني فتشت في جيبي لأعثر على المفتاح قبل الوصول إلى باب الشقة فلم أجده. فلأكن قد تركت الباب مفتوحا، أو فلتكن قد ضاعت المفاتيح وفقدت، ماذا يمكن أن يحدث أسخف وأسوأ مما حدث؟ ووجدت الشقة مغلقة، ولحظتها فقط بدأت أحس بالضيق، كل همي كان أن أعثر على مكان أستطيع أن أتمدد فيه وأستريح. حاولت فتح الباب بالقوة، ولكن لدهشتي الهائلة وجدت يدا تفتحه من الداخل، ولم يكن هناك وقت لأفترض أو أخمن أو أخاف.
فقد فتح الباب وأطل منه وجه، وجه ويا للغرابة! وازدادت دهشتي اتساعا، وجه أخي الصغير فقد كان في التوجيهية في مدرسة إقليمنا، فماذا جاء به وكيف جاء؟ أسئلة لم تمنعني أن أرد على هتافه الفرح حين رآني بعناق طويل، وللحظة خاطفة أحسست أني لست وحيدا منبوذا في هذا العالم، وعلى الأقل لي أخ كهذا يحبني حبا مطلقا بريئا من كل قيد وبلا مقابل، أخ لي، لا لست وحدي. وكدت - أنا الكبير - أنهار على كتفه الصغيرة باكيا منتحبا وكأني الابن الضال عثر فجأة على عائلته.
وعرفت أنه جاء في رحلة مدرسية، وأنه سأل على العيادة حتى وجدها، وهناك دله عنتر على البيت الجديد. أية جهود شاقة بذلها هذا الفتى الذي لا يعرف إلا شارعا أو شارعين في القاهرة ليصل إلي، إلى أخيه؟! وأية أحلام بناها على ذلك اللقاء؟ وأي قلق عظيم سببته له؟ جاء فوجد الشقة مفتوحة ومظلمة؛ فعداد النور كان لم يركب بعد، وكيف جلس قرابة الساعتين ينتظرني خائفا خوفا مضاعفا أن يتضح آخر الأمر أن الشقة ليست شقتي ويعامل كما يعامل اللصوص؟ وكيف هداه تفكيره لشراء شمع أوقده، وزاده شكا في الشقة إذ كان أثاثها قد تغير معظمه، ولولا السرير السفري ذي القاع الهابط الذي يعرفه جيدا لما استطاع البقاء في الشقة لحظة.
وكم لعنت نفسي وأنبتها للشعور الحقير الذي راودني بعد انتهاء أخي من حكاية ما صادفه لكي يلقاني. لم أكن أريد رؤية أحد في تلك الليلة أو الحديث مع أحد ولو كان أحب الناس لدي. لم يعد في نفسي قريب أو بعيد. سانتي كانت في ناحية والعالم كله في ناحية أخرى، وكل طاقتي على الحب والاهتمام كانت موجهة إليها، وكل الناس غيرها سيان. لم يبق في قلبي أية عواطف قليلة أو كثيرة أحيط بها ذلك الأخ الآتي وفي ذهنه سهرة جميلة لا بد سيهيئها له أخوه الكبير الموظف الطبيب.
كنت مغلقا عيني أحاول أن أطرد أي شيء آخر من رأسي، أفكر فيما يمكنني عمله لإسعاد هذا الضيف الشقيق أو على الأقل إشعاره بحبي له واعتزازي به، وعقلي يتمرد على هذا وذاك فلا يستطيع طرد أي شيء، ولا يستطيع ادعاء حب أحد. كنت هكذا حين تبينت أنه قد وقف أمامي حائرا محرجا تتلعثم الكلمات في فمه وهو يحاول أن يختلق عذرا ليذهب ويبيت مع بقية الطلبة في أحد فنادق وسط البلد، وعرفت أنه فهمني كما تعود أن يفهمني، وأدرك أنه اختار وقتا غير مناسب لمجيئه، وأنه ليس غاضبا مني ولا ثائرا علي، وأن كل ما يريده هو راحتي.
Shafi da ba'a sani ba