ولكني خجول، وهكذا تمتمت وأنا أداري وجهي في ابتسامة ما: أصدقاء.
وهبطت درجات السلم في بطء وكسل.
7
ولم يكن هناك ما أفكر فيه ليلتها، لا لقلة ما كان هناك وإنما لكثرته. عشرات الأشياء كان علي أن أفكر فيها، كل شيء صاحب تعارفنا، كل حادثة صغيرة وقعت في أثنائه، كل كلمة قلناها وكل ابتسامة ابتسمناها كانت قد أصبحت شيئا مستقلا بذاته علي أن أفكر فيه وأخرج منه باحتمالات. ومع ذلك ظللت عمليا بلا تفكير؛ فالاحتمالات حين تتقارب ولا يستطيع الإنسان أن يرجع أحدها على الآخر تعفى من التفكير، ويفلس العقل؛ فعقولنا تنشط فقط إذا كان هناك أمل، وتساوي الاحتمالات لا يدعو لليأس، ولكنه أيضا لا يبقي مكانا للأمل.
وعشرات المرات حاولت أن أرغم نفسي على التفكير وعلى استعادة ما حدث، وفي كل مرة لا أجد لدي ذرة رغبة واحدة في استعادة شيء، وقلت لنفسي في النهاية: ليس عليك سوى أن تنتظر وتترقب ما تفعله لتغلب احتمالا على آخر.
وجاءت سانتي في اليوم التالي مباشرة.
وكنت أعرف أنها ستأتي. لم يكن مجيئها في نظري ليغير من الأمر شيئا، لم يعد مجيئها علامة رفض أو قبول، أصبح عادة.
ولكني قابلتها في تلك المرة بشعور مختلف. طوال الأيام الماضيات كنت أكاد آكلها برغبتي فيها، كنت لا أتحدث إليها أو ألمس يدها أو أحدق في عينيها إلا وأنا أتقلب على جمر الرغبة فيها. وفي تلك المرأة أحسست أن حاجزا شفافا قد أصبح يحول بيني وبينها. خجل شديد، أو أي شيء يشبه الخجل الشديد في مفعوله، كنا قد «تحدثنا» في السر الذي أقفلت عليه نفسي، وبهذا انكشف الغطاء وأصبحت كل حركة مني مفضوحة وأنا أول من يفضحها، وبتلك الفضيحة توقف الزحف التلقائي الذي كان يجذبنا ويقربنا دون حاجة إلى كلام أو مصارحة، أو على الأصح في غيبة الكلام والمصارحة. وشيء آخر، سانتي كانت قد قالت لي من زمن إنها متزوجة، ولم أعر الأمر ساعتها اهتماما يذكر لدرجة أني لم أتصورها زوجة أبدا، ولم أجد أهمية لهذا التصور؛ فكل ما كنت أحسه تجاهها كان لا يدور إلا بيني وبين نفسي، ويدور رغما عني، وكان من المستحيل أن يؤثر في أية علاقة أخرى لها. فلتكن متزوجة أو أرملة أو حبيبة، ما الحرام في أن أعجب بها ذلك الإعجاب الصامت الذي لا يستطيع أحد أن يلمحه أو يحاسبني عليه؟ ولكن الإعجاب الصامت تكلم أخيرا ونطق، فاضطرت أن تذكرني هي الأخرى بموقفها وتقول لي إنها متزوجة برجل تحبه ولا تستطيع أن تحب اثنين في وقت واحد. ازداد الأمر تعقيدا، لا لأنني عدت إلى رشدي وأدركت أنها متزوجة وأني لا يصح أن أحس ناحيتها بأي انفعال، ولكن لأني أيضا لم آخذ قولها مأخذ الجد؛ فقد شعرت أنها تضع عقبة شكلية محضة أمام علاقتنا؛ إذ كان بوسعها أن تقول لا يمكن أن تحبني، وكان بوسعها أن تعنفني وتزجرني وتقطع علاقتها بي وينتهي الأمر. أما أن تقول إن الزواج هو فقط الذي يمنعها من حبي؛ فمعنى هذا أن المانع مجرد شكل، والشكل ممكن أن يتغير، ممكن أن تترك زوجها وتتزوجني مثلا، وصحيح أن هذا ليس حلا مثاليا، ولكنه ليس أول حل غير مثالي، أو على الأقل ليس الحل الذي لا يفكر فيه إنسان في موقفي متلهف عليها، غير قادر أن يكبت أو يقتل لهفته عليها. إنسان مستعد أن يفتت صخور اليأس ليعثر على قطرة أمل واحدة، ومستعد أن يفتتها حتى ولو كانت القطرة سرابا غير موجود.
ولكنها حتى بذكرها هذا الاعتراض الشكلي كانت قد أثارت في نفسي قيما عميقة مقدسة لا يمكن أن تمحى أو تزول، قيما ليس أقلها احترام ما يخص الغير؛ فقد أدركت أن سانتي التي اعتبرتها منذ ليلة الأوبرا قد أصبحت لي ليست في الواقع لي، ولكنها زوجة رجل آخر لا أعرفه، ولكنه رجل شريف يحارب من أجل قضية كقضيتي تماما، ويلعب فيها دورا ربما أعجز أنا عن القيام به. وأبالغ حين أقول: إني أدركت؛ فالإدراك لم يكن هو بالضبط ما شعرت به. فلو سألتني رأيي بصراحة لقلت لها إني لا أزال لا أصدق أبدا أنها متزوجة رغم الحقائق والحكايات التي قالتها. ليس إدراكا ولكنه احتمال، مجرد احتمال أن تكون صادقة فعلا، ومجرد الاحتمال له في نفوسنا - نحن الذين تربينا في صرامة الريف وتقاليده - قوة اليقين وحرمته. ذلك الزحف التلقائي الذي كنت أقوم به وأنا أغمض عيني عمدا عن كل حقيقة أخرى خاصة بسانتي سوى أنها معي، تأتي لي، وتبتسم من أجلي، أوقفته هي وتولت بنفسها فتح عيني وتبصيرها بالحقائق.
ولم يفعل هذا أكثر من أن أضاف إلى المشكلة المعقدة أصلا تعقيدات جديدة؛ فقد أصبح واجبا علي أن أعاملها باعتبار أنها زوجة، وأنا مؤمن أنها ليست كذلك، وأنا أشك في إيماني هذا، وأنا حائر في هدفها من تذكيري بوضعها، حائر فيها، وفوق هذا كله وقبل هذا كله مدرك تماما أني لا أستطيع أن أمنع نفسي من طلبها، كما لا أستطيع أن أمنعها من طلب الحياة والوجود. أبدا لم أكن أستطيع حتى ولو تبينت مثل أوديب أنها أمي؛ فشغفي بها كان قد خرج عن إرادتي، أصبح كالنار العنيدة الموقدة في نفسي كلما حاولت أن أخمدها بمانع أو حائل أتت عليه، بل زادتها الحوائل والموانع اشتعالا.
Shafi da ba'a sani ba