وفرق كبير بين أن تكون منجذبا إلى إنسانة أو أن إنسانة معجبة بك، وبين أن تبدأ تفكر فيها على أنها فتاتك وأنثاك.
هو نفس الفرق الذي لم أحس معه بالستار حين ارتفع، ولا الموسيقى حين بدأت تتصاعد وتنتشر في أرجاء الأوبرا كالعطر الصوتي الثمين الذي ينتزع الآهات والأشجان. كل همي كان أن تأتي الاستراحة. كنت أريد أن أحدثها. كنت أريد أن أقول لها رأيي في الليلة والناس والحفلة وفيها. وكنت أريد أن أسمع تعليقاتها على رأيي. وكنت أعرف أنها ستوافقني على كل ما أقول. ولكني كنت متلهفا على سماع تلك الموافقة وهي تخرج من بين شفتيها.
وذهبنا إلى البوفيه وهي تسبقني، وكلانا يحاول أن يجد له طريقا بين الأجساد المتلاطمة المزدحمة. وكنت وأنا أستسمح هذا أن يدعني أمر، وأعتذر لذاك وأبتسم. أحس بنفسي رقيقا دقيقا كوتر الكمان، كلامي موسيقى، وحركاتي أريد أن أحيلها إلى رقصات باليه. إن السعادة أحيانا تخلق من الإنسان شاعرا. ووصلنا إلى البوفيه ووقفنا نرشف أقداح القهوة ونتكلم وأقول لها آرائي وتقول آراءها، وتبتسم كثيرا ونتجاوب بشدة. كان يخيل إلي وهي واقفة أمامي ولا يفصلنا سوى ابتساماتنا والبريق الصادر عنها، ووجهها حلو قد أضفى عليه الليل والأنوار بياضا وحمرة ووسامة، والروج في شفتيها أنيق رقيق كشفتيها . هي تتحدث، وتقول «نعم» أحيانا، وأحيانا تضم شفتيها تلك الضمة التي تبرزها إلى الأمام وتجعدها تلك التجاعيد التي يجف لها الحلق قائلة «لا». كان يخيل لي كلما أفقت أننا أخيرا التقينا. أجل، أحسست تلك الليلة أنها قد أصبحت فتاتي وأنثاي. نظرات عينيها، البريق المشع المتلهف الذي كان يملأ حدقتيها، النشوة وهي ترجف رموشها، الحياة التي تتذبذب وتتلوى في قسماتها. هي بكل ما فيها، بكل خلاياها وانفعالاتها، بردائها الأسود الأنيق، بغطاء رأسها، بتلك «الطاقية» السوداء الجميلة ذات «الطرة» المدلاة إلى ناحية تلامس أذنها ورقبتها وتداعبها، وهي بكل الهالة الحيوية الساحرة التي تحيطها، هذا كله لا يمكن أن يبدو من امرأة إلا لرجل قد وقع عليه اختيارها.
والمهم أني لم أرها على حالة واحدة أبدا. كان شكلها يتغير على الدوام في نظري، ويبدو لي وجهها في كل دقيقة وجها آخر أجمل وأحلى. حتى بريق عينيها كان يتغير في كل ومضة أو نظرة، وكنت مذهولا أحاول عبثا أن أحتفظ لها بصورة واحدة. ولكن ألوانها تختلط بألوان، وبياضا في احمرار دائم متغير، وسواد ثيابها يشع غموضا حبيبا يلفها ويلف الوقفة واللحظة، ووجهها مرة أراه وجها أعرفه وأحفظه، ومرة أراه وجه ملكة من ملكات التاريخ، وجه إلهة من آلهة اليونان، أو جنية من جنيات الأساطير، وأحيانا وجها جديدا تماما أراه لأول مرة في حياتي.
كان الثابت الدائم هو إحساسي أن تلك الإنسانة التي لا تستقر صورتها في خاطري لحظة، لي، ملك خواطري، أنثاي، كل هذا التغير والتبدل من أجلي أنا.
وكانت تتحدث والضوضاء كثيرة، وكانت ترفع فمها إذا تكلمت ليكون قريبا من أذني ومني، وكنت أسمعها وألتهم كلماتها، وألتهم معها إحساسي بأنها لا تتحدث لي ولكنها تناجيني، إحساسي أنها أصبحت جد قريبة وأصبحت راضية وما علي سوى أن أمد يدي وأقطفها، فأحدثها أنا الآخر وأعصابي قد وترتها إشعاعات جسدية صادرة عن قربها مني، ولولا الناس والمكان لما استطعت المقاومة.
وحين كنا نتجول خلال الاستراحة، قابلت سانتي زوجين يبدو أنهما كانا على صلة ما بها. لم يكونا عجوزين ولم يكونا شابين، وعرفتني بهما. وقالت الزوجة بعدما تعارفنا بانبهار: أنت طبيب حقيقي؟
قلت: طبعا.
قالت: لا تؤاخذني، ولكنك تبدو صغير السن جدا على طبيب.
فقلت وقد ملأني كلامها نشوة، أو بالدقة ملأني ذلك الكلام على مسمع من سانتي نشوة حبيبة، قلت: وماذا تقولين لو عرفت أني تخرجت من سنوات ثلاث أيضا؟
Shafi da ba'a sani ba