وبدأ إحساسي بالضيق من البارودي ووجوده معي في المنزل يزداد إلى درجة بدأت أفكر معها في وجوب التخلص منه والعودة إلى الحرية الوحيدة التي لا أريد سواها، حريتي في أن أقابل سانتي في مكان آمن خال.
ولم يكن التخلص من البارودي بالأمر السهل؛ فقد كنت أريد أن أفعل هذا دون أن يشعر أو يحس أني دبرت هذا الأمر أو أن لي فيه يدا، ونوبة صغيرة من تأنيب الضمير راودتني؛ فقد كنت أعرف ألا مكان لإقامته، لا مال لديه، ولكن أي شيء في الدنيا كان لا يمكن أن يحول بيني وبين لقائها.
وكتبت خطابا لوالدتي وأختي أدعوهما للقدوم إلى القاهرة للتفرج على المعرض، وحين كنت ألقي الخطابات في صندوق البريد تنبهت إلى حقيقة ما أفعله. البارودي الذي كنت على استعداد دائم للتضحية بروحي وبكل ما أملك من أجله، ها أنا ذا أدبر عن عمد وإصرار طرده من البيت وهو خارج من السجن مفلسا أعمى. وأدهى من هذا أني لا أتردد فيما أفعله ولا أستطيع التردد وكأني أتصرف رغم إرادتي، ولا أقول رغم إرادتي مجازا ولكنها الحقيقة؛ فقد كنت لا أملك منع نفسي من عمل ما أقوم به، كالميت من الظمأ حين يضحي بأعز الناس لديه - بابنه حتى - في سبيل أن يبلل شفتيه بجرعة ماء، وكأنه قد تولد بينه وبين الماء انجذاب أخطر من أي قوى طبيعية، انجذاب يصل إلى درجة الجنون والتوهج، نفس الدرجة التي تحدث الشرارة الكهربائية بين قطبين. أية إرادة تستطيع أن تمنع حدوث أي شيء وقد وصل الأمر درجة التوهج؟
بعد أن ألقيت الخطاب في الصندوق لم أحس إلا بنوبة صغيرة أخرى من تأنيب الضمير ، ونوبات تأنيب الضمير كلما قمت بعمل أشك في صحته كانت تطول عندي وتطول. وكمن يتبين الشيء وهو على الحافة الكائنة بين اليقظة والمنام، أدركت بذهول قليل أني قطعا لم أعد نفس الشخص. إن علاقتي بسانتي غيرتني، لم أعد أنا، يحيى لم يعد يحيى، أصبح يحيى الذي يريد سانتي وبلا إرادة لسانتي لا يكون يحيى، لا أكون أنا، لا أكون حيا، لا أستطيع أن أحيا إذا لم أردها.
وخفت.
أحسست بأخطر ما يمكن أن يحس به إنسان، أحسست بأن حياتي ووجودي كله يعتمد على شخص آخر، أو على رغبتي في هذا الشخص الآخر، تصور حين تحس أن حياتك أنت تعتمد على استجابة شخص آخر لك، وكأنكما جنينان يعتمدان في حياتهما على حبل سري واحد! ماذا يحدث لو أراد الشخص الآخر أن يستقل بوجوده؟ ماذا يحدث لو لم يستجب هذا الشخص الآخر لرغبتك ونفر منك؟ ألا يكون هذا يقطع حبل حياتك نفسها؟ يقتلك؟
أحسست بالخطر، بل بأغرب خطر تعرضت له حياتي منذ وعيت. خطر أخطر ما فيه أن شعورك به يزيد الأمر خطورة؛ لأنه يزيد من ارتباكك ويزيد من عدم ثقتك بنفسك وذوبان شخصيتك، ويزيد من خوفك على علاقتك بهذا الشخص الآخر، وبهذا يزيد من احتمال أن تنقطع علاقتكما؛ فأحيانا لا تنقطع علاقتنا بالآخرين إلا لخوفنا من أن تنقطع.
روعني بأني أدركت أخيرا أن علي أن أواجه ذلك الأمر الذي كنت دائما أريد أن أتجاهله. أدركت أني خائف خوف الموت أن تنقطع علاقتي بسانتي، وأني في سبيل هذا مستعد أن أفعل أي شيء، والمصيبة أني قد أفعل أي شيء وكل شيء، ومع هذا تنقطع علاقتي بسانتي؛ لأن علاقتي بها لم تكن تتوقف على بطولات أو تضحيات أقوم بها، ولكنها كانت تتوقف عليها هي وعلى مزاجها ورأيها. والرأي والمزاج أشياء لا يمكن لشخص غير صاحبها أن يتحكم فيها، بل حتى صاحبها نفسه أحيانا لا يستطيع أن يتحكم فيها. أليس من المعقول إذن أن يتولاني الرعب حين أحس بأن حياتي، بل ما هو أكبر وأغلى من حياتي، بالعالم نفسه بالنسبة إلي، كل ذلك متوقف على مزاج سانتي، بل حتى لا يتوقف على مزاجها وإرادتها وإنما على قوى وعوامل غامضة لا يمكن التنبؤ بحكمها أو بما يؤدي إليه؟
ألقيت الخطاب في الصندوق وعدت إلى البيت، وطوال الطريق كنت أصمم وأقسم وألح على نفسي وأشتمها وألعنها وأطلب من إرادتي كلها أن تتجمع، ومن كياني كله أن ينتفض، ومن ماضي وذكرياتي وكل شيء يخصني في هذا العالم أن يأتي لنجدتي ويساعدني لأستطيع أن أتخلص من علاقتي بها، أو على الأقل لأقاوم علاقتي بها، أقاومها وكأني أقاوم طاعونا أبيض غير مرئي يتقمص روحي.
وكالعادة وكما كان يحدث دائما، أحسست مثلما كنت أحس في كل مرة أدرك فيها شيئا كهذا أني قوي قوى لا حد لها، وأني أستطيع أن أقاوم أي سانتي فأمحو صفحتها من نفسي مهما كانت صفحتها، وأتحرر - أجل - أتحرر، وأعيش - أجل - أعيش؛ فكيف أكون حيا إذا كانت إرادتي في أن أحيا ملغاة، وإرادة شخص آخر - ولتكن سانتي - هي التي تقرر مصير حياتي؟
Shafi da ba'a sani ba