قال وقد بدأ يستيقظ ويفرك عينيه ويتثاءب: تفرج. - امتى؟ - الأسبوع الجاي لازم تفرج.
وضحكت في تهكم، وسألني عما يضحكني، فقلت: إن الفلاحين في بلدنا المؤمنين بالله والمتوكلين عليه توكلا تاما يدبرون مستقبلهم بنفس هذه الكلمة: تفرج، فما فائدة أن نكون ثوارا إذن وعلماء ثورة؟
وكانت راقية زوجته قد أحضرت لنا الشاي في كوبين، كل كوب منهما شكل، وجلست تستمع لحديثنا برهة وتحاول المشاركة فيه ولو بهز الرأس.
ولكن يبدو أنها وجدته يدور في نفس الدائرة فقامت إلى المطبخ.
وفتح شوقي فمه فتحة واسعة حتى خفت أن يتمزق صدغه، وتثاءب في صوت كصوت صفارات البواخر وقال: فتحي اتمسك.
وتثاءب مرة أخرى.
وأعدت عليه السؤال فعاد يؤكد لي أن فتحي سالم قبض عليه من يومين، ولأمر ما لم أستطع أن أتخيل فتحي سالم مقبوضا عليه، كاتب القصة المرهف، وعينيه الخضراوين الواسعتين وطريقته في نطق المصطلحات الطبية حين يناقشني ويريد أن يشعرني بالرابطة الخاصة التي تربطني به؛ إذ كان مثلي يكتب ويعمل في المجلة، وكان طبيبا هو الآخر، وإن كنت قد تخرجت قبله بعامين. لم أستطع أبدا أن أصدق أو أتصور أنه اعتقل أو قبض عليه. كان خجولا رقيقا طيبا، ذكاؤه حاد رفيع كذكاء الأنثى، وفكاهاته كثيرة ناعمة تكاد تذوب قبل أن تلتقطها الآذان، وها هم قد أمسكوه، وكان السؤال هو: لماذا فتحي سالم بالذات، وهناك من هم أخطر منه وأكثر فائدة؟
وقال شوقي وهو يكاد يتركني ويعود للنوم: أنت عايزهم يفكروا زيك؟ مفيش منطق عندهم، كله زي بعضه، إحنا متصورينهم أذكى مما هم بكثير.
ولم أوافقه أبدا على كلامه؛ فهم فعلا أذكياء وأقوياء، وبعضهم يحس أنه بما يفعله إنما يهب نفسه لأشرف عمل. ولكننا في معركة دامية معهم، والمعركة دائرة في خندق سفلي لا يحس به أحد من السائرين في الشارع أو راكبي الترام أو من يملئون المتنزهات والقهاوي والسينمات. مجموعة صغيرة من الناس تحيا في حماس ملتهب، اجتماعات وقرارات وأوراق صغيرة شفافة ، ورونيوهات ومواعيد محكمة بدقة ولها مواعيد احتياطية وأسماء غير حقيقية، وأحقاد وخلافات وتناحر واتهامات وبطولات. مجموعة لا تراها العين العادية ولا تلقاها، ولكنك تسمع بها وترن أسماؤها في أذنك رنينا غريبا، مجموعة لا تراها إلا عيون مجموعة أخرى، وظيفتها أن ترى الشرارة قبل أن تصبح نارا، وتخمد النار لو اشتعلت النار. خندق سفلي، والناس تغدو فوقه وتروح، والمعركة لا حس لها ولا صوت. خطى تترسم خطى، وإشاعات تضلل إشاعات، وذكاء يقدح ذكاء، وخيانات للجانبين ومن الجانبين. عالم سفلي يموج بأصوات عالية غير مسموعة، وحركة دائبة غير ملحوظة، وبراكين غير مرئية تتفجر وتهدد ويعود غيرها يتفجر، وبين الحين والحين يختفي واحد ويجيء الخبر ثاني يوم: «اتمسك.» أو يجيء الخبر ثالث يوم: «أفلت وساب.»
وعقب كل خبر كهذا تتبلبل الخواطر وترتفع الأسماء وتهوي كالأسعار، حتى ليلتبس الأمر على الرائي في الظلام، وهو لا يلحظ فارقا كبيرا بين الخائن والشريف وبين الانتهازي وصاحب المبدأ، ويعشش الشك حتى ليشك الواحد أحيانا في نفسه؛ فالظلام يضاعف الشك، والشك يقطر في العيون ظلاما. وكنت أعتقد أن التصرفات المهتزة التي تصادفني سببها مجرد شك أكثر من اللازم في الناس، الشك الذي يورث الرعب، ولم أكن قد آمنت بعد أن الشك المركب إذا طال بقاؤه في النفس يأكلها ويهرؤها كماء النار، وأن نفوسنا كأكبادنا ممكن أن تصاب بالتضخم والتليف وتفقد إحساسها الإنساني وطيبتها ونكهتها، وتمرض وتموت، ويظل صاحبها يحيا بلا نفس، وما أبشع أن يحيا الإنسان بلا نفس عملها الأساسي أن تتذوق طعم الحياة، وتحبب صاحبها في كل ما هو حي وتحبب كل الأحياء فيه.
Shafi da ba'a sani ba