بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي عمت نعمته فعم وجوب شكرها، وجلت عظمته فعم وجوب الخضوع لعالي قدرها، وبهرت حكمته فوجب اعتقاد حسن نهيها وأمرها، فمن معترف بلسان الحال والمقال، ومقر بلسان الحال وإن أنكر بلسان الجدال، وسبحان الله عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال، الذي دل العقول في بديع صنعته على عظيم علمه وباهر حكمته في جميع الأقوال والأفعال، وأشهد أن لا إله إلا الله إقرارا بوحدانيته حميدا مجيدا، وإيمانا بأن الله لا إله إلا هو قائما بالقسط ببريته، عزيزا حكيما.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين} وصلى الله على مصطفاه من بريته أبي القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم وسلم، وبارك وتحنن وترحم، وعلى آله الذين جعلهم أمانا لهذه الأمة من الضلال واصطفاهم، وأورثهم الكتاب وعلمهم الحكمة واجتباهم.
أما بعد..
Shafi 1
فإن هذا البيان الصريح والبرهان الصحيح في مسألة التحسين والتقبيح يبين ماهية المسألة وفائدتها، ويشير إلى عظيم خطرها وعموم التكليف بها، ويوضح موضع الاتفاق والاجتماع، وموضع الاختلاف ومحل النزاع، ويكشف عن معنى هذين اللفظين بما يرادفهما في المعنيين، ثم يذكر بشطر من البراهين العقلية والنقلية، والأدلة السمعية القاضية بأن المسألة عقلية وسمعية، وأن الحكم بمثل توحيد الله حسن في نفس الأمر من قبل الوحي والارسال، والحكم بخلاف ذلك قبيح في جميع الأحوال لينبه على الاستدلال بأمثال ذلك مما لا يحصى، وعلى أن الحكم بها جلي لا يدق مهمة ولا يخفى، حاكيا من آثار أهل البيت الربانيين الذين يهدون بالحق وبه يعدلون، وسائر العلماء الذين يهتدون بهديهم وعليهم يعتمدون، ومن كلام بعض مخالفيهم الذين سلكوا في المسألة طريق الانصاف، وتجنبوا طريق الزيغ والاعتساف، فأما أهل البيت فهم الشهداء على الناس، وبكلامهم يظهر الحق ويبطل الالباس، وأما سائر العلماء فلأنه كم من معرض عن استماع الحجة إلى أن تعزى إلى بعض أئمته وأهل مقالته، وكم من نافر عن قبول الحق إلى أن يعلمه مذهبا لبعض أسلافه وأهل نحلته، فأردنا بما نقلناه عنهم في ذلك إرداة صحيحة، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((الدين النصيحة)).
فصل
فأما الماهية: فقد قال أصحابنا للقبيح حدان:
حقيقي، ورسمي.
فالحقيقي: هو الفعل الذي ليس للقادر عليه المتمكن من الاحتراز منه أن يفعله.
Shafi 2
قلت: وهذا مدلول قول الله تعالى: {قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق} وقوله: {قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء} وقوله:{ما كان لله أن يتخذ ولدا} وقوله: {ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا} ونحو ذلك.
وأما الرسمي: فقال في المنهاج: هو ما إذا فعله القادر عليه استحق الذم على بعض الوجوه إلا في حالة عارضة.
قال أصحابنا: وأما الحسن فله حدان:
حقيقي، ورسمي:
فالحقيقي: هو الفعل الذي للقادر عليه المتمكن من الاحتراز منه أن يفعله، هذا عند بعضهم.
وأما الرسمي فهو: الفعل الذي ليس للاقدام عليه تأثير في استحقاق الذم، وقد حده الإمام المهدي عليه السلام بأنه ما ليس بقبيح ولفاعله فيه غرض صحيح.
وقال في المنهاج: هو ما إذا فعله المتمكن من العلم بصفته لم يستحق الذم لوجه.
قال: والحسن إنما يحسن لحصول غرض فيه وتعريه عن سائر وجوه القبح، هذا ما يقوله أبو عبد الله البصري وعليه الجمهور.
وأما الشيخان: فعندهما أن الحسن أيضا يحسن لوقوعه على وجه، واعترضه الجمهور بأنه يلزم حسن الكذب الذي فيه جلب نفع أو دفع ضرر، ويمكن الجواب بأنهما يشرطان تعريه من وجوه القبح.
قلت: وأما المهدي عليه السلام فقد صرح بمثل مقالة أبي الهذيل بحسن الكذب الذي فيه جلب نفع أو دفع ضرر.
Shafi 3
قال الفقيه قاسم: والذي يصححه المتأخرون ما ذكره الشيخ أبو عبد الله البصري أنه لا وجه للحسن لمكانه بكونه حسنا، وإنما يحصل بحصول غرض فيه، وتعريه عن سائر وجوه القبيح، وقد ذكر الفقيه حميد بن أحمد أنما ذكره أبو عبد الله من حصول الغرض يرجع إلى ما ذكره الشيخان من الوجوه، فقد عاد الأمر إلى الوفاق من حيث المعنى.
وأما ماهيتهما عند الأشاعرة: فالقبيح مانهي عنه شرعا، والحسن بخلافه.
فصل
وأما فائدتها: فاعلم أن هذه المسألة هي قطب رحى العدل وإليها يرجع من مسائله كل فرع وأصل.
قال الإمام الناطق بالحق يحيى بن الحسين الهاروني عليه السلام: اعلم أن أرباب التعديل والتجويز على أن الله لا يفعل القبيح.
وقال الإمام الهادي لدين الله أحمد بن يحيى عليه السلام: إنما وصفها السيد مانكديم رحمة الله عليه في شرح الأصول بأنها مسألة كبيرة لأنها قاعدة الخلاف بيننا وبين المجبرة في جميع مسائل العدل، ولو وافقونا فيها وافقونا في سائر مسائل العدل.
فصل
وأما الإشارة إلى عظيم خطرها وعموم التكليف بها فذلك يظهر عند ذكر أدلتها وقد قال الإمام المهدي عليه السلام في (الغايات): واعلم أن العمل بهذه المسألة من فروض الأعيان؛ لأنه ينبني عليها العلم بعدل الله، وحكمته فهذا أعني العلم بعدل الله وحكمته في أوامره ونواهيه، واعتقاد وجوب شكره وسائر ما يدرك بالعقل حسنه، وقبح الظلم والكذب وسائر ما يدرك العقل قبحه سر المسألة وفائدتها وثمرة الاختلاف فيها وغايتها.
Shafi 4
فصل وأما بيان موضع الاتفاق والإجماع فقال في (الفصول) و(شرح): المقاصد أنهم اتفقوا على حسن الشيء وقبحه بمعنى صفة الكمال والنقص كالعلم والجهل، وبمعنى الملائمة للغرض وعدمها كالعدل والظلم.
قال في شرح المقاصد: وبالجملة كلما يستحق عليه المدح والذم في فطر العقول ومجاري العادات فإن ذلك يدرك بالعقل ورد الشرع أم لا بلا نزاع.
وأما محل النزاع ففي تعليق الشارع المدح والثواب لحكمته بما هو حسن في علمه سواء أدرك العقل ذلك كالعدل والإحسان أم لم يدركه كصوم آخر يوم من رمضان، وفي تعليق الذم والعقاب لحكمته بما هو قبيح في علمه سواء أدرك العقل ذلك كنحو الظلم والعدوان أم لا كصوم أول يوم من شوال، وأئمتنا عليهم السلام وموافقوهم يثبتون الحكمة لله لفظا ومعنى كما أثبتها لنفسه في كتابه الكريم وعلى ألسنة رسله عليهم أفضل الصلاة والتسليم، والمخالفون لا يثبتونها ويقولون لم يعلق الشارع المدح والثواب ولا الذم والعقاب بما هو حسن ولا بما هو قبيح؛ لأن أفعاله تعالى عندهم لا لغرض ولا لعلة البتة.
قال القرشي رحمه الله في (المنهاج): الخصوم قد التزموا معنى العبث في حقه تعالى وامتنعوا من إطلاق العبارة، وزعموا أن ذلك لا يقبح منه تعالى على مثل كلامهم في الظلم وغيره.
Shafi 5
قلت: ولا يمكنهم إثبات الحكمة لله مع نفيهم الغرض في أفعاله وأحكامه فلا ينفون عنه الظلم ولا الجور ولا غيرهما من القبائح، والعدلية جميعا ومن وافقهم ينفون عنه ذلك كما نفاه عن نفسه في محكم كتابه وعلى ألسنة رسله صلوات الله عليهم وسلامه، والذي يدل على أن مراد المثبتين للتحسين والتقبيح إثبات الحكمة لله في أفعاله من كلام أئمتنا ومن وافقهم في ذلك من سائر العلماء ما نحكيه عنهم بألفاظهم، وعلى أن مراد المخالفين لهم نفي الحكمة عن الله سبحانه عما يقولون ما نحكيه عنهم بألفاظه.
قال الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين رضوان الله عليه ورحمته في (الأحكام): يجب على من أراد التخلص من الهلكة والدخول في باب النجاة أن يعلم أن الله عز وجل عن كل شأن شأنه عدل في جميع أفعاله، وأنه بريء من مقالة الجاهلين، متقدس عن ظلم المظلومين، بعيد عن القضاء بالفساد للمفسدين، متعال عن الرضا بمعاصي العاصين، بريء من أفعال العباد غير مدخل لعباده في الفساد، ولا مخرج لهم من الخير والرشاد، وكيف يجوز ذلك على حكيم أويكون من صفة رحيم.
وقال في كتاب معرفة الله من العدل والتوحيد: وذلك أنه من فعل شيئا من ذلك أو أراده أورضي به ليس بحكيم ولا رحيم.
وقال السيد الإمام الناطق بالحق عليه السلام: قد قامت الدلالة أنه لا ينهى إلا عما يكره ولا يكره إلا المعاصي بحكمته.
Shafi 6
وقال الإمام يحيى بن حمزة عليه السلام في (الشامل الحكيم في مصطلح المتكلمين): هو الذي لا يفعل القبيح ولا يخل بالواجب، وأفعاله كلها حسنة، والمقصود من الحكمة يحصل بالكلام في شأن هذه الأمور الثلاثة فلا جرم رتبنا الأدلة على الحكمة -يعني دلالة الحسن والقبيح- وقال عليه السلام: على هذا يكون قولنا حكيم مطابق لقولنا عدل.
وقال المهدي عليه السلام في (الغايات) في الموضع الثاني من كتاب العدل وهو في حكاية المذهب وذكر الخلاف في كونه عدلا حكيما ما قد ذكرناه من قوله عليه السلام: واعلم أن العلم بهذه المسألة من فروض الأعيان لأنه يبتني عليها العلم بعدل الله وحكمته، وقال عليه السلام حاكيا عنهم في الجواب عن قولنا أن الحكمة تصرفه عن فعل القبيح أنهم قالوا: أنتم الآن في الاستدلال عليها-يعني على الحكمة- قال: أورده الفخر الرازي فتبين أن النزاع في إثبات الحكمة له تعالى كما نقول أو نفيها عنه كما يقولون.
قال السيد محمد بن إبراهيم في كتاب (الإيثار): وليس النزاع إلا في نفي الحكمة عن علمه تعالى لا عن معارف عقول العقلاء، قال: والخصم لا يجوز أن يعلل شيء من أفعاله بحكمة، بل يجب عنده القطع بخلوها عن ذلك، بل يجب القطع بأن ذلك هو الأولى بممادح الرب تعالى.
Shafi 7
قال: ومعناها -يعني الحكمة-: العلم بأفضل الأعمال والعمل بمقتضى ذلك العلم، مثاله: العلم بأن الصدق أولى من الكذب، والعدل أولى من الجور، والجود أولى من البخل، والإحسان أولى من الإساءة، ولا خلاف في تسمية هذا حكمة في حق الحكماء والعلماء من الخلق، وإنما ادعى بعض الغلاة أن مثل ذلك محال في حق الرب عز وجل.
وقال في شرح الصحائف تابعا لطريقة الإيضاح: والحق في هذه المسألة أن أفعال الله وأحكامه لا تتعلق إلا بما هو أحسن وأولى لنفسه أو بالنسبة إلى الغير؛ لأنها لو تعلقت بما لا يكون أحسن وأولى مطلقا مما يكون أحد الطرفين أولى فحصول ذلك الشيء إن لم يكن أولى به كان فعله نقصا وسفها لأن ما لا يكون أولى به لا في نفس الأمر وبالنسبة إلى الغير يكون فعله عبثا وسفها وهو القادر الغني الحكيم، وساق كلامه إلى أن قال: وأيضا كيف يليق بالقادر الحكيم الغني أن يترك الأولى ويفعل الأدنى وامتناع هذا ضروري...إلى آخر ما قال.
وقال في (الرسالة السعدية): ذهبت المعتزلة إلى أن الله عدل حكيم لا يفعل القبيح، ومنعت الأشعرية من ذلك، وأسندوا القبائح كلها إلى الله تعالى.
وقال ابن القيم تابعا لطريقة الإيضاح: وسر المسألة أن من قال بحكمة الله قال بالتحسين والتقبيح، ومن لم يقل بذلك وأن أفعال الله لا لغرض قال بأن لا حسن في الأفعال ولا قبيح.
Shafi 8
فكل هذه النصوص التي ذكرناها من هؤلاء العلماء تشهد أن النزاع بيننا وبين مخالفينا في هذه المسألة محله في إثبات الحكمة لله في أفعاله وأحكامه التي يتعلق بفاعلها الذم والعقاب والمدح والثواب.
قال السيد محمد بن إبراهيم: وسبب وقوع الخلاف في ذلك أن قوما ممن أثبت الحكمة غلوا في ذلك وأوجبوا معرفة العقول للحكمة بعينها على جهة التفصيل، فرد عليهم طائفة من الأشعرية وغلوا في الرد وأرادوا حسم مواد الاعتراض بنفي التحسين العقلي، واستلزم ذلك نفي الحكمة فتجاوزوا الحد في الرد، ووقعوا في أبعد مما ردوه.
قلت: والذي عليه من أئمة أهل البيت عليهم السلام وسائر العدلية وهو الحق إثبات الحكمة لله تعالى سواء أدرك العقل ذلك أم لم يدركه، قال تعالى: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} وقد قال القاسم بن إبراهيم عليه السلام في جواب الملحد: واعلم أنه لو لم يعرف علل ذلك كان جائرا وذلك أنه في بدء الأمر إذا أقمت الدلالة على أنه حكيم في نفسه وفعله، ثم دللت على أن الكل حكمة استغنيت عن معرفة علله.
Shafi 9
قال ابن القيم: فحسب العقول الكاملة أن تستدل بما عرفت من حكمته على ما غاب عنها، قال: وما يخفى على العباد من معاني حكمته في صنعه وإبداعه وأمره وشرعه فيكفيهم فيه معرفتهم بالوجه العام أن يضمنه حكمة بالغة وإن لم يعرفوا تفصليها، وأن ذلك من علم الغيب الذي استأثر الله بعلمه، فيكفيهم في ذلك الاستنقاد إلى الحكمة العامة الشاملة.
وقال في الكاشف في تفسير قوله تعالى:{ الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام}: وأما الداعي إلى هذا العدد دون سائر الأعداد فلا شك أنه داعي حكمة لعلمنا أنه لا يقدر تقديرا إلا بداعي حكمة وإن كنا لا نطلع عليه ولا نهتدي إلى معرفته، ومن ذلك تقدير الملائكة الذين هم أصحاب النار تسعة عشر وحملة العرش ثمانية، والشهور اثنا عشر، والسموات سبعا، والأرض كذلك، والصلوات خمسا وأعداد النصب والحدود والكفارات وغير ذلك، والإقرار بدواعي الحكمة في جميع أفعاله وبأن ما قدره حق وصواب هو الإيمان، وقد نص عليه في قوله: {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا} ثم قال: {وما يعلم جنود ربك إلا هو}.
Shafi 10
والجواب أيضا في أن لم يخلقها في لحظة وهو قادر على ذلك، وقال في إرشاد العقل السليم لأبي السعود في تفسير قوله: {كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم}أن الحكيم لا يكاد يفعل فعلا إلا وفيه حكمة بالغة وإن غفل عنها الغافلون ولم يتوصل إلى معرفة كنهها العاقلون.
وقال في الرسالة السعدية: ذهبت المعتزلة إلى أن الله يفعل لغرض وغاية وحكمة مخصوصة ومعقولة لنا أو خفية عنا، لكن لا يفعل إلا لحكمة وغرض.
وقالت الأشعرية: إن الله تعالى يستحيل أن يفعل شيئا لغرض وغاية البتة فلم يخلق الله تعالى العين للإبصار والأذن للسمع ولا الحواس للإدراك، ولا الأغذية للانتفاع بها، ولا الأدوية لإزالة الضرر بها، ولم يخلق النار للإحراق ولا الشمس للإشراق، ولا الغذاء للتغذي به، ولا الملاذ والفواكه للالتذاذ بها، وبالجلمة لم يخلق شيئا لغاية البتة.
وهذا القول باطل لوجوه:
الأول: أن يلزم منه العبث في فعله تعالى لأنه لا معنى للعبث إلا الفعل الخالي من الغاية والغرض وهو محال على الله تعالى.
والثاني: أنه يلزم منه الظلم في فعله لأنه إذا كلف العبد لا لغرض الإفادة وألزمه مشاق التكليف لا لنفعه في الدنيا ولا في الآخرة فذلك محض الظلم وهو منزه عن ذلك.
Shafi 11
الثالث: أنه يلزم منه إبطال دليل النبوة وذلك يوجب الكفر، بيان ذلك: أن دليل النبوة مبني على مقدمة هي أن الله تعالى خلق المعجز على يد المدعي للرسالة لغرض التصديق لأنه لو فعله لا لذلك لم يكن دليلا على التصديق.
قال: فإذا انتفى الغرض عندهم استحال العلم بصدق مدعي النبوة.
واعلم أن الأشاعرة التزموا حكمين أبطلوا بهما مقدمة دليل النبوة معا:
الحكم الأول: أنهم جوزوا وقوع القبيح من الله تعالى فلم يمتنع منه حينئذ إضلال الخلق فلا يلزم صدق من صدق الله تعالى لجواز أن يصدق الكذاب.
الحكم الثاني: أنهم قالوا إن الله تعالى لا يفعل لغرض ودليل النبوة أن الله تعالى فعل المعجز لأجل التصديق وكل من صدق الله تعالى فهو صادق، والمقدمة الثانية تبطل بالحكم الأول، والمقدمة الأولى تبطل بالحكم الثاني.
Shafi 12
الرابع: أن الله تعالى قد نص في كتابه العزيز على ثبوت الغرض في أفعاله فقال عز من قائل: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدوني} {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا} {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين} {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا } {ولتجزى كل نفس بما كسبت} و{لتجزى كل نفس بما تسعى} {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } إلى غير ذلك.انتهى.
فصل
والخلاف في كون العقل حسنا أو قبيحا جار في مثل: هذا عمل صالح أو سيىء، وهذا طيب أو خبيث، وهذا معروف أو منكر، وهذا أعلى أو أدنى، وهذا خير أو شر، وهذا محبوب لله أومكروه له، وهذه حسنة أو سيئة، وهذا رشد أو غي، وهذا ضلال أو هدى ونحو ذلك، فالمثبتون للصفة في الفعل قبل ورود الشرع يثبتون بهذه الأفعال هذه الأوصاف جميعها، والنافون لا يثبتون لها شيئا من ذلك.
Shafi 13
فصل واعلم أن لفظ القبيح وما يرادفه والحسن وما يرادفه ألفاظ موضوعة لمعان ثابتة، وذلك المعنى معلوم عند الواضعين له لا خلاف بين العقلاء من أهل اللغة وغيرهم أن قولهم هذا قبيح وهذا حسن أو هذا حق وهذا باطل أو نحو ذلك من الألفاظ المرادفة لهما المؤدية لمعناهما كلام مفيد، وليس من اللفظ المهمل الذي لا يفيد، وإذا كان مفيدا فلا يخلو إما أن يفيد المعنى المعقول منهما أولا، والثاني باطل بالإجماع فتعين الأول وبه يتبين المطلوب، وهذا الحكم لازم لجميع الألفاظ اللغوية كلفظ قادر، وعالم وخالق لأن أهل اللغة إنما يضعون الأسماء للمعاني، وهذا أمر ظاهر لا ينكره من له أدنى بصيرة؛ فإذا ثبت ذلك فلا يكون خطاب الشارع مطابقا لذلك إلا وهو كذلك، وإذا ثبت ذلك فقد ثبت له صفة الحسن والقبيح من قبل ورود الخطاب، وهذا مما لا خلاص منه إلا بالقول بأن للأفعال صفات تقع عليها إذا اقتضت أن يؤمر بحسنها وينهى عن سيئها ويخبر عن حسنها بما هو عليه، وعن قبيحها بما هو عليه، فيكون للخير مخبر ثابت في نفسه فعلم العقل بأن الفعل حق حسن، وضده باطل قبيح، ثم علمه بأن الشارع هدى إلى الحق وما هو في نفسه حسن، ونهى عن القبيح وما هو في نفسه باطل طريق له إلى علم من هو أحق بأن يتبع إذا هدى إليه كما قال تعالى: {أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى} وهذا أيضا من الطرق إلى تصديق الرسل وأنهم جاءوا بالحق من عند الله، ولهذا قال بعض الأعراب وقد سئل بما ذا عرفت أن محمدا رسول الله؟ فقال: ما أمر بشيء فقال العقل ليته نهى عنه، ولا نهى عن شيء فقال العقل ليته أمر به، قال الله تعالى: {أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب}.
وأخرج الماوردي، وابن السكري، وابن مندة ، وأبو نعيم في معرفة الصحابة عن عبد الملك بن عمير قال: بلغ أكتم بن صيفي مخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأراد أن يأتيه فأتى قومه فانتدب رجلان فأتيا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالا: نحن رسل أكتم نسأل من أنت؟ وبم جئت به؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنا محمد بن عبد الله وأنا عبد الله ورسوله ثم تلا عليهم: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} إلى:{ تذكرون})) قالوا: اردد علينا هذا القول فردد عليهم حتى حفطوه فأتيا أكتم فأخبراه، فلما سمع الآية قال: إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن ملائمها فكونوا في هذا الأمر رأسا ولا تكونوا فيه أذنابا، وكونوا فيه أولا ولا تكونوا فيه آخرا.
Shafi 15
ورواه الأموي في مغازيه وزاد: فركب متوجها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فمات في الطريق، قال: ويقال نزلت فيه هذه الآية: {ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله...} الآية.
قال في المحجة البيضاء: لو لم يتقدم لنا العلم بقبح الأفعال في العقل لم نعلم القبيح بالسمع لأن الله تعالى إذا أخبرنا أن الكذب قبيح، وأن الظلم قبيح لم نفهم معنى القبيح لأنه لم يتقدم لنا العلم بمعناه في العقل، وكان يجب أن لا نعلم بالعقل أنه تعالى لا يفعل القبيح لأنا لا نعلم بالعقل معنى القبيح ومتى لم نعلم ذلك جوزنا عليه الكذب، والأمر بما فيه معنى الظلم ومعنى الكذب والتلبيس والتعمية، والنهي عما فيه معنى الحسن فلا نعلم أنما أمر به حسن ولا أنما نهى عنه قبيح، فالقول بأن القبيح بالشرع يعود على أصل القبيح المعلوم بالشرع بالنقض والإبطال، وكل قول بثبوت حكم لذات يعود على أصل ثبوتها بالنقض والإبطال فهو باطل.
Shafi 16
فصل في بيان أن شفاعة القول ينفي التحسين والتقبيح قد أوجبت موافقة أكثر المخالفين لنا في هذه المسألة بخصوصها، ولهذا قال ابن القيم: وحسبك بمذهب فسادا التزامه جواز ظهور المعجزة على يد الكاذب، وأنه ليس بقبيح واستلزامه التسوية بين التثليث والتوحيد في العقل، وأنه قبل ورود النبوة لا يقبح التثليث وعبادة الأصنام ولا تشبيه المعبود ولا شيئا من أنواع الكفر ولا السعي في الأرض بالفساد، ولا يقبح شيء من أنواع القبائح أصلا، وقد التزم النفاة ذلك وقالوا: إن هذه الأشياء لم تقبح عقلا وإنما جهة قبحها السمع فقط، وأنه لا فرق قبل السمع بين ذكر الله والثناء عليه وحمده وبين ضد ذلك، ولا بين شكره بما يقدر عليه العبد وبين ضده، ولا بين الصدق والكذب، والعفة والفجور والإحسان إلى العالم والإساءة إليهم بوجه ما، وإنما التفريق بالشرع بين متماثلين من كل وجه، وقد كان تصور هذا المذهب على حقيقته كافيا في العلم ببطلانه وأن لا يتكلف رده، ولهذا رغب عنه فحول الفقهاء والنظار من الطوائف كلهم فأطبق أصحاب أبي حنيفة على خلافه وحكوه عن أبي حنيفة نصا، واختاره من أصحاب أحمد أبو الخطاب وابن عقيل وأبو يعلى الصغير، ولم يقل أحد من متقدميهم بخلافه ولا يمكن أن يتقبل حرف واحد يوافق النفاة، واختاره من أئمة الشافعية الإمام أبو بكر محمد بن إسماعيل القفال الكبير وبالغ في إثباته وبنى كتابه (محاسن الشريعة) عليه وأحسن فيه ما شاء، وكذلك الإمام سعيد بن علي الزنجاني بالغ في إنكاره على أبي الحسن الأشعري القول بنفي التحسين والتقبيح وأنه لم يسبقه إليه أحد، وكذلك أبو القاسم الراغب، وكذلك أبو عبد الله الحليمي وخلائق لا يحصون، وكل من تكلم في علل الشرع ومحاسنه وما تضمنه من المصالح ودرء المفاسد فلا يمكنه ذلك إلا بتقرير الحسن والقبح العقليين؛ إذ لوكان حسنه وقبحه بمجرد الأمر والنهي لم يتعرض لإثبات ذلك لغير الأمر والنهي فقط، ولا يصح أن نفتح الكلام في القياس وتتعلق الأحكام بالأوصاف المناسبة المقتضية لها دون الأوصاف الطردية التي لا مناسبة فيها فيجعل الأول ضابطا للحكم دون الثاني إلا على إثبات هذا الأصل فلو تساوت الأوصاف في أنفسها لانسد باب القياس والمناسبات والتعليل بالحكم والمصالح ومراعاة الأوصاف المؤثرة دون الأوصاف التي لا تأثير لها.
فصل
قال في (الأساس): أئمتنا وموافقوهم ولا يقبح الفعل إلا لوقوعه على وجه من الظلم ونحوه، ثم قال أيضا أئمتنا وموافقوهم ويحسن الفعل إذا عري عن وجه القبح.
وقالت الأشاعرة: لا يقبح القبيح إلا للنهي عنه، ولا يحسن الحسن إلا لعدم النهي عنه.
قال الإمام المهدي أحمد بن يحيى رضوان الله عليه وسلامه: قد اختلف الناس في جهة قبح القبيح المقتضي لحسن الذم أو العقاب على خمسة أقوال.
قال أكثر البصرية: إنماقبح الفعل لوقوعه على وجه من كونه ظلما أو كذبا أومفسدة، فالأولان وجها قبح عقليان، والثالث هو وجه قبح القبيح الشرعي.
Shafi 18
قال: والقبائح التي تعلم بالعقل هي الظلم والكذب والعبث، وتعظيم من لا يستحق التعظيم، واعتقاد الجهل وإرادة القبيح، وإن كان العلم بها متفاوتا فالعلم بقبح الثلاثة.
الأول: معدود في كمال العقل دون سائر القبائح العقلية.
قال: وقالت الأشعرية: بل للنهي، وقال بعض المجبرة: بل لكون الفاعل مملوكا مربوبا.
قال: والأقرب عندي أن هذا القول من تمام القول الأول، وليس بقول مستقل.
قال: وقالت البغدادية: بل لعينه.
قال: والأقرب عندي أنه كقولنا وأن البغدادية لا يقولون أن الظلم إنما قبح لكونه أكوانا فإن الانصاف أكوان كما أن الظلم أكوان، فمن البعيد أن يعللوا بذلك، ومن البعيد أيضا أن يقصدوا أنه قبح لكونه هذه العين؛ إذ معنى ذلك لكونه ليس غيره، وإذا كان معناه وكان هو علة القبح لزم أن يقبح الحسن لكونه ليس غيره، وهذا لا يخفى على من له عقل فضلا عن علماء ذوي بصائر.
قال: وإنما أرادوا ما أردناه من أن الظلم إنما قبح لكونه ظلما فكأنما عللناه بعينه لما قلنا قبح الظلم لكونه ظلما، فظاهر اللفظ يقتضي أن قبحه معلل بعينه، ولهذا جاءوا بهذه العبارة أعني أنه قبيح لعينه وهم يريدون ما أردنا حيث قلنا لكونه ظلما أي لكونه ضررا عاريا عن نفع ودفع واستحقاق، وهذا هو الذي يتلخص لي من مقصد البغدادية. والله أعلم.
قال: وقالت الأحشيذية بقبح القبيح للإرادة.
Shafi 19
قال عليه السلام: والتحقيق عندي: أنهم لا ينازعون في أن قبح الظلم متفرع على وقوعه على وجه مخصوص، ومتفرع على الإرادة لأنه لا يقع على ذلك الوجه إلا بها، فالقبح مترتب على كل واحد منهما، وإنما الخلاف بيننا وبينهم في أولية نسبة اقتضاء القبح هل إلى الوجه أم إلى الإرادة؟ ولا طائل تحت هذا الخلاف، لكن الأرجح ما ذكره أصحابنا من أنه إنما قبح الفعل لوقوعه على وجوه واعتبارات فإنه إنما قبح الظلم لكونه ظلما أي لكونه ضررا عاريا عن نفع ودفع واستحقاق، والكذب إنما قبح لكونه كذبا؛ إذ متى علمنا الفعل واقعا على الوجوه التي ذكرناها من الظلم والكذب والعبث ونحوها علمنا قبحه، وإن جهلنا ما جهلنا من كونه ملائما للطبع أو منافرا له ومنهيا عنه أوغير منهي أو غير ذلك من الوجوه التي ذكرها الخصم ما علمنا فإنا حينئذ لا نعلم القبح أصلا أصلا، فلما كان العلم بالقبيح يدور على العلم بكونه ظلما وجودا وعدما علمنا أنه المؤثر فيه، وكذلك الحكم في سائر القبائح العقلية أعني أن العلم بقبحها يدور على العلم بالوجوه التي وقعت عليها وجودا وعدما. هذه عبارة المهدي عليه السلام.
Shafi 20
وفي شرح العقيدة المنصورية ما لفظه: وكذلك الكلام في القبائح نحو الظلم والكذب وغيرهما فإن أحدنا متى علم المضرة التي يوصلها الفاعل إلى غيره عارية عن جلب منفعة أو دفع مضرة أو استحقاق أو ظن الوجهين الأولين أو أحدهما، أو ما يقوم مقام ذلك، فإنه يعلم أنها قبيحة، ومتى لم يعلم ذلك ولا ما يقوم مقامه فإنه لا يعلم أنها قبيحة فلولا أن القبيح متعلق بالوجه الذي ذكرناه لما وجب أن نعلم عند العلم بالوجه، وكذلك الخبر فإنا متى علمنا كونه كذبا علمنا كونه قبيحا، ومتى لم نعلم ذلك وما يجري مجراه فإنا لا نعلمه قبيحا فلو كان المقتضي لقبحه سوى ما ذكرنا لجاز أن يعلم ما عدا ذلك ولا يعلم الوجه فيعلم القبيح أو يعلم الوجه ولا يعلم القبيح بأن لا يعلم ذلك إلا من الأمر الزائد؛ لأنه لا يجوز أن يعلم القبيح من دون العلم بوجه القبيح إما على الجملة أو التفصيل، ومعلوم خلافه.
قال في الكاشفة لأبي عبد الله الحسين بن مسلم رضي الله عنه: واعلم أن القبائح العقلية غير جائز في شيء منها أن يعلم قبحه إلا مع العلم بالوجه الذي لأجله قبح، وليس الغرض بذلك أن يعرف أنه الوجه الذي أثر في قبحه فإن ذلك محتاج إلى تأمل ونظر، إنما الغرض في ذلك أنه لا يعرف قبحه إلا مع العلم بما نجعله نحن وجها ومؤثرا فيه.
Shafi 21
فصل فأما الدليل على أن العلم بحسن الإحسان والعدل والصدق، وقبح الإساءة والظلم والكذب حاصل بالضرورة فهو أنهم لا يخالفوننا في وجدان ما نجده في نفوسنا، بل يجدون ذلك في نفوسهم كما نجده نحن، وإنما يخالفون في أن ذلك الموجود في النفس هل هو علم أو غير علم؟ وهل هو علم ضروري أو مكتسب؟ وذلك مما يجوز اختلاف العقلاء فيه؛ لأن طريقه الاكتساب.
فأما من خالفنا في وجدان ذلك من نفسه فمخالفته بطريقة المكابرة والعناد، وبالقول لا بالاعتقاد، فلا اعتبار بمخالفته.
قال أبو عبد الله في (الكاشفة): وإن ذلك لا يوجد إلا نادرا من متعصب لأسلافه ومقلد لمشائخه.
قال السيد ط: الإنسان إذا رجع إلى نفسه عرف الفرق بين الظلم والعدل كما علم الفرق بين السواد والبياض، ويجد نفسه في العلم بهما على سواء.
قال: ولأنا نعلم أن الدهرية والملحدة يعرفون قبح الظلم والكذب كما يعرفون المشاهدات، فلو جاز أن يقال أنهم لا يعرفون هذه الأشياء لجاز أن يقال أنهم لا يعرفون المشاهدات.
قال في شرح (العقيدة المنصورية): وهم لا ينكرون المنهي الشرعي، بل ينكرون المناهي وهم يعلمون قبحها.
Shafi 22