أعظم الأنبياء شأنا وأوضحهم محجة وبرهانا، وأن شريعته هي الشريعة المؤسسة على العدل، الداعية لمكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال، كما سأبينه في الفصل الآتي إن شاء الله - تعالى.
الفصل الثاني
في قابلية الأمة الإسلامية للتمدن أكثر ممن عداها
وذلك أننا إذا اعتبرنا أصول الشريعة الإسلامية نجدها أساسا لتمدن جميع النوع البشري بما اشتملت عليه من الآداب الدينية والعدالة والحث على التمسك بجميع الخصال الحميدة المندوب إليها كل فرد من أفراد الأمة الإسلامية. لكن لما كان غالب العامة مكتفيا عن تلك الأصول بتعلم فرائضه الدينية فقط، وكان الوقوف على معرفة تمام الأحكام الدينية مخصوصا بالعلماء والمتفقهين، كان أكثر العامة يجهل تلك الأصول والقواعد المبنية على العدل، الداعية للتمدن المرشدة لسبل العنايات؛ ولذلك إذا طرأ على مسامعهم أن الحاكم أمر بإجراء أمر ما في البلاد لم يطرأ على مسامعهم من قبل، يتألبون ويهيجون بقولهم: إن هذا شيء مغاير للشرع.
على أن الحاكم العاقل يتحقق أن نظام هذه الأمة لا يتم إلا بإجراء تمام الأصول الشرعية؛ لأنهم قد ينفرون من إجراء بعض المستحبات لعدم معرفتهم بالحقيقة التي ربما يظهر لهم أخيرا أنها غير خارجة عما أمر به الشارع، فكيف إذا أراد الإتيان بأمر عقلي ينكرونه عليه كل الإنكار ورام بثه بين الناس؟!
وفضلا عن ذلك، فإن الحاكم العاقل العادل لا يحتاج في جميع أعماله إلى التحسينات والتقبيحات العقلية؛ لأن الشريعة الإسلامية ما تركت شيئا من الأمور الدينية والدنيوية إلا وحصرته مع بيان تفصيل ما يحسن العمل به وما لا يحسن، ومعلوم أن ما لا يحسنه الشرع لا يحسنه العقل. وقد دونت الأئمة المجتهدون في ذلك كتبا لا تحصى فائدتها. غير أنه لما كانت الإصلاحات الخيرية في البلاد، وبيان أسباب التمدن والتقدم منوطة بالحكام دون العلماء، كانت العامة تنكر كل عمل يأتي به الحاكم إلا بإذن الشارع حتى تطمئن قلوبهم للعمل به كما تقدم، وجب على الحكام الاشتراك مع العلماء لبيان أسباب التسهيلات الشرعية وبث أسباب السعادة وأنوار التمدن شيئا فشيئا؛ لتتمكن التربية الأهلية منهم. على أن آدابهم الدينية وواجباتهم الشرعية كافية للتخلق بالأخلاق الحميدة والتأديب بالآداب الإنسانية والتهذب للعقول البشرية، بخلاف ما هو مشاهد الآن، من غالب المدعين بالتمدن وحب الشرف الإنساني من الأفعال التي تأباها النفوس الإسلامية الشريفة التي تضطرهم إلى اجتنابها آدابهم الدينية وشهامتهم الإسلامية، وأخصها صيانة العرض.
وبالجملة، فإن هذه الأمة قابلة للتمدن أكثر ممن عداها من الأمم؛ لما تأسست عليه شريعتها من العدل الذي هو رأس كل فضيلة، ولاتباعهم الأوامر الإلهية والتمسك بالأصول الدينية الداعية لخير ونجاح الدنيا وثواب الآخرة.
فقد قال وحيد عصره أحمد أفندي فارس في كتاب رحلته المسمى ب «كشف المخبا عن فنون أوروبا» عند ذكره وصف باريس وأحوال الفرنسيس ما نصه: «ومن ذلك أنهم لا يزالون ينقرون عن الحقائق ويودون لو يعلمون كل أمر من نصه، وقد خرقوا في كل علم وبرعوا في كل فن. ومع ذلك فقد عزب عنهم أهم الحقائق، وهو ضرورة وجود الدين لكل من السائد والمسود والرئيس والمرءوس، ولو سلم لهم بأن الكيسين وأهل المعارف والآداب غنيون عنه بما فطروا عليه من حسن الأخلاق أو حسنوا به إملاءهم من مطالعة الكتب، لم نسلم بأن الرعاع الذين هم الجمهور الأعظم في كل البلاد غير مفتقرين إلى دين يردعهم عن الشرور والمعاصي ويحثهم على فعل الخيرات؛ ولولا ذلك لأكل القوي الضعيف، فإن قلت: كيف يأكله والحاكم من ورائه؟ ليس في كل الأمور يمكن استحضار الحاكم والاستغاثة به، ألا ترى أنه إذا اجتمع مثلا اثنان وبطش القوي منهم بالضعيف، أفيكون لصاحب الحكم عين باصرة أو أذن سامعة للقصاص؟! فكم من قضية جرت بين الناس وفاتت اجتهاد أهل السياسة والأيالة؟! ولكن إذا كان الناس يستحضرون خالقهم في السر والعلن ويخافون عقابه ويرجون ثوابه، كان لهم بذلك أعظم رادع ووازع، فاتصاف أمة بعدم الدين من أعظم ما يهين شرفها ويخفض قدرها.» انتهى كلامه بحروفه.
الفصل الثالث
في حقيقة التمدن الذي هو اتباع ما جاء به الشرع وسنة الرسول
Shafi da ba'a sani ba