البطل
البطل
تأليف
يوسف إدريس
الوشم الأخير1
طريق المعاهدة. الطريق الموصل إلى التل الكبير وفايد والإسماعيلية، هو نفس الطريق إلى بلدنا. ولم تكن تلك أول مرة أقطعه فيها. كنت أيام الحرب وما بعدها كلما ذهبت أو عدت أتأمل ما حولي وأجتر الذكريات، من يوم أن وضع الإنجليز أقدامهم في بلادنا ونحن نقول: لا .. قلناها مسلحة، وقلناها مقاطعة وقلناها ثائرة، وأيضا والعربة تقطع بي الطريق كنت أقول: لا.. هذه الوجوه الحمر والعيون الزرق والشعور الصفراء لا تمت إلى صحرائنا أبدا. إنها شيء غريب نشاز، إنهم أغراب، إنهم معتدون .. كنت أشاهد العساكر يروحون ويجيئون داخل الأسوار كالمعتقلين، والعرق يكسوهم، والنظرات المريضة تطل من عيونهم، وكنت أقول: إنهم يخطرون في أرضنا، هذه صحراؤنا، وهؤلاء الناس الملونون يأتون من بلاد بعيدة يحرسون أرضنا، يحرسونها منا! وكنت أغلي وأقول: لا.
طريق المعاهدة هو نفس الطريق إلى بلدنا، هو نفس الطريق الذي كنا نقطعه ونحن طلبة، ونحن في اللجنة الوطنية، ونحن نتستر بالليل والظلام ونأتي من القاهرة، ونزود الكتائب بأدوات العلاج والإسعاف، هو نفس ذلك الطريق الذي كنت أقطعه يوم الإثنين الماضي، وقد كدت أنسى، ونحن في القاهرة كثيرا ما ننسى. وتمر علينا أوقات لا نذكر فيها الاحتلال والإنجليز. وكنت لا أنسى، إذ كنت دائما مرغما على تذكر كل شيء. ويكفي أن ترى معسكرات الإنجليز في منطقة القنال مرة لكيلا تنساها أبدا. المنطقة صحراء قفر لا تنبت فيها حتى الحشائش؛ ومع هذا يدهشك ازدحامها. فليس فيها موضع واحد خال من سلك شائك أو ثكنة أو مخزن أو صهريج مياه. كلها مبنية بطريقة غريبة لا عهد للمصريين بها، تحس إذا ما رأيتها أن ساحرا جبارا لا بد قد نقلها من مكان لا نعرفه ووضعها فوق أرضنا. منطقة لا تجد المصريين فيها إلا حفاة عراة يطلبون الخبز ولو من يد الإنجليز، ولا تجد الإنجليز إلا سادة، يدبون فوق الصحراء، ويدافعون عن الإمبراطورية ، وكل هذا يحدث فوق بقعة من أرضنا .. من أرضنا.
كنت ما أكاد أرى المعسكرات ومن فيها، حتى أحس أننا نلهو ونعبث، وأننا نسينا في القاهرة أس البلاء، وأن هنا يكمن الداء، وأن هذا الجيش العارم من الميكروبات الكاكية المدمرة هو مشكلتنا وهؤلاء أعداؤنا، وصانعو أزمتنا، وقاتلو شهدائنا، وألا حياة لنا، ولا طعام، ما لم نجتث هذا الداء ونطرد الغاصبين.
كنت أقول لنفسي هذا والحقد يملؤني، وأكاد أنفجر وأنا أراهم داخل المعسكرات مطمئنين، باردي الأعصاب، يتصرفون وكأنهم ليسوا في بلاد أعداء، بل وكأنها أرضهم ونحن غزاتها.
ومهما كان غيظي وغيظ الآخرين، فقد كنا أفرادا، وكنا متفرقين، وكنا مشغولين بأزمات داخلية تطحننا، ولعل هذا كان السر في هدوء بال الإنجليز.
Shafi da ba'a sani ba