وألف شو درامة «بلانكو بوسنيت» فمنعها الرقيب على المسارح؛ لأنه جعل بطل الدرامة يصرخ بكلمات نابية عند المؤمنين عن الله، ولكن الرقيب بعد ذلك أجاز تمثيلها دون أن يحذف منها شيئا، وأرسل شو نسخة من هذه الدرامة إلى تولستوي مع خطاب قال فيه:
رأيي أن الله لا يوجد الآن، ولكن هناك قوة خالقة تحاول بلا انقطاع أن توجد عضوا عاملا منفذا، له من القوة والمعرفة ما يشبه كمال الآلهة؛ أي له المقدرة الكلية والمعرفة الكلية، وعندما يولد رجل أو امرأة تكون ولادتهما بمثابة المحاولة الجديدة لتحقيق هذا الهدف ... ونحن هنا نحاول مساعدة الله، ونؤدي عمله، ونصلح أخطاءه القديمة، ونكافح حتى نصل نحن إلى الألوهية.
وهذا الكلام لا يخرج عن مذهب شو عن «السبرمان» وعن نظرته وفهمه لمعنى التطور، ولم يستطع تولستوي أن يسيغ هذه اللغة، كما أنه سبق أن انتقد شو في درامته «الإنسان والسبرمان»؛ لأنه كان يحيل المواقف الخطيرة الجادة إلى مواقف سخرية وضحك، وكتب إليه بهذا المعنى، فكان رد شو أكثر سخرية إذ قال لتولستوي: «لعل الله قد خلقنا كي يضحك منا.»
وهذا يعود إلى أن في أعماق شو مهرجا يطل من وقت لآخر ويعترض على الفيلسوف، ويخفف بذلك من وقار المواقف، وإن كان في بعض الأوقات يزيد في التهريج إلى حد الوقاحة، هذه الوقاحة التي لم يطقها تولستوي.
المسرح وسيلة للتربية
عندما أتأمل حياة العظماء، من قادة الفكر، أو المكتشفين في العلوم، أو دعاة الثورات، أو الأدباء الراسخين، أتعجب من أن عددا كبيرا منهم لم يحصل على تعليم متوسط أو عال يبرر تفوقهم البارز، بل إن منهم من لم يحصل حتى على تعليم ابتدائي، وكثير منهم عاشوا في فوضى تعليمية يتقلبون بين دراسة وأخرى بحيث لم يحذقوا واحدة منها، كما تجد مثلا في هربرت سبنسر، وتشارلس داروين، وبرنارد شو، وعشرات غيرهم.
وعندئذ أحتاج إلى أن أبحث عن علة تفوقهم، فأجدها في مئات الكتب التي يكتبها مؤلفون جادون يتعبون في التأليف كي يربوا القراء ويعلموهم، كما أجدها في عشرات المجلات التي تختص في علم أو فن معين وتدرسه، بل إن في عواصم أوربا من المحاضرات المنظمة للشعب ما يكفي لتخريج العامة إلى مثقفين، وأستطيع أن أقول في يقين إن عدد المحاضرات العامة التي يدخلها المستمعون بأجور منخفضة، خمسة أو عشرة قروش، لا يقل عن ثلاثين أو أربعين محاضرة كل يوم في لندن وحدها.
وأخيرا هناك المسرح ، إن المسرح الأوربي للتسلية فقط حين ينحط، وهذا قليل، ولكنه للتعليم حين يرتفع، وهذا هو الغالب عليه؛ فإن المؤلفين للدرامة الأوربية، منذ هنريك إبسن، يعالجون المشكلات الاجتماعية بذكاء نادر كما يجرءون أيضا على معالجة المشكلات الفلسفية بل الدينية.
الفلسفة على المسرح شيء مألوف في باريس ولندن وبرلين، وقد غذى المؤلفون المسارح بالفلسفة والدين والأدب والأخلاق، وعاونهم على ذلك حرية فكرية تتسع للآراء المتناقضة، بل الآراء المؤلمة، لمن نشأوا على احترام العرف والعادة بلا تفكير، وقل أن يزور أحدنا مسرحا أوربيا ويستمتع برؤية إحدى الدرامات لكاتب ممتاز دون أن يخرج وفي رأسه طنين من الآراء يبعث على الاجترار والتفكير.
وهذه الأشياء الأربعة: الكتب الجديدة، والمجلات المتخصصة، والمحاضرات المدروسة، وأخيرا المسارح التي تعلم وتنير، هي التي تعلم العامة من أبناء الشعب الذين لم يحصلوا على تعليم منظم في مدرسة أو جامعة، وهي التي يعزى إليها التبريز الذي نجده في أمثال داروين وسبنسر وشو.
Shafi da ba'a sani ba