وقد أمضى سنين قبل ثورات 1848 وهو يدرس الأفكار التعاونية والنقابية والاشتراكية، حتى إذا كانت هذه السنة أخرج ما يسمى «البيان الشيوعي» الذي شرح فيه في عبارات مبسطة الأفكار الاجتماعية المعقدة، ولا يزال هذا البيان إلى الآن مثالا للتفكير العميق في العقل الناضج.
ومع أن كارل ماركس كان يعيش في إنجلترا، ومع أنه أخرج هذا البيان وهو في إنجلترا، فإن أثره لم يكن كبيرا فيها، ولكن حركات العمال في أوربا تأثرت به كثيرا واتبعت - إلى حد بعيد - مبدأه ومنهجه.
وبقي الأحرار والمحافظون يتناوبون الحكم في إنجلترا دون أي حساب للعمال، وكان اهتمامهم الأكبر بالإمبراطورية التي كانت تغل كل عام ملايين الجنيهات، يسرقونها من الهند وغير الهند من المستعمرات، وهذه الملايين التي كانت تؤخذ من المستعمرات وتنفق في إنجلترا، كانت تحدث رخاء عاما هو علة الركود في حركات العمال الارتقائية الإنجليزية؛ فإن المصانع كانت تعمل ليل نهار في إنتاج السلع التي تقهر المستعمرات على شرائها، وكان العمال الإنجليز راضين عن أحوالهم كما كانوا أيضا - بالمقارنة إلى عمال أوربا - غير واعين.
ونشأت في إنجلترا لهذا السبب اشتراكية يؤمن بها مئات العمال، وهي غير اشتراكية ماركس الثورية، هي اشتراكية التدرج وليس الثورة، وظهرت «الجمعية الفابية» حوالي 1885.
وكلمة «الفابية» هي وصف مشتق من القائد الروماني «فابيوس» الذي كان يحارب «هني بعل» قائد الجيش القرطجني الذي كان يحتل إيطاليا في القرن الثالث قبل الميلاد، وكانت خطة فابيوس تعتمد على تجنب المواجهة، ومقاتلة هني بعل بتخطف قواته من جوانبها جزءا بعد جزء حتى تنهار.
وكانت الجمعية الفابية تعتمد أيضا على تجنب المواجهة للأحزاب القوية، وتقنع بالتسلل إلى العقول في نشر الأفكار الاشتراكية؛ وذلك حتى لا تثير جبهة ضدها من الأحرار والمحافظين، ونجحت في ذلك، بل إن أفكارها قد تسربت إلى هذين الحزبين ورشحت إلى عقول زعمائها، ولم تكن هذه الجمعية حزبا يتألف من العمال كما كان الشأن في أوربا، وإنما كانت «جمعية» مؤلفة من رجال الطبقة المتوسطة، بل أحيانا من الأثرياء الذين يهدفون إلى الدرس ونشر الآراء للدعاية فقط وليس للتمثيل السياسي، وقد ألف برنارد شو الذي كان أبرز أعضائها بعض رسائلها الدعائية، وكان منها كتيب يدعى «الاشتراكية للأغنياء»، والاسم يدل على الهدف المقصود، أو بكلمة أخرى لم يكن العمال هم الجمهور الذي ألف له برنارد شو هذا الكتيب كي يقنع أفراده بضرورة الاشتراكية، إذ كان يهدف إلى إقناع الأغنياء بأن الاشتراكية تخدمهم أكثر مما تخدمهم الانفرادية التي أثروا في نظامها.
وليس من الشاق أن نقنع الأثرياء بأفضلية الاشتراكية؛ فإن الثراء الحاضر في نظامنا الانفرادي قد يكسب الثري ميزات لا يستخف بها، ولكنه يحمل من الهموم ما ينضي على حياته أحيانا وهو دون الخمسين لأن مسئولياته كثيرة، فهو يعمل أحيانا أكثر من عماله، كما هو عرضة للإفلاس في أي وقت، ثم هو يأخذ بقيم اجتماعية تبعثر أمواله على الزينات والبهارج، لنفسه ولزوجته وأولاده، بحيث يضطر - لو كان على مقدار متوسط من الذكاء - أن يسأل عن قيمة هذا الثراء الذي يبهظه بهذه التكاليف التي يمكن الاستغناء عنها، ولعلنا لا ننسى أيضا في أيامنا هذه أن الأمراض النفسية تصيب الأثرياء أكثر مما تصيب العمال وذلك لفرط ما يجهدون قواهم ويحملون من هموم.
ونجحت الجمعية الفابية في إيجاد «الاشتراكية التدريجية» في بريطانيا، وهي اشتراكية الإصلاحات الاجتماعية التي سارت فيها الدولة عاما بعد آخر، والمثل الأعلى لها هو «مشروع بفريدج» الذي يكفل العيش والصحة والتعليم لكل إنجليزي من المهد إلى اللحد. بل قبل المهد وبعد اللحد.
ولكن علينا ألا ننسى أن هذه «الاشتراكية التدريجية» قد أخرت التفكير الاشتراكي الثوري.
وما زلت أذكر أني طيلة انتمائي إلى الجمعية الفابية، سواء وأنا في لندن أو بعد ذلك في مصر، لم أكن أسمع عن اسم ماركس إلا قليلا جدا، ولم أكن أعرف أن الاشتراكيين في أوربا يهدفون إلى الثورة لا الإصلاح، بل إنهم كانوا وما يزالون يعدون الإصلاح عائقا للثورة، وهذا بلا شك صحيح إلى حد بعيد.
Shafi da ba'a sani ba