وتغير الموضوع وتناولا الغداء، وحين أزمع هارون العودة إلى القاهرة نظر إلى شهاب: أتأتي معنا؟
وأجاب شهاب في حسم: سأبقى بضعة أيام مع جدي. - على كيفك.
الفصل الثالث عشر
في الصباح ترك الحاج حامد حميدة نائمة، وخرج إلى حجرة الاستقبال الملحقة ببيته، وأرسل رسولا إلى مختار عمر يطلب منه أن يجيء إليه بأسرع ما يستطيع. وما إن انتهى مختار عمر من أعماله العاجلة حتى سارع إلى الحاج حامد. وتأكد الحاج حامد أنه منفرد بمختار وسأله: مختار، أنت تعرف أنني أتلقى في كل شهر مبلغا يصل اليوم إلى ستمائة جنيه.
وأدرك مختار ما يريده له الحاج حامد، فأطرق في حيرة واشتد به وجيب قلبه وامتقع وجهه، فأوشكت ظنون حامد أن تصبح مؤكدة. وبعد لحظة مريرة طويلة قال مختار: نعم. - كنت حتى الأمس واثقا أن هارون هو الذي يرسل لي هذا المبلغ. - وما الذي جعلك تشك في ثقتك هذه؟ - هارون نفسه، لقد زارني بالأمس بعد سنوات طويلة من الانقطاع عن زيارتي. - وهل نفى أن يكون هو مرسل المرتب الشهري؟ - لم ينف، وإنما دهش ووضحت الدهشة على وجهه، ثم ما لبث أن استرد دهشته عن وجهه وزعم أن مكتبه يرسل المبلغ في كل شهر. - ولماذا لم تصدقه؟ - صدقته أمه فهي التي ذكرت أمر هذا المبلغ، أما أنا فلم أصدق، وأريد أن أعرف الحقيقة منك.
وأطرق مختار طويلا، ثم انفجر: لقد ضاق صدري بهذا السر، وإنني أشعر أن في كتمانه ظلما لصاحب الفضل وتكريما لمن لا فضل له. - إذن؟ - الحقيقة أن هارون لا يرسل شيئا.
وراح مختار يروي على الحاج حامد القصة منذ كلفه ببيع الكردان حتى يومهم هذا، وكان كلما أوغل في الرواية ازداد حزن الحاج حامد وراحت نفسه تتمزق كل ممزق. أكان يعيش هذه السنوات على الصدقة وابنه على هذا الغنى الفاحش؟ أرضي له ابنه هذا؟ فما قيمة هذا الابن إلا أن يكون حزنا لوالديه وعبثا على الحياة جميعها؟ وجمع الكلمات المفككة على لسانه ليسأل مختار: هل يعرف هارون شيئا مما رويته لي؟
وقال مختار في لعثمة: لا أظن. - لا فرق، ربما كان علمه أعظم سفالة من عدم علمه، ولكن الجحود والانحطاط وضياع الكرامة يحيط به من كل جانب. - كان لا بد أن أخبرك. - لقد أسأت إلي بكتمانك. - أنا لم أقصد، وإنما خشيت أن أراك في الحالة التي أنت عليها الآن. - كان الموت جوعا خيرا مما ألاقيه الآن. - نسيبك وقام بواجبه. - ليس واجبه أن يطعمني ويكسوني ولي ابن وهبت له كل شيء، وأسلمت له أمري وأمر أمه. - لا أجد ما أقوله.
وصمت الحاج حامد واحترم مختار صمته. النار والألم والضياع يطبقون على فؤاده حتى لقد كان يلقف أنفاسه من الهواء اجتذابا. وطال الصمت. ماذا يصنع؟ كيف يرد لسعدون هذا الدين؟ وهل يقبل سعدون أن يتقاضاه؟ أيكون سعدون أشفق عليه من ولده عصارة حياته ودمه وقلبه وماضيه وحياته وما بقي له من أيام على سطح الحياة؟ كيف تستطيع الحياة أن تصنع شخصا في عظمة سعدون وتصنع في نفس الوقت شخصا في انحطاط هارون؟ كيف تسع الدنيا قلبا فيه هذه الرقة التي ينعم بها سعدون وتسع معه قلبا فيه هذا الجحود وهذه الصلابة الخسيسة الدنيئة المتوحشة في كيان هارون؟ ماذا أنا صانع؟ كيف أعلن غضبي وشكري، وألمي وامتناني؟ ماذا أنا صانع؟ لا أستطيع أن أفكر الآن. - مختار. - نعم. - أرجو أن تمر علي غدا بعد أن تصلي الفجر. - أمرك.
وقام مختار عن مجلس الحاج حامد، وخلت الحجرة به موجودا بلا وجود، يكاد فؤاده أن يتوقف عن النبض. صغرت الحياة أمام عينيه ولكن دعا ربه ألا يموت حتى ينزل ثورته على ابنه، ويتقدم بشكره إلى أعتاب سعدون. وظل هذا الدعاء يتردد في كيانه وتنتفض به جوانحه وهو يقوم من مجلسه ويدلف إلى غرفته، وتتلقاه زوجه فيهولها ما هو فيه من شحوب وغيظ ينتفض به وجهه، وقد ورمت أعراق دمائه حتى لتوشك الدماء أن تنبجس منها. - ما لك؟ - اتركيني. - أتركك؟! كيف؟
Shafi da ba'a sani ba