ورسم لنفسه - وهو قابع في قطار حلوان - خطة يتحدى بها قرار الحكومة؛ أن يستيقظ في ميعاده المبكر، أن يتمشى ما بين الصحراء والحديقة اليابانية كل صباح مغترفا من هواء حلوان الجاف، أن يواظب على الارتواء من المياه المعدنية، أن يعنى بحديقة البيت ما وسعته طاقته المالية المحدودة. وتلقته سنية باسمة، دعت له بطول العمر، مطاردة أفكارا كئيبة تطن في باطنها كالذباب. عطفت عليه، رأت وجومه وراء ضحكته المفتعلة، قاسمته الانفعال بالزمن والخوف من المجهول، بالإضافة إلى همومها كربة بيت تفعل المستحيل للاحتفاظ بالحد الأدنى في مواجهة حياة يشتد عسرها في بطء وثبات. وحمدت الله على الفرج المنتظر بتخرج محمد ثم منيرة. قالت في لحظة تأمل: أشعلوا الحرب وذهبوا، وعلينا أن ندفع الثمن!
واستوعب الغذاء والكساء كل شيء، ولكن ألا يحتاج هذا البيت الكبير إلى ترميم وطلاء؟ .. وهذه الحديقة التي عقمت أشجارها الباقية، وذبلت شجيرات أزهارها، وشغلت الأرض الرملية أكثر سطحها ألا تحتاج إلى بعث؟ .. أين هي من ذلك كله؟! وهي حتى متى تحمل أعباء البيت ولا معين لها إلا فتاة منكسرة القلب، وخادم تماثلها في السن ضئيلة المهارة لا تحسن إلا قراءة الفنجان ونادرا ما تصدق لها قراءة؟ ولكن الهموم تتداوى بالهموم أحيانا؛ فقد اقتحم البيت هم في صورة فرح باسم. أجل أخيرا جاء رجل يطلب يد كوثر! كان خليل الدرس - أحد السمار - وهو الخاطبة! وكان العريس الوجيه نعمان الرشيدي الذي يعمل الرجل وكيلا لدائرته. قال خليل الدرس لحامد برهان: رجل ولا كل الرجال.
ثم مبادرا قبل أن تلعب الآمال بقلب حامد: حقا لم يتعلم ولكن ما حاجته إلى التعليم؟ وهو في الستين ولكنه يحظى بصحة ابن الثلاثين، له أبناء ثلاثة ولكنهم موظفون ومتزوجون، يملك أرضا وعمارات وأموالا سائلة، يقيم في فيلا أنيقة بشارع الزقازيق بمصر الجديدة، ولما ماتت زوجه منذ عام غشيته وحدة لم يألفها، فضاق بها وغمرته كآبة ثقيلة حتى اقترحت عليه فكرة الزواج فرحب بها بحماس فاق تقديري بكثير، فطلبت إلى زوجتي أن تدعو ست سنية وكوثر لزيارة، ودعوته من ناحيتي، ويسرت له رؤيتها في الحضور والانصراف فسر جدا وأمرني أن أتم السعي، وها أنا أفي بما تعهدت به.
هكذا ذابت هموم الحياة اليومية واستأثر المشروع الجديد بالأفئدة. أسكتوا الراديو في حجرة المعيشة، وأفضى حامد برهان بما لديه، ثم قال: هذا هو العريس فما الرأي؟
همت كوثر بالانسحاب ولكن حامد برهان أمسك بساعدها وجذبها إلى جانبه بحنان قائلا: هنا مكانك.
فقال محمد ضاحكا: من حسن الحظ أن الحكومة لا تتدخل في هذه الشئون.
وساءلت سنية نفسها لم يتعثر حظ ابنتيها فلا يعرف الطريق المألوف؟ وقالت: لنترك الأمر لصاحبة الشأن!
فقال حامد برهان: طبعا طبعا .. ولكن لا بأس من إبداء الرأي مساعدة لها، الرجل ثري، والمال زينة الحياة الدنيا!
وهم محمد بتكملة الآية ولكنه عدل عن ذلك. كان ينظر إلى بقاء أخته في البيت الكبير بلا زواج ولا علم ولا عمل بقلق شديد. قال: فرصة لا يصح الاستهانة بها.
فقالت منيرة: أوافق على رأي كوثر دون قيد أو شرط.
Shafi da ba'a sani ba