وإذا بأنور السادات ينعى إلى الأمة العربية أعظم الرجال جمال عبد الناصر. قذف نائب الرئيس المستحيل في وجوه الناس باعتباره ممكنا؛ وتطايرت الأفئدة في الصدور وحل عالم خرافي محل العالم القديم. متى وكيف ولماذا؟ وهل هذا ممكن؟ ولم لا يكون ممكنا؟ ما تصور أحد أنه سيشهد موته، ما تصور أنه يجوز أن يموت. ثمانية عشر عاما مضت وهو يصول ويجول في كل صدر، ممتط لكل منكب، منتشر في كل وعي، خفاق وراء كل قلب، هو الحظ والرزق، والأمان والخوف، والأمل واليأس، الصديق والعدو، القوة والضعف، الأمس واليوم والغد، السلام والحرب، النصر والهزيمة، فماذا يبقى للناس إذا تلاشت فجأة هذه العواطف؟! غشيت الكآبة البيت القديم؛ أجهشت كوثر في البكاء بلا منطق واضح إلا أن تقدم احترامها المشوب بالرهبة والخوف أمام حضور الموت المتجسد لعينيها. وسرعان ما بكت أم سيد وأم جابر، وصمتت سنية طويلا ثم اغرورقت عيناها قائلة : لا دائم إلا وجهه!
وسمع محمد بالخبر لأول مرة وهو ماض في طريقه إلى باب اللوق. قابله زميله فهمس في أذنه. لم يصدقه، وخشي أن يكون وراءه شرك لجر الأعداء إلى المعتقل؛ فقال لزميله بحدة: لا تردد ما ليس لك به علم!
فقال الرجل بيقين: أمام تلفزيون المقهى شاهدت وسمعت! - هرول إلى شقته فوجد ألفت وشفيق وسهام حول التلفزيون، ولا تخلو عين من أثر دموع، قال وهو يجلس: البقية في حياتكم.
جلس واضعا حقيبته على حجره مسندا عصاه إلى خوان وأغمض عينيه. وانقضت دقائق قبل أن يفيق من ذهوله. ولما أفاق من ذهوله شعر بأنه يولد في عالم جديد؛ شعر بالقيود تنحل من حول عنقه ويديه وقدميه، شعر بأن وزنه يخف وأن نسائم الأمان تهفو إلى وجدانه؛ وسرعان ما اجتاحه ارتياح عميق، وملأه حبور قوي لا حيلة له فيه فأخفاه خلف جفنيه المسدلين. وتمادى به الحبور فاستغفر الله في سره وخاف أن يفلت منه الزمام فيغشى عليه. وقد بكت ألفت لاقتحام حقيقة الموت لقلبها بقوة لم تعهدها من قبل. وبكى شفيق وسهام من أجل المعاشرة الوجدانية القديمة التي لم تتبخر كلها. وتساءلت سهام: من كان يتصور ذلك؟
فأجاب محمد: لقد أنسانا كل شيء حتى القدر.
فتساءل شفيق: من يخلفه يا ترى؟
فقال محمد بازدراء: ليس في الإمكان أسوأ مما كان!
أما في العباسية فقد ملك الحزن منيرة وأمين بقوة لا تبشر بعزاء قريب، على حين لبث علي فريسة للذهول حتى تمتم بمرارة ساخرة: هذه هي التنحية التي لا رجوع عنها!
وعاش عزيز صفوت تلك الأيام أكثر وقته في الشوارع والمقاهي. صاحبته سهام وقتا منها غير قصير. وقال لها بثقة: عهد السادات قصير أما المستقبل فلرجالنا!
وخاض خضم الحزن الشامل، وشهد الجنازة، وسمع التلقين المذاع فتخيل القبر كنهاية لا مفر منها، كزنزانة غارقة في الظلام، وتصور الضجعة المنفردة المعزولة عن المجد والخاشعة فوق حفنة من تراب. وسرعان ما دهمه وارد لم يجر له في بال متمثلا في سيل من النكات! تأمل ذلك وتعجب.
Shafi da ba'a sani ba