كانت منيرة من رأيها التريث حتى يعرف أثره على الأولاد، وتبعتها في ذلك كوثر ومحمد، غير أن سليمان قال لها: لا يمكن أن نعيش خارج زماننا.
وكانت أيضا في قرارة نفسها مقتنعة بقوله؛ فسرعان ما سلمت. وما إن ذهب الزوار حتى قال رشاد لأمه: تلفزيون يا ماما!
ولحق بهما كذلك محمد. وفاقت فرحة الأحفاد بالتلفزيون كل تصور؛ فقد جاءهم إلى مجلسهم بنجومهم المحبوبين، والعالم كله، فضلا عن زعيمهم المقدس الذي عاشرهم ليلة بعد أخرى. ولما رأت سنية التلفزيون تذكرت يوم دخل الراديو لأول مرة في بيتها، كانت أمها ما تزال على قيد الحياة فقالت: اقتربت القيامة يا أولاد!
وكان هدوء حلوان في تلك الأيام البعيدة شاملا وعميقا حتى ليستمع فيه الإنسان إلى خواطره، لا كهذه الأيام التي مضى يتكدر فيها صفوه بإقامة العمائر بل والمصانع. وكانت هي في غاية من السعادة وصفاء البال رغم أن الوطن لم يعرف الراحة أبدا. ويجيء الزمن كل يوم بجديد، وتكثر مسراته وأحزانه، ويتمزق القلب في معاناة الحنين بين الماضي والحاضر. وأخشى ما تخشاه أن يجيء الأجل قبل أن يتحقق الأمل. ولما انتهى إرسال التليفزيون لأول مرة قالت لكوثر: سيزورنا العالم كل ليلة بكل ما فيه!
فابتسمت كوثر ثم نظرت إلى رشاد قائلة: لا يلهينك شيء عن المذاكرة يا حبيبي.
ولكن عصر التلفزيون كان قد بدأ، وثار في صدور الأحفاد صراع بين الواجب والتلفزيون.
كان لمحمد مكتبة، وكذلك منيرة، وأقبل شفيق وسهام، وأمين وعلي، على كتب الأطفال وغيرها إقبالا يبشر بالخير، وسوف يزداد ولا شك بدخولهم المرحلة الثانوية في العام القادم، غير أن التلفزيون أثبت أنه منافس خطير فالتهم نصف وقت القراءة في أول جولة، ومضى يهدد النصف الآخر. وفي ذلك الوقت ناهزوا البلوغ فلفتهم حيرة مشرقة متحدية، وانطلقوا في العطلة الصيفية مع الصحاب إلى الميادين والحدائق ودور السينما، واحتدمت المناقشات، وطالب كل فرد منهم باستقلاله الذاتي، فلم يتفقوا على شيء قدر اتفاقهم على القبوع ليلا أمام صندوق الدنيا الجديد بمتنوعاته التي لا نهاية لها، وضيافته الكريمة التي تمتد من الأصيل إلى ما بعد منتصف الليل. في ذلك المعترك الجديد اعتقد رشاد أنه رجل البيت القديم، وأخذ يعرف أشياء عن ثروته المحفوظة ويستفحل أمره إزاء ضعف أمه وحب جدته له. ورأته كوثر اتفاقا ذات جمعة وهو يغتصب قبلة من سهام في ناحية من الحديقة. ورجعت سهام منسحبة من ملعب الأحفاد إلى مجلس الجدة والآباء شاردة اللب. وخافت كوثر أن تشكو سهام إلى والديها ما ند عن رشاد ولكن الأزمة مرت بسلام. ولما خلت كوثر إلى أمها بعد ذهاب الزوار أفضت إليها بالسر فابتسمت سنية متمتمة: لعب بريء!
فقالت كوثر: سهام أنضج من سنها، وعلى منيرة أن تفتح عينيها!
وتفكرت قليلا ثم سألت أمها: أينبغي أن أحذره؟
فكان جواب سنية أن نادت رشاد، أجلسته لصقها في حنان وقالت مقتحمة الموضوع مباشرة كعادتها: قالت لي العصفورة إنك معجب ببنت خالك سهام؟
Shafi da ba'a sani ba