الباقي من الزمن ساعة
الباقي من الزمن ساعة
الباقي من الزمن ساعة
الباقي من الزمن ساعة
تأليف
نجيب محفوظ
الباقي من الزمن ساعة
للصورة التذكارية تعود كلما نبض قلبها بالحنين. حجرة المعيشة تزدان جدرانها الخضراء بثلاث لوحات في أطر مموهة بالذهب. البسملة في الصدر، الشهادة الابتدائية القديمة بالجناح الأيمن، صورة الرحلة التذكارية بالجناح الأيسر. نسيت أشياء وأشياء ولكنها لم تنس عام 1936 تاريخ الصورة، ففي ذلك التاريخ كتب الخلود للحظة زمانية من تاريخ أسرتها وهي تمرح فوق كليم مفروش فوق الأعشاب بحديقة القناطر الخيرية. في الوسط جلس حامد برهان رب الأسرة، ممدود الساقين، ممتلئا بالعافية، بدينا، وسيم الوجه ذا سمرة عميقة، وإلى يمينه جلست هي - سنية المهدي - متربعة مغطية حجرها وساقيها بشال عريض متألقة الوجه بملامحها الدقيقة الصغيرة، أما إلى يساره فجلست كوثر البكرية، بجمالها المتواضع ونظرتها الوديعة، يليها محمد في الجلسة كما يليها في العمر، مثل أبيه في التكوين والشكل، تليه منيرة بجمالها الفائق ونظرتها المتوهجة. كان الأب في الخمسين والأم في الأربعين والإخوة يناهزون البلوغ، وكان الجميع يبتسمون، تحبو فوق وجوههم فرحة الرحلة والسلام، وبين أيديهم تقوم قوارير المياه الغازية وأطباق ورقية ملئت بالسندوتشات والموز والبرتقال، على حين نهضت في الخلفية هضبة متدرجة معشوشبة وأشجار منثورة، تنطلق فيما وراءها منارات القناطر وجماعات من المتنزهين. تجللتها - الصورة - عذوبة شاملة ولم يظهر فيها أثر للزمن. غير أن الزمن لم يتوقف لحظة واحدة خارج الصورة، ومن ضمن ما قضى به ألا يبقى في بيت الأسرة اليوم إلا مالكته سنية المهدي وكبرى ذريتها كوثر. وهو بيت فسيح، مكون من دور واحد يعلو فوق الأرض بدرجات خمس، وحديقته تمتد من جانبه الجنوبي، مساحتها نصف فدان، تغنت عهدا بالازدهار، وكابدت عهودا من الاضمحلال والوحشة. وضخامة البيت والحديقة أثر من آثار حلوان القديمة، الرخيصة النائية، المغموسة في السكينة والتأمل، التياهة بمياهها المعدنية وحماماتها الكبريتية وحديقتها اليابانية، مصحة الأعصاب المتوترة والمفاصل المتوعكة والصدور المتهرئة والعزلة الغافية. وجميع الدور بشارع ابن حوقل متشابهة - ما عدا البيت المواجه لبيت الأسرة الذي بيع في أثناء الحرب العظمى الثانية لتشيد مكانه عمارة جديدة - ولكن بيت المهدية يتميز بطلائه الأخضر، وهو طلاء أغلب حجراته ذوات الأسقف العالية، وهو لون أغطية المقاعد بحجرة المعيشة، والإصرار عليه يعكس ولع المرأة به، ويشير أيضا إلى ولعها بالبيت نفسه الذي وثقت بينهما محبة خلقت للأبناء والأحفاد مشكلة تعذر حلها في حينها. ومشيد البيت أبوها عبد الله المهدي، وكان في آخر أطوار حياته فلاحا من الملاك المتوسطين، ولما اجتاحه الروماتزم نصح بالإقامة في حلوان مدينة الصحة والجفاف؛ فابتاع أرضا وأقام البيت تاركا أرضه لابنه البكري، مهاجرا بزوجته ووليدته سنية، ووزع الرجل أملاكه بالتراضي بين ابنه وابنته جاعلا البيت في حصتها فلعب دورا ذا شأن في حياتها؛ إذ نوهت به الخاطبة وهي تزكي سنية عند أم حامد برهان فكان ضمن مغريات اختيارها. لكن سنية كانت على درجة من الوسامة المقبولة، ونالت أيضا الابتدائية، واعترف لها بالذكاء وبأنها كانت خليقة بإتمام تعليمها لولا إصرار الأب على حجبها. وكم حزنت لقراره! وكم سفحت من دموع احتجاجا عليه! ولذلك، فرغم مهمتها كربة بيت وأم، واظبت على قراءة الصحف والمجلات ووسعت مداركها حتى بلغت درجة من النضج غير معهودة سندت بها حدسها الروحي وأحلامها العجيبة. ولعلها كانت المرأة الوحيدة في شارع ابن حوقل التي تمسك دفتر حسابات لميزانية الأسرة، كما كانت ترسل أخاها بالخطابات المطولة، ربما رغبة في التعبير وإثباتا لقدرتها عليه. وعلى حبها القديم العميق لزوجها حامد برهان شعرت في أعماقها بتفوقها عليه، ذكاء وعقلا، فضلا عن أنه لم يحصل إلا على الابتدائية وإن التحق بعد ذلك بمدرسة التلغراف وتخرج فيها. يضاف إلى ذلك أنه لا يعرف عن سلسلته العائلية إلا جدا واحدا ولا يكاد يعرف عنه أكثر من اسمه، أما هي فتعرف كثرة من الجدود وإن لم تشر إليهم إلا إشارات عابرة وفي مناسبات نادرة. وكبر حظ جدها لأبيها من الذكر بسبب نقطة التحول التي أحدثها في حياته عندما دخل الإسلام بعدما كان قبطيا من صلب أقباط، وفي ذلك قالت سنية ذات يوم لحامد برهان ضاحكة: تاريخي غير راكد.
وكان حامد برهان - مثل زوجه - محبا للفخر؛ فجرى وراء المتاح من أسبابه في حياته البسيطة المتواضعة، ملحا على إثبات رجولته، ودون إغفال للحقيقة الساطعة وهي أنها مالكة البيت، وأنها مدبرته الحكيمة، وأنها مربية الأبناء الرشيدة الواعية، فضلا عن أنها خالقة الجو السعيد الذي نعم به طويلا. ومن آي حبه للفخر أيضا حومانه المصر حول الإنجاز السياسي الوحيد في حياته، وهو تحريضه على إضراب الموظفين في مطلع ثورة 1919؛ فهو يرويه بتفاصيله كلما سنحت فرصة، علما بأنه الفعل الوحيد في حياته السياسية التي لم يبق له منها سوى حب قلبي عميق للوفد لا يتجلى بصورة عملية إلا في الظروف النادرة التي يسمح فيها بإجراء انتخابات حرة بين الأحزاب. وكان زوجا مثاليا في أكثر من ناحية، فهو مولع بزوجه وأبنائه، وهو فحل في الرجال، وهو بريء من الأدواء التي تتطفل على ميزانية موظف صغير مثله؛ فلا يسكر ولا يدخن ولا يفسق بعينيه، حتى سهرته يمضيها مع إخوانه في حجرة الاستقبال شتاء أو الفراندا بقية العام، وهم من أهل حلوان مثله؛ جعفر إبراهيم ناظر على المعاش، خليل الدرس وكيل أعمال الوجيه نعمان الرشيدي، حسن علما مهندس مبان، راضي أبو العزم مدرس علوم. تنطوي لياليهم في السمر ولعب الطاولة وحديث السياسة مرددين نغمة واحدة صادرة عن لحن وفدي أصيل؛ فلا نزاع ولا خصام. وعرف حامد برهان بالنظافة والأناقة والتدين السمح اليسير الذي يعبق به جو الأسرة. وجبر الله خاطر الوالدين بمحمد ومنيرة فشقا طريقهما في التعليم بنجاح واعد، خاصة منيرة التي اختصت بالذكاء والجمال معا، إلا أن كوثر تمخضت عن مشكلة مثيرة للقلق، فهي لم تظهر ميلا للتعليم ولا توفيقا فيه، وانجذبت بطبعها نحو التدين وشئون البيت، فاضطرت إلى ملازمة البيت بعد سقوط عامين متتاليين في المرحلة الثانوية، يومها قالت سنية لحامد: ست البيت غير مطلوبة في هذا الزمان.
وتذكر الرجل حظها المتواضع من الجمال فغلبه الأسى، ولكنه قال: يوجد أيضا الحظ وهو لا قانون له !
Shafi da ba'a sani ba