Balaga Na Zamani da Larabci
البلاغة العصرية واللغة العربية
Nau'ikan
الفصل السابع عشر
الأقوال أفعال
من الأوصاف المألوفة أن نقول عن أحد الزعماء أو السادة إنه «رجل أقوال وليس رجل أفعال». وأحيانا نسمع من ينبهنا إلى أن الكلام غير العمل، وقد كان نابليون نفسه يصف الأدباء بأنهم «تجار الكلمات»، «ولأبي تمام» شطرة من بيت كثيرا ما تذكر هي «السيف أصدق أنباء من الكتب».
والواقع أن أبا تمام لم يقل كلمة هي أبعد عن الصحة والحقيقة من هذه الشطرة؛ لأن السيوف لا تتحرك إلا للكلام الذي سبقها، والكلام هو القوة الروحية المتسلطة، والسيف هو القوة المادية الخاضعة، أليس من الواضح أن السيوف إنما جردت في حروب العرب والرومان لأن كلا منهما كان يفكر بكلمات تحمل قوات ذهنية وروحية ونفسية تختلف مما كانت تحمله الكلمات الأخرى عند الفريق الآخر؟
ثم انظر إلى نابليون، لقد ضاع كل ما فتحه بالسيف في أوروبا وأفريقيا قبل أن يموت، أما الكلام الذي رتبه في «قانون نابليون» فلا يزال حيا إلى الآن، ولو أن نابليون عني بالكلمات ولم يحتقرها؛ لكان إلى جنب سيوفه ومدفعه دعاية لمذهبه الجديد في الحكم من حيث اتحاد أوروبا وإلغاء النظام الإقطاعي، ولكنه أهمل هذه الدعاية؛ ولذلك استطاع أصحاب الكلمات القديمة بزعامة «مترنيخ» أن يفوزوا عليه، وأن يطفئوا نور العصر الجديد إلى حين.
ونحن البشر نختلف عن الحيوان من حيث إن أحسن أعمالنا هو أقوالنا؛ أي هو كلماتنا التي نعين بها المبادئ والمثليات ولقد فتح الإسكندر الدنيا المعروفة في زمنه فما هو أن مات حتى تشتتت، ولكن أستاذه أرسطو طاليس رب الكلمات لا تزال كلماته حية بعد 2200 سنة من وفاته.
وقد خابت الحرب الكوكبية الأولى؛ لأن عدتها من الكلمات كانت أقل من عدتها من السيوف والمدافع، فلما انتهى عمل السيوف والمدافع وهزمت ألمانيا وجاء السلم لم تجد كلمات «ولسون» الجو الملائم لنموها؛ فذبلت وماتت أمام الأعشاب التي زرعها «كليمنسو» «ولويد جورج» ولو أن كلمات ولسون نجحت ووصلت إلى قلوب المتمدنين، ولو أنها كانت قد عبئت بالقوة التي عبئت بها السيوف والمدافع؛ لثبت السلم وعم العالم، وما كنا عندئذ لنقع في هذه الحرب الكوكبية الثانية.
وقد احتاج هتلر إلى نحو عشرين سنة وهو يعبئ الكلمات ويشحنها بشحنات عاطفية قوية تحمل الشعب الألماني على التهيؤ الروحي للصراع الذي ابتدأ في أول سبتمبر من سنة 1939، وأنا أكتب الآن (في إبريل سنة 1944) وقد خسرت ألمانيا شيئا عظيما جدا من قوة السيوف والمدافع، ولكن قوة الكلمات النازية لا تزال تدفعها إلى المقاومة.
وما المثليات والمبادئ إلا الكلمات بل ماذا أعطانا الدين غير الكلمات كأن كل كلمة شعارا أو مبدأ نبني عليه خطط الحياة؟ وهل نسي أبو تمام أن المسيحية تركت كتابا وأن الإسلام ترك كتابا وكذلك فعلت سائر الأديان وأن هذه الكتب أصدق أنباء من السيوف؟ ومن منا ينسى الكلمات الثلاث: الحرية المساواة والإخاء هذه الكلمات التي أحدثت الثورة الفرنسية وغيرت المجتمع في أوروبا ولا تزال تغير مجتمعات أخرى في غير أوروبا، وميزة الأعمال التغيير ولكن هذه الميزة نفسها تلصق أيضا بالأقوال؛ لأنه ما من كلمة نقولها في المجتمع إلا وتحدث تغييرا.
كان أبو تمام شاعرا عربيا وكان «ملتون» شاعرا إنجليزيا وقد قال الأول كلمته الكاذبة البشعة:
Shafi da ba'a sani ba